تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (بحث في الأدلة والقرائن)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2015
    المشاركات
    38

    افتراضي اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (بحث في الأدلة والقرائن)

    بسم الله الرحمن الرحيم
    اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (بحث في الأدلة والقرائن)

    الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا, وللتائهين نوراً وسراجاً منيرا, وصيره فارقاً بين الهدى والضلال, ودليلاً لمن أراد معرفة ربه والطريق الموصلة إليه, والباب الأعظم لسلوك طريق السعادة في الدنيا والآخرة.
    والصلاة والسلام على إمام المرسلين المستأثر بأنواع الكمالات والفضائل, وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم المعاد.
    أما بعد:
    فقد شاع عند كثير من أهل القراءات قديماً وحديثاً أن أداء التلاوة بكل تفاصيله ودقائقه الكثيرة إنما هو متلقى من قبل أئمة القراءة بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وأنه يجب الأخذ بجميع تفاصيله وصفاته, لأن القراءة سنة متبعة, وليس لأحد أن يخالف في ذلك.
    يقول أحد مشايخ التجويد: "النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي اقرأ أصحابه بتحقيق الهمزات وبتسهيلها, وكذلك بالفتح والإمالة, وبالإدغام وبالإظهار, وبتطويل زمن الغنة في محلها, وبتطويل الصوت بحروف المد, وبقلقلة حروف (قطب جد), وهو الذي أذن بقراءة هذه بوجه وهذه بوجهين وهذه بثلاث وهذه بأربع... الخ, وجرى كل وجه جاء به النبي في القراءة والأداء على أنه وحي معصوم, والأئمة رووه عنه بالتوقيف".

    فهل هذا المفهوم الشائع حق, وهل تؤيده الحجة أو تعضده البراهين, أو تدل عليه القرائن والسبر والاستقراء, أم أن الأمر بخلاف ذلك, وأن مؤشرات الأدلة كلها بأنواعها تشير إلى أمر آخر.
    الحقيقة أن الأدلة كلها بمختلف أنواعها تشير إلى أمر آخر فعلاً.
    إنها تدل كلها على أن الاختلاف في صفات أداء التلاوة إنما هو ناشئ عن اختلاف القراء في اختيارهم, واختلاف لهجاتهم وأدائهم للحروف, وتأثرهم بطبيعة لهجات القبائل العربية المتناثرة في كل قطر, وليس أصله التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد حصل لبس وخلط عظيم عند طائفة من السابقين وكثير من اللاحقين بين الاختلاف في القراءة الذي منشؤه الكلام نفسه من زيادة أو نقص في حروفه أو تغيير في إعرابه وبين الاختلاف الذي منشؤه الاختلاف الطبيعي عند قبائل العرب في الأصوات والنطق والكلام, بسبب تنوع لهجاتهم وتنائي محلاتهم.
    وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في كتابه حيث قال: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم) فذكر الله تعالى بقدرته الباهرة اختلاف البشر في الألسنة وفي كيفية النطق.
    فظن أولئك أن كل ذلك الاختلاف بجميع تفاصيله من أنواع المدود والغنن والإمالات والإدغامات والترقيقات والتفخيمات والتغليظات والروم والإشمام والهمز والتسهيل والبدل وغير ذلك من الأنواع أنه متلقى بالإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    والحقيقة أن الأمر ليس كذلك, فإن القراء يتصرفون في أدائهم للقراءة باعتبار أن ذلك من التغني والترتيل المأمور به ليس على وجه واحد أو وتيرة واحدة, وهم بهذا التصرف والتنوع لا يخرجون عن اللسان العربي, والقرآن أنزل باللسان العربي المبين.

    وسوف أسوق في هذا البحث إن شاء الله أدلة وبراهين كثيرة جداً كلها تدل على أن كل ما يتعلق بطريقة أداء التلاوة ليس منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما هو اجتهاد من أولئك الأئمة ومشايخهم الذين رووا القراءة عنهم بما يتوافق مع لسان لغة العرب, فإن القرآن أنزل بلسان عربي مبين, فقرأه أولئك القراء باللسان العربي وفق ما سمعوه من حيث الإعراب والحروف والكلمات, أما في طريقة أدائه فقد تفاوتوا في ذلك تفاوتاً كبيراً حسب اختلاف لهجاتهم العربية وطريقتهم في الكلام.
    ومن هنا جاءت الفروق الكثيرة جداً بين القراء في تفاصيل الأداء.
    والقول بأن كافة تلك التفاصيل متلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم قول لا دليل عليه عند التمحيص إلا عند المقلد, فإن المقلد بمنزلة الأعمى لا يرى شيئاً في الطريق, إنما مذهبه مذهب من يقوده, وهذا حال كثير من الأتباع, يقولون شيئاً سمعوه وهدوا إليه دون نظر وتمحيص وفحص للأدلة, وإنما قاله بعض العلماء المتقدمين, فتبعهم الناس وانساقوا وراء هذه الدعوى, لا يلوون على شيء, ولا يلتفتون إلى شيء, مطأطئين رؤوسهم قد أغمضوا أعينهم عن كل دليل أو حجة أو قرينة أو منقول أو معقول.
    نعم كل مسلم يعلم أن الله قد سخر أئمة كراماً حفظوا القرآن ونقلوه كما سمعوه فجزاهم الله عن الأمة أفضل الجزاء, فجهودهم مشهورة مشكورة.
    ولكن أولئك الأئمة الكرام لم يقل أحد منهم أو من تلاميذهم: إن جميع تفاصيل طريقة أدائهم للقراءة قد أخذوها بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
    فالقراء الكرام أنفسهم لم يدعوا ذلك أبداً, وعلى من يقول بذلك أن يأتي بحرف واحد من أولئك القراء يدل على أنهم نقلوا صفة الأداء بكل تفاصيلها بالسند كما نقلوا الحروف والكلمات والإعراب.
    وقبل أن أبدأ بسرد هذه الأدلة أفيد القارئ الكريم أن الموضوع طويل جداً في أكثر من مائة صفحة, فإن كان يشق عليه قراءة البحث كاملاً فبإمكانه أن يقرأ ملخصه, فقد وضعت في آخره ملخصاً مختصراً جداً في ورقات يسيرة.
    وسأذكر الآن الأدلة إجمالاً ثم أفصلها واحداً تلو الآخر.
    الأول: عدم الدليل البتة على أن صفات الأداء متلقاة بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
    الثاني: نصوص وأقوال كثيرة صادرة عن القراء يفهم منها أن صفات الأداء ليست منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    الثالث: انفراد بعض القراء أو بعض رواتهم بأنواع من الأداء لا يشاركهم أحد.
    الرابع: كثرة الاختلاف والروايات والطرق والأوجه بلا حد ولا عد.
    الخامس: أن منشأ الاختلاف في القراءات القرآنية الإذن العام بأن يقرأ كل إنسان بلهجته, والاختلاف في الأداء كذلك.
    السادس: أن القراء وعلماء القراءات والمؤلفين في القراءات يستعملون القواعد والتعليلات والقياس كثيراً في أنواع كثيرة من الأداء.
    السابع: كراهية بعض الأئمة والعلماء لأنواع من الأداء عند بعض القراء.
    الثامن: كثرة الاختلاف عن القراء أو عن رواتهم.
    التاسع: ظهور ما يسمى بعلم التحريرات.
    العاشر: نصوص من كلام القراء وغيرهم فيها دلالة واضحة على عدم وجود قواعد محددة للمدود أو غيرها من أنواع الأداء.
    الحادي عشر: ما ورد عن بعض السلف رحمهم الله من هذ القرآن, والسرعة في قراءته.
    الثاني عشر: أن العلماء ردوا التكبير للبزي وأنكروه.
    الثالث عشر: قول الصحابة رضي الله عنهم: كان يعلمنا كذا كما يعلمنا السورة من القرآن.
    الرابع عشر: أحاديث تدل على أن القارئ إنما يطالب بالترتيل والتغني, وليس لذلك قيود أو حد محدود.
    الخامس عشر: أن القرآن أنزل على سبعة أحرف لغرض واحد, وهو التخفيف على الأمة.
    أما الآن فأبدأ بشرح هذه الأدلة مستمداً من الله تبارك وتعالى العون والتوفيق والسداد.
    الدليل الأول:
    عدم الدليل البتة على أن صفة الأداء قد تلقيت بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فلا يوجد أي دليل على ذلك سوى الدعوى.
    فلم يذكر ذلك أي من القراء السبعة أو رواتهم أو غيرهم من القراء والأئمة المتقدمين.
    غاية ما يذكره المتأخرون هو ما ورد عن السلف أن (القراءة سنة متبعة), وهذا حق لا مراء فيه, فالقراءة سنة متبعة فلا يقرأ القرآن حسب الرسم كيفما اتفق, والسلف رحمهم الله أكدوا على هذا بشدة, لا سيما والقرآن لم يكن منقوطاً ولا مشكولاً, فلم ينقط إلا في القرن الثاني الهجري, فكان من الممكن أن تقرأ الآية على أكثر من وجه.
    وقد ذكرت هذه المسألة في موضوع مستقل, وبينت أن مراد السلف رحمهم الله بقولهم: (القراءة سنة متبعة) النطق الصحيح من غير لحن أو تبديل للكلمات أو الحروف أو الإعراب, وما يتغير به المعنى, وقد ذكرت شواهد وأدلة كثيرة على ذلك.
    وأن القراء والمتلقين عنهم في عصر السلف إنما كان اهتمامهم منصباً على عدم اللحن والخطأ في الحروف, والكيفية الصحيحة لنطق الكلمة من غير تحريف في حروفها أو حركاتها, ولم يكن من اهتمامهم معرفة تفاصيل طريقة أداء الألفاظ وضبطها.
    وذكرت هناك أن علماء القراءة يذكرون دائماً أن القراءة لا يتجاوز بها طريقة الماضين وذلك في ما يتعلق بالحروف والإعراب واللغة.
    وذكرت أيضاً أن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم إنما كان يدور دائماً حول ما يتغير به اللفظ, وليس ما له علاقة بطريقة الأداء.
    وأن السلف رحمهم الله ما كانوا يحذرون إلا من اللحن في القراءة, وكانوا ينكرون القراءة بغير إعراب ويمنعون منها, إلى غير ذلك.
    أما صفات الأداء واختلافها وتنوعها من إمالة وإدغام وروم والمدود ومقاديرها والغنن والتفخيم والترقيق وغير ذلك فلا يتأثر باختلافها المعنى.
    فالقول بأن مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة) كل ما يتعلق بصفات الأداء هو قول لا أصل له من كلام العلماء القدماء والقراء الأولين, ولا دليل عليه من كلام أي من السلف الأولين رحمة الله عليهم أجمعين.
    فإنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه حرف واحد فيه ذكر الإدغام أو الإمالة أو الروم أو الإشمام أو الترقيق أو التفخيم أو التغليظ, أو الوقف على الساكن قبل الهمز, أو تحديد المد بحد أو بقيد, أو غيرها من تلك القوانين الكثيرة التي تمتلئ بها كتب القراءات والتجويد.
    وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في أشياء كثيرة من أمر القراءة, بخلاف ما يتعلق بصفات الأداء كهذه التي ذكرتها أو غيرها.
    ألا يدل ذلك بكل وضوح على أن هذا كله من اجتهاد القراء رحمهم الله بما يتماشى مع الإذن العام الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون القراءة سهلة بابها واسع, فقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن يقرأ على (سبعة أحرف) شريطة أن لا يتنافر مع اللسان العربي الذي أنزل به القرآن.
    قال الإمام مكي بن أبي طالب المتوفى سنة (437) هـ في كتابه "الإبانة" (1/78) : "وأما ما اختلفت فيه القراءة من الإدغام والإظهار والمد والقصر وتشديد وتخفيف وشبه ذلك فهو من القسم الأول, لأن القراءة بما يجوز منه في العربية وروى عن أئمة وثقات جائزة في القرآن, لأنه كله موافق للخط".
    وكان ذكر أن القراءات ترجع إلى سبعة أوجه, ثم ذكرها وذكر الأول منها: أن يختلف في إعراب الكلمة، أو في حركات بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب، ولا يغير معناها نحو: البُخْل والبَخَلَ، وميسَرة وميسُرة.
    وقال الدكتور عبد الهادي حميتو في كتابه "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" بعد أن ذكر طريقة الإمام نافع رحمه الله في تعليمه للقرآن, وأنه كان يسهل القرآن لمن قرأ عليه, ويتقبل لهجة الراوي أياً كانت وهكذا بقية القراء:
    يقول: بمثل هذه المرونة كان يتعامل نافع مع العارضين عليه، ولاسيما فيما يرجع إلى طرق الأداء التي تخضع كثيراً لعادة القارئ في النطق بالكلمات في لهجته، فيما يتعلق بالهمز, والتخفيف, والفتح, والإمالة, والإظهار, والإدغام ونحو ذلك، إذ كان أئمة القراء لا يأخذون القارئ بما قد لا يقوى عليه ولا يطوع به لسانه في الأداء، سيراً مع ما كان يسلكه أهل الفصاحة من التوسع في اللغة ووجوهها، والإبقاء على قدر من المرونة فيها، بشرط الابتعاد عن مظاهر التقعر والتكلف البعيد...
    وعلى مثل هذا الصنيع درج أئمة القراء، فكانوا يفعلونه مع العارضين عليهم، فلا يلزمون القارئ في أصول الأداء بما يرونه الوجه المختار لقوته في اللغة والقياس، أو لشيوع استعماله في القراءة والأداء، ولهذا نجد الخلاف يتسع أحياناً في بعض حروف القرآن اتساعاً كبيراً، بسبب قبول اللغة فيها للوجوه المتعددة، كالوجوه في (أف) و(هيت لك) و(عبد الطاغوت)ونحوها.
    ويدخل في هذا المنحى من التيسير على العارضين ما جاء عن نافع من قوله بالوجهين أو أكثر في أداء الحرف الواحد، وتخييره القارئ أحياناً في القراءة بأيها شاء، فقد روى عنه قالون مثلاً قوله: لا تبال كيف قرأت (بسطة) و(يبسط) بالصاد أو بالسين.
    وروى أبو قرة عنه (ويبصط) و(بسطة) بالسين, وقرأ ورش رواية عن نافع الحرفين "ويبصط" في البقرة، و(بصطة) في الأعراف بالصاد, وقرأ غيرهما في سائر القرآن بالسين.
    وإنما يرجع ذلك بعد الرواية والنقل إلى اختلاف الأصوات وتعدد اللغات، فلذلك رسم الصحابة بعضه بالصاد وباقيه بالسين، وذلك مألوف في اللغة والاستعمال مما يسميه علماء اللسان بـ"تداخل اللغات".
    وهذا تفسير كثير من الاختلاف في حروف القراءة وأصول الأداء، مثل الاختلاف في (الصراط) و(صراط) و(المصيطرون) و(يصدر الرعاء) ونحوها، ومثل الاختلاف في أحوال الهمز وتخفيفه بالإبدال أو التسهيل أو النقل أو الحذف، ومثل الفتح والتقليل والإمالة، تبعاً لما اعتاده لسان القارئ ودرج عليه في قراءته، وفي القراء يومئذ من لا يستقيم لسانه البتة بالنطق بغير ما درب على استعماله في لسانه من الحروف واللغات.
    وقد حكى أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: "قرأ أعرابي بالحرم (طيبى لهم وحسن مئاب) فقلت: (طوبى) فقال: (طيبى)، فلما طال علي قلت: (طو، طو) فقال: (طي، طي), ولم يفارق الأعرابي لغته إلى متابعة أبي حاتم"انتهى.
    وقول الدكتور حميتو: (وإنما يرجع ذلك بعد الرواية والنقل) يتناقض مع بقية كلامه, فلو حذفها لاستقام الكلام.
    وإن مما يدل على أن أداء التلاوة ليس مروياً بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما روي عن حمزة أنه قال: ما قرأت حرفاً إلا بأثر.
    وقال: ما منها حرف قرأته إلا ولو شئت رويت فيه حديثاً, كما في "جمال القراء" للسخاوي ص (459)
    وكذلك قال الأعمش والثوري: ما قرأ حمزة حرفاً إلا بأثر.
    وقال شعيب بن حرب: لو أردت أن أسند قراءة حمزة حرفاً حرفاً لفعلت.
    قلت: فأين هذه الأحاديث والآثار التي تدل على تفاصيل الأداء, لا يمكن أن يأتي آت بأثر أو حديث واحد فيه ذكر لشيء من طريقة الأداء, وفي هذا أعظم الدلالة على أن مرادهم بأقوالهم تلك إنما هو ما يتعلق بالإعراب والحروف وليس ما يتعلق بطريقة الأداء من مد أو إدغام أو إمالة أو غيرها.

    الدليل الثاني:
    نصوص وأقوال كثيرة صادرة عن القراء يفهم منها بوضوح أن الاختلاف بين القراء السبعة وغيرهم في طريقة الأداء إنما هو صادر عن الاجتهاد والاختيار من لغات العرب, والتأثر بطبيعة الأداء بحروف القبائل العربية ونحو ذلك.
    وبتأمل يسير في بعض ما ورد عنهم يظهر جلياً أن الفروق بين القراء وأتباعهم إنما وجدت بسبب التفاوت بينهم في الأداء, ومنه ما هو اختيار من هيئات نطق القرآن التي ورثوها ممن قبلهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
    ولو تتبع الباحث ما ورد عنهم في ذلك لاجتمع له شيء كثير جداً, وسأذكر نبذة تفي بالمقصود.
    أولاً:
    ذكر ابن مجاهد رحمه الله في "السبعة" ص (77) الذين رووا القراءة عن حمزة ثم قال:
    "وكل هؤلاء متقاربون لا يكادون يختلفون في أصل من أصول قراءة حمزة, غير أنهم كانوا يتفاضلون في الألفاظ ورقة الألسن, ويختلفون في الإفراط في المد والتوسط فيه, وفي شيء من الإدغام أيضاً اختلفوا وقد بينت ذلك في كتابي هذا"اهـ
    ثانياً:
    قال أحمد بن نصر أبو بكر الشذائي المتوفي سنة (373)هـ: "فأما صفة قراءة من انتحل ابن كثير فحسنة، مجهورة بتمكين بين.
    وأما وصف قراءة من ينتحل نافعاً فسلسلة لها أدنى تمديد.
    وأما صفة قراءة من ينتحل عاصماً فمترسلة جريشة، ذات ترتيل وكان عاصم نفسه موصوفاً بحسن الصوت وتجويد القراءة.
    وأما صفة من ينتحل قراءة حمزة فأكثر من رأينا منهم ما ينبغي أن تحكى قراءته لفسادها, ولأنها مصنوعة من تلقاء أنفسهم، وأما من كان منهم يعدل في قراءته حدراً أو تحقيقاً فصفتها المد العدل والقصر والهمز المقوم والتشديد المجود، بلا تمطيط ولا تشديق ولا تعلية صوت ولا ترعيد، فهذه صفة التحقيق.
    وأما الحدر فسهل التكلف في أدنى ترتيل وأيسر تقطيع.
    وأما وصف قراءة من ينتحل قراءة الكسائي فبين الوصفين في اعتدال.
    وأما أصحاب قراءة ابن عامر فيضطربون في التقويم، ويخرجون عن الاعتدال.
    وأما صفة من ينتحل قراءة أبي عمرو فالتوسط والتدوير وهمزها سليم من اللكز, وتشديدها خارج عن التمضيغ، بترسل جزل وحدر بين سهل يتلو بعضها بعضاً.
    قال: وإلى هذا كان يذهب ابن مجاهد في هذه القراءة وغيرها، وبه قرأنا عليه، وبه كان يختار، وبمثله كان يأخذ ابن المنادي رحمة الله عليهما, والله الهادي".
    أخرجه الداني في "التحديد" ص (92)
    ثالثاً:
    أخرج الداني في "التحديد" ص (88) عن عبد العزيز بن جعفر، عن عبد الواحد بن عمر، عن ابن فرح، عن أبي عمر قال: سمعت سليماً يقول: وقف الثوري على حمزة فقال: يا أبا عمارة ما هذا الهمز والمد والقطع الشديد؟ فقال: يا أبا عبد الله هذه رياضة للمتعلم, قال: صدقت.
    ثم قال أبو عمرو الداني: "ولهذا المعنى الذي ذكره حمزة رحمه الله يرخص في المبالغة في التحقيق من يرخص من الشيوخ المتقدمين والقراء السالفين لترتاض به ألسنة المبتدئين وتتحكم فيه طباع المتعلمين، ثم يعرفون بعد حقيقته ويوقفون على المراد من كيفيته.
    فأما استعماله على غير ذلك فلا سبيل إليه البتة، للمتقدم من الأخبار عن الأئمة بكراهته والعدول عنه.
    وقد حدثني الحسين بن علي بن شاكر البصري، حدثنا أحمد بن نصر المقرئ قال: فأما الإسراف في التحقيق الخارج عن التجويد فمعيب مذموم.
    قال: سمعت ابن مجاهد وقد سئل عن وقف حمزة على الساكن قبل الهمزة، وإفراطه في المد إلى غير ذلك، قال: كان حمزة يأخذ بذلك على المتعلم، ومراده أن يصل إلى ما نحن عليه من إعطاء الحروف حقوقها.
    إذاً حمزة رحمه الله كان يقف على الساكن قبل الهمز لأجل ضبط التعليم فحسب, وهذا من أوضح الأدلة على مسألتنا.
    قال أبو عمرو: وقد جاء هذا عن حمزة منصوصاً، فحدثنا به عبد العزيز بن جعفر المقرئ، أن عبد الواحد بن عمر حدثهم قال: حدثني أحمد بن عبيد الله، حدثنا عبد الله بن شعيب قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم المقرئ، عن خلف بن هشام قال: سألت سليم بن عيسى عن التحقيق, فقال: سمعت حمزة يقول: إنا جعلنا هذا التحقيق ليستمر عليه المتعلم.
    أخبرني محمد بن عبد الواحد البغدادي، أن أحمد بن نصر حدثهم قال: حدثنا ابن شنبوذ قال: حدثنا محمد بن حيان، حدثنا أبو حمدون، حدثنا سليم قال: سمعت حمزة يقول: إنما أزيد على الغلام في المد ليأتي بالمعنى"اهـ
    ويروى عن حمزة رحمه الله أنه قال: إنما الهمز رياضة, فإذا أحسنها الرجل سهلها, كما في "السبعة" لابن مجاهد ص (76)
    تبين إذا مما سبق أن القارئ قد يجتهد فيغير في الأداء ويشدد فيه ويبالغ لأجل التعليم ورياضة اللسان.

    رابعاً:
    اشتهر عن الأزرق عن ورش مد حرف المد إذا جاء بعد الهز, وجميع أهل القراءات يعلمون ذلك ويقرؤون به لورش.
    ولكن قال أبو عمرو الداني في "جامع البيان" (1/355) : "وقرأت على أبي الحسن بن غلبون بغير زيادة تمكين لحرف المد فيما تقدم، سألته عن زيادة التمكين وإشباع المد فأنكره وبعَّد جوازه، وإلى ذلك كان يذهب شيخنا علي بن محمد بن بشر رحمه الله، وسائر أهل الأداء من البغداديين والشاميين, وقال بعض شيوخنا: هو اختيار من ورش خالف فيه نافعاً، يعني الزيادة في المد، قال: وأهل العراق ينكرون ذلك ولا يأخذون به، وأهل مصر يروونه ويتركونه، وحكى لي الخاقاني أن أصحابه المصريين الذين قرأ عليهم اختلفوا في ذلك, فمن قائل منهم به، ومن منكر له.
    وقال آخرون: إنما كان المشيخة من المصريين يأخذون بالتحقيق والإفراط في المد على المبتدئين على وجه الرياضة لهم، وهذا يدل على أن البالغ الإشباع الزائد في هذا الفصل ليس من مذهب نافع ولا اختياره، ولا من رواية ورش ولا أدائه، وأنه استحسان واختيار من أهل الأداء عن أصحابه... فينبغي أن لا يفرط فيه في مذهب ورش، وكذلك قرأت على الخاقاني وأبي الفتح عن قراءتهما، وهو الذي يوجبه القياس ويحققه النظر وتدل عليه الآثار وتشهد بصحته النصوص، وهو الذي أتولاه وآخذ به.
    وقد وقعت في هذه الرواية التي قرأنا بها على ابن خاقان وفارس بن أحمد إلى جماعة لم تتحقق معرفتهم ولا استكملت درايتهم، فأفرطوا في إشباع التمكين إفراطاً أخرجوه بذلك عن حده ووزنه، قال لإبعاد جوازه وتخطئة ناقله وتجهيل منتحله والآخذ به، وقد أتيت على البيان عن صحة القول في ذلك ووجهه الصواب فيه في كتاب الأصول وفي غيره، إلا أنا رأينا ألا نخلي جامعنا هذا من ذكر ما فيه كفاية ومقنع من ذلك...".
    ثم بين ذلك رحمه الله بياناً مفصلاً شافياً كافياً.

    وقال ابن الجزري في "النشر" (1/339) : "وذهب إلى القصر فيه أبو الحسن طاهر بن غلبون, ورد في تذكرته على من روى المد وأخذ به وغلط أصحابه, وبذلك قرأ الداني عليه, وذكره أيضاً ابن بليمة في تلخيصه, وهو اختيار الشاطبي حسب ما نقله أبو شامة عن أبي الحسن السخاوي عنه.
    قال أبو شامة: وما قال به ابن غلبون هو الحق".

    والعجيب أن ابن الجزري قال بعد ذلك: والحق في ذلك أنه شاع وذاع وتلقته الأمة بالقبول فلا وجه لرده وإن كان غيره أولى منه والله أعلم.
    قلت: ما أسهل أن يدعى في أي شيء أنه تلقته الأمة بالقبول, وما أكثر الأشياء التي تشيع وتذيع وهي غير حق ولا صواب.

    خامساً:
    قال ابن هلال كما في "التحديد" للداني ص (91) : الذي أقرأه وأقرئ به الوسط من اللفظ، ما يصلح للمحاريب.
    وقال ابن مجاهد في "السبعة" ص (84) : كان أبو عمرو حسن الاختيار سهل القراءة، غير متكلف، يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل.
    وقال ص (78) : "اختار الكسائي من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة غير خارجة عن أثار من تقدمه من الأئمة".
    فبعض القراء إذاً يصرح أنه يختار القراءة المتوسطة المعتدلة, وهذا يدل لمن تأمل على أن أداء القراءة متنوع, بعضه مشدد فيه وبعضه مسهل, فيذكر بعض القراء أنه يختار الوسط من ذلك.
    فقول ابن هلال: (الذي أقرؤه الوسط من اللفظ), وقول ابن مجاهد عن أبي عمرو: (إنه سهل القراءة غير متكلف), وقوله عن الكسائي: (إنه اختار قراءة متوسطة), كل ذلك يدل على أن صفات الأداء اجتهاد واختيار, وليس سنة متبعة.

    سادساً:
    قال أبو عمرو الداني في "جامع البيان" (1/342) بعد أن ذكر مراتب القراء في طول المد: "وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف وتخليص السواكن، وتحقيق القراءة وحدرها، وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافاً يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة".
    وقال ابن الجزري في :النشر" (1/333) بعد أن ذكر مراتب القراء في المد: ولا يخفى ما فيها من الاختلاف الشديد في تفاوت المراتب، وأنه ما من مرتبة ذكرت لشخص من القراء إلا وذكر له ما يليها، وكل ذلك يدل على شدة قرب كل مرتبة مما يليها، وإن مثل هذا التفاوت لا يكاد ينضبط".
    وروى إسحاق بن أحمد الخزاعي المتوفى سنة (308)هـ عن أصحابه أن المد كله مد يسير وسطاً مبيناً.
    قال: وكذلك كل ممدود في القرآن لا يسرفون في مده، ولكن يمده مداً حسناً. ذكره الداني في "جامع البيان" (1/344)
    فهذا كله يدل على أن المد قريب بعضه من بعض, وأنه جار على تفاوت طباعهم وطرائقه في تفكيك الحروف وتخليص السواكن.

    سابعاً:
    أخرج الداني في "الإدغام الكبير" ص (39) عن ابن غلبون، عن عبد الله بن المبارك، عن جعفر بن سليمان، عن صالح بن زياد, عن اليزيدي، عن أبي عمرو أنه قال: الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها لا يحسنون غيره.
    وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (هل من مدكر)، و(أطيرنا بك), و(اثاقلتم), وفي (اضطر), وكل شيء نحو (بسم الله الرحمن الرحيم) ما أذهب اللام؟ أليس لإدغامها في الراء.
    قال: والإدغام لا ينقص من الكلام شيئاً, إلا أنك إذا أدغمت شددت الحرف فلم تنقص شيئاً.
    قال: والعرب إنما تدغم ليكون أخف, إذا كان الإدغام أثقل من التمام أتموا". وذكره السخاوي في "جمال القراء" ص (481)
    فهذا يدل بكل وضوح على أن الإدغام من أبي عمرو اجتهاد واختيار, وليس بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ولو كان أبو عمرو يقرأ بالإدغام نقلاً عن النبي لذكره, ورد به على من ينتقدونه.
    ثم لماذا ينفرد به أبو عمرو من بين سائر القراء أذا كان الإدغام منقولاً بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
    لم يزهد القراء العشرة بنوع من الأداء منقول عن النبي.
    إذاً تبين مما سبق أن بعض القراء قد يصرح بأن ما يختار من نوع الأداء في قراءته مبني على ما كان يجري على ألسنة العرب لأجل التخفيف أو غيره.

    ثامناً:
    كما قيل في الإدغام الكبير يقال في الإمالة.
    وقد ذكرت في موضوع الإمالة الأدلة الكثيرة على أنها اختيار من بعض القراء رحمهم الله باعتبار أنها من لهجات العرب المعروفة, وبعضها من عادة بعض الكوفيين في كلامهم وألفاظهم.
    وقد أخرج ابن أشته عن ابن أبي حاتم قال: احتج الكوفيون في الإمالة بأنهم وجدوا في المصحف الياءات في موضع الألفات, فاتبعوا الخط وأمالوا ليقربوا من الياءات. انظر: "الإتقان" (1/314)
    قال ابن الجزري في "النشر" (2/82) : "قيل للكسائي: إنك تميل ما قبل هاء التأنيث, فقال هذا طباع العربية.
    قال الحافظ أبو عمرو الداني: يعني بذلك أن الإمالة هنا لغة أهل الكوفة وهي باقية فيهم إلى الآن.
    قال ابن الجزري: قلت: والإمالة في هاء التأنيث وما شابهها من نحو (همزة، ولمزة، وخليفة، وبصيرة) هي لغة الناس اليوم والجارية على ألسنتهم في أكثر البلاد شرقاً وغرباً وشاماً ومصراً, لا يحسنون غيرها ولا ينطقون بسواها, يرون ذلك أخف على لسانهم وأسهل في طباعهم, وقد حكاها سيبويه عن العرب".

    تاسعاً:
    ذكر الأزرق صاحب ورش أن ورشاً لما تعمق في النحو اتخذ لنفسه مقرأ يسمى "مقرأ ورش" قال الأزرق: فلما جئت لأقرأ عليه قلت له: يا أبا سعيد، إني أحب أن تقرئني مقرأ نافع خالصاً، وتدعني مما استحسنت لنفسك قال: فقلدته مقرأ نافع. انظر: "معرفة القراء" للذهبي (1/373)

    عاشراً:
    قال ابن مجاهد في كتاب "السبعة" ص (113) عند ذكر الإدغام: "كان نافع لا يكاد يدغم إلا ما كان إظهاره خروجاً من كلام العرب، إلا حروفاً يسيرة".

    الحادي عشر:
    قال اليزيدي كما في "معرفة القراء الكبار" للذهبي (1/229) : "كان أبو عمرو قد عرف القراءات فقرأ من كل قراءة بأحسنها وبما يختار العرب, وبما بلغه من لغة النبي صلى الله عليه وسلم".

    قال الدكتور عبد الهادي حميتو في كتابه "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" بعد أن ذكر طريقة الإمام نافع رحمه الله في تعليمه للقرآن, وأنه كان يسهل القرآن لمن قرأ عليه, ويتقبل لهجة الراوي, وأنه لم يكن يجترئ على رد قراءة لغيره أو يتعصب لاختياره:
    "بمثل هذه المرونة كان يتعامل نافع مع العارضين عليه، ولاسيما فيما يرجع إلى طرق الأداء التي تخضع كثيراً لعادة القارئ في النطق بالكلمات في لهجته، فيما يتعلق بالهمز والتخفيف والفتح والإمالة والإظهار والإدغام ونحو ذلك، إذ كان أئمة القراء لا يأخذون القارئ بما قد لا يقوى عليه ولا يطوع به لسانه في الأداء، سيراً مع ما كان يسلكه أهل الفصاحة من التوسع في اللغة ووجوهها، والإبقاء على قدر من المرونة فيها... وعلى مثل هذا الصنيع درج أئمة القراء، فكانوا يفعلونه مع العارضين عليهم، فلا يلزمون القارئ في أصول الأداء بما يرونه الوجه المختار لقوته في اللغة والقياس، أو لشيوع استعماله في القراءة والأداء، ولهذا نجد الخلاف يتسع أحياناً في بعض حروف القرآن اتساعاً كبيراً، بسبب قبول اللغة فيها للوجوه المتعددة"اهـ

    وقال الدكتور محمد المختار في "تاريخ القراءات" ص (12) : "لكل مدرسة خصائص معينة نتيجة لاختلاف الروايات المقروءة في الرسم العثماني, أو بسبب التأثر بطبيعة الأداء بحروف القبائل العربية القاطنة في كل قطر"اهـ

    وقضية الأداء وتنوعه واعتقاد أنه غير منقول بالسند, وإنما يتفاوت الناس فيه ويجتهدون مستقر في نفوسهم لا يتصورون غيره, ولا يدور بخلدهم سواه.
    قال عاصم: قرأت يوماً على أبي عبد الرحمن السلمي حتى تحول من مجلس القرآن إلى حلقة فيها نفر من الصحابة، وكان إذا فرغ من مجلس الإقراء يجلس إليهم، وفيهم: زر بن حبيش، وشقيق بن سلمة, والمسيب، وكان يجالسهم يزيد بن الحكم الثقفي، فقلت: إن أهل المجلس يدغمون حروفاً كثيرة، ويقولون: ذلك جائز في الكلام.
    فذكرت: (هل ترى)، وقلت: يقولون: (هترى)، و(لبثت)، فقلت: يقولون: (لبت)، وأشباه ذلك، فأعظموا ذلك جميعاً، ثم قال أبو عبد الرحمن السلمي: قاتلهم الله أخذوا هذا من قول الشعر، فإن الشاعر يدغم وينقص من الحروف لئلا ينكسر عليه البيت. انظر: "جمال القراء" للسخاوي ص (476)
    وقال أبو شامة في "المرشد الوجيز" ص (97) : "لا يكلف أحد إلا قدر استطاعته، فمن كانت لغته الإمالة، أو تخفيف الهمز، أو الإدغام، أو ضم ميم الجمع، أو صلة هاء الكناية، أو نحو ذلك فكيف يكلف غيره؟ وكذا كل من كان من لغته أن ينطق بالشين التي كالجيم في نحو (أشدق) والصاد التي كالزاي في نحو (مصدر)، والكاف التي كالجيم والجيم التي كالكاف ونحو ذلك، فهم في ذلك بمنزلة الألثغ والأرت، لا يكلف ما ليس في وسعه"اهـ
    هذا طرف من ذكر أحوال القوم, ومن أراد أن يستبين أكثر فليكثر من قراءة كتب القراءات المتقدمة ليرى مئات الأقوال من القراء وغيرهم التي تفيد في هذه المسألة وتدل على أن شأن الأداء ليس منقولاً بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقال ابن تيمية رحمه الله كما في "جامع المسائل" (1/113) : "وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغ للصحابة أن يقرؤوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته".

    قال الأستاذ الدكتور محمد حسن حسن جبل أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر رحمه الله في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات القرآنية" ص (75) : "القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم عربياً بلغة قريش, وقرأه الصحابة بلهجاتهم, فأدوا الألفاظ بأعيانها, والعبارات والجمل والآيات بأعيانها, لكن نطقهم للألفاظ والعبارات والجمل والآيات كان بحسب نطق قبائلهم, أي: بهيئة النطق التي اعتادوها منذ ولدوا في قبائلهم.
    وتلقى الأئمة (أئمة القراءات) السبعة والعشرة عن التابعين أو أتباع التابعين القرآن الكريم بأعيان ألفاظه وعباراته وآياته وسوره التي تلقاها الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم, لكن بهيئات النطق التي اعتادها التابعون وأتباع التابعين, فاختار كل من الأئمة العشرة من هيئات نطق القرآن ما يسره الله له.

    وقال رحمه الله في حاشية ص (68) : "القراءات داخلة تحت الإذن العام من المولى عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ كل قوم بلغتهم, أما الإدعاء بأن كل جزئية من تلك القراءات هي متلقاة بعينها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كلام سنده الحماس, لأن العربي يدغم أو يفك ويميل أو ينصب الخ حسب لهجته دون احتياج إلى توقيف"اهـ
    وكما أن القرن الثاني والثالث اشتهر بكثرة الاختيار فكذلك كل قارئ يختار نوعاً من الأداء مما يصح في لغة العرب, كما اختار أبو عمرو الإدغام واختار بعضهم الإمالة, واختار بعضهم تسهيل الهمز, واختار بعضهم ضم ميم الجمع, وهكذا إلى آخره.

    الدليل الثالث:
    انفراد بعض القراء أو بعض رواتهم بأنواع من الأداء لا يشاركهم أحد.
    هذا من أوضح الأدلة أيضاً, فلا يمكن أن ينفرد أحد القراء بشيء من الأداء وهو متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولماذا يزهد جميع القراء بهذا الأداء إلا فرداً واحداً من القراء, إنها مفخرة وأي مفخرة أن يقرأ القارئ بأداء مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلماذا يا ترى يُجمِعون على الإعراض عنه سوى قارئ واحد من بين القراء العشرة.
    وإليك بعض النماذج والأمثلة على انفراد بعض القراء بأنواع من الأداء:

    انفراد أبي عمرو البصري بالإدغام الكبير.
    ومن أئمة القراءة من خص به السوسي وحده, كصاحب التيسير, وشيخه أبي الحسن طاهر بن غلبون, والشاطبي, ومن تبعهم, كما في "النشر" (1/276)

    انفراد خلف عن حمزة بإشمام الصاد الزاي في (الصراط) في جميع القرآن. النشر (1/272)

    انفراد ابن كثير بوصل هاء الكناية بالياء أو بالواو. "النشر" (1/305)

    انفراد ابن كثير وأبي جعفر بوصل ميم الجمع بواو, كمثل قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم). "النشر" (1/273)

    انفراد حفص بضم الهاء في (وما أنسانيه إلا الشيطان) في الكهف, وفي (وعاهد عليه الله) في الفتح كما في "النشر" (1/305)

    انفراد ورش بمد حرف المد بعد الهمز نحو (آمنوا) و(الآخرة).
    قال ابن الجزري (1/338) : "ما وقع فيه حرف المد بعد الهمز فإن لورش من طريق الأزرق مذهباً اختص به"اهـ
    وأنكر هذا المد ابن غلبون وأبو عمرو الداني وغيرهما.
    وذكر أبو عمرو الداني في "جامع البيان" (1/355) أن الصواب أن هذا المد ليس من مذهب نافع ولا اختياره، ولا من رواية ورش ولا أدائه، وأنه استحسان واختيار من أهل الأداء عن أصحابه, وذكر أن بعض العلماء قال: إنما كان المشيخة من المصريين يأخذون بالتحقيق والإفراط في المد على المبتدئين على وجه الرياضة لهم.
    وقال أبو عمرو: هذا الذي يوجبه القياس ويحققه النظر وتدل عليه الآثار وتشهد بصحته النصوص، وهو الذي أتولاه وآخذ به.

    انفراد البزي بتشديد التاءات في الفعل المضارع المحذوف إحدى التاءين تخفيفاً، كقوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث), وقوله: (ولا تفرقوا). "النشر" (2/232)
    قال مكي في "الكشف" (1/314) : "وعلته في ذلك أنه حاول الأصل, لأن الأصل في جميعها تاءان, فلم يحسن له أن يظهرهما فيخالف الخط في جميعها, إذ ليس في الخط إلا تاء واحدة, فلما حاول الأصل وامتنع عليه الإظهار أدغم إحدى التاءين في الأخرى, وحسن له ذلك وجاز اتصال المدغم بما قبله, فإن ابتدأ بالتاء لم يزد شيئاً".

    انفراد ورش بتغليظ اللامات.
    قال ابن الجزري (2/111) : "وقد اختص المصريون بمذهب عن ورش في اللام، ولم يشاركهم فيها سواهم, ورووا من طريق الأزرق وغيره عن ورش تغليظ اللام".

    انفراد الأزرق عن ورش بترقيق الراءات.
    قال ابن الجزري في "النشر" (2/93) : "فإن الأزرق له فيها مذهب خالف سائر القراء، وهو الترقيق".

    انفراد الأزرق عن ورش بمد حرف المد بعد الهمز مثل (آمنوا) و (جاء آل فرعون)
    قال ابن الجزري في "النشر" (1/345) : وقد انفرد أبو عبد الله ابن شريح في الكافي بمد ما كان على حرفين في فواتح السور, فحكى عن رواية أهل المغرب عن ورش أنه كان يمد ذلك كله, واستثنى الراء من (الر، والمر) والطاء والهاء من (طه) قلت: وكأنهم نظروا إلى وجود الهمز مقدراً بحسب الأصل.
    وقال في "غاية النهاية" (2/228) : طريق الأصبهاني تنفرد عن الأزرق بعدم الترقيق في الراءات والتغليظ في اللامات والإمالة والمد الطويل وما انفر به الأزرق من ذلك".
    انفراد يعقوب بضم الهاء من ضمير التثنية والجمع إذا وقعت بعد ياء ساكنة نحو: عليهم وإليهم ولديهم، وعليهما وإليهما وفيهما، وعليهن وإليهن وفيهن، وأبيهم وصياصيهم وبجنتيهم وترميهم وما نريهم وبين أيديهن وشبه ذلك. قرأ يعقوب جميع ذلك بضم الهاء. "النشر" (1/272)

    انفراد أبي عمرو بكسر الميم والهاء في نحو (قلوبهم العجل، وبهم الأسباب، ويغنيهم الله، ويريهم الله، وعليهم القتال، ومن يومهم الذي). "النشر" (1/274)

    انفراد أبي عمرو بإسقاط الهمزة الأولى من كل همزتين في كلمتين. "النشر" (1/382)

    انفراد ورش بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها. "النشر" (1/408)

    انفراد حمزة بالسكت على الساكن قبل الهمز. "النشر" (1/420)

    انفراد أبي جعفر بالسكت على حروف الهجاء الواردة في فواتح السور. "النشر" (1/424)

    انفراد حفص بالسكت على أربع كلمات (عوجا) أول الكهف (ومرقدنا) في يس (ومن راق) في القيامة (وبل ران) في المطففين.
    وروي عنه الإدراج وعدم السكت كما هي قراءة الجميع. "النشر" (1/425)

    انفراد حمزة بتسهيل الهمز في الوقف.
    قال ابن الجزري في "النشر" (1/430) : "وقد اختص حمزة بذلك من حيث إن قراءته اشتملت على شدة التحقيق والترتيل والمد والسكت فناسب التسهيل في الوقف.

    انفراد الكسائي بإمالة هاء التأنيث وما قبلها في الوقف.
    قال ابن الجزري (2/82) : "حكاها سيبويه عن العرب ثم قال, شبه الهاء بالألف فأمال ما قبلها كما يميل ما قبل الألف انتهى, وقد اختص بإمالتها الكسائي".
    وقال ابن الجزري: قيل للكسائي: إنك تميل ما قبل هاء التأنيث, فقال: هذا طباع العربية.

    ما سبق إنما هو بعض من الأمثلة التي تؤكد بكل وضوح أن الأداء في التلاوة إنما مرده إلى اختيار القراء وتغنيهم واختلاف طرائقهم وبلادهم ولهجاتهم, وليس هذا الاختلاف متلقى عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.
    وإلا كيف ينفرد قارئ واحد دون عشرة قراء أو عشرين بأداء لا يشاركه فيه أحد, أتواصوا بذلك فقرأ كل راو بما وكل إليه من هذا الانفراد, أم اتفقوا صدفة على هجران أداء مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    إن هذا من أجلى البراهين لم تأمله باحثاً عن الحق والصواب.

    الدليل الرابع:
    كثرة الاختلاف والروايات والطرق والأوجه بلا حد ولا عد.
    فإن الطرق التي نقلت بها الأوجه والاختلافات عدد كبير هائل, فكم سيكون بين تلك الطرق من الاختلافات في طريقة الأداء.
    فإن من المعلوم أن القراء المشهورين عشرة, ولكل قارئ راويان, ولكل راو طريقان, ولكل طريق طريقان أيضاً, فالمجموع ثمانون طريقاً.
    فمثلاً عاصم بن أبي النجود راوياه حفص وشعبة.
    وحفص راوياه عبيد بن الصباح وعمرو بن الصباح.
    وعبيد بن الصباح راوياه أبو الحسن الهاشمي وأبو طاهر, وهكذا
    هذا أصل الطرق, وإلا فالطرق المتشعبة عنها بالمئات.
    فقد جاء من طريق أبي الحسن الهاشمي من عشرة طرق, ومن طريق أبي طاهر من أربعة عشر طريقاً, وهكذا.
    مع أن القراء غير العشرة لا يحصون كثرة, والآخذين عن كل قارئ كذلك, بل أكثر وأكثر وهكذا, ولكن لم تحفظ كثير من قراءات أولئك, بل حدد قراءة اثنين عن كل قارئ, وهكذا.
    وهذا المدون نزر من بحر كما ذكر العلماء.
    قال ابن الجزري حينما فرغ من ذكر أسانيده التي تلقى بها القراءات في كتابه "النشر" قال (1/192) : "فهذا ما تيسر من أسانيدنا للقراءات العشر من الطرق المذكورة التي أشرنا إليها, وجملة ما تحرر عنهم من الطرق بالتقريب نحو ألف طريق".
    ومن المعلوم أن ابن الجزري لم يضمن النشر وطيبته كل القراءات والروايات والطرق الصحيحة, بل قد يكون ما ترك من بعض الطرق أمثل مما ذكر.
    قال ابن الجزري في "النشر" (1/193) : "ومن نظر أسانيد كتب القراءات وأحاط بتراجم الرواة عرف قدر ما سبرنا ونقحنا واعتبرنا وصححنا، وهذا علم أهمل وباب أغلق, وهو السبب الأعظم في ترك كثير من القراءات والله تعالى يحفظ ما بقي".
    وقال في "المسائل التبريزية كما في "اللحن" لعلي الغامدي ص (56) : "ما التزمنا في "النشر" أن نذكر كل ما صح من الروايات والقراءات, بل اخترنا ذلك من الصحيح, ولكن في نفسي أن أجمع كتاباً في القراءات, وأعتمد فيه على كل ما صح عندنا إن شاء الله".
    وقال المهدوي المتوفى سنة (440) هـ كما في كتاب "اللحن" أيضاً ص (56) : لما تحدث عن اقتصار بعض المتأخرين على بعض طرق القراءات السبع: "... مع كون ذلك الذي عنده شاذ أشهر وأجل من الذي اعتمد عليه, فإن أحداً من العلماء بالرجال لا يشك أن إسماعيل بن جعفر أجل قدراً من ورش عثمان بن سعيد, ومن قالون عيسى بن ميناء, وأن أبان بن يزيد العطار أوثق وأشهر من حفص بن سليمان البزاز, وكذلك كثير منهم".
    وقال أبو حيان كما في "منجد المقرئين" ص (103) : "التيسير لأبي عمرو الداني, والشاطبية لابن فيره لم يحويا جميع القراءات السبع, وإنما هي نزر يسير من القراءات السبع".
    وقال ص (106) : "وتلخص من هذا كله اتساع روايات غير أهل بلادنا، وأن الذي تضمنه التيسير والتبصرة والكافي وغيرها من تأليف أهل بلادنا إنما هو قل من كثر ونزر من بحر، وبيان ذلك أن في هذه الكتب مثلاً قراءة نافع من رواية ورش وقالون، وقد روى الناس عن نافع غير ورش وقالون، منهم إسماعيل بن جعفر المدني, وأبو خليد, وابن جماز, والأصمعي, والمسيبي, وغيرهم وفي هؤلاء من هو أعلم وأوثق من ورش وقالون، ثم روى أصحابنا رواية ورش عن أبي يعقوب, عن الأزرق، ولم يتسع لهم أن يضمنوا كتبهم رواية يونس بن عبد الأعلى, وداود بن أبي طيبة, وأبي الأزهر, قرؤوا على ورش، وفيهم من هو أعلى وأوثق من ورش، وهذا أنموذج مما روى أصحابنا في كتبهم، وكذا العمل في كل قارئ قرأ وكل راو روى من الأربعة عشر راوياً الذين ضمنهم أصحابنا كتبهم".
    وقال الزركشي في "البرهان" (1/325) : "وكان بمصر أبو علي المالكي مؤلف الروضة, وكان قد قرأ بالعراق وأقرأ بمصر, وبعدهم التاج الكندي فأقرأ الناس بروايات كثيرة لم تصل إلى بلادنا, وكان أيضاً ابن مامويه بدمشق يقرئ القرآن بالقراءات العشر, وبمصر النظام الكوفي يقرئ بالعشر وبغيرها, كقراءة ابن محيصن والحسن, وكان بمكة أيضاً زاهر بن رستم وأبو بكر الزنجاني, وكانا قد أخذا عن أبي الكرم الشهرزوري كتاب المصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر, وأقرأه الزنجاني لبعض شيوخنا.
    وكان عز الدين الفاروثي بدمشق يقرئ القرآن بروايات كثيرة, حتى قيل إنه أقرأ بقراءة أبي حنيفة.
    والحاصل اتساع روايات غير بلادنا, وأن الذي تضمنه التيسير والتبصرة والكافي وغيرها من تآليفهم إنما هو قل من كثر ونزر من بحر.
    وبيانه أن في هذه الكتب مثلاً قراءة نافع من رواية ورش وقالون, وقد روى الناس عن نافع غيرهما, منهم إسماعيل بن أبي جعفر المدني وأبو خلف وابن حبان والأصمعي والسبتي وغيرهم, ومن هؤلاء من هو أعلم وأوثق من ورش وقالون, وكذا العمل في كل راو وقارئ".
    وقال الشيخ علي محمد الضباع كما في "المدخل إلى علم القراءات" لمحمد بن محمود حوا ص (32) : لما اجتمع رأى أهل الأمصار على اختيار القراء العشرة المشهورين وأخذوا في تلقي قراءاتهم طبقة بعد طبقة إلى أن دونوها بالتأليف.
    ولما كان من واجب كل مؤلف أن ينسب كل قراءة إلى صاحبها مع تعيين ناقليها عنه طبقة بعد طبقة, تحقيقاً لصحة سندها وعلوه وللأمن من الوقوع في التركيب، فبتعيين الناقلين تعددت فروعهم إلى كل مؤلف وبتكرار الفروع في التآليف تعددت الطرق حتى بلغت على ما في الكتب التي آل الأمر في أخذ القراءات منها في العصور الوسطى وهى تسعون كتاباً ذكرها ابن الجزري في نشره زهاء عشرة آلاف طريق, ولما ألف الإمام ابن الجزري كتابه المذكور اقتصر فيه على الفروع التي علا سندها وأكثر المؤلفون من ذكرها, فجمع فيه منها ألف طريق من سبعة وثلاثين كتاباً وذكر معها أيضاً مختارات لم يسبق تدوينها وصح سندها وتوفرت شروطها"اهـ
    والآن سأنقل هذا النقل الطويل عن ابن الجزري رحمه الله, ليتبين مقدار ذلك الكم الهائل من الاختلافات والروايات والطرق والأوجه.
    قال ابن الجزري في "النشر" (1/33) : "فإن القراءات المشهورة اليوم عن السبعة والعشرة والثلاثة عشرة بالنسبة إلى ما كان مشهوراً في الأعصار الأول قل من كثر ونزر من بحر, فإن من له اطلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين, وذلك أن القراء الذين أخذوا عن أولئك الأئمة المتقدمين من السبعة وغيرهم كانوا أمماً لا تحصى، وطوائف لا تستقصى، والذين أخذوا عنهم أيضاً أكثر وهلم جراً، فلما كانت المائة الثالثة واتسع الخرق وقل الضبط وكان علم الكتاب والسنة أوفر ما كان من ذلك العصر تصدى بعض الأئمة لضبط ما رواه من القراءات, فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب أبو عبيد القاسم بن سلام, وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئاً مع هؤلاء السبعة, وتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين.
    وكان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل انطاكية جمع كتاباً في قراءات الخمسة من كل مصر واحد, وتوفى سنة ثمان وخمسين ومائتين.
    وكان بعده القاضي إسماعيل ابن إسحاق المالكي صاحب قالون ألف كتاباً في القراءات جمع فيه قراءة عشرين إماماً منهم هؤلاء السبعة, توفى سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
    وكان بعده الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري جمع كتاباً حافلاً سماه الجامع فيه نيف وعشرون قراءة توفى سنة عشر وثلاثمائة.
    وكان بعيده أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الداجوني جمع كتاباً في القراءات وأدخل معهم أبا جعفر أحد العشرة وتوفى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
    وكان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط, وروى فيه عن هذا الداجوني وعن ابن جرير أيضاً وتوفى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
    وقام الناس في زمانه وبعده فألفوا في القراءات أنواع التواليف, كأبي بكر أحمد بن نصر الشذائي توفى سنة سبعين وثلاثمائة.
    وأبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران مؤلف كتاب الشامل والغاية وغير ذلك في قراءات العشرة, وتوفى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
    والإمام الأستاذ أبي الفضل محمد بن جعفر الخزاعي مؤلف المنتهى جمع فيه ما لم يجمعه من قبله, وتوفى سنة ثمان وأربعمائة.
    وانتدب الناس لتأليف الكتب في القراءات بحسب ما وصل إليهم وصح لديهم، كل ذلك ولم يكن بالأندلس ولا ببلاد الغرب شيء من هذه القراءات إلى أواخر المائة الرابعة, فرحل منهم من روى القراءات بمصر ودخل بها.
    وكان أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي مؤلف الروضة أول من أدخل القراءات إلى الأندلس, وتوفى سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
    ثم تبعه أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي مؤلف التبصرة والكشف وغير ذلك, وتوفى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.
    ثم الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني مؤلف التيسير وجامع البيان وغير ذلك, توفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة.
    وهذا كتاب جامع البيان له في قراءات السبعة فيه عنهم أكثر من خمسمائة رواية وطريق.
    وكان بدمشق الأستاذ أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي مؤلف الوجيز والإيجاز والإيضاح والاتضاح، وجامع المشهور والشاذ ومن لم يلحقه أحد في هذا الشأن, وتوفى سنة ست وأربعين وأربعمائة.
    وفي هذه الحدود رحل من المغرب أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة الهذلي إلى المشرق وطاف البلاد, وروى عن أئمة القراءة حتى انتهى إلى ما وراء النهر وقرأ بغزنة وغيرها, وألف كتابه الكامل جمع فيه خمسين قراءة عن الأئمة, وألفاً وأربعمائة وتسعة وخمسين رواية وطريقاً, قال فيه: فجملت من لقيت في هذا العلم ثلاثمائة وخمسة وستون شيخاً من آخر المغرب إلى باب فرغانة يميناً وشمالاً وجبلاً وبحراً, وتوفى سنة خمس وستين وأربعمائة.
    وفي هذا العصر كان أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري بمكة مؤلف كتاب التلخيص في القراءات الثمان وسوق العروس, فيه ألف وخمسمائة وخمسون رواية وطريقاً, وتوفى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
    وهذان الرجلان أكثر من علمنا جمعاً في القراءات لا نعلم أحداً بعدهما جمع أكثر منهما إلا أبا القاسم عيسى بن عبد العزيز الإسكندري فإنه ألف كتاباً سماه الجامع الأكبر والبحر الأزخر, يحتوي على سبعة آلاف رواية وطريق, وتوفى سنة تسع وعشرين وستمائة.
    ولا زال الناس يؤلفون في كثير القراءات وقليلها..."اهـ
    هذا الذي ذكرته يبين أن الطرق التي نقلت بها الأوجه والاختلافات عدد هائل مهول, فكم سيكون بين تلك الطرق من الاختلافات في طريقة الأداء, ولك أن تتصفح كتاب "النشر" لابن الجزري رحمه الله لترى في كثير من صفحاته من الاختلاف ما يشيب له رأس الوليد.
    مع أن ما في "النشر" قل من كثر ونزر من بحر, والذين أخذوا عن أولئك الأئمة المتقدمين من السبعة وغيرهم كانوا أمماً لا تحصى، وطوائف لا تستقصى، والذين أخذوا عنهم أيضاً أكثر وهلم جراً, كما قال ابن الجزري فيما سبق.
    ألا يؤكد ذلك أن أمر الأداء مرده إلى الاجتهاد والاختيار واختلاف طرائق القراء وقدراتهم ولهجاتهم, ينبغي أن لا يستريب في ذلك عاقل, فكيف يتصور وجود هذا الكم الهائل من الاختلاف في القراءة في الأداء لو كان منقولاً بالإسناد.
    ومما يوضح ذلك أن الاختلاف في الحروف والذي يسمى (الفرش) قليل بالنسبة للخلاف في الأصول واختلافاته وأوجهه, مع أن الاختلاف في (الفرش) هو الأصل.
    ومما يؤكده أيضاً أن الاختلاف في (الفرش) لا يكون إلا بين القراء وتلاميذهم, بخلاف الاختلاف في الأصول وطريقة الأداء, فهي كثيرة جداً في الطرق.
    وقد تصل الأوجه في الجملة الواحدة من الآية إلى عشرة أوجه أو عشرين أو خمسة وعشرين وجهاً أو أكثر من ذلك.
    وقد زاد بعضهم وجوهاً أخرى وتفريعات كثيرة, وهي التي ألحقها جماعة من العلماء عن طريق ما يسمى بالتحرير, كما سأوضحه وأفصل فيه لاحقاً إن شاء الله.
    حتى لو قيل بأن كثيراً من تلك الطرق تتداخل وتتشابه, وكأنها طريق واحد يبقى الاختلاف هائل كثير بين تلك الروايات والطرق كما مر, ولذلك ذكر المؤلفون في جمع تلك الطرق الكثيرة أنهم إنما فعلوا ذلك وفصلوا فيها حتى ينفصل ويستقل كل طريق عن الآخر, وحتى يؤمن من الوقوع في الخلط والتركيب.
    ولذلك يقول الضباع كما سبق: "ولما كان من واجب كل مؤلف أن ينسب كل قراءة إلى صاحبها مع تعيين ناقليها عنه طبقة بعد طبقة, تحقيقاً لصحة سندها وعلوه وللأمن من الوقوع في التركيب".
    وقال ابن الجزري في "النشر" (1/191) : وفائدة ما عيناه وفصلناه من الطرق وذكرناه من الكتب هو عدم التركيب, فإنها إذا ميزت وبنيت ارتفع ذلك والله الموفق.
    وقال (1/56) : رافعاً إيهام التركيب بالعزو المحقق إلى كل واحد.
    وقال الدكتور محمد المختار في "تاريخ القراءات" ص (24) : "تضخمت أوجه الأداء حسب قواعد الرواة وأصولهم إلى أعداد يصعب التأكد أنها رويت كلها مشافهة عن الأئمة, وأمثلتها كثيرة, إذ يكفي أن نطالع كتاب "غيث النفع" للشيخ النوري السفاقسي لنراه يسرد لنا مثلاً أن أوجه الأمداد والروم والإشمام في قوله تعالى: (فانصرنا على القوم الكافرين) يبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وتسعين وجهاً, وذكر أن لورش وحده خمسمائة وستين وجهاً"اهـ

    الدليل الخامس:
    أن منشأ الاختلاف في القراءات القرآنية الإذن العام بأن يقرأ كل إنسان بلهجته, والاختلاف في الأداء كذلك.
    من المعلوم أن في القراءات القرآنية كلمات كثيرة بالغة الكثرة هي بلهجات عربية, ولكنها مخالفة للهجة قريش التي نزل بها القرآن, ومنشأ هذه الكلمات المختلفة هو الإذن العام بأن يقرأ كل إنسان بلهجته وما اعتاد عليه, فهي رخصة من الله لهم تسهيلاً وتهويناً, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من ربه أن يأذن أن يقرأ الناس بلهجاتهم ولغاتهم, فكان يقول: (اللهم هون على أمتي), ويقول: (إن أمتي لا تطيق ذلك) أي: القراءة على حرف واحد وطريقة واحدة مع اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم.
    فاستجاب الله عز وجل لنبيه, فحكم وأراد تبارك وتعالى أن اللفظ الذي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا يقرأ بطريقة واحدة, بل يقرؤه الناس كل حسب لهجته وقدرته, لا يكلف الناس أن يقرؤوا كلهم بلفظ واحد, بل لا يمكنهم ذلك.
    وإذا كان الأمر كذلك فالاختلاف في الأداء بين القراء إنما هو ناشئ أيضاً عن اختلاف أولئك الذين أذن لهم أن يقرأ كل منهم حسب طريقته ولهجته, فالأمر بين واضح, يدل على أن كثيراً من طرائق الأداء إنما هي منقولة عن أولئك الذين اختلفت لهجاتهم ولغاتهم وطرائقهم بالكلام, وقد رخص لهم أن يقرأ كل منهم وفق لهجته وما تعود عليه, فالقول بأن تفاصيل ذلك كله منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قول لا دليل عليه إلا العاطفة والحماس والتقليد والله المستعان.
    وقد ذكرت هذه المسألة الخطيرة في موضوع مستقل بعنوان "هل القراءات القرآنية كلها نزل بها جبريل", وبينت الأدلة الكثيرة على هذا الأمر, ونقلت كلام أهل العلم من السابقين والمعاصرين, وذكرت المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وقوله لكل واحد من المختلفين في القراءة: (هكذا أنزلت).
    وقول كثير من أهل العلم: إن هذه الألفاظ المختلفة كلها منزلة من عند الله ومتلقاة بعينها من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام فيه نظر, فإن القول بذلك يعني إلغاء الرخصة, بل يعني قلب الرخصة إلى تشديد, ولو تأمل بعض العلماء هذا القول ودققوا فيه لما قالوا به.
    والإذن بالقراءة على أوجه كثيرة لم يأت إلا في أواخر العهد المدني.
    والذي جعل أولئك العلماء يقولون ذلك أنهم فهموا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وقوله لكل واحد من المختلفين في القراءة: (هكذا أنزلت), وقول كل واحد من المختلفين: (هكذا أقرأني رسول الله) فهموا من ذلك أن جميع الألفاظ المختلفة التي أذن للناس أن يقرؤوا بها أنها أنزلت من عند الله, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرأهم إياها هكذا.
    وعند التأمل في هذا القول وفحصه فحصاً دقيقاً يتبين أنه لا يصح مع شيوعه واشتهاره.
    نعم هناك ألفاظ قرأها النبي بأكثر من وجه, لكن أكثر تلك القراءات المخالفة للغة قريش إنما أذن للناس أن يقرؤوها بلهجاتهم ولغاتهم ما لم يتغير المعنى الذي أراده الله تبارك وتعالى.
    وأما الذي أنزله الله تبارك وتعالى فهو بلسان قريش كما جاء في النص الثابت الصريح.
    والذي كان يكتب حين نزول الوحي إنما هو حرف واحد, وهو لغة قريش, ولم يكن يكتب بأي لهجة أخرى.
    وكيف يلغي عثمان رضي الله عنه تلك الأحرف ويمنع القراءة بها وهي منزلة من عند الله وقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم يكتب المصاحف على لغة قريش, ويأمر بالباقي أن يتلف ويحرق, ويقره جميع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك, بل يحمدونه عليه.
    فلو كانت الأحرف كلها منزلة من عند الله ما كان عثمان رضي الله عنه يفكر ولو مجرد تفكير أن يقدم على هذا الأمر.
    قال ابن قتيبة رحمه الله في "تأويل مشكل القرآن" ص (97) : "إن المتقدمين من الصحابة والتابعين قرؤوا بلغاتهم، وجروا على عادتهم، وخلوا أنفسهم وسوم طبائعهم، فكان ذلك جائزاً لهم".
    وقال الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (8/124) : "السبعة الأحرف هي مما لا يختلف معانيه وإن اختلفت الألفاظ التي يتلفظ بها, وأن ذلك كان توسعة من الله عز وجل عليهم لضرورتهم إلى ذلك وحاجتهم إليه, وإن كان الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما نزل بألفاظ واحدة".
    وقال أبو شامة في "المرشد الوجيز" ص (95) : "قال بعض الشيوخ: الواضح من ذلك أن يكون الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب، ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزل عليهم أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف بعضهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم".
    وقال ابن تيمية أيضاً في "الفتاوى" (13/399) : "السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف مرجعه إلى النقل واللغة العربية, لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله"اهـ
    وقال الأستاذ الدكتور محمد حسن جبل في كتابه "من القضايا الكبرى" ص (74) : "إدغام التاء في التاء في مثل (تتمنوا) هو لهجة أهل مكة, فما يسمى تاءات البزي يرجع إلى هذا, لأن البزي قارئ أهل مكة".
    ومن أراد استجلاء هذه المسألة فليرجع إلى البحث المذكور.

    الدليل السادس:
    أن القراء وعلماء القراءات والمؤلفين في القراءات يستعملون القواعد والتعليلات والقياس كثيراً في أنواع كثيرة من الأداء.

    أداء الرواة في أحيان كثيرة مبنى على قواعد لغوية وتعليلات, وهذا أمر مشهور معمول به عند القراء وعند العلماء.
    ويقرر ابن الجزري هذا في "النشر" (1/17) إذ لا محيد عنه ولا محيص فيقول: "أما إذا كان القياس على إجماع انعقد أو عن أصل يعتمد فيصير إليه عند عدم النص وغموض وجه الأداء فإنه مما يسوغ قبوله ولا ينبغي رده... كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء, وفي إثبات البسملة وعدمها لبعض القراء, ونقل (كتابيه إني), وإدغام (ماليه هلك) قياساً عليه, وكذلك قياس (قال رجلان. وقال رجل) على (قال رب) في الإدغام".
    قال: "وإلى ذلك أشار مكي بن أبي طالب رحمه الله في آخر كتابه "التبصرة" حيث قال: فجميع ما ذكرناه في هذا الكتاب ينقسم ثلاثة أقسام:
    قسم قرأت به ونقلته وهو منصوص في الكتب موجود.
    وقسم قرأت به وأخذته لفظاً أو سماعاً وهو غير موجود في الكتب.
    وقسم لم أقرأ به ولا وجدته في الكتب ولكن قسته على ما قرأت به, إذ لا يمكن فيه إلا ذلك عند عدم الرواية في النقل والنص"اهـ

    وسوف أذكر بعض الأمثلة والنماذج على استعمالهم الكثير للقواعد والتعليل والقياس, وما هي إلا أمثلة, أما الاستقصاء فمن المستحيل, فالأمثلة لا تحصى في كتب القراءات.
    ذكر ابن الجزري في "النشر" (1/282) أن أبا عمرو قال في (آل لوط): لا أدغمها لقلة حروفها.
    قال ابن الجزري: ورد الداني هذا المانع بإدغام (لك كيداً) إجماعاً إذ هو أقل حروفاً من آل, فان هذه الكلمة على وزن قال لفظاً, وإن كان رسمها بحرفين اختصاراً.

    وقال ابن مجاهد في "السبعة" ص (138) في مسألة الهمزتين المتلاصقتين في كلمتين: ورأيت بعضهم يلينها فيلفظ بها كالمختلسة من غير ضمة تتبين على الواو ولا كسرة على الياء, وهذا أجود الوجهين.
    لأن الهمزتين إنما يكتفي بإحداهما عن الأخرى طلباً للتخفيف.
    فإذا خلفت المكسورة بياء مكسورة كانت أثقل من الهمزة, ولم يكونوا ليفروا من ثقيل إلى ما هو أثقل منه.
    وكذلك الضمة على الواو أثقل من اجتماع همزتين, وإن امتحنت ذلك وجدته كذلك.

    وقال مكي في "الكشف" (1/314) في ذكر علة تشديد التاء للبزي: "وعلته في ذلك أنه حاول الأصل, لأن الأصل في جميعها تاءان, فلم يحسن له أن يظهرهما فيخالف الخط في جميعها, إذ ليس في الخط إلا تاء واحدة, فلما حاول الأصل وامتنع عليه الإظهار أدغم إحدى التاءين في الأخرى, وحسن له ذلك وجاز اتصال المدغم بما قبله, فإن ابتدأ بالتاء لم يزد شيئاً".

    ولما ذكر ابن الجزري في "النشر" (1/275) الإدغام الكبير لأبي عمرو قال: ووجهه طلب التخفيف, قال أبو عمرو بن العلاء: الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها ولا يحسنون غيره.
    وقال الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه "أبو عمرو بن العلاء" ص (86) القارئ أبو عمرو بن العلاء كان ينتسب لتميم, وإن الإدغام الذي اشتهر به دوناً عن باقي القراء كان لهجة تميمية".

    وقال ابن الباذش في "الإقناع" ص (182) : وقرأ الباقون بتسهيل الثانية على ما تقتضيه مقاييس العربية من وجوه التسهيل.

    وقال أيضاً ص (211) : باب ما ذكر القراء مما جرى في التسهيل على غير قياس سيبويه, وإجراء مسائل على التخفيف القياسي وغيره.
    اعلم أن كل ما ذكرت من التخفيف في هذه الأبواب لحمزة وغيره فهو على محض القياس إلا قليلاً نبهت عليه.

    وقال الداني في "جامع البيان" (1/314) وهو يذكر الاختلاف في مسألة إدغام واو هو في مثلها: وبالوجهين قرأت ذلك, واختار الإدغام لاطراده وجريه على قياس نظائره.

    وكان الكسائي انفرد عن القراء العشرة في قوله تعالى: {أَلا بُعْداً لِثَمُودَ}, فكان يقرأها بكسر الدال مع التنوين.
    قال الفراء: "قلت للكسائي لم أجريت {أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} ومن أصلك أن لا تجريه إلا في موضع النصب إتباعاً للكتاب.
    فقال: لما قرب من المجرى وكان موافقاً له من جهة المعنى أجريته لجواره له"اهـ
    وهذا صريح جداً.
    وعليه فلا يقبل قول أبي عمرو الداني رحمه الله, فإنه بعد أن ساق هذه الرواية في "جامع البيان" (2/883) قال: "وذلك بعد أن روى الإجراء عن سلفه وتلقاه عن أئمته"اهـ
    فإنه لو كان كما ذكر الداني لقال: هكذا تلقيته والقراءة سنة متبعة, ولكنه أحال على سبب القرب اللفظي والموافقة في المعنى.
    وقد وجدت هذا كثيراً عند بعض السابقين وقلدهم بعض المتأخرين وبعض المؤلفين من المعاصرين, فتراهم حينما يأتي نص يدل صراحة على استعمال القراء للقياس يعقبون بمثل ما عقب به الداني رحمه الله فيقولون: إنه راعى كذا وكذا مع اتباع الرواية, أو إنه قصد كذا وكذا مع صحة الرواية, أو ما يشابه هذه الألفاظ.
    وذكر ابن الجزري (1/288) أنه قد اختلف في قوله تعالى: (وآت ذا القربى) ثم قال: فكان ابن مجاهد وأصحابه وابن المنادي وكثير من البغداديين يأخذونه بالإظهار من أجل النقص وقلة الحروف.
    وكان ابن شنبوذ وأصحابه وأبو بكر الداجوني ومن تبعهم يأخذونه بالإدغام للتقارب وقوة الكسر.

    وقال أيضاً (1/289) : وانفرد ابن حبش عن السوسي بإظهار (الصلاة طرفي النهار) من أجل خفة الفتحة وسكون ما قبل.
    وأدغمه سائر أهل الأداء من أجل التجانس وقوة الطاء.

    وقال ابن الجزري (2/122) : "وقد ورد النص في الوقف إشارتي الروم والإشمام عن أبي عمرو وحمزة والكسائي وخلف بإجماع أهل النقل واختلف في ذلك عن عاصم... وأما غير هؤلاء فلم يأت عنهم في ذلك نص إلا أن أئمة أهل الأداء ومشايخ الإقراء اختاروا الأخذ بذلك لجميع الأئمة, فصار الأخذ بالروم والإشمام إجماعاً منهم سائغاً لجميع القراء".

    وقال الداني في "جامع البيان" (1/320) : إدغام الجيم في التاء أو الشين قبيح لتباعد ما بينهما في المخرج إلا أن ذلك جائز لكونهما من مخرج الشين، والشين لتفشيها تتصل بمخرج التاء فأجرى لها حكمها وأدغمت في التاء لذلك.

    وقال (1/320) : "وأما الشين فكان يدغمها في السين في قوله: (إلى ذي العرش سبيلاً) لا غير... وروي عنه الإظهار من أجل التفشي الذي في الشين، والإدغام لا يمتنع لأجل صفير السين، وهو زيادة صوت كالتفشي، وما تكافأ في المنزلة من الحروف المتقاربة فإدغامه جائز، وما زاد صوته منها فإدغامه ممتنع للإخلال الذي يلحقه، وإدغام الأنقص صوتاً في الأزيد جائز مختار لخروجه من حال الضعف إلى حال القوة.

    وقال ابن الجزري (1/298) : وإن كان الساكن حرفاً صحيحاً فإن الإدغام الصحيح معه يعسر لكونه جميعاً بين ساكنين أولهما ليس بحرف علة, فكان الآخذون فيه بالإدغام الصحيح قليلين, بل أكثر المحققين من المتأخرين على الإخفاء وهو الروم المتقدم ويعبر عنه بالاختلاس.

    وقال (1/341) بعد أن ذكر ما يستثنى من مد ورش حرف المد بعد الهمز: واختلف في علة ذلك, فقيل: لأمن إخفاء بعده، وقيل: لتوهم النقل, فكأن الهمزة معرضة للحذف, قلت: ظهر لي في علة ذلك أنه لما كانت الهمزة فيه محذوفة رسماً ترك زيادة المد فيه تنبيهاً على ذلك, وهذه هي العلة الصحيحة في استثناء إسرائيل عند من استثناها والله أعلم.

    وقال أيضاً (1/341) : اختلف رواة المد عن ورش في ثلاث كلم وأصل مطرد.
    (فالأولى) من الكلم (إسرائيل) حيث وقعت, نص على استثنائها أبو عمرو الداني وأصحابه, وتبعه على ذلك الشاطبي فلم يحك فيها خلافاً, ووجه بطول الكلمة وكثر دورها وثقلها بالعجمة.

    وقال (1/343) : وبالجملة فلا أعلم أحداً من متقدمي أئمتنا نص فيه بشيء, نعم عبارة الشاطبي صريحة بدخوله, ولذلك مثل به شراح كلامه وهو الذي صح أداء وبه يؤخذ، على أني لا أمنع إجراء الخلاف في الأنواع الثلاثة عملاً بظواهر عبارات من لم يذكرها، وهو القياس والله أعلم.

    وقال (1/344) : وكذلك حذف حرف المد في الثالثة عارض حالة الوصل اتباعاً للرسم... وهذا مما لم أجد فيه نصاً لأحد بل قلته قياساً والعلم عند الله.

    وقال في المد من أجل المبالغة (1/344) : وأما السبب المعنوي فهو قصد المبالغة في النفي, وهو سبب قوي مقصود عند العرب, وإن كان أضعف من السبب اللفظي عند القراء, ومنه مد التعظيم في نحو (لا إله إلا الله).
    قال ابن مهران في كتاب المدات له: إنما سمي مد المبالغة لأنه طلب للمبالغة في نفي إلهية سوى الله سبحانه, قال: وهذا معروف عند العرب ... وقد استحب العلماء المحققون مد الصوت بلا إله إلا الله إشعاراً بما ذكرناه وبغيره.

    وقال (1/362) : إذا وقف على المشدد بالسكون فمقتضى إطلاقهم لا فرق في قدر هذا المد وقفاً ووصلاً, ولو قيل بزيادته في الوقف على قدره في الوصل لم يكن بعيداً, فقد قال كثير منهم بزيادة ما شدد على غير المشدد, وزادوا مد (لام) من (الم) على مد (ميم) من أجل التشديد, فهذا أولى لاجتماع ثلاثة سواكن, وقد ذهب الداني إلى الوقف بالتخفيف في هذا النوع من أجل اجتماع هذه السواكن ما لم يكن أحدها ألفاً.

    وقال في باب "الهمزتين المجتمعتين من كلمة" (1/364) : وأما الذي بعده حرف مد فموضع واحد وهو (أآلهتنا) في الزخرف, فاختلف في تحقيق الهمزة الثانية منه وفي تسهيلها بين بين, فقرأ بتحقيقها الكوفيون وروح, وسهلها الباقون, ولم يدخل أحد بينها ألفاً لئلا يصير اللفظ في تقدير أربع ألفات: الأولى همزة الاستفهام, والثانية الألف الفاصلة، والثالثة همزة القطع، والرابعة المبدلة من الهمزة الساكنة، وذلك إفراط في التطويل، وخروج عن كلام العرب.
    وكذلك لم يبد أحد ممن روى إبدال الثانية في نحو (أأنذرتهم) عن الأزرق عن ورش, بل اتفق أصحاب الأزرق قاطبة على تسهليها بين بين, لما يلزم من التباس الاستفهام بالخبر باجتماع الألفين وحذف إحداهما.

    وقال الداني في "جامع البيان" (1/388) : فهذا يوجب أن يمد إذا دخلت همزة الاستفهام على همزة مضمومة إذا لم يستثنوا ذلك، وجعلوا المد سائغاً في الاستفهام كله، وإن لم يدرجوا شيئاً من ذلك في التمثيل، فالقياس فيه جائز والمد فيه مطرد.

    وقال ابن الجزري (1/377) : "وأجمعوا على تليينها, واختلفوا في كيفيته, فقال كثير منهم: تبدل ألفاً خالصة, وجعلوا الإبدال لازماً لها كما يلزم إبدال الهمزة إذا وجب تخفيفها في سائر الأحوال.
    قال الداني: هذا قول أكثر النحويين, وهو قياس ما رواه المصريون أداء عن ورش عن نافع... وقال آخرون: تسهل بين بين, لثبوتها في حال الوصل وتعذر حذفها فيه فهي كالهمزة اللازمة وليس إلى تخفيفها سبيل, فوجب أن تسهل بين بين قياساً على سائر الهمزات المتحركات بالفتح إذا وليتهن همزة الاستفهام, قال الداني في الجامع: والقولان جيدان. وقال في غيره: إن هذا القول هو الأوجه في تسهيل هذه الهمزة, قال: لقيامها في الشعر مقام المتحركة, ولو كانت مبدلة لقامت فيه مقام الساكن المحض".

    وقال (1/378) : واختلف عنهم في كيفية تسهيلها, فذهب الجمهور من أهل الأداء إلى أنها تجعل بين بين كما هي في سائر باب الهمزتين من كلمة... وذهب آخرون منهم إلى أنها تجعل ياء خالصة... قلت: وقد اختلف النحاة أيضاً في تحقيق هذه الياء أيضاً وكيفية تسهيلها...

    وقال في باب "الهمز المفرد" (1/392) : واعلم أن الأئمة من أهل الأداء أجمعوا عمن روى البدل عن أبي عمرو على استثناء خمس عشرة كلمة في خمسة وثلاثين موضعاً تنحصر في خمس معان.
    ثم ذكر منها (الثالث) الثقل وهو كلمة واحدة أتت في موضعين (وتؤوى إليك) في الأحزاب (وتؤويه) في المعارج.
    قال: لأنه لو ترك همزه لاجتمع واوان واجتماعهما أثقل من الهمز.

    وقال في باب "الهمز المفرد" (1/402) : يجوز أن الأصل (ها) في (هاذا) للتنبيه, فحذفت ألفها كما حذفت ألف (ها) التنبيه من نحو (أيه الثقلان) وقفاً، وقال الحافظ أبو عمرو الداني: هذه الكلمة من أشكل حروف الاختلاف وأغمضها وأدقها، وتحقيق المد والقصر اللذين ذكرهما الرواة عن الأئمة فيها حال تحقيق همزتها وتسهيلها لا يتحصل إلا بمعرفة الهاء التي في أولها أهي للتنبيه أم مبدلة من همزة, فبحسب ما يستقر عليه من ذلك في مذهب كل واحد من أئمة القراء يقضي للمد والقصر بعدها.
    ثم بين أن الهاء على مذهب أبي عمرو وقالون وهشام يحتمل أن تكون للتنبيه وأن تكون مبدلة من همزة، وعلى مذهب قنبل وورش لا تكون إلا مبدلة لا غير.
    قال وعلى مذهب الكوفيين والبزي وابن ذكوان لا تكون إلا للتنبيه, فمن جعلها للتنبيه وميز بين المنفصل والمتصل في حروف المد لم يزد في تمكين الألف سواء حقق الهمزة أو سهلها, ومن جعلها مبدلة وكان ممن يفصل بالألف زاد في التمكين سواء أيضاً حقق الهمزة أو لينها انتهى.
    وقد تبعه فيما ذكره أبو القاسم الشاطبي رحمه الله, وزاد عليه احتمال وجهي الإبدال والتنبيه عن كل من القراء.

    وقال في باب "نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها" (1/409) لما ذكر الاختلاف عن ورش في (كتابيه إني ظننت) قال: قلت: وترك النقل فيه هو المختار عندنا والأصح لدينا والأقوى في العربية, وذلك أن هذه الهاء هاء سكت وحكمها السكون فلا تحرك إلا في ضرورة الشعر على ما فيه من قبح.

    وقال في باب "نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها" (1/416) : وأما الابتداء من قوله تعالى (بئس الاسم) فقال الجعبري: وإذا ابتدأت الاسم فالتي بعد اللام على حذفها للكل, والتي قبلها فقياسها جواز الإثبات والحذف, وهو الأوجه لرجحان العارض الدائم على العارض المفارق، ولكني سألت بعض شيوخي فقال: الابتداء بالهمز وعليه الرسم.

    ولما ذكر ابن الجزري سكت حمزة على الساكن قبل الهمز (1/422) قال: واختياري عنه السكت في غير حرف المد جمعاً بين النص والأداء والقياس، فقد روينا عن خلف وخلاد وغيرهما عن سليم عن حمزة قال: إذا مددت الحرف فالمد يجزي من السكت قبل الهمزة. قال: وكان إذا مد ثم أتى بالهمز بعد المد لا يقف قبل الهمز. انتهى.
    قال الحافظ أبو عمرو الداني: وهذا الذي قاله حمزة من أن المد يجزي من السكت معنى حسن لطيف دال على وفور معرفته ونفاذ بصيرته, وذلك أن زيادة التمكين لحرف المد مع الهمزة إنما هو بيان لها لخفائها وبعد مخرجها, فيقوى به على النطق بها محققة, وكذا السكوت على الساكن قبلها إنما هو بيان لها أيضاً, فإذا بينت بزيادة التمكين لحرف المد قبلها لم تحتج أن تبين بالسكت عليه, وكفى المد من ذلك وأغنى عنه. قلت: وهذا ظاهر واضح وعليه العمل اليوم.

    وقال في باب "الوقف على الهمز" (1/431) : واختلف أئمتنا في تغيير حركة الهاء مع إبدال الهمزة ياء قبلها في قوله: (أنبئهم) في البقرة (ونبئهم) في الحجر, فكان بعضهم يروي كسرها لأجل الياء كما كسر لأجلها في نحو (فيهم، ويؤتيهم), فهذا مذهب أبي بكر ابن مجاهد, وأبي الطيب ابن غلبون, وابنه أبي الحسن ومن تبعهم.
    وكان آخرون يقرؤونها على ضمتها, لأن الياء عارضة أو لا توجد إلا في التخفيف فلم يعتدوا بها, وهو اختيار ابن مهران, ومكي, والمهدوي, وابن سفيان والجمهور.
    وقال أبو الحسن ابن غلبون: كلا الوجهين حسن, وقال صاحب التيسير: وهما صحيحان, وقال في الكافي: الضم أحسن.
    قال ابن الجزري: قلت: والضم هو القياس وهو الأصح, فقد رواه منصوصاً محمد بن يزيد الرفاعي صاحب سليم, وإذا كان حمزة ضم هاء (عليهم واليهم ولديهم) من أجل أن الياء قبلها مبدلة من ألف فكان الأصل فيها الضم فضم هذه الهاء أولى وآصل والله أعلم.

    وقال في باب "الوقف على الهمز" (1/434) : فإنها تسهل مع الألف بين بين, ومع لام التعريف بالنقل هذا هو مذهب الجمهور من أهل الأداء, وعليه العراقيون قاطبة وأكثر المصريين والمغاربة.
    وذهب كثير من أهل الأداء إلى الوقف بالتحقيق في هذا القسم وإجرائه مجرى المبتدأ.

    وقال (1/434) : قد اختلف أهل الأداء في تسهيل هذا النوع وتحقيقه, فروى كثير منهم عن حمزة تسهيله بالنقل وألحقوه بما هو من كلمة.
    وروى الآخرون تحقيقه من أجل كونه مبتدأ.

    وقال (1/436) : قال الأستاذ أبو الفتح ابن شيطا: والتي تقع أولاً تخفف أيضاً, لأنها تصير باتصالها بما قبلها في حكم المتوسطة, وهذا هو القياس الصحيح, قال: وبه قرأت.

    وقال في باب "الوقف على الهمز" (1/439) : فهذا جميع أقسام الهمز ساكنة ومتحركة ومتوسطة ومتطرفة, وأنواع تسهيله القياسي الذي اتفق عليه جمهور أئمة النحويين والقراء, وقد انفرد بعض النحاة بنوع من التخفيف وافقهم عليه بعض القراء وخالفهم آخرون, وكذلك انفرد بعض القراء بنوع من التخفيف وافقهم عليه بعض النحاة وخالفهم آخرون, وشذ بعض من الفريقين بشيء من التخفيف لم يوافق عليه.

    وقال أبو عمرو الداني في "جامع البيان" (2/663) : "إسكان هاء (أن يمل هو) إنما هو محمول على إسكان هاء (ثم هو) من حيث شاركت كلمة (يمل) كلمة (ثم) في الانفصال والتضعيف، كما أن إسكان (ثم هو) محمول على إسكان هاء (وهو) و(فهو) من حيث شاركت (ثم) الواو والفاء في العطف، وساغ حمل المنفصل على المتصل في التخفيف وغيره، وكذا إسكان هاء (لهو) محمول أيضاً عليهما من حيث شاركتهما اللام في الاتصال وامتناع الانفصال...

    وقال ابن الباذش في "الإقناع" ص (217) : وأما الوجه الرابع وهو النقل والحذف فهو وجه القياس، وبه يأخذ أبي رضي الله عنه, ويوجه خط المصحف على أن الواو كتبت على قراءة من حرك لا على قراءة من سكن, لأن كتَّاب المصحف ينزهون عن كتابته على ما لا تقتضيه اللغة، وعلى هذا كثير من المحققين.

    وقال ص (221) : قال لي أبو الحسن ابن شريح: إن سأل سائل عن الواقف على قوله تعالى: {إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} ففيه جوابان على ما تقدم: أحدهما التحقيق, لأن الهمزة في تقدير الابتداء.
    والآخر: التسهيل بالبدل، لما ذكرناه من مضارعتها المتوسطة، فالألف الملفوظ بها بعد الدال هي المبدلة من الهمزة.
    وقوم يذهبون إلى أنها لام الفعل من {الْهُدَى} وتلزم على قولهم الإمالة على أصل حمزة في الألف المنقلبة عن الياء.
    وبالأول أقول، ولا أعول على سواه, لأن التي هي لام الفعل قد انحذفت مع الهمزة، وهذه الألف عوض منها.
    وأيضا فإنما تسهل الهمزة بعد ذهاب تلك الألف معها.

    ولما ذكر ابن الجزري (1/327) اختلافهم في مراتب المد نقل عن أبي عمرو الداني قوله: وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف وتخليص السواكن وتحقيق القراءة وحدرها, وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافاً يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة.

    ولما ذكر ابن الجزري (1/464) مسالة الروم في الهمزة المتحركة المتطرفة...
    قال: وذا مذهب كثير من القراء وبعض النحاة، وأنكر ذلك جمهورهم وجعلوه مما انفرد به القراء. قالوا: لأن سكون الهمزة في الوقف يوجب فيها الإبدال على الفتحة التي قبل الألف فهي تخفف تخفيف الساكن لا تخفيف المتحرك، وذهب أكثر القراء إلى ترك الروم في ذلك وأجروا المضموم والمكسور في ذلك مجرى المفتوح، فلم يجيزوا سوى الإبدال.
    قال ابن الجزري (2/97) : (وزرك، وذكرك) في ألم نشرح فخمها مكي وصاحب التجريد والمهدوي وابن سفيان وأبو الفتح فارس وغيرهم من أجل تناسب رؤوس الآي, ورققها الآخرون على القياس.
    وقال (2/98) : "(الضرر) علل أهل الأداء تفخيمه من أجل حرف الاستعلاء قبله, نص على ذلك في التيسير ولم يرتضه في غيره, فقال: ليس بمانع من الإمالة هنا لقوة جرة الراء كما لم يمنع منها كذلك في نحو (الغار) و(قنطار)".

    وقال (2/102) : "وقال الداني: وقد كان محمد بن علي وجماعة من أهل الأداء من أصحاب ابن هلال وغيره يروون عن قراءتهم ترقيق الراء في قوله: (بين المرء) حيث وقع من أجل جرة الهمزة, وقال: وتفخيمها أقيس لأجل الفتحة قبلها".

    وقال (2/104) : "(وأما مرفقاً) فقد ذكر بعض أهل الأداء تفخيمها لمن كسر الميم من أهل البصرة والكوفة من أجل زيادة الميم وعروض كسرتها".

    وقال (2/108) : "تغليظها في حال الكسر قبيح في المنطق, لذلك لا يستعمله معتبر ولا يوجد إلا في ألفاظ العوام والنبط, وإنما كلام العرب على تمكينها من الطرف إذا انكسرت فيحصل الترقيق المستحسن فيها إذ ذاك".

    وقال (2/109) : "فظهر أن تفخيم الراء وترقيقها مرتبط بأسباب كالمتحركة, ولم يثبت في ذلك دلالة على حكمها في نفسها... وقد أشار في "التبصرة" إلى ذلك حيث قال: أكثر هذا الباب إنما هو قياس على الأصول, وبعضه أخذ سماعاً، ولو قال قائل: إنني أقف في جميع الباب كما أصل سواء أسكنت أو رمت لكان لقوله وجه من القياس مستثبت".

    وقال (2/110) : "فعلى القول بأن صلها التفخيم تفخم, وعلى القول الآخر ترقق, وكلاهما محتمل إذ لا نعلم كيف ثبت اللفظ في ذلك عن العرب".

    وقال (2/111) : " فإن قيل: إن الكسر عارض فتفخم مثل (أم ارتابوا) فقد أجاب بما تقدم أن عروض الكسر هو باعتبار الحمل على أصل مضارعه الذي هو يرتاب, فهي مفخمة لعروض الكسر فيه بخلاف هذه... وكذلك (فأسر) في قراءة من قطع ووصل, فمن لم يعتد بالعارض أيضاً رقق...".

    وقال (2/114) : "والأرجح فيهما التغليظ, لأن الحاجز في الأول ألف وليس بحصين, ولأن السكون عارض, وفي التغليظ دلالة على حكم الوصل في مذهب من غلظ".

    وقال (2/125) : "فائدة الإشارة في الوقف بالروم والإشمام هي بيان الحركة التي تثبت في الوصل للحرف الموقوف عليه ليظهر للسامع أو للناظر كيف تلك الحركة الموقوف عليها, وهذا التعليل يقتضى استحسان الوقف بالإشارة إذا كان بحضرة القارئ من يسمع قراءته...".

    وقال (2/127) : "قال الحافظ أبو عمرو الداني عند ذكره (فيم تبشرون): والوقف على قراءة ابن كثير غير ممكن إلا بتخفيف النون لالتقاء ثلاث سواكن فيه إذا شددت والتقائهن ممتنع وذلك بخلاف الوقف على المشدد الذي تقع الألف قبله نحو (الدواب، وصواف...)".

    وقال (2/136) : "النون المفتوحة نحو (العالمين) و(الذين) فروى بعضهم عن يعقوب الوقف على ذلك كله بالهاء، وهو لغة فاشية مطردة عند العرب، والجمهور على عدم إثبات الهاء عن يعقوب في هذا الفصل وعليه العمل والله أعلم".
    وقال ابن الجزري في "النشر" (2/116) : "إذا وقعت اللام من اسم الله تعالى بعد الراء الممالة في مذهب السوسي وغيره كما تقدم من قوله تعالى (نرى الله جهرة، وسيرى الله) جاز في اللام التفخيم والترقيق, فوجه التفخيم عدم وجود الكسر الخالص قبلها, ووجه الترقيق عدم وجود الفتح الخالص قبلها, وقال الداني: إنه القياس.
    وقال الأستاذ أبو عمرو ابن الحاجب إنه الأولى لأمرين:
    أحدهما: أن أصل هذه اللام الترقيق وإنما فخمت للفتح والضم ولا فتح ولا ضم هنا فعدنا إلى الأصل.
    والثاني: اعتبار ذلك بترقيق الراء في الوقف بعد الإمالة.
    قلت: والوجهان صحيحان في النظر ثابتان في الأداء والله أعلم".

    وقال ابن الجزري في باب "تغليظ اللامات" (2/113) : "واختلفوا فيما إذا وقع بعد اللام ألف ممالة نحو (صلى، وسيصلى، ومصلى، ويصلاها).
    فروى بعضهم تغليظها من أجل الحرف قبلها.
    وروى بعضهم ترقيقها من أجل الإمالة.
    وفصل آخرون في ذلك بين رؤوس الآي وغيرها".

    وقال: "واختلفوا فيما إذا حال بين الحرف وبين اللام فيه ألف:
    فروى كثير منهم ترقيقها من أجل الفاصل بينهما.
    وروى الآخرون تغليظها اعتداداً بقوة الحرف المستعلي, وهو الأقوى قياساً والأقرب إلى مذهب رواة التفخيم.
    واختلفوا أيضاً في اللام المتطرفة إذا وقف عليها:
    فروى جماعة الترقيق في الوقف وروى آخرون التغليظ.
    وقال الداني إن التفخيم أقيس.
    قلت: والوجهان صحيحان في هذا الفصل والذي قبله.
    والأرجح فيهما التغليظ لأن الحاجز في الأول ألف وليس بحصين, ولأن السكون عارض وفي التغليظ دلالة على حكم الوصل في مذهب من غلظ والله أعلم. واختلفوا أيضاً في تغليظ اللام من (صلصال)...".

    وقال السخاوي في "جمال القراء" ص (511) : إن قيل لم لم يدغم أبو عمرو بن العلاء رحمه الله في إدغامه الكبير (أنا نذير)، وقد التقى النونان في اللفظ؟
    فالجواب: أنهم حافظوا على حركة هذه النون بأنهم وقفوا عليها بالألف، أو بالهاء لا بد من ذلك، فإذا وقعت المحافظة عليها في الوقف الذي تذهب فيه الحركة فكيف لا يحافظ عليها في الوصل الذي تثبت فيه.
    وأيضا فإنهم أرادوا الفرق بينها وبين أن الناصبة للفعل، وإنما يفرق بينهما بحركة هذه، فلو أدغمت لأشبهت ما قصد التفرقة بينه وبينه في نحو (أن نأخذ).
    ثم قال: إن قيل: لم أدغم حمزة في وقفه حرف المد في: (خطيئة) و(قروء)، ولا يجيز أحد إدغام نحو: (قالوا وأقبلوا), ولا نحو (في يوم)؟
    فالجواب: أن ذلك للتفرقة بين الزائد والأصلي.
    فإن قيل: فلم أدغم في نحو: زيدي؟
    قيل: حملاً على التثنية في نحو: زيدي، والتشبه بينهما ظاهر, والله أعلم.

    وقال الأصمعي: سألت نافعاً عن الذئب والبئر فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما, كما في "السبعة" لابن مجاهد ص (346)

    وقال ابن الجزري في باب الوقف على الهمز: (1/429) : "قال ابن مهران: وقال بعضهم: هذا مذهب مشهور ولغة معروفة, يحذف الهمز في السكت يعني الوقف كما يحذف الإعراب, فرقاً بين الوصل والوقف, قال: وهو مذهب حسن.
    وقال بعضهم: لغة أكثر العرب الذين هم أهل الجزالة والفصاحة ترك الهمزة الساكنة في الدرج والمتحركة عند السكت, قلت: وتخفيف الهمز في الوقف مشهور عند علماء العربية أفرد له باباً وأحكاماً, واختص بعضهم فيه بمذاهب عرفت بهم ونسبت إليهم".

    وقال أيضاً (1/428) : "ولما كان الهمز أثقل الحروف نطقاً وأبعدها مخرجاً تنوع العرب في تخفيفه بأنواع التخفيف, كالنقل والبدل وبين بين والإدغام وغير ذلك, وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم له تخفيفاً, ولذلك أكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم كابن كثير من رواية فليح, وكنافع من رواية ورش وغيره, وكأبي جعفر من أكثر رواياته, ولا سيما رواية العمري عن أصحابه عنه, فإنه لم يكد يحقق همزة وصلاً, وكابن محيص قارئ أهل مكة مع ابن كثير وبعده, وكأبي عمرو فإن مادة قراءته عن أهل الحجاز, وكذلك عاصم من رواية الأعشى عن أبي بكر من حيث أن روايته ترجع إلى ابن مسعود".

    هذا شيء يسير مما ورد في كتب القراءات, وكنت كتبت أشياء أخرى لكن حذفتها خشية الإطالة.

    قال الأستاذ محمد جبل في كتابه "من القضايا الكبرى" في حاشية ص (68) : "القراءات داخلة تحت الإذن العام من المولى عز وجل لرسوله r أن يقرأ كل قوم بلغتهم, أما الإدعاء بأن كل جزئية من تلك القراءات هي متلقاة بعينها من رسول الله r فهو كلام سنده الحماس, لأن العربي يدغم أو يفك ويميل أو ينصب إلخ حسب لهجته دون احتياج إلى توقيف".

    وقال الدكتور محمد المختار في "تاريخ القراءات" ص (74) : "وبما أن الروايات وردت عن أبي عمرو البصري أيضاً بتسهيل الهمز الساكن مطلقاً, وبالتحقيق مقيداً مثل ما رأينا فإن ذلك يدل على تأثره بالروايات المدنية في التسهيل, وباعتماد قواعد اللغة في التحقيق".

    الدليل السابع:
    كراهية بعض الأئمة والعلماء لأنواع من الأداء عند بعض القراء.
    فقد تواتر واشتهر إنكار كثير من أئمة الإسلام لأنواع من الأداء عند الإمام حمزة, أو الكسائي.
    وهذا يدل بكل وضوح على أن أولئك الأئمة ما كان يخطر ببال أحد منهم أن طريقة الأداء والتلاوة متلقاة بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم, إنما هي اختيار واجتهاد وتغني, كما سبق توضيحه.
    من ذلك إنكار بعض العلماء والأئمة على القارئ حمزة رحمه الله طريقته في الأداء, وكذلك الكسائي.
    وقد ذكرت ذلك في موضوع الكلام على الإمالة.
    فذكرت قول الذهبي في "السير" (10/170): "ولقد عومل حمزة مع جلالته بالإنكار عليه في قراءته من جماعة من الكبار".
    وذكرت رأي الإمام أحمد رحمه الله, وعبد الرحمن بن مهدي, وأبي بكر بن عياش, والحكم بن عتيبة, ويزيد بن هارون, وعبد الله بن إدريس, وسفيان بن عيينة, وعبد الله بن قتيبة, وبشر بن الحارث, ويعقوب بن شيبة, وعلي بن المديني, والساجي, والأزدي, وابن دريد, وحماد بن زيد.
    قال السخاوي في "جمال القراء" ص (514) : "قال الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد الخشاب رحمه الله: وقد كره بعض الأئمة ممن لا يختلف في ورعه وعلمه قراءة حمزة بن حبيب لإفراط مده، قال: وكأنه رأى أن تكلف ذلك شاق بعض المشقة، والقرآن قد يسره منزله سبحانه"اهـ
    وقال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (2/131) : "ولهذا كره الإمام أحمد رضي الله عنه وجماعة من السلف قراءة حمزة لما فيها من طول المد والكسر والإدغام ونحو ذلك, لأن الأمة إذا أجمعت على فعل شيء لم يكره فعله, وهل يظن عاقل أن الصفة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وتواترت إلينا يكرهها أحد من المسلمين"اهـ

    وقد كره الإمام أحمد رحمه الله كذلك الإدغام الكبير لأبي عمرو, كما في "الفروع" (1/422) , و"الإقناع" (1/119) .
    وكرهه جماعة.
    قال السخاوي في "جمال القراء" ص (476) : "وقد كره إدغام أبي عمرو قوم وعابوه، وقالوا: إن ذلك تغيير لحروف القرآن، ويؤدي إلى زوال معاني كلماته، وأنه لا أصل له ولا أثر يؤيده، إنما هو شيء تفرد به أبو عمرو.
    وكذلك عابوا من الإدغام ما لم يتفرد به أبو عمرو.
    قال عاصم: قرأت يوماً على أبي عبد الرحمن السلمي حتى تحول من مجلس القرآن إلى حلقة فيها نفر من الصحابة، وكان إذا فرغ من مجلس الإقراء يجلس إليهم، وفيهم: زر بن حبيش، وشقيق بن سلمة, والمسيب، وكان يجالسهم يزيد بن الحكم الثقفي، فقلت: إن أهل المجلس يدغمون حروفاً كثيرة، ويقولون: ذلك جائز في الكلام.
    فذكرت: (هل ترى)، وقلت: يقولون: (هترى)، و(لبثت)، فقلت: يقولون: (لبت)، وأشباه ذلك، فأعظموا ذلك جميعاً، ثم قال أبو عبد الرحمن: قاتلهم الله أخذوا هذا من قول الشعر، فإن الشاعر يدغم, وينقص من الحروف، لئلا ينكسر عليه البيت"اهـ
    وقد سئل الكسائي عن الهمز والإدغام ألكم فيه إمام قال: نعم حمزة كان يهمز ويكسر, وهو إمام لو رأيته لقرت عينك من نسكه. انظر: "السير" (7/90) , و"معرفة القراء" (1/263) كلاهما للذهبي.
    قال الذهبي: يريد بقوله يكسر أي: يميل.
    قلت: فكأن السائل ينكر عليه هذا الأمر غير المعروف.
    وممن عاب الإدغام الكبير وغيره من أنواع الأداء الإمام أبو بكر ابن العربي رحمه الله, حيث بين أنه لا يقرأ ببعض تلك الأنواع, وأنه تأملها فرأى أنها اختيارات مبنية على معان ولغات.
    قال ابن العربي في "العواصم" ص (602) : "وما كنت لأمد مد حمزة, ولا أقف على الساكن وقفته, ولا أقرأ بالإدغام الكبير لأبي عمرو ولو رواه في تسعين ألف قراءة، فكيف في رواية بحرف من سبعة أحرف؟ ولا أمد ميم ابن كثير، ولا أضم هاء "عليهم" و"إليهم" وذلك أخف، وهذه كلها أو أكثرها عندي لغات لا قراءات، لأنها لم يثبت منها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وإذا تأملتها رأيتها اختيارات مبنية على معان ولغات".
    تنبيه وتحقق:
    روى ابن مجاهد في "السبعة" ص (76) عن علي بن الحسن قال: قال محمد بن الهيثم: واحتج من عاب قراءة حمزة بعبد الله بن إدريس أنه طعن فيها، وإنما كان سبب هذا أن رجلاً ممن قرأ على سليم حضر مجلس عبد الله بن إدريس فقرأ، فسمع ابن إدريس ألفاظاً فيها إفراط في الهمز والمد وغير ذلك من التكلف المكروه، فكره ذلك ابن إدريس وطعن فيه.
    قال محمد: وهذا الطريق عندنا مكروه مذموم، وكان حمزة يكره هذا وينهى عنه، وكذلك من أتقن القراءة من أصحابه.
    وأخرجه أبو عمرو الداني في "التحديد" ص (87)
    وذكره ابن الجزري رحمه الله وتبعه غيره من أن ذلك محمول على أن تلك القراءة التي أنكرها الأئمة إنما هي قراءة بعض تلاميذ حمزة.
    وفي ذلك يقول ابن الجزري في "غاية النهاية" (1/357) : "وأما ما ذكر عن عبد الله بن إدريس وأحمد بن حنبل من كراهة قراءة حمزة فإن ذلك محمول على قراءة من سمعا منه ناقلاً عن حمزة, وما آفة الأخبار إلا رواتها, قال ابن مجاهد: قال محمد بن الهيثم: والسبب في ذلك أن رجلاً ممن قرأ على سليم حضر مجلس ابن إدريس فقرأ فسمع ابن إدريس ألفاظاً فيها إفراط في المد والهمز وغير ذلك من التكلف فكره ذلك ابن إدريس وطعن فيه".
    والواقع أن ما جاء في الرواية التي أخرجها ابن مجاهد والداني, وذكرها بن الجزري فيه نظر بيِّن وغير صحيح.
    فإن الذين تكلموا في أداء حمزة جماعة كثيرة من الأئمة, ولا يمكن أن يتفقوا كلهم على هذا التسرع وعدم التثبت, بل إنكار أولئك الأئمة كلهم يدل على أن الأمر مشهور جداً عن حمزة رحمه الله.
    ويؤكد هذا ما رواه يعقوب بن شيبة قال: سمعت بشر بن موسى يحدث علي بن المديني قال: حدثني نوفل. فقال ابن المديني: نوفل ثقة. قال: سمعت عبد الله بن إدريس يقول لحمزة: اتق الله فإنك رجل متأله, وهذه القراءة ليست قراءة عبد الله ولا قراءة غيره. فقال حمزة: أما إني أتحرج أن أقرأ بها في المحراب. قلت: لم ؟ قال: لأنها لم تكن قراءة القوم. قلت: فما تصنع بها إذاً ؟ قال: أما إني إن رجعت من سفري هذي لأتركها. فسمعت ابن إدريس يقول: ما أستجيز أن أقول لمن يقرأ لحمزة: إنه صاحب سنة. انظر: "معرفة القراء الكبار" (1/262) طبعة دار عالم الكتب. تحقيق: الدكتور قولاج.
    ويؤيده أن أبا بكر بن عياش قال: قلت لحمزة: ما هذه القراءة فما كان له حجة. انظر: "معرفة القراء الكبار" (1/258)
    ومما يدل على أن هذه الطريقة في الأداء هي اجتهاد من حمزة رحمه الله أنه كان يكره الصلاة بها كما ذكر الإمام ابن قتيبة رحمه الله.
    ولذلك قد ذكر تلميذ الإمام حمزة وهو محمد بن الهيثم النخعي الكوفي رحمه الله كما في "غاية النهاية" لابن الجزري (2/359) أنه صلى خلف شيخه حمزة, فكان لا يمد في الصلاة ذلك المد الشديد، ولا يهمز الهمز الشديد.
    فهذا يدل على أن حمزة رحمه الله كان في غير الصلاة يمد ذلك المد الشديد، ويهمز الهمز الشديد, وأن تلميذه محمد بن الهيثم كان يعرف هذا عنه.
    أما قول سفيان الثوري عن حمزة: إنه ما قرأ حرفاً إلا بأثر, كما في "السبعة" ص (76) , وفي "معرفة القراء" للذهبي (1/254)
    وكذلك قول حمزة نفسه: ما قرأت حرفاً قط إلا بأثر, كما في "السبعة" ص (75) , وفي "معرفة القراء" (1/254)
    فمراده بذلك الحروف وليس الأداء, ولذلك قال: (ما قرأ حرفاً), ولا شك أنه رحمه لم يكن يقرأ من تلقاء نفسه, وإنما كان يقرأ كما قرأ من كان قبله, ولكن ليس معنى ذلك أن طريقة أدائه بكل تفاصيلها كانت بأثر, وهذا أمر لا يمكن.
    وأما ما ذكره الذهبي رحمه الله في "الميزان" (1/605) , وفي "السير" (7/91) من أن الإجماع قد انعقد بأخره على تلقي قراءة حمزة بالقبول.
    وقاله أيضاً في "معرفة القراء" (1/255) وقال: وإن كان غيرها أفصح منها وأولى.
    أقول: قول الذهبي رحمه الله لا يمكن أن يلغى به انتقاد جماعة من الأئمة من أمثال يزيد بن هارون, وعبد الرحمن بن مهدي, وأحمد بن حنبل, وسفيان بن عيينة, وعبد الله بن إدريس الأودي, وأبي بكر بن عياش, وابن دريد, وحماد بن زيد, والأزدي, والساجي, وابن قتيبة وغيرهم, ولكن الذهبي رحمه الله أراد بكلامه ذلك أن الأمر قد استقر على قبول قراءة نافع في الجملة, أي في الحروف, وهذا هو الواقع, فإن حمزة رحمه أحد القراء المشهورين الذين أخذت عنهم القراءة, ولكن لا يلزم من هذا أن تفاصيل الأداء التي انتقدها عليه أولئك الأئمة تكون مقبولة فضلاً عن كونها مجمع على قبولها.
    ثم وجدت الذهبي رحمه الله قد صرح بما ذكرت أنه أراد بكلامه, فقد قال في "السير" (8/473) : "قلت: مرادهم بذلك ما كان من قبيل الأداء، كالسكت، والاجتماع في نحو: شاء، وجاء، وتغيير الهمز، لا ما في قراءته من الحروف، هذا الذي يظهر لي، فإن الرجل حجة، ثقة فيما ينقل"اهـ
    قلت: وحاشا هؤلاء الأئمة الكبار والأعلام الأطهار أن يتنكروا لشيء منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويذموه ويتبرؤوا منه, وفي ذلك أوضح الدلالة على أن كثيراً من صفة أداء التلاوة إنما هو اجتهاد واختيار وترتيل من القراء عليهم رحمة الله, ولا يلزم أن يكون مأثوراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وليعلم أن بعض أنواع الأداء كالسكت والإدغام الكبير والإمالة قد تبدل المعنى, وإذا كان الأمر كذلك فيجب تجنبت أي أداء يكون سبباً في تغيير معنى كلام الله, وإن كان منسوباً إلى أحد القراءة السبعة.
    قال ابن الخطيب في "الفرقان" ص (99) : "حين يقرأ القارئ على طريقة من يسكت على الساكن قبل الهمز وعلى الممدود قبلها فإنه يقرأها هكذا:
    (كلاً نمدها... ؤلاء... ءوها... ؤلا... ءمن عطا... ءربك).
    (مذبذبين بين ذلك لا... إلى ها... ؤلا... ءولا... إلى ها... ؤلا... ءومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً)
    (فجا... ته إحداهما تمشي على استحيا... ءٍقالت).
    فانظر أيها المؤمن إلى أي حد بلغ تشويه المعنى حين يصل القارئ إلى قوله تعالى: (على استحيا... ءٍقالت) فيصير كأنه يقول: (إن قالت) بنطق (إن) الشرطية.
    (فاستمع لما يوحى... إنني... أنا الله)
    فانظر إلى أي حد بلغ فساد المعنى حين يسكت ثم ينطق بقوله: (أنا الله).
    وانظر إلى القارئ حين يقرأ (من آمن بالله واليوم الآخر), فإنه يقرأها هكذا (منامن) كأنه يقول: (منامنا بالله) من النوم لا من الإيمان"انتهى.
    وكذلك الإدغام الكبير قد يتحرف به المعنى ويتغير تغيراً كاملاً, كما في قوله تعالى :(فاصفح عنهم) فإنها تقرأ بالإدغام هكذا (فاصفع عنهم) فيكون من الصفع وليس من الصفح.
    أو قوله تعالى: (أوعظت أم لم تكن من الواعظين) فتقرأ بالإدغام (أوعت) فيكون من الوعد وليس من الوعظ.
    أو قوله تعالى: ( واستغفر لهم) فتقرأ بالإدغام (واستغفلهم) فيكون من الاستغفال وليس من الاستغفار.
    أو قوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد) فتقرأ بالإدغام (لحب الخيل لشديد) فتكون الخيل وليس الخير.
    أو قوله تعالى: (واصطبر لعبادته) فتقرأ بالإدغام (فاصبل لعبادته)
    إلى غير ذلك من الأمثلة, فهذا تحريف لكلام الله محرم لا يجوز.
    وكذلك من يقرأ بالإمالة على قوم ليست هي لهجتهم فإنه يتغير بها المعنى.
    والأمثلة على ذلك كثيرة
    وعلى سبيل المثال حين تقرأ قوله تعالى (وجاء ربك)
    أو (وجاءت سيارة)
    أو (وجاءت رسلهم)
    أو (وقد خاب من افترى)
    أو (ولو شاء ربك) وغيرها.
    فإنها الفعل ينقلب من الماضي إلى ما لم يسم فاعله, فيتغير المعنى بذلك.
    فتكون (وجاء ربك) هكذا (وجيء ربك) فيكون الله ليس هو الآتي إنما هو المأتي, وهكذا بقية الأمثلة وغيرها كثير.
    إن الإمالة في كلمات كثيرة مفسدة للمعنى أيما إفساد, إلا لمن كانت لهجته الإمالة لا يطاوعه لسانه إلا على النطق بها فهذا لسانه لا يستطيع غير ذلك.

    إن القراء المعاصرين يخطئون من ينقص في المد أو الغنة وغيرها حركة أو نصف حركة, أو لا يخرج الحرف تماماً من المخرج الذي حددوه هم, فكيف يقرأ المسلم قراءة بأداء يقلب المعنى قلباً على غير ما أراد الله.

    الدليل الثامن:
    كثرة الاختلاف عن القراء أو عن رواتهم.
    فلا يكاد يوجد نوع أداء عن قارئ أو راو إلا ويختلف عنه الآخذون عنه, ويكفي لتتأكد من ذلك أن تتصفح كتاب "النشر" لابن الجزري, لترى بنفسك كثرة هذا الاختلاف, مما يؤكد ما نحن بصدده من أن جميع صفات الأداء ليست منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما هي من اختلاف القراء أنفسهم ومن رووا عنهم.
    وسأذكر نماذج قليلة لمجرد التمثيل.
    ذكر ابن الجزري في "النشر" (1/420) سكت حمزة على الساكن قبل الهمز وقال: واختلفت الطرق فيه عنه وعن أصحابه اختلافاً كثيراً.
    وذكر (1/339) مد ورش حرف المد بعد الهمز, ثم قال: على اختلاف بين أهل الأداء في ذلك, ثم ذكر كذلك اختلاف من يرون المد في قدر المد.
    وقال ابن الجزري: "ذهب إلى القصر فيه أبو الحسن طاهر بن غلبون, ورد في تذكرته على من روى المد وأخذ به وغلط أصحابه, وبذلك قرأ الداني عليه, وذكره أيضاً ابن بليمة في تلخيصه, وهو اختيار الشاطبي حسب ما نقله أبو شامة عن أبي الحسن السخاوي عنه.
    قال أبو شامة: وما قال به ابن غلبون هو الحق".

    وقال أبو عمرو الداني في "جامع البيان" (1/355) : "وقرأت على أبي الحسن بن غلبون بغير زيادة تمكين لحرف المد فيما تقدم، سألته عن زيادة التمكين وإشباع المد فأنكره وبعَّد جوازه، وإلى ذلك كان يذهب شيخنا علي بن محمد بن بشر رحمه الله، وسائر أهل الأداء من البغداديين والشاميين, وقال بعض شيوخنا: هو اختيار من ورش خالف فيه نافعاً، يعني الزيادة في المد، قال: وأهل العراق ينكرون ذلك ولا يأخذون به، وأهل مصر يروونه ويتركونه، وحكى لي الخاقاني أن أصحابه المصريين الذين قرأ عليهم اختلفوا في ذلك, فمن قائل منهم به، ومن منكر له.
    وفي موضع آخر قال ابن الجزري (1/272) : اختلف عن خلاد في إشمام الأول فقط, أو حرفي الفاتحة خاصة, أو المعروف باللام في جميع القرآن, أو لا إشمام في شيء...
    وقال (1/290) : قلت: وهو مما ورد الخلاف عن أصحاب الإدغام, فروى إدغامه عامة أهل الأداء, وهو الذي عليه جميع طرق ابن فرح عن الدوري وابن جرير من جميع طرقه عن السوسي.
    وروى إظهاره جميع العراقيين عن جميع طرق أبي الزعراء عن الدوري ومن جميع طرق السوسي.
    وقال (1/292) : والشين تدغم في موضع واحد (إلى ذي العرش سبيلا) لا غير، وقد اختلف فيه فروى إدغامه منصوصاً عبد الله بن اليزيدي عن أبيه، وهي رواية ابن شيطا من جميع طرقه عن الدوري...
    وروى إظهاره سائر أصحاب الإدغام عن أبي عمرو...
    وذكر (1/347) اختلاف بعض الأئمة من المصريين والمغاربة في مد (شيء) كيف أتى عن حمزة.
    وقال (1/388) : واختلف أئمتنا في كيفية تسهيل القسم الخامس, فذهب بعضهم إلى أنها تبدل واواً خالصة مكسورة, وهذا مذهب جمهور القراء من أئمة الأمصار قديماً, قال الداني: وهذا مذهب أكثر أهل الأداء... وذهب بعضهم إلى أنها تجعل بين بين أي بين الهمزة والياء, وهو مذهب أئمة النحو كالخليل وسيبويه, ومذهب جمهور القراء حديثاً.
    وقال في باب "السكت على الساكن قبل الهمز" (1/423) : وأما حفص فاختلف أصحاب الأشناني في السكت عن عبيد بن الصباح عنه.
    فروى عنه أبو طاهر بن أبي هاشم السكت, واختلف فيه عنه أصحابه...
    وقال في باب "الوقف على الهمز" (1/434) : فإنها تسهل مع الألف بين بين, ومع لام التعريف بالنقل هذا هو مذهب الجمهور من أهل الأداء, وعليه العراقيون قاطبة وأكثر المصريين والمغاربة.
    وذهب كثير من أهل الأداء إلى الوقف بالتحقيق في هذا القسم وإجرائه مجرى المبتدأ.
    وقال (1/434) : قد اختلف أهل الأداء في تسهيل هذا النوع وتحقيقه, فروى كثير منهم عن حمزة تسهيله بالنقل وألحقوه بما هو من كلمة.
    وروى الآخرون تحقيقه من أجل كونه مبتدأ.
    واختلفوا في الإدغام الكبير لأبي عمرو, فقد ذكر ابن الجزري (1/275) أن لأئمة القراءة فيه طرقاً مختلفة, ثم ذكرها ثم قال: فثبت حينئذ عن أبي عمرو مع الإدغام وعدمه ثلاث طرق.
    وقال ابن الجزري (1/288) : قوله تعالى: (وآت ذا القربى) كان ابن مجاهد وأصحابه وابن المنادي وكثير من البغداديين يأخذونه بالإظهار من أجل النقص وقلة الحروف.
    وكان ابن شنبوذ وأصحابه وأبو بكر الداجوني ومن تبعهم يأخذونه بالإدغام للتقارب وقوة الكسر.
    وقال ابن الجزري (1/296) : اعلم أنه ورد النص عن أبي عمرو من رواية أصحاب اليزيدي عنه، وعن شجاع أنه كان إذا أدغم الحرف الأول في مثله أو مقاربه أشار إلى حركته، وقد اختلف أئمتنا في المراد بهذه الإشارة.
    ثم ذكر أن ابن مجاهد حمله على الروم...
    وحمله أبو الفرج الشنبوذي على أنه الإشمام...
    وحمله الجمهور على الروم والإشمام جميعا...
    وقال (1/397) إذا كانت الهمزة مفتوحة بعد فتح فاختلف عن الأزرق عن ورش في كيفية تسهيلها...
    وقال (1/388) : واختلف أئمتنا في كيفية تسهيل القسم الخامس، فذهب بعضهم إلى أنها تبدل واواً خالصة مكسورة، وهذا مذهب جمهور القراء من أئمة الأمصار قديماً... وذهب بعضهم إلى أنها تجعل بين بين، أي الهمزة والياء، وهو مذهب أئمة النحو كالخليل وسيبويه، ومذهب جمهور القراء حديثاً.
    وقال (1/431) : واختلف أئمتنا في تغيير حركة الهاء مع إبدال الهمزة ياء قبلها في قوله: (أنبئهم) في البقرة و(نبئهم) في الحجر، فكان بعضهم يروي كسرها لأجل الياء... وكان آخرون يقرؤونها على ضمتها...
    وقال (1/298) : وإن كان الساكن حرفاً صحيحاً فإن الإدغام الصحيح معه يعسر, لكونه جمعاً بين ساكنين أولهما ليس بحرف علة، فكان الآخذون فيه بالإدغام الصحيح قليلين، بل أكثر المحققين من المتأخرين على الإخفاء، وهو الروم المتقدم.
    وذكر ابن الجزري (1/464) مسألة الروم في الهمزة المتحركة المتطرفة...
    ثم قال: وذا مذهب كثير من القراء وبعض النحاة، وأنكر ذلك جمهورهم وجعلوه مما انفرد به القراء. وذهب أكثر القراء إلى ترك الروم في ذلك...
    وقال ابن الجزري (2/124) : " (وأما هاء الضمير) فاختلفوا في الإشارة فيها بالروم والإشمام, فذهب كثير من أهل الأداء إلى الإشارة فيها مطلقاً... وذهب آخرون إلى منع الإشارة فيها مطلقاً... وذهب جماعة من المحققين إلى التفصيل...".

    وقال (2/136) : "النون المفتوحة نحو (العالمين) و(الذين) فروى بعضهم عن يعقوب الوقف على ذلك كله بالهاء، وهو لغة فاشية مطردة عند العرب، والجمهور على عدم إثبات الهاء عن يعقوب في هذا الفصل وعليه العمل والله أعلم".
    ومن اختلافهم الكثير اختلافهم في مراتب المد, وفي مقداره.
    قال ابن الجزري (1/316) : واختلفوا على كم مرتبة هو.
    ثم ذكر أنه قيل: إنها خمس, وقيل: أربع, وقيل: ثلاث, وقيل: اثنتان.
    ثم قال: اختلفت آراء أهل الأداء من أئمتنا في تعيين هذا القدر المجمع عليه، فالمحققون منهم على أنه الإشباع، والأكثرون على إطلاق تمكين المد فيه، وقال بعضهم: هو دون ما مد للهمز... ثم اختلفوا أيضا في تفاضل ذلك على بعض... الخ.
    ثم ذكر المد المنفصل ثم قال: وقد اختلفت العبارات في مقدار مده اختلافاً لا يمكن ضبطه ولا يصح جمعه, فقل من ذكر مرتبة لقارئ إلا وذكر غيره لذلك القارئ ما فوقها أو ما دونها.
    ثم ذكر أنه قيل: إنه مرتبتان, وقيل: ثلاث, وقيل: أربع, وقيل: خمس, وقيل: ست, وقيل: سبع, وقيل: ثمان.
    وقال (1/335) : وأما المد للساكن العارض فإن لأهل الأداء من أئمة القراء فيه ثلاث مذاهب...
    وقال (1/348) : فاللازم غير المشدد حرف واحد، وهو (ع) من فاتحة مريم والشورى، فاختلف أهل الأداء في إشباعها في توسطها وفي قصرها لكل من القراء...
    وأما الساكن العارض غير المشدد فقد حكى فيه الشاطبي وغيره عن أئمة الأداء الثلاثة مذاهب.
    وقال (2/106) : "الراء في نحو (عين القطر) هل يعتد بحرف الاستعلاء فتفخم أم لا يعتد فترق؟ رأيان لأهل الأداء...".
    وذكر ابن الجزري في "غاية النهاية" (2/416) موسى بن جرير بن أبي عمران, وهو من أجل أصحاب السوسي.
    ثم نقل عن الداني قوله: قال لنا عبد الباقي: كان لأبي عمران اختيارات يخالف فيها ما قرأ على أبي شعيب السوسي, وكان يعتمد على ما قرأ في العربية, قال: ورجع جماعة من أصحاب السوسي إلى اختيار أبي عمران".
    إلى غير ذلك من الاختلاف الكثير الذي لا حد له ولا نهاية.

    الدليل التاسع:
    ظهور ما يسمى بعلم التحريرات, وهو الذي فتح أنواعاً لا تنتهي من الاختلافات بين القراء وأتباعهم في الأداء, واعتراض بعض الباحثين والقراء على ذلك, مما يدل على أن الاختلاف بين القراء في الأداء مصدره الاجتهاد والاختيار وليس الإسناد كما سيتضح في آخر المسألة.
    والمقصود بعلم التحريرات علم قام على كتب ابن الجزري وأصوله ومروياته, ومقابلة تلك المرويات على أصولها من أمهات كتب القراءات الآخذة عنها تلك الطرق, والاستدراك على ابن الجزري, وبيان ما وقع فيه من مخالفة لتلك الكتب الأصول أو إجمال أو إهمال بعض الوجوه أو سهو أو نسبة وجه لكتاب وهو ليس كذلك في ذلك الكتاب أو نحو ذلك.
    وقد ذكر الأستاذ الدكتور سامي سعيد عبد الشكور في كتابه "التحريرات على طيبة النشر بين الرواية والاجتهاد" ص (13) أن هذا العلم لم يظهر إلا في أواخر القرن الحادي عشر الهجري.
    وقال ص (12) : نحن نقطع بأن هذا العلم حادث متأخر خرج بعد الإمام ابن الجزري, ففرق بين التحريرين قبل الإمام ابن الجزري وبعده, فلفظ "تحريرات القراءات لم يكن معروفاً عند المتقدمين, ولم يرد في كتبهم.
    وقال ص (13) : فظهر بذلك علم جديد يسمى بما نعرفه اليوم "التحريرات" على طيبة النشر, والتي صنفت فيها التصانيف الكثيرة, مما أدى إلى عزوف الكثير من طلبة العلم عن القراءة من طريق طيبة النشر على الشيوخ, لكثرة مسائل التحريرات, وتباينها من شيخ إلى آخر, ومن كتاب إلى آخر.
    ونقل ص (14) قول الشيخ الأزميري فيما لاحظه من كتاب النشر لابن الجزري: هذا بيان ما طغى به القلم وما أهمله في كتابه المسمى بالنشر وما أجمله... فإن الإمام ابن الجزري ذكر في نشره عدة من كتب القراءات, ثم عزا في بعض المواضع منه بعض الأوجه إلى بعض تلك الكتب, وأمسك عن ذكر بعضها, فلبس بإبهامه على الناظر فيه, فلم يدر ما الذي من ذلك في المسكوت عنه منها...
    قال الأستاذ سامي: "ثم يتابع الشيخ الأزميري فيقول: وذكر أيضاً في النشر أشياء ونسبها إلى بعض تلك الكتب بخلاف ما فيه... فتجشمت تحرير ذلك".
    وقال في "البدائع" عن ملاحظاته على النشر: "... لأنه وقع فيه في بعض المواضع خلاف ما في أصل المأخذ من الكتب, فسبحان من لا يسهو, فنبهت على أكثره".
    ثم ذكر أنه بعد ذلك تتابعت كتب المحررين والتأليف فيها كفن مستقل بذاته إلى أن جاء خاتمة المحررين في هذا الفن الشيخ محمد المتولي الموفى سنة (1313) هـ صاحب كتاب "الروض النضير في تحرير أوجه الكتاب المنير".
    وذكر الأستاذ سامي ص (22) أن تحريرات المشايخ المحررين كانت على قسمين:
    الأول: متعلق بالرواية وتنقيح الروايات في كتب ابن الجزري من أي تركيب أو تداخل في الطرق.
    الثاني: المعني بالدراسة, وهو يمثل الجانب الذي خرجت فيه التحريرات عن مسارها السابق, وخضعت فيه مرويات الإمام ابن الجزري ونصوصه وأحكامه على الروايات للاجتهاد وأفهام عقول المحررين, في خطوة جريئة ونقلة نوعية قامت عليها التحريرات, وفتحت باباً عظيماً لن يوصد, ماجت فيه الآراء واضطربت فيه الأقوال, وكثرت فيه التساؤلات حتى يومنا هذا, ما الذي أدى لاختلاف المحررين فيما بينهم.
    ثم ذكر أمثلة للاختلاف فيما بينهم.
    ثم ذكر ص (30) أن ابن الجزري ترك من الكتب وأسانيدها اختصاراً واقتصاراً على ما حضره عند التدوين, وأن أصحاب التحريرات ماجوا مما أدى إلى اختلافهم, فمنهم من تتبع كل ما صح عن ابن الجزري, وفرع عليها مسائل حتى وصلت إلى عشرات الأوجه.
    وأنهم أخذوا بكل ما صح من طرق النشر وإن لم يذكره ابن الجوزي فيه.
    قال: ففتح باب عظيم لتحرير الروايات لن يؤصد, وهو زيادة كل وجه صح من طرق ابن الجزري من أصول النشر التي لم تكن بحضرة ابن الجزري حين التدوين... فقام أصحاب التحريرات تبرعاً منهم بإضافة تلك الأوجه, ورتبوا عليها بعد ذلك كل ما يتعلق من تفريعات من غنة ومد وإدغام وبسملة, ليصبح الوجه الزائد المضاف مركباً بعد ذلك من عشرات الأوجه...
    قال: ومما يجدر التنبيه إليه في هذا المقام أن القضية هنا ليست مجرد زيادة وجه أو وجهين, وإنما الذي سيترتب على هذه الزيادة عند التحرير من تفريعات كقصر ومد وغنة وإدغام وإمالة ذوات الراء حال الاجتماع مما سيقودنا بعد ذلك إلى عشرات الأوجه الأدائية على ضوء تلك الزيادات".
    وقال الأستاذ سامي ص (37) : وأما ما يتعلق بالروايات الخارجة عن طرق النشر فهو أيضاً مما أدى لاضطراب المحررين ومن تبعهم.
    ثم ذكر أن الشيخ الأزميري كان يأخذ عن شيوخه بأوجه خارجة عن طريق الطيبة, وذكر مثالاً على ذلك, وذكر أن الشيخ المتولي رد ذلك.
    ثم عقب الأستاذ سامي بقوله: فكم من تابع للأزميري أخذ بهذا الوجه وقرأ حتى جاء زمان الشيخ المتولي ومنع بهذا الوجه, وبينهما عشرات السنين.
    وذكر أيضاً أن الأخذ بما لم يسنده ابن الجزري كثير, وذكر أن الأزميري أثبت أوجهاً غير مسندة في النشر, وأن الشيخ المتولي تابعه على ذلك.
    وذكر ص (38) أن المحررين أخذوا بما سكت عنه النشر مما هو من طرق النشر, وأنهم يخالفون الإمام ابن الجزري صراحة واجتهاداً منهم.
    وذكر ص (41) أنهم لا يعتبرون اختيارات ابن الجزري في النشر, وذكر أمثلة لكل ذلك.
    وذكر ص (44) أن بعض كتب الأصول التي أشار إليها ابن الجزري لم تكن بين يدي المحررين, وأن هذه القضية أثرها شديد على عمل المحررين سلباً وإيجاباً, وأن من سيجد هذه الكتب بعدهم لا شك أنه قادر على تعقبهم والزيادة عليهم وعلى النشر, وذكر مثالاً على ذلك.
    وذكر ص (48) ما يتعلق بالسهو والغفلة عند تحرير المسائل, وأن ذلك وقع من المحررين في كتبهم, فمنهم من انتبه وصحح, ومنهم من بقي على غفلته.
    وذكر ص (51) الغموض في بعض مسائل أصول النشر لدى المحررين, وإيرادهم بعض الأوجه على سبيل الاحتمال وغلبة الظن, والاقتصار في بعض التفريعات على ظاهر النشر, وأن هذا يختلف من محرر وآخر, مما يسبب بعد ذلك الاختلاف بينهم وبين أتباعهم.
    وذكر أن بعض المحررين يعتمد في بعض المسائل على تحريرات من سبقه.
    ثم يقول الأستاذ الدكتور سامي عبد الشكور الأستاذ بجامعة طيبة بالمدينة المنورة وفقه الله ص (59) : إن أساس نزول هذه القراءات كما هو معلوم التهوين والتخفيف والرفق بهذه الأمة في قراءة كتاب ربها, لأنها أمة أمية طبعت وجبلت على لغاتها من الألفاظ المتباينة فيما بينها في الألفاظ... فلو حملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على لغة واحدة ولهجة واحدة وأن يزول كل فريق عن لغته لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة... وإننا نقابل ذلك بعمل المحررين من إعمال فكر وكثرة اختلافهم من زيادة ونقص وأخذ ورد واستدراك الأخر على الأول ونقض أوجه وزيادة أخرى وأخذ بالظن والاحتمالات ونقابله بزمن نزول القراءات نجد أن هذه التحريرات من نظم ونثر تعارض ذلك الأساس والأصل الذي من أجله أنزلت القراءات, فكيف يقول القائل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه التحريرات. (قال الأستاذ في الحاشية: ذكره محقق كتاب الروض عن الشيخ عبد الرزاق)
    قال الأستاذ سامي: فهل يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يراجع ربه في التخفيف عليهم بأن تقرأ كل قبيلة بلسانها, ثم يقول للقبائل التي جبلت على الإدغام ولا يطوع لسانها إلا به: إذا أدغمتهم تجب عليكم بعض الأحكام تفعلونها حتى تقرؤوا كتاب ربكم, فلا تحققوا همزاً.
    أو يقول للقبائل التي جبلت على السكت: عليكم تركه إذا وافقت كلمة (شيء) ممدودة على أل وأخواتها.
    أو أن يقول للقبائل التي تغن اللام والراء وغيرها: اقرؤوا بلهجتكم بإظهار الغنة عند ملاقاة اللام والراء, ولكن تنبهوا إذا جاء لفظ (بارئكم) فعليكم ترك لغتكم ولهجتكم, وأن تتركوا تلك الغنة فأنتم بالخيار, فعلى إتمام حركة (بارئكم) وجب عليكم تغيير لهجتكم إلى لغة جديدة, وهي ترك الغنة, وأن تتكلفوا النطق بغير غنة, أو أن تنتقلوا إلى لغات جديدة, وهي إسكان (بارئكم) أو اختلاس حركتها حتى يجوز لكم أن تنطقوا بالغنة, وقس على هذا مئات الأوجه.
    قال الأستاذ: قلت: فهذا والله محال أن يقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهذا عسر لا يسر.
    وقال: إن هذه التحريرات كان استمدادها من اختلاف الرواة في الأخذ عن الأئمة العشرة... ولو أننا أخذنا باختيار كل إمام وما قرأ مدة حياته وما لزمه من الحروف حتى صار علماً على ذلك الاختيار ولم نعتبر أخذ الرواة وما اختلفوا فيه عنهم في الحروف لسقطت مادة التحرير وكتبها ونظمها, ولقرأنا باختيار الإمام كاملاً كما اختار هو لنفسه قبل أن يتفرق ذلك الاختيار على مئات الرواة بعده, فهذا يهمز, وهذا يحقق, وهذا يدغم, لذا فإن قول الشيخ عبد الرزاق: (وهذه التحريرات قرأنا بها, وهي ثابتة عن من قبلنا, وهي صحيحة مستفاضة تلقتها الأمة بالقبول, والقطع حاصل بها إلا من استصعبها وحاربها ليهرب منها) ليس فيه أي قيمة علمية". انتهى كلام الدكتور سامي.
    وقال الدكتور عبد العزيز القارئ في كتابه "حديث الأحرف السبعة" ص (177) : "ما يسمونه بالتحريرات قد توسعوا فيه وجاؤوا فيه بالعجائب مما لا قبل للأمة به, ولا دل نقل على مشروعيته, بل هو اصطلاح محدث, ولم يكن معروفاً لدى الأقدمين".
    وقال أحدهم كما في "شبكة المعلومات": "كنت إبان بدايتي في طلب هذا العلم الشريف معظماً لهذه التحريرات، كأنها حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم ما زال يظهر لي كلما تبحرت في مصادر هذا العلم لا سيما النشر أن أخذ التحريرات بهذه الطريقة تضييع للعمر لأنها لا نهاية لها، ثم إن من يزعم الأخذ بها لا يستطيع أن يستوعبها استيعاباً كاملاً، والقرآن محفوظ وميسر لا يحتاج كل هذا التكلف"اهـ
    هكذا يقول كثير من أهل التحقيق.
    بينما يرى كثير من المشايخ والقراء هذه التحريرات فتحاً وإنجازاً ومنقبة, ويرى بعضهم أن التحريرات واجبة وجوب الروايات والقراءات بالتساوي.
    كما يقرر الدكتور إبراهيم الدوسري في كتابه "الإمام المتولي وجهوده" ص (358) حيث يقول: لا يمكن القراءة بمضمن الطيبة إلا بتحارير الحذاق, وإلا حصل التخليط الممتنع روايةً... أما في هذه الأيام فقد ضعفت الهمم, وانحصر العمل بها عند كبار المقرئين على نطاق ضيق, نعوذ بالله من كساد سوق العلم, ونفاق سوق الجهل.
    ثم ذكر الدكتور الدوسري في هامش ص (358) موقف الشيخ القاضي من التحريرات فقال: "من هؤلاء المشايخ عبد الفتاح القاضي عفا الله عنه الذي جوز في كتابه "أبحاث في قراءات القرآن العظيم" الخلط في القراءات والطرق, وقد تولى الرد عليه عبد الغفور مصطفى في كتاب "القراءات", فتعقبه تعقباً شافياً كافياً لا مزيد عليه جزاه الله خيراً"اهـ
    وقال الأستاذ فرغلي عرباوي في كتابه "حروف القلقلة بين القدامى والمحدثين" ص (124) : "من فوائد العودة إلى النصوص المعتبرة أن العلماء استدركوا على الشاطبي بالرجوع لأصول الشاطبية, وهو التيسير, وقد استدرك الأزميري على الحافظ ابن الجزري بالرجوع إلى أصول النشر, وقد رجع المتولي في تحريراته إلى مذهب الأزميري, ولو سأل سائل لماذا رجع المتولي في تحريراته عن مذهب المنصوري والطباخ وغيرهما إلى مذهب يوسف أفندي زادة ومصطفى الأزميري, والسبب أنهم رجعوا إلى أصول النشر جزئية جزئية, فتمسكوا بتلك النصوص وخالفوا ما تلقوه عن مشايخهم".
    أقول والله أعلم: إن فتنة التحريرات والخلاف فيها باب كسر ولن يغلق إلى يوم القيامة, ولكني أقول: صدق الأستاذ الدكتور سامي في قوله: "إن أساس نزول هذه القراءات كما هو معلوم التهوين والتخفيف, وأن التحريرات كان استمدادها من اختلاف الرواة في الأخذ عن الأئمة العشرة, وأننا لو أخذنا باختيار كل إمام ولم نعتبر أخذ الرواة وما اختلفوا فيه عنهم لسقطت مادة التحرير ولقرأنا باختيار الإمام كاملاً كما اختار هو لنفسه قبل أن يتفرق ذلك الاختيار على مئات الرواة بعده"اهـ
    وأزيد عليه فأقول: لا فرق بين التحريرات وأصل الاختلافات في الأداء المذكور في كتب القراءات, فإن جميع الاختلاف بين القراء ومن أخذ عنهم في الأداء كتحديد المدود, والهمز أو التسهيل, والإمالة, والإدغام, والروم والإشمام والوقف على الساكن وأشياء كثيرة جداً إنما مصدره وأصله من اختلافهم في طريقة القراءة والتغني وتنوع الألسن والطرائق فيها وفي بعضها اتباع لطريقة من قرؤوا عليه من مشايخهم ومعلميهم, وليس مرد ذلك إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.

    الدليل العاشر:
    نصوص من كلام القراء وغيرهم فيها دلالة واضحة على عدم وجود قواعد محددة للمدود أو غيرها من أنواع الأداء.
    لأنه لا تتوفر الدواعي إلى نقل جميع صفات الحروف ومخارجها في الكلام, ولا يمكن ذلك, إذ هي صفات للفظ لا يضبطها السماع عادة, وتقبل الزيادة والنقصان, وتختلف اللهجات في النطق بها, بخلاف نقل جوهر الحرف وأصله, ومما يؤكد ذلك أن أهل التجويد قد اختلفوا في صفات الحروف ومخارجها اختلافاً ظاهراً.
    ولتوضيح ذلك أذكر بعض الأمثلة.
    قال مكي بن أبي طالب في كتابه "تمكين المد" ص (36) : "(فصل في أن المد لا يحصر وأن تقديره بالألفات للتقريب على المبتدئين)
    والتقدير عندنا للمد بالألفات إنما هو تقريب على المبتدئين وليس على الحقيقة لأن المد إنما هو فتح الفم بخروج النفس مع امتداد الصوت, وذلك قدر لا يعلمه إلا الله, ولا يدري قد الزمان الذي كان فيه المد للحرف ولا قدر النفس الذي يخرج مع امتداد الصوت في حيز المد إلا الله تعالى, فمن ادعى قدراً للمد حقيقة فهو مدعي علم الغيب.
    وقد وقع في كتب القراء التقدير بالألف والألفين والثلاثة على التقريب للمتعلمين ... ولم يقل أحد من القراء والنحويين: إن المد يحصر في قدر ألف وقدر ألفين وأنه لا يكون أكثر ولا أقل هذا لم يقله أحد.
    ألا ترى أن أبا إسحاق الزجاج قال: لو مددت صوتك يوماً وليلة لم يكن إلا ألفاً واحدة"اهـ
    فمقادير المدود إنما هي اجتهاد من الأئمة القراء ومشايخهم, وأما السابقون فلم يرد عنهم شيء من ذلك التحديد البتة.

    ومما يدل على ذلك قول ابن الجزري في "النشر" (1/333) بعد أن ذكر مراتب المد عند القراء: "فهذا ما حضرني من نصوصهم, ولا يخفى ما فيها من الاختلاف الشديد في تفاوت المراتب، وأنه ما من مرتبة ذكرت لشخص من القراء إلا وذكر له ما يليها، وكل ذلك يدل على شدة قرب كل مرتبة مما يليها، وإن مثل هذا التفاوت لا يكاد ينضبط، والمنضبط من ذلك غالباً هو القصر المحض, والمد المشبع من غير إفراط عرفاً، والتوسط بين ذلك".

    ولما ذكر (1/327) اختلافهم في مراتب المد نقل عن أبي عمرو الداني قوله: وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف وتخليص السواكن وتحقيق القراءة وحدرها, وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافاً يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة.

    ومما يؤكد ذلك أيضاً قول أبي عمرو الداني رحمه الله في "التيسير" ص (30) : "وأطولهم مداً ورش وحمزة, ودونهما عاصم, ودونه ابن عامر والكسائي, ودونهما أبو عمرو من طريق أهل العراق, وقالون من طريق أبي نشيط بخلاف عنه, وهذا كله على التقريب من غير إفراط, وإنما هو على مقدار مذاهبهم في التحقيق والحدر, وبالله التوفيق". وانظر: "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي (1/58)

    وسئل ابن مجاهد عن وقف حمزة على الساكن قبل الهمزة، والإفراط في المد فقال: كان يأخذ بذلك المتعلم، ومراده أن يصل المتعلم إلى ما نحن عليه من إعطاء الحروف حقها. كما في "جمال القراء" للسخاوي ص (516)

    وقال الداني كما في "النشر" (2/30) : "وعلماؤنا مختلفون في أي هذه الأوجه أوجه وأولى، وأختار الإمالة الوسطى التي هي بين بين, لأن الغرض من الإمالة حاصل بها, وهو الإعلام بأن أصل الألف الياء, أو التنبيه على انقلابها إلى الياء في موضع أو مشاكلتها للكسر المجاور لها أو الياء".

    قلت: يتضح جلياً من كلام الداني أن الإمالة اختيار لغرض معين, وأن الغرض منها الإعلام بأن أصل الألف الياء أو التنبيه على انقلابها إلى الياء في موضع أو مشاكلتها للكسر المجاور لها أو الياء.

    وقد قال ابن الجزري في "منجد المقرئين" ص (196) : "لم يتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف على موضع بخمسين وجهاً, ولا بعشرين، ولا بنحو ذلك، وإنما إن صح شيء منها فوجه، والباقي لاشك أنه من قبيل الأداء".

    قال الزركشي في "البحر المحيط في أصول الفقه" (2/213) : والحق: أن المد والإمالة لا شك في تواتر المشترك منها وهو المد من حيث هو مد، والإمالة من حيث هي إمالة، ولكن اختلفت القراء في تقدير المد في اختياراتهم، فمنهم من رآه طويلا، ومنهم من رآه قصيرا، ومنهم من بالغ في القصر، ومنهم من تزايد كحمزة وورش بمقدار ست ألفات، وقيل خمس، وقيل: أربع، وعن عاصم: ثلاث، وعن الكسائي: ألفين ونصف، وقالون: ألفين، والسوسي: ألف ونصف... فعلم بهذا أن أصل المد متواتر، والاختلاف والطرق إنما هو في كيفية التلفظ.

    وقال (2/214) : وأما الألفاظ المختلفة فيها بين القراء فهي ألفاظ قراءة واحدة، والمراد تنوع القراء في أدائها، فإن منهم من يرى المبالغة في تشديد الحرف المشدد، فكأنه زاد حرفاً، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يرى الحالة الوسطى...".

    وقال ابن خلدون في "المقدمة" ص (552) : "وهذه القراءات السبع معروفة في كتبها, وقد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء، وهو غير منضبط, وليس كذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن, وأباه الأكثر وقالوا بتواترها، وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد والتسهيل، لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع وهو الصحيح"اهـ

    قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص (94) : "فكان من تيسيره أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم:
    فالهذلي يقرأ (عتى حين) يريد حتى حين، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها.
    والأسدي يقرأ (تعلمون) و(تعلم) و(تسود وجوه) و(ألم أعهد إليكم).
    والتميمي يهمز, والقرشي لا يهمز.
    والآخر يقرأ (وإذا قيل لهم) و(غيض الماء) بإشمام الضم مع الكسر، و(هذه بضاعتنا ردت إلينا) بإشمام الكسر مع الضم و(ما لك لا تأمنا) بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان.
    ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلاً وناشئاً وكهلاً لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة, فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعاً في اللغات ومتصرفاً في الحركات"اهـ

    الدليل الحادي عشر:
    ما ورد عن بعض السلف رحمهم الله من هذ القرآن, والسرعة في قراءته, وليس هو ديدنهم وعادتهم, ولكنهم كانوا يفعلون ذلك أحياناً, وإنما يدل هذا على أنه من المتقرر عندهم أن أداء التلاوة اجتهاد مبني على السعة والتسهيل.
    قال عثمان بن الأسود: (كان مجاهد وعطاء يهذان القراءة هذا).
    أخرجه ابن أبي شيبة (7/186) عن الضحاك بن مخلد, عن عثمان بن الأسود به.
    وقال طلحة بن مصرف: (سألت إبراهيم عن سرعة القرآن فقال: إن عامة قراءتنا السرعة).
    أخرجه ابن الضريس في "فضائل القرآن" ص (40) عن عبد الرحمن بن المبارك، عن حصين بن نمير، عن محمد بن جحادة، عن طلحة به.
    وقال الوليد بن جميع: (صليت خلف إبراهيم فكان يقرأ في الصبح يس وأشباهها, وكان سريع القراءة).
    أخرجه أبي شيبة (1/390) عن محمد بن فضيل, عن الوليد بن جميع به.
    وعن السائب بن يزيد، (أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلاة طلحة بن عبيد الله قال: إن شئت أخبرتك عن صلاة عثمان بن عفان قال: نعم، قال: قلت: (لأغلبن الليلة النفر على الحجر يريد المقام قال: فلما قمت إذا رجل يزحمني متقنعاً قال: فنظرت فإذا هو عثمان فتأخرت عنه فصلى، فإذا هو يسجد سجود القرآن، حتى إذا قلت: هذه هوادي الفجر أوتر بركعة لم يصل غيرها ثم انطلق).
    أخرجه عبد الرزاق (3/24) , وأبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (181) عن ابن جريج قال: أخبرني يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد به.
    وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1276) , والدارقطني (2/360) (1673) , والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/294) , والبيهقي (3/25) , وغيرهم من طريق: فليح بن سليمان, عن محمد بن المنكدر, عن عبد الرحمن بن عثمان به.
    وأخرجه ابن أبي شيبة (1/404) , والبيهقي (3/24) عن يزيد بن هارون, عن محمد بن عمرو, عن محمد بن إبراهيم, عن عبد الرحمن بن عثمان به.
    وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/56) من طريق: محمد بن إسحاق, عن قتيبة بن سعيد, عن أبي علقمة الفروي عبد الله بن محمد, عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي, عن أبيه به.
    ولذلك ورد عن بعض نساء عثمان t أنها قالت: (إن تقتلوه أو تدعوه فقد كان يحيي الليل بركعة يختم فيها القرآن).
    أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (181) , وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/403) , وابن شبة في "تاريخ المدينة" (4/131) , وأحمد في "الزهد" ص (242) من طرق عن ابن سيرين به.
    وعن ابن سيرين (أن تميماً الداري رضي الله عنه كان يقرأ القرآن كله في ركعة)
    أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1277) , وأبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (182) , وابن أبي شيبة (1/403) , والبيهقي (3/25) .
    وعن سعيد بن جبير قال: (قرأت القرآن في ركعة في الكعبة)
    أخرجه عبد الرزاق (3/354) , وابن أبي شيبة (2/386) , وابن سعد في "الطبقات" (6/259) , وأبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (182) , وعبد الله بن أحمد في زوائده على "الزهد" ص (614) , وأبو نعيم في "الحلية" (4/273) , وغيرهم.
    وعن علقمة بن قيس (أنه قرأ القرآن في ليلة بمكة).
    أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (182) , وابن أبي شيبة (2/386) , وغيرهما.
    وعن مجاهد قال: (كان علي الأزدي يختم القرآن في رمضان في كل ليلة)
    أخرجه ابن أبي شيبة (2/386) , وابن أبي الدنيا في "التهجد" (429)
    وكل هذه أسانيد صحيحة, وهذا نزر يسير مما لم يذكر, فمن المعلوم أن ديدن القوم صلاة الليل وكثرة ختم القرآن, وليس كل من صلى ذكر خبره.
    فلم يخطر ببال أحدهم أن يقيد نفسه في القراءة بقوانين شاقة وقيود صارمة تصرفه عن تدبر القرآن والإبحار في عجائبه وأسراره ووعده ووعيده.
    قال الترمذي في "سننه" (5/197) : "وروي عن عثمان بن عفان أنه كان يقرأ القرآن في ركعة يوتر بها, وروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ القرآن في ركعة في الكعبة, والترتيل في القراءة أحب إلى أهل العلم".
    وقال السخاوي في "جمال القرأء" ص (531) : "واعلم بأن القرآن العزيز يقرأ للتعلم فالواجب التقليل والتكرير, ويقرأ للتدبر فالواجب الترتيل والتوقف، ويقرأ لتحصيل الأجر بكثرة القراءة فله أن يقرأ ما استطاع ولا يؤنب إذا أراد الإسراع.
    وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خفف الله على داود عليه السلام القراءة, فكان يأمر بدابته تسرج فيقرأ كتابه من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه) أخرجه البخاري (3235)
    وكان عثمان رضي الله عنه يقرأ القرآن في ركعة يوتر بها"اهـ
    وقال النووي في "الأذكار" ص (182) : "وأما الذين ختموا القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم".
    وذكر في "التبيان" ص (70) أن كثيرين من السلف كانوا يختمون في كل ثلاث, وعن بعضهم في كل ليلتين, وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة, ومنهم من كان يختم في كل يوم وليلة ختمتين, ومنهم من كان يختم ثلاثاً.
    وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة, فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منه ختمة وفي كل يوم ختمة, فكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة, كما في "تاريخ بغداد" (2/63)
    فائدة:
    من بركات ما ورد عن هؤلاء السلف الكرام من قراءة القرآن في التهجد بالهذ والحدر أن المصلي قد يستثقل أن يصلي ركعتين ببضع آيات, فإذا جرب أن يقتدي بأولئك خف عليه ما كان يستثقله, فقد يصلي ركعتين بسورة طه أو الأنبياء أو النور أو الحج أو غيرها دون استثقال ومن غير ملل مع حضور القلب والتدبر, وهذا يدل على أن تقييد القراءة بالقوانين الدقيقة في النطق والأداء من أعظم ما يعوق المسلم عن هذا الأمر العظيم, وهو التدبر الذي ما أنزل القرآن إلا لأجله (كتاب أنزلناه إليه مبارك ليدبروا آياته)

    الدليل الثاني عشر:
    أن العلماء ردوا التكبير للبزي وأنكروه, وهو التكبير بعد الفراغ من قراءة سورة (الضحى) وما بعدها إلى آخر القرآن, وهو مذكور في كتب القراءات, وهو داخل في أداء القراءة يقيناً, إذ كيف يقبل من البزي روايته عن ابن كثير في سائر القرآن ولا يقبل في التكبير.
    وإنكار أهل العلم للتكبير من الأدلة الجلية على أن الأداء وما يتعلق به مرده إلى الاجتهاد, لا إلى الإسناد.
    وهذا الأمر الذي أنكره أهل العلم ذكر بعضهم أنه اشتهر عن أهل مكة حتى بلغ حد التواتر.
    قال أحمد البنا المتوفى سنة (1117) هـ في كتابه "اتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر" (2/641) : وأعلم أن التكبير صح عن أهل مكة قرائهم وعلمائهم وأئمتهم ومن روى عنهم, صحة استفاضت وذاعت وانتشرت حتى بلغت حد التواتر, قاله الحافظ الشمس ابن الجزري رحمه الله تعالى...
    وقد أخذ بعضهم بالتكبير لجميع القراء, وهو الذي عليه العمل عند أهل الأمصار في سائر الأقطار, وكان بعضهم يأخذ به في جميع سور القرآن ذكره الحافظ أبو العلاء والهذلي عن الخزاعي.
    قال الهذلي: وعند الدينوري كذلك يكبر من أول كل سورة لا يختص بالضحى وغيرها للجمع, وإليه أشار في طيبة النشر بقوله: وروي عن كلهم أول كل يستوي, والحاصل أن الآخذين به لجميع القراء منهم من أخذ به في جميع سور القرآن, ومنهم من أخذ به خاتمة والضحى وهو ما تقدم"اهـ وانظر: "النشر" لابن الجزري (2/410)
    قال الشاطبي في "حرز الأماني":
    وفيه عن المكين تكبيرهم مع الخواتم قرب الختم يروى مسلسلا
    إذا كبروا في آخر الناس أردفوا مع الحمد حتى المفلحون توسلا
    وقال به البزي من آخر الضحى وبعض له من آخر الليل وصلا
    والحقيقة أن التكبير بعد الضحى أو غيرها لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم.
    قال ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (13/419) : "ولو قدر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتكبير لبعض من أقرأه كان غاية ذلك يدل على جوازه أو استحبابه، فإنه لو كان واجباً لما أهمله جمهور القراء"اهـ
    قلت: ولو كان سنة أيضاً لما أهمله جمهور القراء, فالأمر ظاهر كالشمس.
    وقال رحمه الله (13/417) : "من الممتنع أن تكون قراءة الجمهور التي نقلها أكثر من قراءة ابن كثير قد أضاعوا فيها ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن أهل التواتر لا يجوز عليهم كتمان ما تتوفر الهمم والدواعي إلى نقله".
    وقال رحمه الله (17/130) : والتكبير المأثور عن ابن كثير ليس هو مسنداً عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يسنده أحد إلى النبي إلا البزي, وخالف بذلك سائر من نقله, فإنهم إنما نقلوه اختياراً ممن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم, وانفرد هو برفعه, وضعفه نقلة أهل العلم بالحديث والرجال من علماء القراءة وعلماء الحديث كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء, فالمقصود أن من السنة في القرآن أن يقرأ كما في المصاحف"اهـ
    وقد ذكر الذهبي رحمه الله في "الميزان" (1/145) حديث البزي في التكبير, وقال: هذا حديث غريب، وهو مما أنكر على البزي, قال أبو حاتم: هذا حديث منكر.
    وقال أيضاً في "السير" (12/51) : وصحح له الحاكم حديث التكبير، وهو منكر.
    وقال في " تاريخ الإسلام " (18/145) : "وقد تفرد بحديث مسلسل في التكبير من (والضحى)، وهو حديث منكر".
    وقال في "معرفة القراء الكبار" (1/ 309) في ترجمة عكرمة بن سليمان: "هو شيخ مستور الحال فيه جهالة, وقد تفرد عنه البزي بحديث مرفوع في التكبير من والضحى, وهو خبر منكر, والبزي غير حجة في الحديث.
    وقد تفرد الحسن بن الحباب عن البزي بزيادة (لا إله إلا الله) مع التكبير كما قال الذهبي في معرفة القراء الكبار" (1/455)
    وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه "الأجزاء الحديثية" ص (234) : "وأما وقت الختم: بمعنى ختمه في مساء الشتاء وصباح الصيف, ووصل ختمة بأخرى بقراءة الفاتحة وخمس آيات من سورة البقرة قبل الشروع في دعاء الختم, وتكرار سورة الإخلاص ثلاثاً, والتكبير في آخر سورة الضحى إلى سورة الناس داخل الصلاة أو خارجها, وصيام يوم الختم.
    فهذه الأبحاث الستة لا يصح فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا عن صحابته رضي الله عنهم, وعامة ما يروى فيها مما لا تقوم به الحجة.
    وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تكلم شديداً في التكبير المذكور, وأنه لم يرد إلا في رواية البزي عن ابن كثير".
    وذكر في "بدع القراء" ص (27) سبعة أمور تتعلق بالختم.
    وذكر منها التكبير في آخر سورة الضحى إلى آخر سورة الناس داخل الصلاة أو خارجها.
    ثم قال: "فهذه الأمور السبعة، لا يصح فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته رضي الله عنهم، وعامة ما يروى في بعضها مما لا تقوم به الحجة فالصحيح عدم شرعية شيء منها"اهـ
    وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (14/1130) : "والبزي هو أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، قال في "المغني": "مقرئ مكة، ثقة في القراءة، وأما في الحديث فقال أبو جعفر العقيلي: منكر الحديث، يوصل الأحاديث.
    ثم ساق له حديثاً متنه (الديك الأبيض الأفرق حبيبي، وحبيب حبيبي).
    وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، سمعت منه ولا أحدث عنه.
    وقال ابن أبي حاتم: روى حديثا منكراً.
    ومما أنكر عليه ما يفعله بعض القراء عند ختم القرآن إذا بلغوا {والضحى} من التكبير عند خاتمة كل سورة"اهـ
    وهذا التكبير حكم عليه عطاء رضي الله عنه بأنه بدعة, وقد تركه أهل مكة زماناً ثم عادوا إليه.
    قال الفاكهي في "أخبار مكة" (3/36) : حدثنا أبو عمرو الزيات سعيد بن عثمان مولى ابن بحر المكي قال: حدثنا ابن خنيس قال: حدثنا وهيب بن الورد قال: قيل لعطاء: إن حميد بن قيس يختم في المسجد، فقال عطاء: لو علمت اليوم الذي يختم فيه لأتيته حتى أحضر الختمة, قال وهيب: فذكرت لحميد قول عطاء، فقال: أنا آتيه حتى أختم عنده قال: فذكرت ذلك لعطاء فقال عطاء: لا ها الله إذاً نحن أحق أن نمشي إلى القرآن, قال: فأتاه عطاء فحضره، فجعل حميد يقرأ حتى بلغ آخر القرآن يكبر كلما ختم سورة كبر حتى ختم، فقال لي عطاء: ما كان القوم يفعلون هذا.
    قال الفاكهي: "حدثني أبو يحيى بن أبي مسرة، عن ابن خنيس قال: سمعت وهيب بن الورد، يقول: فذكر نحوه وزاد فيه: فلما بلغ حميد {والضحى} كبر كلما ختم سورة، فقال لي عطاء: إن هذا لبدعة.
    وقال ابن أبي عمر: أدركت الناس بمكة على هذا كلما بلغوا {والضحى} كبروا حتى يختموا، ثم تركوا ذلك زماناً ثم عاودوه منذ قريب، ثم تركوه إلى اليوم".

    الدليل الثالث عشر:
    قول جابر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن)
    أخرجه البخاري (1109)
    وقول ابن عباس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن)
    أخرجه مسلم (403)
    وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذا الدعاء كما يعلمنا السورة من القرآن: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم, وأعوذ بك من عذاب القبر, وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال, وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات).
    أخرجه ابن ماجه (3840)
    وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم السورة من القرآن باهتمام في تصحيح الألفاظ وحفظها لا في التدقيق بطريقة الأداء, وذلك أن التشهد والدعاء والاستخارة لا يطلب من المسلم أن يؤديه بأداء تجويدي معين بل المراد حفظه كاملاً وعدم سقوط شيء منه, مع صحة ترتيب الألفاظ وصحة نطقها.
    قال ابن أبي جمرة كما في "الفتح" (11/184) : "التشبيه في تحفظ حروفه وترتب كلماته, ومنع الزيادة والنقص منه, والدرس له والمحافظة عليه"اهـ
    وقال أبو إسحاق عن الأسود: رأيت علقمة يتعلم التشهد من عبد الله كما يتعلم السورة من القرآن.
    وقال إبراهيم عن الأسود: كان عبد الله يعلمنا التشهد في الصلاة كما يعلمنا السورة من القران، يأخذ علينا الألف والواو . انظر: "الفتح" لابن رجب (5/179)
    ولذلك في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه حين علمه النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء الذي يقال عند النوم قال البراء: (فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم, فلما بلغت "اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت" قلت: ورسولك قال: لا ونبيك الذي أرسلت).
    أخرجه البخاري (244)
    فكان يعلمهم القرآن إذاً باهتمام حتى يحفظ كما نزل لا تبدل كلمة بكلمة ولا حرف بحرف ولا يسقط منه شيء, بل يحفظ كما نزل.

    الدليل الرابع عشر:
    أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن القارئ إنما يطالب بالترتيل والتغني, وليس لذلك قيود أو حد محدود.
    ومن هذه الأحاديث:
    أولاً:
    حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زينوا القرآن بأصواتكم) أخرجه أحمد (30/451), وأبو داود (2/74) (1468), والنسائي (2/179) (1015), وابن ماجه (1/426) (1342), وغيرهم وإسناده صحيح.
    وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)
    أخرجه أحمد (3/75), وأبو داود (2/74) (1470), وعبد الرزاق (2/483) (4171), والحميدي (76)، وابن أبي شيبة (7/154), وغيرهم, وهو صحيح أيضاً.
    ولم يتعد ذلك وترك طريقة التغني لكل قارئ.
    ثانياً:
    حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة, لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) أخرجه مسلم (793) .
    وفي رواية قال أبو موسى رضي الله عنه: (لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحبرتها لك تحبيراً). أخرجه البزار (3160) , وابن حبان (7197) , وغيرهما.
    وإسناده جيد.
    فهذا يدل على أن أبا موسى كان يقرأ بصوته الجميل قراءة عادية طبيعية بطريقة الحدر, أي: السرعة مع وضوح القراءة وفهم المعنى, ولو كان أبو موسى يقرأ بالتجويد والتدقيق لما كان لقوله: (لحبرته لك تحبيراً) فائدة ولا زيادة معنى, إلا لو كان سيتكلف ما ليس من طبعه, وهو أمر مذموم لا يمكن أن يفعله أبو موسى رضي الله عنه.
    فالنبي صلى الله عليه وسلم أثنى على قراءة أبي موسى مع أنه لم يحبر القراءة, فهذا يدل على أن أمر القراءة سهل وميسور, ومع أنه امتدح قراءة أبي موسى إلا أنه قال أيضاً: (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد). يعني عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
    فهذا يدل على تفاوت الصحابة رضي الله عنهم في أداء القرآن.
    ثالثاً:
    حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد).
    أخرجه أحمد (1/211) , وابن ماجه (1/49) (138) , وابن حبان (7066) , وغيرهم, وهو حديث صحيح.
    والغض: الطري الذي لم يتغير, كما في "النهاية" (3/371)
    فالنبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه غاية في أداء القراءة وأنه يقرأ القرآن كما نزل, وعلم بذلك أن كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم ليسوا كذلك وليسوا في المرتبة كعبد لله بن مسعود, والمراد طريقة القراءة وصفة أدائها, فبطل بذلك دعوى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتلقون القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم فيؤدونه كما يؤديه دون تفاوت بينهم في طريقة الأداء.
    ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر الناس على أخذ القراءة من عبد الله بن مسعود دون سواه, وغيره دونه في الأداء قطعاً, بل إنه قال كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: (استقرؤوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود, وسالم مولى أبي حذيفة, وأبي ابن كعب, ومعاذ بن جبل) متفق عليه. البخاري (3548) , ومسلم (2464)
    وكان المقرئون من أصحاب النبي كثر غير هؤلاء.
    ثم تأمل في قوله: (من أحب...) فإن فيه دليلاً على نفي الحرج, وأن الأمر فيه سعة وتيسير, فمن أحب ذلك فعل, وإلا فالخيارات كثيرة.
    رابعاً :
    حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة, والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) متفق عليه. البخاري (4653) , ومسلم (798)
    ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الذين يقرؤون القرآن على قسمين:
    الأول: ماهر بالقرآن.
    والثاني: غير مجيد للقراءة بل متتعتع فيها وهي شاقة عليه, لا يقرؤها بيسر وسهولة, فهذا له أجران, أجر على القراءة وأجر على المشقة, ففي الحديث إشارة إلى أن من لم يكن كذلك فهو من القسم الأول وهو الماهر بالقرآن, فشرط المهارة إذاً عدم اللحن, وعدم التتعتع, وعدم المشقة في القراءة بسبب عدم معرفة القراءة.
    خامساً :
    حديث بريدة رضي الله عنه وفي آخره (ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذاً كان أو ترتيلاً).
    أخرجه أحمد (38/41), وابن أبي شيبة (7/170), والدارمي (4/2135), وغيرهم.
    وفي إسناده ضعف, وقد حسنه ابن كثير في "تفسيره".
    فقراءة القرآن صعود في الجنة سواء قرأ هذاً, أو ترتيلاً وتجويداً.

    الدليل الخامس عشر:
    أن القرآن أنزل على سبعة أحرف, أي: أذن وسمح للناس أن يقرؤوه على وجوه كثيرة متنوعة, وليس لذلك إلا غرض واحد, وهو التخفيف على الأمة, ومن المعلوم المتيقن أن المشقة في الالتزام بلهجة واحدة أهون بكثير من الالتزام بأداء واحد, فكيف يؤذن للناس أن يقرؤوا القرآن بلهجات مختلفة, ويقيدون بأنواع من الأداء محددة هي التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    هذا لا يمكن أن يكون, بل إن التقييد بصفات محددة من الأداء متعذر غاية التعذر, فقد خلق الله البشر مختلفين, لا يتأتى مع ذلك الاختلاف أن يتطابقوا في طريقة قراءتهم وأدائهم, وتأكيداً لذلك رويت الطرق الكثيرة والاختلافات والأوجه المتفاوتة.
    بهذه الأدلة الكثيرة الجلية ينبغي أن تتضح المسألة وينجلي عنها كل غموض وإشكال وتردد.
    يقول الأستاذ الدكتور محمد حسن حسن جبل أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر رحمه الله في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات القرآنية" ص (87) : "القرآن نزل بالأداء القرشي الممثل للعربية الأدبية العامة, الخالي من الملامح اللهجية الخاصة, لكن وصْف الله تعالى كتابه بأنه (عربي) إحدى عشرة مرة دون تخصيص في أي منها يؤخذ منه أن كل أداء من قبيلة عربية بلهجتها هو أداء عربي... وكل أداء فيه معلم لهجي: إمالة أو تسهيل همز بأي صورة أو إدغام جائز أو ضبط قبلي لعين المضارع إلخ فهو أداء للقرآن أي: قراءة له حسب مذهب إمام معين تلقاه بهذا الأداء اللهجي عن تابعي أو صحابي كانت لهجته كذلك... واللهجات العربية كثيرة كثرة بالغة, ومحال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن بكل ذلك... ومن ثم فإن الأداء اللهجي ينسب لقارئيه ويتأتى أن ينقد, والنقد هنا موجه للأداء, وذلك في حين أن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين, وهو منزه عن النقد, لأنه منزه عن أن يكون نزل بلهجة ضعيفة صوتياً أو صرفياً أو نحوياً.
    كما أن سيدنا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعرب الخلق وأفصح الخلق منزه عن أن يكون قرأ القرآن بأية لهجة ضعيفة صوتياً أو صرفياً أو نحوياً"اهـ
    وقد روي حديث موضوع مختلق له علاقة بمسألتنا هذه أذكره للتحذير منه, وحتى لا يغتر به من لا يفرق بين الحقائق والأكاذيب.
    قال السخاوي في "جمال القراء" ص (509) : حدثني أبو البركات البغدادي، حدثني أبو الكرم المبارك بن الحسن، أنبأنا أبو بكر محمد بن علي الخياط المقرئ، حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد الحمامي قراءة عليه، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن بشر المروروذي، حدثنا أبو بكر محمد بن سليمان الزينبي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن قنبل، حدثنا وهب بن واضح، سمعت إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين يقول: قلت لعبد الله بن كثير: عمن أخذت الميمات؟
    فقال، سألت مجاهداً كما سألتني فقال: سألت عبد الله بن عباس كما سألتني فقال: سألت أبي بن كعب كما سألتني فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: سألت جبريل كما سألتني فقال: هكذا وجدته في اللوح المحفوظ عن القلم عن رب العالمين).
    قلت: أخزى الله واضع هذه الرواية المختلقة, فالكذب منها يفوح.
    قال السخاوي: ولا يصح أن يقول أُبيّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمن أخذت الميمات؟ ولا أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل مثل ذلك.

    وفي آخر هذا الفصل أود أن أقف وقفة مختصرة مع الدكتور مساعد الطيار وفقه الله.
    حيث يقول في كتابه "مقالات في علوم القرآن" (1/111) : يمكن أن يقال: إن التجويد إنما هو وصف للقراءة النبوية التي ورد ضبطها وحفظها من طريق أئمة القراءة, كنافع وعاصم والكسائي وغيرهم.
    وهؤلاء الكرام قد نقلوا حروف القرآن وكيفية نطق هذه الحروف (أي: التجويد)، وهما أمران متلازمان لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، فمن قبل عنهم نقل الحروف لزمه أن يقبل عنهم نقل الأداء"اهـ
    أقول في الجواب عن هذا: كل الأدلة التي ذكرتها تجيب عن ذلك وتدل على عدم وجود أي تلازم بين هذا وذاك.
    وقوله: "فمن قبل عنهم نقل الحروف لزمه أن يقبل عنهم نقل الأداء" هو تماماً كقول القائل: من قبل من المحدثين نقل الحديث الصحيح لزمه أن يقول بأنهم نقلوا الحديث بالألفاظ التي نطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم نفسها, ولم ينقلوها بالمعنى.
    وكل من كان عنده علم بالحديث يعلم أن الأمر ليس كذلك, وأن كثيراً من الأحاديث لم تنقل بالألفاظ التي نطق بها الرسول عينها, بل تصرف الرواة في الألفاظ مع عدم الإخلال بالمعنى, وهذا ما يفسر كثرة اختلاف الروايات المختلفة في الأحاديث النبوية.

    وأخيراً أسأل الله لي ولكم أيها الأخوة الكرام أن يوفقنا للصواب في المسائل والآراء المختلفة, وأن يهدينا صراطه المستقيم, وأن يجعلنا مع الذي أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
    والله تعالى أعلم.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    أخوكم ومحبكم صالح بن سليمان الراجحي
    Alrajhi.sr@gmail.com

    الملخص
    الدليل الأول:
    عدم الدليل البتة على أن صفة الأداء قد تلقيت بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فلا يوجد أي دليل على ذلك سوى الدعوى.
    فلم يذكر ذلك أي من القراء السبعة أو رواتهم أو غيرهم من القراء والأئمة المتقدمين.
    والقول بأن مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة) كل ما يتعلق بصفات الأداء هو قول لا أصل له من كلام العلماء القدماء والقراء الأولين, ولا دليل عليه من كلام أي من السلف الأولين رحمة الله عليهم أجمعين.

    الدليل الثاني:
    نصوص وأقوال كثيرة صادرة عن القراء يفهم منها بوضوح أن الاختلاف بين القراء السبعة وغيرهم في طريقة الأداء إنما هو صادر عن الاجتهاد والاختيار من لغات العرب, والتأثر بطبيعة الأداء بحروف القبائل العربية ونحو ذلك.
    وذكرت من ذلك شيئاً كثيراً ومن ذلك:
    قول ابن مجاهد وقد سئل عن وقف حمزة على الساكن قبل الهمزة، وإفراطه في المد إلى غير ذلك: كان حمزة يأخذ بذلك على المتعلم، ومراده أن يصل إلى ما نحن عليه من إعطاء الحروف حقوقها.
    وقول أبي عمرو الداني بعد أن ذكر مراتب القراء في طول المد: "وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف وتخليص السواكن، وتحقيق القراءة وحدرها، وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافاً يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة".

    الدليل الثالث:
    انفراد بعض القراء أو بعض رواتهم بأنواع من الأداء لا يشاركهم أحد.
    وهذا من أوضح الأدلة فلا يمكن أن ينفرد أحد القراء بشيء من الأداء وهو متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولماذا يزهد جميع القراء بهذا الأداء إلا فرداً واحداً من القراء, إنها مفخرة وأي مفخرة أن يقرأ القارئ بأداء مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلماذا يا ترى يُجمِعون على الإعراض عنه سوى قارئ واحد من بين القراء العشرة.
    وقد ذكرت نماذج وأمثلة كثيرة على انفراد بعض القراء بأنواع من الأداء, فكيف ينفرد قارئ واحد دون عشرة قراء أو عشرين بأداء لا يشاركه فيه أحد, أتواصوا بذلك فقرأ كل راو بما وكل إليه من هذا الانفراد, أم اتفقوا صدفة على هجران أداء مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    إن هذا من أجلى البراهين لم تأمله باحثاً عن الحق والصواب.

    الدليل الرابع:
    كثرة الاختلاف والروايات والطرق والأوجه بلا حد ولا عد.
    فإن الطرق التي نقلت بها الأوجه والاختلافات عدد كبير هائل, فكم سيكون بين تلك الطرق من الاختلافات في طريقة الأداء.
    فإن من المعلوم أن القراء المشهورين عشرة, ولكل قارئ راويان, ولكل راو طريقان, ولكل طريق طريقان أيضاً, فالمجموع ثمانون طريقاً.
    مع أن القراء غير العشرة لا يحصون كثرة, والآخذين عن كل قارئ كذلك, بل أكثر وأكثر وهكذا, ولكن لم تحفظ كثير من قراءات أولئك, بل حدد قراءة اثنين عن كل قارئ, وهكذا.
    وهذا المدون نزر من بحر كما ذكر العلماء.

    الدليل الخامس:
    أن منشأ الاختلاف في القراءات القرآنية الإذن العام بأن يقرأ كل إنسان بلهجته, والاختلاف في الأداء كذلك.
    وإذا كان الأمر كذلك فالاختلاف في الأداء بين القراء إنما هو ناشئ أيضاً عن اختلاف أولئك الذين أذن لهم أن يقرأ كل منهم حسب طريقته ولهجته, فالأمر بين واضح, يدل على أن كثيراً من طرائق الأداء إنما هي منقولة عن أولئك الذين اختلفت لهجاتهم ولغاتهم وطرائقهم بالكلام, وقد رخص لهم أن يقرأ كل منهم وفق لهجته وما تعود عليه, فالقول بأن تفاصيل ذلك كله منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قول لا دليل عليه إلا العاطفة والحماس والتقليد والله المستعان.
    وقد ذكرت هذه المسألة الخطيرة في موضوع مستقل بعنوان "هل القراءات القرآنية كلها نزل بها جبريل", وبينت الأدلة الكثيرة على هذا الأمر, ونقلت كلام أهل العلم من السابقين والمعاصرين, وذكرت المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وقوله لكل واحد من المختلفين في القراءة: (هكذا أنزلت).

    الدليل السادس:
    أن القراء وعلماء القراءات والمؤلفين في القراءات يستعملون القواعد والتعليلات والقياس كثيراً في أنواع كثيرة من الأداء.
    وقد ذكرت عشرات الأمثلة, ومن ذلك:
    قول مكي في ذكر علة تشديد التاء للبزي: "وعلته في ذلك أنه حاول الأصل, لأن الأصل في جميعها تاءان, فلم يحسن له أن يظهرهما فيخالف الخط في جميعها, إذ ليس في الخط إلا تاء واحدة, فلما حاول الأصل وامتنع عليه الإظهار أدغم إحدى التاءين في الأخرى, وحسن له ذلك وجاز اتصال المدغم بما قبله, فإن ابتدأ بالتاء لم يزد شيئاً".
    وقول ابن الجزري في الإدغام الكبير لأبي عمرو: ووجهه طلب التخفيف, قال أبو عمرو بن العلاء: الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها ولا يحسنون غيره.
    الدليل السابع:
    كراهية بعض الأئمة والعلماء لأنواع من الأداء عند بعض القراء.
    فقد تواتر واشتهر إنكار كثير من أئمة الإسلام لأنواع من الأداء عند الإمام حمزة, أو الكسائي.
    وهذا يدل بكل وضوح على أن أولئك الأئمة ما كان يخطر ببال أحد منهم أن طريقة الأداء والتلاوة متلقاة بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم, إنما هي اختيار واجتهاد وتغني, كما سبق توضيحه.
    وحاشا هؤلاء الأئمة الكبار والأعلام الأطهار أن يتنكروا لشيء منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويذموه ويتبرؤوا منه, وفي ذلك أوضح الدلالة على أن كثيراً من صفة أداء التلاوة إنما هو اجتهاد واختيار وترتيل من القراء عليهم رحمة الله, ولا يلزم أن يكون مأثوراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    الدليل الثامن:
    كثرة الاختلاف عن القراء أو عن رواتهم.
    فلا يكاد يوجد نوع أداء عن قارئ أو راو إلا ويختلف عنه الآخذون عنه, ويكفي لتتأكد من ذلك أن تتصفح كتاب "النشر" لابن الجزري, لترى بنفسك كثرة هذا الاختلاف, مما يؤكد ما نحن بصدده من أن جميع صفات الأداء ليست منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما هي من اختلاف القراء أنفسهم ومن رووا عنهم.
    وقد ذكرت في البحث نماذج كثيرة على ذلك.

    الدليل التاسع:
    ظهور ما يسمى بعلم التحريرات, وهو الذي فتح أنواعاً لا تنتهي من الاختلافات بين القراء وأتباعهم في الأداء, واعتراض بعض الباحثين والقراء على ذلك, مما يدل على أن الاختلاف بين القراء في الأداء مصدره الاجتهاد والاختيار وليس الإسناد.

    الدليل العاشر:
    نصوص من كلام القراء وغيرهم فيها دلالة واضحة على عدم وجود قواعد محددة للمدود أو غيرها من أنواع الأداء.
    لأنه لا تتوفر الدواعي إلى نقل جميع صفات الحروف ومخارجها في الكلام, ولا يمكن ذلك, إذ هي صفات للفظ لا يضبطها السماع عادة, وتقبل الزيادة والنقصان, وتختلف اللهجات في النطق بها, بخلاف نقل جوهر الحرف وأصله, ومما يؤكد ذلك أن أهل التجويد قد اختلفوا في صفات الحروف ومخارجها اختلافاً ظاهراً.
    ووضحت ذلك بذكر بعض الأمثلة.
    كقول مكي بن أبي طالب: "(فصل في أن المد لا يحصر وأن تقديره بالألفات للتقريب على المبتدئين)
    والتقدير عندنا للمد بالألفات إنما هو تقريب على المبتدئين وليس على الحقيقة...

    الدليل الحادي عشر:
    ما ورد عن بعض السلف رحمهم الله من هذ القرآن, والسرعة في قراءته, وليس هو ديدنهم وعادتهم, ولكنهم كانوا يفعلون ذلك أحياناً, وإنما يدل هذا على أنه من المتقرر عندهم أن أداء التلاوة اجتهاد مبني على السعة والتسهيل.
    وقد ذكرت من ورد عنه السرعة في القراءة من السلف.
    ولا يخطر ببال أحدهم أن يقيد نفسه في القراءة بقوانين شاقة وقيود صارمة تصرفه عن تدبر القرآن والإبحار في عجائبه وأسراره ووعده ووعيده.
    قال النووي: "وأما الذين ختموا القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم".

    الدليل الثاني عشر:
    أن العلماء ردوا التكبير للبزي وأنكروه, وهو التكبير بعد الفراغ من قراءة سورة (الضحى) وما بعدها إلى آخر القرآن, وهو مذكور في كتب القراءات, وهو داخل في أداء القراءة يقيناً, إذ كيف يقبل من البزي روايته عن ابن كثير في سائر القرآن ولا يقبل في التكبير.
    وإنكار أهل العلم للتكبير من الأدلة الجلية على أن الأداء وما يتعلق به مرده إلى الاجتهاد, لا إلى الإسناد.

    الدليل الثالث عشر:
    قول جابر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن)
    وقول ابن عباس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن)
    وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم السورة من القرآن باهتمام في تصحيح الألفاظ وحفظها لا في التدقيق بطريقة الأداء, وذلك أن التشهد والدعاء والاستخارة لا يطلب من المسلم أن يؤديه بأداء تجويدي معين بل المراد حفظه كاملاً وعدم سقوط شيء منه, مع صحة ترتيب الألفاظ وصحة نطقها.

    الدليل الرابع عشر:
    أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن القارئ إنما يطالب بالترتيل والتغني, وليس لذلك قيود أو حد محدود, وقد ذكرت عددا كبيراً من تلك الأحاديث.

    الدليل الخامس عشر:
    أن القرآن أنزل على سبعة أحرف, أي: أذن وسمح للناس أن يقرؤوه على وجوه كثيرة متنوعة, وليس لذلك إلا غرض واحد, وهو التخفيف على الأمة, ومن المعلوم المتيقن أن المشقة في الالتزام بلهجة واحدة أهون بكثير من الالتزام بأداء واحد, فكيف يؤذن للناس أن يقرؤوا القرآن بلهجات مختلفة, ويقيدون بأنواع من الأداء محددة هي التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2015
    المشاركات
    38

    افتراضي رد: اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (بحث في الأدلة والقرائن)

    هذا وجدته من قول الطاهر بن عاشور في مقدمة تفسيره.
    وهو مؤيد لما ورد في هذا البحث من أن جميع صفات الأداء إنما هو ناشئ عن اختلاف القراء في اختيارهم, واختلاف لهجاتهم واختلاف لهجات القبائل العربية, وليس أصله التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    والبحث في نقول وأدلة كثيرة جداً ولكن أردت أن ينضم قول الطاهر بن عاشور إلى تلك الأقوال والنقول.

    فيضاف إلى الدليل الثاني:
    والذي هو بعنوان "نصوص وأقوال كثيرة صادرة عن القراء يفهم منها بوضوح أن الاختلاف بين القراء السبعة وغيرهم في طريقة الأداء إنما هو صادر عن الاجتهاد والاختيار من لغات العرب".

    قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره (1/50) :
    "فأئمة العربية لما قرؤوا القرآن قرؤوه بلهجات العرب الذين كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف, وكان في هذه الأمصار قراؤها من الصحابة قبل ورود مصحف عثمان إليهم, فقرأ كل فريق بعربية قومه في وجوه الأداء، لا في زيادة الحروف ونقصها، ولا في اختلاف الإعراب دون مخالفته مصحف عثمان، ويحتمل أن يكون القارئ الواحد قد قرأ بوجهين ليرى صحتهما في العربية قصداً لحفظ اللغة مع حفظ القرآن الذي أنزل بها، ولذلك يجوز أن يكون كثير من اختلاف القراء في هذه الناحية اختياراً، وعليه يحمل ما يقع في كتابي الزمخشري وابن العربي من نقد بعض طرق القراء، على أن في بعض نقدهم نظراً، وقد كره مالك رحمه الله القراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء، فدلت كراهته على أنه يرى أن القارئ بها ما قرأ إلا بمجرد الاختيار.
    وفي تفسير القرطبي في سورة الشعراء عن أبي إسحاق الزجاج، يجوز أن يقرأ "طسين ميم" بفتح النون من "طسين" وضم الميم الأخيرة كما يقال هذا معد يكرب اه مع أنه لم يقرأ به أحد. قلت: ولا ضير في ذلك ما دامت كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ما كتب في المصحف الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" انتهى.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •