الأوقات في الموروث اللغوي العربي
خلف أبو زيد
كاتب متخصص في التراث
الوقت في اللغة مقدار من الزمان، يفرض فيه أمر، والجمع أوقات. وقته فهو موقوت، إذا بين له وقتا، قال تعالى: {كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء:103)، أي مفروضا في الأوقات. والتوقيت تحديد الأوقات. والوقت المعلوم يوم البعث، قال تعالى: {قال فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (الحجر:37-38).
ولو تأملنا تراثنا اللغوي، فسنجده ممتلئا بالمفردات والألفاظ التي حددت الوقت والأوقات تحديدا دقيقا متناغما مع أجزاء اليوم، بداية من بزوغ الفجر إلى آخر لحظات الليل، الأمر الذي يؤكد على ثراء لغتنا العربية، وتفردها بين اللغات الأخرى، وهذا ما سوف نتعرف عليه عبر هذه السطور.
الفجر والساعات الأولى من اليوم
بداية، يقسم اليوم إلى قسمين، هما: الليل والنهار، يتساويان في مقدار الوقت تارة، ويختلفان أخرى، تبعا لمنازل الشمس في الفلك. وكل قسم منهما ينقسم إلى عدة أجزاء، وهذه الأجزاء لها مسميات عديدة ومتباينة، نظرا لاتساع استعمال العرب للمفردة، ونبدأ بالوقت الممتد من الفجر إلى الظهيرة، لنرى المسميات التي أطلقها العرب، بداية بكلمة الفجر، التي تعني في اللغة: الصباح المتمثل بحمرة الشمس في سواد الليل. والعرب يقولون للرجل الذي يطلع عليه الفجر «مفجر»، وللذي تطلع عليه الشمس مشرق. وقد أقسم الخالق عزوجل بالفجر في محكم كتابه الكريم: { وَالْفَجْرِ { 1 } وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (الفجر:1-2)؛ ليلفت النظر إلى بديع آياته وكمال قدرته. ومن الأسماء التي تطلق على وقت الفجر «الفلق». والفلق، هو: شق الشيء وفصله إلى شقين. والفلق: الصبح، لأن الظلام ينفلق منه. ويرتبط الفجر بالبكور، وهو أول النهار، ويبدو أن هذا الاسم قد جاء من حب العرب لبكور الأشياء فجعلهم يجرونه على الوقت الذي يأتي مع أول الضياء متصلا بما قبله من الليل، وفي ذلك يقول زهير بن أبي سلمى:
بكرن بكورا واستحرن بسحرة
فهن لوادي الرس كاليد للفم

ومن أوقات البكور عند العرب «الغدو»، وهو أول النهار. وأيضا «الصبح»، حين يقول العرب أصبح فلان، أي دخل في الصباح. وكيف أصبحت، ويعنون الوقت من منتصف الليل إلى آخر نصف النهار، قال تعالى: { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } (هود:81). ومن ساعات اليوم الأولى وقت الضحى، الذي عرف بأسماء عديدة، هي: الضحوة، والضحو، والضحية. ويقصد بهذه الأسماء ارتفاع النهار. والأصل في الضحى البروز والظهور، والعرب يقولون سرنا في غزالة الضحى، أي أوله. وفي راد الضحى، أي في ارتفاعه. وفي ذلك يقول زهير بن أبي سلمى:
وقفت بها راد الضحاء مطيتي
أسائل أعلاما ببيداء فردد
الأديم
وأديم النهار، هو: الوقت الذي يمتد فيه بياضه. وقيل أديم النهار عامته وارتفاعه.
الظهيرة
الظهيرة اسم منتصف النهار الذي تبديه الشمس لنورها وشدة حرها، والشعراء يؤقتون بها الأفعال، قال زهير بن أبي سلمى:
رد القيان جمال الحي فاحتملوا
إلى الظهيرة أمر بينهم لبك

وجاء في قوله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } (الروم:18)، أي تدخلون في الظهيرة، وفيها وقت صلاة الظهر. ومن أسماء الظهيرة عند العرب «الهاجرة». والهاجرة تقترب باشتداد الشمس وحرها، ولذلك يعدون سير الهاجرة أشق أنواع السير، وفي ذلك يقول عمرو بن القميئة:
وهاجرة كأوار الجحيم
قطعت، إذا الجندب الجون قالا
وكلمة الهجر تعني انتصاف النهار، وفي ذلك يقول لبيد:
راح القطين بهجر بعدما ابتكروا
فما تواصله سلمى ولا تذر
وفي الظهيرة القيلولة، التي تعني نومة منتصف النهار. وجاء من القيلولة المقيل، وهو المكان الذي يستريح فيه القائل، قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلً} (الفرقان:24)، {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (الأعراف:4)، أي نائمون بالظهيرة. كما أن القيلولة استراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم، وفي ذلك يقول امرؤ القيس:
فلو أن أهل الدار فيها كعهدنا
وجدت مقيلا عندهم ومعرسا

ومن أسماء القيلولة عند العرب أيضا «الغائرة»، والعرب يقولون أتيته عند الغائرة، أي عند القيلولة. وغور القوم، أي قالوا.
العصر أو العصران
وهو وقت النهار الذي بين القيلولة والأصيل. وأما العصران فهما الليل والنهار، والجمع عصور، ومنه سميت صلاة العصر.
وقت صلاة العصر حين يصبح ظل كل شيء مثله. ويرتبط العصر بالأصيل، وهو الوقت الذي يأتي بعد العصر مباشرة، وينتهي بابتداء الغروب، والعرب يقولون لقيته أصيلا وأصيلالا وأصيلانا، قال النابغة الذبياني:
وقفت فيها أصيلانا أسائلها
عيت جوابا وما بالربع من أحد

ووردت كلمة «أصيل» في القرآن الكريم مقترنة بكلمة بكرة، كما في قوله تعالى: { اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } (الفرقان:5). ووردت اللفظة بصيغة الجمع «آصال» في قوله تعالى: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } (الأعراف:205)، أي أوائل النهار وأواخره. ويدخل أيضا في هذا الجزء من اليوم المساء، والذي قيل إنه يبدأ من الظهر إلى المغرب، وقيل إنه يستمر إلى منتصف الليل. وهو بهذا شركة بين الليل والنهار، وتنتهي هذه الفترة بالرواح، وهو الوقت من لدن زوال الشمس إلى الليل، قال المرقش الأصغر:
أمن رسم دار ماء عينيك يسفح
غدا من مقام أهله وتروحوا

الغروب ودخول الليل

يرتبط الغروب بغياب الشمس من جهة الغرب، والعرب يقولون تغرب الشمس غروبا ومغيربانا، وثمة مغربان: أحدهما هو أقصى ما تنتهي إليه الشمس في فصل الصيف، والآخر أقصى ما تنتهي إليه في الشتاء، وفي ذلك يقول الخالق عزوجل: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } (الرحمن:17). فالغروب مقترن بإدبار النهار وقدوم الليل، الذي يمتد من غروب الشمس إلى طلوعها، وأثناء هذا الوقت نجد العديد من المفردات التي استخدمها العرب، منها «الغسق»، وهو أول ظلمة الليل. وقد غسق الليل، أي أظلم. والغاسق: هو الليل إذا غاب الشفق، قال تعالى: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} (الفلق:3)، بمعنى الليل إذا دخل. ولفظة «الغسق» تدور على معنى الانصباب والسيلان، ومن انصباب الليل على الكون يجيء الظلام، تقول: أغسقت العين، أي دمعت أو نضبت أو أظلمت. وغسق الجرح، أي سال منه ماء أصفر، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } (الإسراء:78). ودلوك الشمس، أي وقت زوالها. وغسق الليل، أي إقبال ظلمته. ومن أسماء الليل «الزلفة»، وهي الطائفة من أول الليل، وجمعها زلف، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} (هود:114). فالزلفة هي الساعات من أول الليل. وقيل المغرب والعشاء. ويدخل أيضا في هذا الجزء «العشي» و«العشية»، والوقت فيهما يكون آخر النهار وأول ظلمة الليل. و«العتمة» وقت صلاة العشاء، وفي ذلك يقول الخليل بن أحمد «العتمة الثلث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق». وكان الأعراب إذا أعتموا، أي إذا دخلوا في وقت العتمة، يريحون أنعامهم بعد الغروب، فإذا أفاقت، وذلك بعد مرور قطعة من الليل، أثاروها وحلبوها، وتلك الساعة تسمى «عتمة». أما نصف الليل فقد أطلق عليه العرب لفظ «الوهن»، وهو بالتحديد نصف الليل، أو بعد مرور ساعة منه، وفي ذلك يقول بشر بن أبي حازم:
ليالي تستبيك بذي غروب
يرف كأنه وهنا مدام

أما آخر الليل فهو وقت السحر، والذي يكون قبيل بزوغ الفجر. وقيل وقت يكون من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر، والجمع أسحار، والعرب يقولون أسحر فلان أو استحر، أي صار في السحر، قال امرؤ القيس:
يعل به برد أنيابها
إذا طرب الطائر المستحر

قال تعالى: { إِلَّآ ءَالَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } (القمر:34)، {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران:17). وقد خصت الأسحار بالذكر هنا، لأنها لذة النوم ووقت الغفلة، كما عبر العرب عن وقت الليل كله بلفظ البيات والمبيت والبيتوتة، وكلها تعني الدخول في الليل، حتى آخر وقت منه.
المصادر
< لسان العرب، أبوالفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، الناشر دار صادر عام 2003م.
< الزمن عند الشعراء العرب قبل الإسلام، د. عبدالإله الصائغ، الناشر دار عصمي للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، القاهرة عام 1996م.
< ألفاظ الزمان بين اللغة والقرآن، كاظم فتحي الراوي، مجلة كلية آداب المستنصرية، العدد الرابع عام 1979م.
< دائرة معارف الفيصل، مجلة الفيصل السعودية، العدد 161، يونيو عام 1990م.