قصة قصيرة
فضل الله
محمد ثابت توفيق
حرص الأستاذ "فضل" طوال حياته الوظيفية على مراعاة الله تعالى في كل عمله " صغيره قبل كبيره، وعلى مدار السنوات المتتالية انتبه صاحب المصنع إلى دوره في نموه، وعمله بيده إلى جوار أصغر عامل إن رآه لا يحسن " الصنعة " جيدا، كان " يسخر" هو نفسه ممن يناديه ب "أستاذ".. وذلك بصورة عملية.. بألا يرد عليه حتى يناديه باسمه مسبوقا بكلمة "عم "..
في المجمل كان الرجل صورة من المسلم كما ينبغي أن تكون في العمل، بحرصه على مرضاة الله في كل صغيرة وكبيرة.. ومحاولة التقليل من بشريته.. منذ دخوله مقر إدارة المصنع.. التي نمت بجهد كثيرين هو ابرزهم حتى يذهب إلى بيته..
كثيرا ما انصرفت الإدارة والعمال، وراح بمفرده يراجع عمل "حرفي" مشهور بالتسرع في إنجاز "صنعته" بل "يفكك" إنجاز غيره، ويعيد بناءه من جديد في صمت، وهو يستغفر الله من التعجل وعدم أداء الأمانة كما ينبغي..
قال له " صاحب المال " اكثر من مرة.. وهو يحاول اخذ اسم العامل الذي "يعيد" عم فضل عمله:
- يا أخي الكريم.. لقد ترقيت فصرت من قلائل بالإدارة.. والمطلوب منك فقط مراجعة العمل أثناء سيره، وهو ما تفعله بإتقان.. وكتابة أو حفظ اسم المقصر من العمال وإبلاغي به.. كما يقوم بذلك غيرك من أقرانك.. لا أن تنتبه إلى التقصير لتقوم به بعد نهاية العمل بنفسك..
كان رد " عم فضل" دائما:
. إنهم لا يقصرون.. ولكنهم لم "يتشربوا" الصنعة كما ينبغي.. وإنما أقوم بتعديلات بسيطة على ما أنجزوه.. لأجعل مالي الذي أتقاضاه حلالا..
. ليت للجميع نفس شعورك.. ومحبتك لهم..
. هم كذلك بإذن الله.. حفظك الله.. دعني اكمل " عملي "..
شهد باجتهاده وحسن أدائه القاصي والداني.. وبجهده.. وتفانيه صار رئيسا للعمال.. وممثلهم في مجلس الإدارة الذي اتسع وضم شركاء في آخر سنوات عمله، ورغم انفصال المبنى الإداري عن المصنع بعد التوسع، وكبر سن " عم فضل " وحرص " صاحب المال الأول ".. الذي صار رئيسا لمجلس الإدارة على ضم "عم فضل" لمجلس الإدارة بصورة استثنائية.. بعد أن نجح بعض كبار العمال ممن يسوءهم أداؤه.. ويفضح تقصيرهم في إقناع بعض الشركاء باستبعاده من مجلس الإدارة.. بخاصة بعد أن اقترب من الستين.. ونص لائحة المصنع الذي صار مؤسسة على ألا يمد لعامل أيا ما كان..
نجح "رئيس مجلس الإدارة " في تحدي استمرار ضم "عم فضل" إلى الإدارة بصفة استثنائية، وسرعان ما ظهر الغرض من محاولتهم إقالته، فعدد منهم يريد ضم أبنائه كإداريين بالمؤسسة وبالتالي نقلهم من عمال صغار إلى محاسبين ومشرفين دفعة واحدة!
ساعدهم على طرح الأمر تكرار مكسب المصنع، واعتماده رسميا من قبل المسؤولين.. ورسو مناقصات كبيرة عليه، ورأوا أنهم أولى من الغريب.. ولكن "عم فضل" جهر برأيه في الاجتماع قائلا:
. رأيي.. -والرأي الأخير لكم –أن نفصل الإدارة عن المصنع.. هما مؤسسة واحدة لكن عمالنا الذين تعبنا في تدريبهم واعتمادهم.. لا ينبغي أن نتركهم لمجال آخر.. فنخسر كفاءتهم العملية.. ونبدأ مشوارا طويلا في تدريبهم على الإدارة النظرية بعدما انفصلوا لسنوات عن دراستهم.. أرى أن نفتح باب التعيين لمتخصصين في الإدارة.. وندع هؤلاء في أماكنهم.. ونقر لهم ولأقرانهم زيادة في الراتب تتنسب مع نجاح المؤسسة.. زادها الله..
أخذ مجلس الإدارة برأيه..
كان عدد من رؤساء الأقسام بالمصنع قد ذكر "عم فضل" قبل الاجتماع بأن عمره اقترب من الستين.. وأنه سيكون أول "موظف" بالمصنع تطبق عليه لائحة "المعاش ".. فرفض عقله أن يربط بين الأمرين..
بعدها بشهور كان على رأس أوليات اجتماع مجلس الإدارة الذي غاب عنه "عم فضل" للمرة الأولى.. لأنه سيناقش أمر إحالته إلى المعاش.. وطلبه المد لأي مدة يراها المجلس.. لأن المؤسسة.. كما قال.. صارت حياته.. بعد عبادة الله.
في الاجتماع أصرت الأغلبية على تطبيق اللائحة وعدم المد.. وأسقط في يد رئيس مجلس الإدارة.. بين إنجازات الرجل، ودعم طلبه، بل رجا الحاضرين رجاء شخصيا فأصروا على الرفض وإزاء الأمر قرر صرف راتبه كاملا.. وقال:
. اخترتم غيابه مع أهميته للعمل.. ستصرفون له المعاش وأكمله من مالي الخاص ليصله مرتبه في بيته ما حييت!
دمعت عينا "عم فضل" ولم يتحدث لما أخبره المدير بالأمر وقال:
. لولا حاجة الأبناء لما أخذت إلا المعاش..
- ولكني سأحاول مع الشركاء ثانية وثالثة..
بكى "عم فضل" وهو يخرج من غرفة "رئيس مجلس الإدارة " للمرة الأولى منذ سنوات طويلة إلى بيته دون الانغماس في العمل كما اعتاد.. رغم كونه في الصباح الباكر..
تأثر حتى الذين دعموا خروجه إلى المعاش من كبار العمال، بل رئيسهم المشارك باسمهم في مجلس الإدارة.. الذي اضطر "رئيس المجلس " لتعيين " عم فضل " بصورة استثنائية بالمجلس، رجع رئيس العمال إلى عقله، إنه خارج إلى المعاش بعد شهور هو الأخر، وقد أرسى مبدءا سيعامل هو نفسه بالمثل منه.. ولكنه لم يستطع النطق..
وفي منتصف اليوم قال لزملائه:
. صندوق الزمالة الذي أنشأه "أخي فضل" لمثل هذه المناسبات لم يقر له شيئا، وهي المرة الأولى التي يخرج أحدنا إلى المعاش.. ولم نحدد كم شهرا يستحق لنهاية الخدمة.. أفلا نجتمع به لنقر المبدأ؟!
ران صمت يغلفه الحياء الجميع..
في اليوم التالي.. بكى رئيس العمال في صمت لما أبصر "عم فضل" قبل الموعد ينظر في حسرة إلى باب المصنع لدقائق.. مرت عليه دهورا.. ثم استدار عائدا..
أما في منتصف اليوم.. فما إن ظهر "عم فضل" من جديد حتى قبل كل العمال رأسه.. حتى الذين أرادوا الانضمام إلى الإدارة ورفض طلبهم بسببه.. أما الرجل فقال بصوت متأثر:
. اسمحوا لي بدفع مستحقات صندوق التكافل عن هذا الشهر!
صمت الجميع.. وبلغ الحياء برئيس العمال مبلغه فقال:
. بل إن لك.. أنت.. مكافأة من الصندوق.. فكيف تدفع؟!
. ولكني ما أزال أتلقى راتبي رغم منعي من العمل؟!
كانت الأوراق المالية في يده.. ولسانه منعقد لا يستطيع النطق.. فيما توقف العمل في المصنع تماما في سابقة بالغة الندرة.. إذ تأثر كل العمال الذين نالهم من فضل الله ثم الرجل.. وفهم رئيس العمال وأصغرهم الأمر على نحو لم يرده "عم فضل".. وعلى الفور.. حضر رئيس مجلس الإدارة والإدارة لتجتمع على أرض المصنع للمرة الأولى وتأخذ قرارها بإبقاء الرجل في عمله.. ما أراد.. وهتف رئيس العمال بصوت جهوري تلقائي:
. إنك لست "عم فضل".. بل إنك والله.. فضل من الله..