بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه, أما بعد:
فإنَّ الإمام (محمد بن الحسن الشيبانيَّ) صاحب الإمام أبي حنيفة -رحمهما الله تعالى- قد طعن فيه بعضُ المحدثين بأنه كان جهميَّاً مرجئاً يقول: (بخلق القرآن)!, وقد مرَّ بي أثناء قراءة كتاب الإمام البخاريِّ –رحمه الله- (خلق أفعال العباد) رقم (63) نصٌّ فيه رواه عن يزيد بن هارون يقول فيه: (ومحمد الشيبانيُّ جهميٌّ)([1]), هذا مع ما اشتهر من الإمام رحمه الله من عقيدة سلفية –إلا فيما وافق فيه مرجئة الفقهاء- فبدا لي جمع عجالةٍ تكون فاتحةً لهذا الموضوع, أجمع فيه بعض من تكلم في عقيدته, فإليك بعض أقوال الطاعنين:
1- قال زكريا السَّاجي: «محمد بن الحسن كان يقول بقول جهمٍ وكان مرجئاً»([2]).
2- قال يحيى بن آدم : «كان شريك لا يجيز شهادة المرجئة, فشهد عنده محمد بن الحسن، فلم يجز شهادته, فقيل له: "هذا محمد بن الحسن", فقال: "أنا لا أجيز شهادة من يقول: الصلاة ليست من الإيمان"»([3]).
3- وقال سعيد بن عمرو البرذعي: سمعت أبا زرعة يعنى -الرازي- يقول: «كان أبو حنيفة جهمياً، وكان محمد بن الحسن جهمياً، وكان أبو يوسف سليماً من التجهم»([4]).
قلت: كانوا يطلقون التجهم على الإرجاء تخويفاً للناس منه, لكن جاء في سؤالات البرذعي المطبوعة: سمعت أبا زرعة يقول: «كان أبو حنيفة جهمياً، وكان محمد بن الحسن جهمياً، وكان أبو يوسف جهمياً بين التجهم»([5]). وهذا لعله غلط، فلم يكن أبو يوسف مرجئاً.
4- ما سبق من أنَّ البخاري روى في خلق أفعال العباد([6]) عن يزيد بن هارون قوله: « من زعم أنَّ الرحم على العرش استوى على خلافما يقِرُ في قلوب العامَّة فهو جهميّ, ومحمد الشيباني جهميّ».
ولكن ظهر لي بعد البحث أنَّ محمد بن الحسن لم يكن جهميًّا بدليل ما يأتي:
قد قرَّر أبو جعفر الطحاويّ –رحمه الله تعالى- عقيدة محمد بن الحسن، في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة في (العقيدة الطحاوية المشهورة).
وكان لا يرى الصلاة خلف من قال القرآن مخلوق([7]), ويأمر من صلَّى خلف من يقول: "القرآن مخلوق"، بالإِعادة([8])، وذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن([9]).
وقد نقل عنه اللالكائي : «اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه, فمن فسّر اليوم شيئاً من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة. فإنهم لم يصفوا و لم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب و السنة ثم سكتوا»([10]). قلت: وهذا والله إجماع صحيح، فأين ما ينسبونه للتجهم؟ إنما يقصدون الإرجاء فحسب, وقد نقل هذا النصَّ كثيرًا في كتبه: شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-([11]).
قال الإمام أحمد بن حنبل، وذّكَرَ ابتداء محمد بن الحسن فقال: «كان يذهب مذهب جهم». وقد روي عنه شرحٌ لكلام يزيد بن هارون السابقِ فقال: «كان محمد بن الحسن في الأول يذهب مذهب جهمٍ»([12]).
والظاهر أن المقصود من التجهّم هو بدعة الإرجاء، مع الفارق الكبير بين مرجئة الفقهاء وبين مرجئة الجهمية, لأنَّ هذاهو الذي اشتهر به محمد بن الحسن, وأما التجهم الاصطلاحي فهو بعيدٌ عنه كما سبق في كلامه الصريح.
ودافع عن عدم تفسيره القرآن بكلام جهمٍ: أبو سليمان الجوزجانيُّ ومعلى بن منصورٍ الرازيُّ حيث قالا: "ما تكلم أبو حنيفةَ ولا أبو يوسفَ ولا زفرُ ولا محمدٌ ولا أحدٌ من أصحابهم في القرآن، وإنما تكلم في القرآن بشرٌ المريسي وابن أبي دؤاد، فهؤلاء شانوا أصحاب أبي حنيفة" ([13]).
وعدَّه ابن خزيمة في كتابه التوحيد ضمن علماء الإسلام الذين نهوا عن الكلام في الصفات([14]).




كتبه/ محمد عبد الكريم الإسحاقي
15 ربيع الأول 1440ه












([1]) خلق أفعال العباد رقم (63), وعبد الله بن أحمد في السنة (1/123), وأبو داود في المسائل (ص268), وابن بطة العكبري في الإبانة (3/164).


([2])تاريخ بغداد (2/561).


([3]) الكامل في ضعفاء الرجال (7/378).


([4]) تاريخ بغداد (2/561).


([5]) كما في تاريخ بغداد (2/561).


([6]) خلق أفعال العباد (63 رقم).


([7]) مختصر العلو (ص113).


([8]) كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة (2|277).


([9]) المصدر السابق (2|271).


([10]) شرح أصول السنة (3/480).


([11]) الفتاوى الكبرى (6/87), والفتوى الحموية الكبرى (328), ومجموع الفتاوى (4/4), وبنحو في (4/186),


([12]) لسان الميزان (7/60) أبو غدة.


([13]) تاريخ بغداد (15/516).


([14]) الاستقمة لشيخ الإسلام (1/108).