ابن أبي الربيع.. نموذجا:

الإدارة الحكومية عند الرواد المسلمين
د. أشرف صالح



وجود قوة تسمى «الحكومة»، التي يقع على عاتقها إقامة النظام الاجتماعي وبناؤه، أمر ضروري أقرته جميع الشرائع والأمم. كما أن النظام الإداري، كغيره من الأنظمة،

لا يتصور وجوده ونشأته في فراغ، بل لابد من وجود دولة تحتويه، فالنظام الاجتماعي الشامل للدولة يشتمل على النظم الاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها من النظم. والحقيقة أن المخطوطات الإسلامية تحفل بدراسات متخصصة في مختلف مجالات الإدارة، وسوف نعرض فيما يلي لأشهر رواد هذه الدراسات في موضوع الإدارة الحكومية خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين، ألا وهو ابن أبي الربيع.



شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع، تاريخ ولادته ووفاته غير معروف، والراجح أنه عاش خلال فترة حكم الخليفة المعتصم بالله، العباسي الثامن (179 – 227هـ)، ابن الخليفة هارون الرشيد، والذي خلف أخاه المأمون على كرسي الحكم. كما لم يعرف لابن أبي الربيع إلا كتاب واحد باسم «سلوك المالك في تدبير الممالك»، والذي طبع في القاهرة سنة 1286هـ. ويجمع الباحثون على أنه من أفضل نصوص الفلسفة السياسية العربية الإسلامية. وفيما يلي نماذج من موضوعات الإدارة الحكومية في هذا الكتاب، والتي تعكس الفكر الإداري الإسلامي في هذا الخصوص.

أركان الدولة

أوضح ابن أبي الربيع أربعة أركان رئيسية تقوم عليها الدولة هي: الملك (الرئيس) - الرعية (الشعب) - العدل (أجهزة العدالة) - التدبير (السلطة التنفيذية). وحدد العناصر اللازم توافرها في الملك، والسياسات التي يتبعها تجاه الدولة ونفسه وخاصته وتجاه جمهور رعيته وفي الحروب، وذكر الأقسام المكونة للرعية، وتكلم عن العدل وأقسامه وبيان شرف منزلته.
المدينة والسكان

بين ابن أبي الربيع الشروط الأساسية الستة لإقامة المدينة وهي: «سعة المياه المستعذبة - إمكان الميرة (الطعام) المستمدة - اعتدال المكان وجودة الهواء - القرب من المراعي والاحتطاب - تحصين منازلها من الأعداء - أن يحيط بها سواد يعين أهلها». كما ذكر العناصر الثمانية اللازم توافرها بعد قيام المدينة، والتي على الحاكم القيام بها نحو سكان المدينة، وهي: «سوق الماء العذب إليها ليشرب ويتناول من غير عسف - تقدير طرقها وشوارعها حتى تتناسب ولا تضيق - بناء جامع للصلاة في وسطها ليقرب على جميع أهلها - تقدير أسواقها بحسب كفايتها لينال سكانها حوائجهم من قرب - تمييز قبائل ساكنيها بألا يجمع أضدادا مختلفة متباينة - أن يسكن (الحاكم) أفسح أطرافها، وأن يجعل خواصه كفالة من سائر جهاته - إحاطة المدينة بسور خوف اغتيال الأعداء لأنها بجملتها دار واحدة - نقل أهل العلم والصنائع إليها بقدر الحاجة لسكانها حتى يكتفوا بهم ويستغنوا عن الخروج إلى غيرها».

ومن الملاحظ؛ أن هذه العناصر تشير إلى مبدأ الاستدامة في بناء المدن، وإلى الرؤية البيئية الإسلامية لاختيار مواقع المدن ومتطلباتها، خصوصا في المياه، والحماية من العوامل البيئية السيئة، وطيب الهواء، والمناطق الخضراء. ومن جهة أخرى، أوضح ابن أبي الربيع أن المزارع من الضروريات لعمارة المدينة؛ لأن الزراعة هي أصول المواد التي يقوم بها أود الخلق، وذلك من خلال القيام بمصالح المياه، وكف الأذى عن المزارعين، وتقدير ما يؤخذ منهم بحكم الشرع والعدل، وألا ينالهم خوف ولا عسف.

القيادة المثالية
حدد ابن أبي الربيع الأسس التي تقوم عليها القيادة المثالية التي تدفع عن الناس الأذى الواقع على بعضهم، وأن يكون القائد من أفضل الناس. ولذلك، فهو يميل إلى القيادة المثالية، وأن يحكم الناس أحكم الناس، قائلا: «فقد تبين... أن الناس مضطرون إلى تدبير وسياسة وأمر ونهي، وإن المتولين لذلك ينبغي أن يكونوا أفاضلهم». وقد أكد على مبدأ وحدة القيادة لاعتقاده «بأن كثرة الرؤساء تفسد السياسة وتوقع التشبث؛ لهذا احتاجت المدينة أو المدن الكثيرة أن يكون رئيسها واحدا». كما حدد واجبات القائد في: إقامة العدل، ورفع الظلم، وقيادة الدولة إلى تحقيق أهدافها العليا، وأن يعمل كل فرد في مجال اختصاصه لمصلحته ومصلحة مجتمعه.

مؤسسات الدولة

وقد اهتم ابن أبي الربيع بالتدبير (الإدارة)، واعتبره رباطا وواسطة قوية بين الحاكم والمحكوم، أو بين الملك والرعية، فالملك يحتاج إلى من يعاونه في إدارة شؤون حكمه، وإذا لم يكونوا صالحين فسدت الدولة وساء تدبيرها. وقد حذر الملك من ستة أشياء عليه الانتباه إليها وتجنبها وهي: «من استوزر غير كاف، خاطر بملكه - من استشار غير أمين، أعان على هلكه - من أسر إلى غير ثقة، ضيع سره - من استعان بغير مستقل، أفسد أمره - من ضيع عاملا، دل على ضعف عقله - من اصطنع جاهلا، أعرب عن فرط جهله».
وقد حدد ابن أبي الربيع الأتباع والأعوان الذين يساعدون الملك في تدبير شؤون نفسه وحكمه ورعيته وهم: وزير عالم (رئيس الوزراء) - كاتب عارف (الوزير أو المدير العام) - حاجب عاقل (ديوان الرئاسة) - قاض ورع (الجهاز القضائي) - عامل جلد (المحافظ) - مال متوافر - رب شرطة (السلطة التنفيذية) - جند أقوياء (الجيش) - حكيم مجرب - جليس صادق - صاحب الطعام والشراب».

ميزانية الدولة

بين ابن أبي الربيع أحوالا ثلاثة من مقارنة الإيرادات بالنفقات هي:
< أن يفضل الدخل (الإيرادات) عن الخرج (النفقات)، وذلك هو الملك المستقيم والتدبير السليم؛ ليكون الفائض معدا لوجوه النوائب.
< أن يقصر الدخل عن الخرج، وذلك هو الملك المختل والتدبير المعتل، فتدعوه الحاجة إلى العدول عن لوازم الشرع، ويؤول إلى العطب والفساد.
< أن يتكافأ الدخل والخرج حتى يعتدل، ويكون ذلك في زمن السلامة مستقلا، وعند الحوادث معتلا، فإن تحركت به النوائب كده الاجتهاد وانفض من حوله الإخوان. ويتضح من ذلك أن ابن أبي الربيع يفضل الموازنة الفائضة التي تزيد إيراداتها على نفقاتها؛ لكي يتوافر لديها فائض في الأموال لتواجه به الكوارث والنوائب غير المتوقعة.
في الحقيقة؛ إن لكتاب «سلوك المالك في تدبير الممالك» قيمة فلسفية وسياسية كبيرة، فهو يبحث في السياسة والفلسفة والأخلاق والإدارة والشريعة، بل وحتى في تخطيط المدن. والجدير بالملاحظة هنا، أنه في الوقت الذي نشر فيه ابن أبي الربيع آراءه ووجهات نظره، التي تعتبر مرجعا أساسيا في عدد من العلوم، فإن أوروبا كانت تعيش في الوقت ذاته في ظلام دامس، إذ إن مجتمعاتها كانت تعيش على تراكمات من التخلف والجهل، وفي ظل أنظمة إقطاعية غاية في الإجحاف وعدم المسؤولية تجاه شعوبها.

المراجع

- ابن أبي الربيع، «سلوك المالك في تدبير الممالك»، تحقيق: حامد عبدالله ربيع، القاهرة، دار الشعب، 1980م.
- خالد مصطفى عزب، تخطيط وعمارة المدن الإسلامية، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1997م.
- محمد زاهد جول، «المدينة والدولة في الاجتهاد الفقهي»، ندوة تطور العلوم الفقهية: «الفقه الحضاري، فقه العمران»، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، سلطنة عمان، 3 - 6 أبريل 2010م.
- موسوعة الإدارة العربية الإسلامية، القاهرة، المنظمة العربية للتنمية الإدارية، 2004م، (المجلد الثاني).