نصيحة موجزة للمبتدئين في طلب العلم



مي عباس





طلب العلم من أشرف الأعمال وأسماها، فهو طريق أصحاب الهمم العالية، والعقول الراقية، الذين لا يقبلون أن يكونوا هملا، أو أن يكون حظهم من العلم بدينهم ضئيلا.

وهذا دليل مختصر لطلاب العلم وطالباته في بداية الطلب، فيه إرشادات هامة، ومحاذير.

1ـ الربانية

هي طريق الرسوخ وفن النبوغ في أي علم.. والرباني هو الذي يعلم بصغار العلم قبل كباره فكما أن الرضيع لا يتناول اللحم ولما تنبت أسنانه فهو يتغذى على اللبن ثم يدرج له الطعام بما يلائمه حتى لا يهلك، أو لا ينتفع بالغذاء غير المناسب لسنه، فكذلك لا يصح مهما بلغ الذكاء أن يعمد الطالب إلى الموافقات ولما يستوعب شرح الورقات، أو ينصرف إلى كتب العلل وهو يتعثر في كتب الرجال، أو أن يتعالى على كتابات المعاصرين وهي بوابته إلى فهم التراث والدراية به.

والإخلال بهذا المبدأ يبلبل فهم الطالب، وكثيرًا ما يجعله يدرك الكلام على غير المراد، وعلته إنما هي التعجل، فالصبر هو سلم الوصول.

2ـ الضرب بسهم في أكبر قدر ممكن من العلوم

إذا كانت مرحلة الجمع والتأسيس اقتضت أن يفني رجال أعمارهم في الرحلة في طلب العلم مع ما لزم هذا من جهاد ووقت طويل حتى يجمعوا لنا الحديث الشريف ويؤسسوا مذاهب الفقه والنظر.. فإن هذه الزمان مختلف.

وعلى الرغم من أن التخصص من سمات النجاح في عصرنا إلا أن موسوعية العلم والثقافة ضرورية للغاية لطالب العلم، وبخاصة من ينوي التحرك بعلمه في آفاق الدعوة أو التربية أو العمل العام من سياسة وإعلام، أو من سيتصدر لفتيا يوما.. فانغلاقه على باب واحد من العلوم يقلل من كفاءته، فالشخصية الموسوعية هي المنوط بها الريادة والتأثير فما أجمل أن يضرب الطالب والطالبة بسهم في علوم مختلفة ويحرص على الإلمام بشيء عن كل شيء مع احترامه لتخصصه الذي يتقن فيه كل شيء عن شيء.

3ـ الحكمة

الحكمة مضاد الحمق وهو من النقائص التي لا تليق مع مقام العلم وقدره.

ومن الحمق أن يكون الطالب مولعا بمسائل الخلاف ليس للبحث والمدارسة وإنما ليشغب على الآخرين وعلى نفسه أيضا!

ومن الحمق الاهتمام بمسائل معينة والخلاف البغيض حولها الذي لا طائل من ورائه إلا الاسترسال مع الجدل المقيت.

فكم هدمت من أواصر محبة وتآخي، وعطلت همم كانت تمضي في الاتجاه الصحيح من أجل تصعيد مسألة خلافية تدور حول مسمى الإيمان مثلا، حيث يتصور كلا الفريقين أن إثبات رأيه فيه صلاح البلاد والعباد.. وقد أثبت لهم مخبوء الغيب الذي ظهر أنه كان خلافا عقيما لا ينبني عليه عمل، وأن الشعوب إذا أنَّت فهي لن تنتظر الترجيح في مسألة خلافية!

ومن أعظم الحماقات: الغلو، فهو قاطع طريق أمام الطالب، يفسد عليه نيته ويهدم داخله روح الاتباع، ويزج به في معارك شخصية لأجل شخص أو مذهب أو مجموعة.. ودائما ما يكون للمغالي مبرراته ولكن يبقى في صدره انقباض وفي عقله انسداد عن الموضوعية وطلب الحق بتجرد وإخلاص وهي من ركائز السير في طريق التعلم.

4ـ أعمال القلوب

من تعاسة الإنسان أن يطلب العلم ولا ينتفع به، وأن ينقطع به علم الآلة فلا يصل إلى الغاية، فيظل عمره أسيرًا لدراسة الأسانيد ولما يفقه المتون الشريفة، ويتقن تجويد الحروف ولا يستشعر حلاوة الآيات أو يتدبر معانيها العلوية.

يا لغرابة من يسير في طريق طلب العلم الشرعي بنشاط ثم تفتر همته عن ركعات بالليل يتزود بها ليوم المعاد، وتمضي به الأيام وعقله مشحون بدقائق المسائل ولا يتفكر في خلق الأرض والسماوات!

ينبغي على طالب العلم بشكل خاص أن يولي عناية فائقة بأعمال القلوب، ويخصص أوقاتًا لا تفريط فيها للذكر والقيام والدعاء والتفكر، وأن يكون له على طول الطريق كتب رقائق يخفف بها جفاف بعض العلوم، فيحافظ على نيته الأولى ويجدد عزمه ولا ينقطع في مفاتن الدنيا وزخرفها ولا يسقط في ابتلاءاتها.

5ـ زكاة العلم

زكاة العلم هي تعليمه، ولا يشترط في ذلك أن يكون المرء قد تعمق في الدراسة، ما دام لن يتكلف أو يتصدى لقول ما لا يحسن أو يعرف، وما دامت لديه الشجاعة لقول: لا أدري.

وتعليم العلم ونشره يزيد المعلومات انطباعا في الذاكرة، ويقوي ملكة الفهم، ويزيل عن الطالب الشح، فإذا تصورنا أن من يتعلم علوم الدنيا قد يضن بنشر علمه والارتقاء بمحيطه فإن هذا لا يمكن استساغته في علوم الدين، لأنه إذا أراد المتعلم بتعلمه وجه الله، ونشر دينه، فإنه بلا شك سيحرص على تعليمه للغير، فالعلم والتعلم في الإسلام مقترنان، قال صلى الله عليه وسلم: (( خيركم من تعلم القرآن وعلّمه)).

6ـ التواضع

قال بعض أهل العلم: ( العلم ثلاثة أشبار: فمن دخل في الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لا يعلم).

لذا فإن التكبر بالعلم، والتفاخر به على الناس هو دليل قلة العلم، وضعف حصيلته لدى الطالب، وأنه لمّا يغادر شاطئ الجهالة بعد.

وإذا استشعر الطالب في كل ارتقاء أنه لولا فضل الله عليه لما وُفق لما هو فيه، فهو تعالى الذي فهمّه وذكّره ويسر له سبل البحث والدرس، وهداه إلى الطريق القويم.

وليجعل الطالب – والطالبة- نصب عينيه قوله تعالى:" وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".[النحل:78].

ومن المفيد في هذا الباب أن يقارن الطالب نفسه دومًا بمن هم أعلم منه، ويحيط نفسه بأقران ذوي همة ونشاط حتى لا يتسرب إلى نفسه شعور كاذب بأنه فريد من نوعه!

7ـ استغلال الوقت وحسن تنظيمه

الوقت هو رأس مال المتعلم، لذا فإن تفريطه في وقته عبثًا أو استحياءً سيعرقله عن المضي في طريق الطلب، ويحتاج المتعلم بشكل خاص إلى حسن تنظيم وقته، حتى يعطي كل ذي حقٍ حقه، وألا يفرط صاحب الفراغ في الأوقات الثمينة، وليعالج الفتور بالمطالعة أيضًا، بأن يجعل بين يديه بعض الكتب الخفيفة التي يتروح بها.. فقد يأتي عليه زمان تكثر فيه مشاغله، وتأخذه دروب الدنيا والتزامات الأهل والعيال، فيندم على أوقات فرط فيها.

فالحرص على الوقت هي علامة طلاب العلم، رحم الله الإمام يحيى بن معين فقد سئل في مرض موته: ما تشتهي؟ فاجاب: بيت خالي وإسناد عالي.

8ـ كلمات في الإخلاص

يروى عن مجاهد –رحمه الله ـ أنه قال: ( طلبنا هذا العلم ، وما لنا فيه كبير نية ، ثم رزقنا الله النية بعدُ).

وروي عن بعض السلف قولهم: (طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله).

وهذا بلا شك ليس تهوينًا من أمر النية، وخطورة الرياء وطلب الدنيا بالعلم، ولكنه تأكيد على الاستمرار في طلب العلم وإن شابت النية شوائب، فالعلم نفسه هو خير وسيلة لتصحيح النية.

وعلى الطالب أن يحذر هذه الأمور الثلاثة الواردة في الأثر – ضعيف الإسناد مرفوعا، وصحيح موقوفًا- (( لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ ، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ)).

ومع حذره من طلب العلم لغير الله، فلا يجعل من أمر النية عائقا عن الطلب، فالإخلاص ليس مستحيلا، فالله تعالى لا يكلف عباده بما لا يطاق، "فاتقوا الله ما استطعتم".

9ـ منزلق الفتوى

من المزالق التي يقع فيها كثير من طلاب العلم وطالباته التسرع إلى الفتوى، والتجرؤ عليها، وقد يظن بعضهم أن الخطر إنما هو في تحليل الحرام فحسب، ولكن تحريم الحلال هو جريمة كبرى أيضًا، قال تعالى: "وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ" (116) سورة النحل.

وقد كان السلف – رحمهم الله- شديدي العزوف عن الفتيا، يقول ابنُ أبن ليلى : أدركتُ عشرينَ ومائة من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان منهم مفتٍ، إلاَّ ودَّ أنَّ أخاهُ قد كفاهُ الفتيا.

وبين يدي الطالب أبواب من التعليم يحتاج الناس إليها دون أن يضطر إلى الإفتاء، ويمكنه أن ينقل أقوال أهل العلم وشروحاتهم وترجيحاتهم.

10ـ الثبات والعزم

كم من شخص بدأ الطريق ثم خارت عزيمته واستثقل المضي؟

وكم من شخص لم يحفظ للعلم وقاره واتزانه فأثار حول نفسه ضجة في بدايات طلبه، وشغف بمسائل الخلاف، فنسي مع الأيام ولم يوجد له عزم؟

لذا فإن صدق الطالب، ومعرفته لوجهته وغايته، وعدم تعويله على من يشعب عليه قلبه، ويفتت عزمه من أعداء النجاح هي أمور لازمة لثباته، مع الإلحاح على الله بالدعاء أن يصرف قلبه إلى حب العلم ويجعل نهمته فيه، وينفع به ويجعل هذا كله مقبولا عنده سبحانه.