فوائد من باب تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه


الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح











فوائد من باب

تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه


32- عن أبي مسعودٍ، قال: أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى اليمن، فقال: ((ألا إن الإيمان ها هنا، وإن القسوة وغِلَظَ القلوب في الفَدَّادين عند أصول أذناب الإبل (وعند البخاري: والبقر)، حيث يطلع قرنا الشيطان، في ربيعةَ ومُضَرَ)). ولمسلم عن جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز)). 33- وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاء أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً، الإيمان يَمَانٍ، والفقه يَمَانٍ، والحكمة يمانيةٌ)). 34- وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء (وفي رواية لمسلم: والرياء) في أهل الخيل والإبل، الفدَّادين، أهل الوبر، والسكينة في أهل الغَنم)). أولًا: ترجمة رواة الأحاديث:أبو مسعود: هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة، ويقال: يسيرة، وهو المعروف بالبدري؛ لأنه سكن أو نزل ماء بدر، وشهد العقبة، وكان من أصغر من شهدها سنًّا، ولم يشهد بدرًا عند أكثر أهل السير، وقيل: شهد بدرًا، واختلف في وقت وفاته، فقيل: توفي سنة إحدى أو اثنتين وأربعين، وقيل: مات بعد سنة ستين- رضي الله عنه وأرضاه؛ [انظر: أسد الغابة (6/286)]. وأما راوي الحديث الذي يليه، وهو جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - فقد تقدمت ترجمته في الحديث الخامس من كتاب الإيمان. وأما أبو هريرة - رضي الله عنه - فتقدمت ترجمته في الحديث الأول من كتاب الإيمان. ثانيًا: تخريج الأحاديث:حديث أبي مسعود أخرجه مسلم حديث (51)، وأخرجه البخاري في "كتاب بَدْء الخلق" "باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شَعَف الجبال" حديث (3302). وأما حديث جابر فأخرجه مسلم، حديث (53)، وانفرد به عن البخاري وبقية الستة. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم، حديث (52)، وأخرجه البخاري في "كتاب المغازي" "باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن" حديث (4389). وأما حديث أبي هريرة الذي يليه فقد أخرجه مسلم في نفس الموضع حديث (52)، وأخرجه البخاري في "كتاب بدء الخلق" "باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال" حديث (3301). ثالثًا: ألفاظ الأحاديث:(القسوة وغلظ القلوب): قيل: هما بمعنى واحد، وقيل: القسوة هي التي لا تلين لموعظة، ولا تخشع لتذكر، والغليظة: هي التي لا تفهم ولا تعقل. (الفدَّادين): بتشديد الدال عند الأكثر، وحكى البعض التخفيف، جمع فدان، والمراد به البقر التي يحرث عليها، وقيل: الفدادون جمع فدان، وهو من يعلو صوته في إبله وخيله وحرثه، والمقصود في أحاديث الباب: رعاة الإبل والبقر والخيل. (عند أصول أذناب الإبل): لملازمتهم وسوقهم لها، فقيل لهم ذلك. (حيث يطلع قرنا الشيطان): الأصل في القرنين هما الناحيتان في أعلى الرأس، واختلف في معناهما:فقيل: إن الشيطان ينتصب قائمًا مع طلوع الشمس لمن يسجد للشمس؛ فقد جاء في موطأ مالك وسنن النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارَقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، ثم إذا قاربت الغروب قاربها، ثم إذا غربت فارقها)). وقيل: القرن: الجماعة من الناس، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين -: ((خير الناس قرني))، وللشيطان قرنان؛ أي: طائفتان، يعبدون غير الله، قال القرطبي: "ولعلهم في ذلك ربيعة ومضر، المذكورون في الحديث، أو أمَّتان من الفُرس، يعبدون الشمس ويسجدون لها من دون الله". وقيل: قرنا الشيطان مثل يضرب لأي شيء لا يُحمَد عقباه؛ قاله الخطابي؛ [انظر: المفهم للقرطبي حديث (41) "كتاب الإيمان" "باب الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية"]. (ربيعة ومضر): معظم العرب يرجعون إلى هذين الأصلين، ويمثلون أغلبية سكان أهل المشرق. (جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدةً)؛ أي: ألين قلوبًا، والفؤاد هو القلب، وقيل: الفؤاد داخل القلب، بخلاف أهل المشرق، (وهم أهل العراق)؛ فهم أغلظ قلوبًا، وأكثر جفاءً، وأخبر في الحديث الآخر: أن رأس الكفر نحو المشرق؛ أي: إن معظمهم ورياستهم هناك، لا سيما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه يخرج الدجال، وذكر ابن حجر أن فيه إشارة إلى شدة كفر المجوس؛ لأن مملكة الفُرس ومن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق، وكانوا في غاية القسوة والتكبر والتجبر، حتى خرق ملكهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، واستمرت الفتن تأتي من المشرق، هذا قول ابن حجر؛ [انظر: الفتح "كتاب بدء الخلق" "باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال" حديث (3301، 3302)]. (والفقه يَمَانٍ، والحكمة يمانيةٌ): الفقه: الفهم في الدِّين، والحكمة: هي العلم المشتمل على المعرفة بالله تعالى، وكل ما منع من الجهل والجفاء فهو من الحكمة، و(يمانيَة) بتخفيف الياء عند أهل العربية. (أهل الوبر): الوبر يكون في الإبل، وأدخل معه الخيل ضمنًا في الحديث، وليس ذا وبر؛ فالوبر للإبل كالصوف للغنم، والشَّعَر للمعز؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ [النحل: 80]. (الفخر والخيلاء): الفخر: التفاخر وعَدُّ المآثر القديمة، ومنه: الإعجاب بالنفس، والخيلاء: الكِبْرُ واحتقار الغير. (السكينة): السكون والوقار والتواضع. رابعًا: من فوائد الأحاديث:الفائدة الأولى:الأحاديث فيها مَنقَبة لأهل اليمن؛ حيث أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان، والفقه، والحكمة، ورقة الأفئدة. وظاهر الأحاديث يدل على أن المراد أهل اليمن، ولأهل العلم أقوال أخرى:فقيل: المراد: الأنصار؛ لأن أصلهم من اليمن، ورد هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الأنصار، ويقول: ((جاء أهل اليمن))؛ مما يدل على أن المقصود غيرهم. وقيل: المراد بأهل اليمن في الأحاديث هم أهل مكة؛ لأن مكة من تهامة، وتهامة من اليمن، والنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو في المدينة، ومكة يمانية بالنسبة للمدينة. وقيل: المراد: مكة والمدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو في تبوك، والمدينة بالنسبة لتبوك يمانية، قالوا: والحكمة: المراد بها ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من السنَّة؛ فالمراد مكة والمدينة، قالوا: ويشهد لذلك الرواية الأخرى: ((والإيمان في أهل الحجازِ)). والأولى: إجراء الكلام على ظاهره؛ إذ لا مانع من إجرائه على الأصل، وأن المراد بهم أهل اليمن، لاسيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب أهل مكة المهاجرين وأهل المدينة الأنصار، وإن قيل: إن الحديث يشمل ذلك كله مكة والمدينة واليمن، فليس ببعيدٍ؛ لرواية: ((والإيمان في أهل الحجاز)). فالحديث فيه بيان لحال أهل اليمن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من كمال الإيمان وسلامة القلب، وهذا لا يعني أنهم في جميع العصور كذلك؛ فإن ظاهر الحديث لا يقتضيه، وإنما يقتضي أنهم كذلك في ذلك الوقت. الفائدة الثانية:الأحاديث فيها التحذير مما يأتي من قِبَلِ المشرق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وألحق به بعض العلماء ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم في العراق من فتن عظيمة وحروب هائلة؛ كوقعة الجمل، وحروب صفين، وحروراء، وفتن بني أمية، وخروج الخوارج؛ فإن ذلك كله من العراق من مشرق نجد، وفي آخر الزمان يكون خروج الدجال من ناحية المشرق، وكذلك يأجوج ومأجوج يأتون من المشرق. وإن كان جاء وصف أهل المشرق بالجفاء والغلظة، كما في أحاديث الباب، فإن هذا وصف لا ينسحب على كل مَن كان من المشرق؛ فقد يوجد في المشرق مَن هو أكمل إيمانًا وأرق قلبًا، ويوجد في اليمن من هو أغلظ وأكثر جفاءً، ولكن المراد في الأحاديث على وجه العموم. الفائدة الثالثة:الأحاديث فيها ذم لأهل الإبل والخيل، وعند البخاري والبقر، ووصفهم بالغلظة والجفاء والفخر والخيلاء والرياء، ومدح لأهل الغنم ووصفهم بالسكينة والوقار؛ ولذا كان الأنبياء رعاة للأغنام؛ كما ثبت في الصحيحين؛ [انظر: صحيح البخاري كتاب الإجارة "باب رعي الغنم على قراريط" حديث (2262)، وانظر صحيح مسلم، "كتاب الأشربة" "باب فضيلة الأسود من الكباث" حديث (2050)]. واختلف في سبب هذه الغلظة، وسبب هذه السكينة:فقيل: لأن أهل الإبل هم الأغنياء والسعة والكثرة، وهذا يسبب الفخر والخيلاء بما عندهم، بخلاف الفقراء لا يستطيعون على الإبل، فيرعون الأغنام، فيتواضعون لقلة ما في أيديهم. وقيل: بل هذا ما تتركه الإبل في رعاتها من أثر، فتجعله جافيًا غليظًا مختالاً، وهذا ما تتركه الغنم في أصحابها فتجعله متواضعا وقورًا؛ ولذا قال العلماء: إذا كان الإنسان يتأثر بجليسه من الحيوانات التي لا عقل لها، فكيف بجليسه من بني آدم؟!
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)