( بخارى)




د. محمد جميل النورستاني



إن من أحب الأشياء إلى النفس أن تتعرف على منطقة أو مدينة كانت حاضرة المناطق، ثم غيبتها الأيام، ونسيها سكان الزمان.
مدن كانت نسبًا لعلمائها الذين ملأوا الدنيا علمًا، فعرفتهم أقاصي المعمورة، وطوف ذكرهم البلاد، على حين زالت هذه المدن مع تقلب الأيام، واندرست، وطمست معالمها، أو استبدل باسمها آخر.
وإن من أحب الأشياء إلى النفوس أن تعرف عالمـًا طار صيته، ثم تعلم موقع بلده، لتقرن العلم بالمكان، والسمع بالحس، والمعرفة بالبيئة، والنبوغ بالمصدر، وتكون خيبة أملها شديدة عندما تبحث فلا تصل، وتفتش فلا تعرف، إذ ضاع الماضي، واندثر الفن، وندبت الحضارة أيامها الخوالي.
وتكون ثورة النفس عنيفة على أمتها وعلمائها الذين لم يضعوا تحت يديها ما يعرفها على ذلك المكان، الذي اقترن بترجمة عالم من العلماء، يذكر كلما ذكر ذلك العالم، ومع ذلك لا يعرف موقعه في خريطة العالم اليوم.
ومن الموضوعات التي يعاني الباحثون من شح المعلومات حولها ما يتعلق بالتعريف بالبلدان التي ينتسب إليها العلماء، حيث إنها وإن كانت معرفة في كتب البلدان القديمة، كمعجم البلدان للحموي، وغيره، إلا أن تحديد موقعها اليوم، وتقديم وصفها الحالي، مما يعجز عن الوصول إليه كثيرٌ من الباحثين، وأنا واحدٌ من أولئك، حيث كنت أحد صعوبة في الوصول إلى بغيتي في هذا المجال في بحوثي الأكاديمية في الجامعة.
ولا شك أنه قد اهتم علماء المسلمين بعلم البلدان، وأولوه عناية خاصة، وذلك لأسباب كثيرة منها التعرف على الأمصار والأقطار التي ينتسب إليها علماء كان لهم إسهامٌ بارز في التراث الإسلامي، وكان اهتمام المحدثين منهم بهذا العلم أكثر من غيرهم، لأن معرفة موطن المحدث من أهم عناصر ترجمته، ولذلك أفردوه كنوع مستقل من أنواع علوم الحديث(1).
وقد زادت الحاجة إلى هذا العلم بعد أن طرأ تغيير واسع على بعض الأسماء المعروفة من نواح عديدة، وبعد أن أهمل الباحثون ذكر كثير من المناطق والأقاليم التي كانت من حواضر العلم، وذلك بعد أن تقاسمتها دول عدة، وضمت إلى أرض واسعة، فضاعت لصغرها النسبي، كما هو حال "خراسان".
وللمساهمة في تذليل هذه العقبات، أردت أن أتناول الأمصار التي انتسب إليها العلماء.
سأبدأ بالمدن أو الأقاليم التي ينتسب إليها أصحاب الكتب الستة، وذلك لشدة حاجة المعنيين إليها، وأولى تلك المدن: مدينة الإمام البخاري "بخارى".
"بخارى" مدينة من كبريات المدن في منطقة "ما وراء النهار"(2)، قال عنها صاحب كتاب "الصور": "وأما نزهة بلاد "ما وراء النهر" فإني لم أر- ولا بلغني- في الإسلام بلدًا أحسن خارجًا من بخارى، لأنك إذا علوت قهندزها- أي: قلعتها- لم يقع بصرك من جميع النواحي إلا على خضرة، متصلة خضرتها بخضرة السماء، مكبوبة على بساط أخضر، تلوح القصور فيما بينها كالنواوير فيها، وأراضي ضياعهم منعوتةٌ بالاستواء كالمرآة، وليس بما وراء النهار وخراسان بلدة أهلها أحسن قيامًا بالعمارة على ضياعهم من أهل بخارى، ولا أكثر عددًا على قدرها في المساحة"(3).
وقال ياقوت الحموي: "بخارى- بالضم- من أعظم مدن ما وراء النهار وأجلها، يعبر إليها من آمل الشط... وكانت قاعدة السامانية"(4).
وذكر الحموي وغيره أن اسم مدينة "بخارى" قديمًا هو "بومجكث"، وكانت على أرض مستوية، وبناؤها خشب مشبك، ويحيط بها سرٌ يكون اثني عشر فرسخًا (وهو 36 ميلًا) في مثلها، وهو يحيط ببنائها كله من القصور والبساتين والمحال والسكك المفترشة، والقرى المتصلة، ولا يرى في خلال ذلك قفارٌ ولا خراب.
وهناك سورٌ آخر خارج هذا السور يحيط بضواحي المدينة، وهي القصبة وما يتصل بها من القصور والمساكن والمحال والبساتين، وفيه مدينةٌ حصينةٌ فيها قلعةٌ بها مسكن ولاة خراسان من آل سامان(5).
وقد وصفها الثعالبي بأنها كانت مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر.
وتقع مدينة "بخارى" على نهر "زرافشان"- نهر الصغد- عند التقائه برافده المنحدر من الجنوب، إلى الغرب من مدينة "سمرقند" بنحو من (150) ميلًا، وقد دمرها المغول سنة (616هـ)، ولم تستعد مكانتها إلا في ختام المائة الثامنة في عهد تيمور، حيث اتخذ مدينة "سمرقند" عاصمةً له، واستعادت أختها بخارى شيئًا من سابق بهائها(6).
وفتحت بخارى لأول مرة على عهد أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنهما- سنة (54هـ)، فتحها عبيد الله بن زياد واليه على خراسان، وكان أهلها ينقضون العهد كلما سنحت لهم الفرصة، حتى جاءهم قتيبة بن مسلم سنة (86هـ) في عهد الوليد بن عبد الملك الأموي، وأخضعها لحكم المسلمين، وأسكن العرب فيها حتى لا تعود للانتقاض، وحتى ينتشر الإسلام، وبنى مسجدها الجامع سنة (94هـ) (7)، ومنذ ذلك العهد أصبحت "بخارى" قلعةً من قلاع الإسلام، وحصنًا حصينًا من حصونه.

وقد دخلها الأوزبك عام (905هـ)، ولكنهم أبقوا "سمرقند" عاصمةً لهم، وحكمت بخارى أسرةٌ أوزبكيةٌ تسمى "بني منغيت"، واستمر حكمها حتى عام (1339هـ- 1920م) حيث هاجم الروس المدينة واستولوا عليها، واضطر آخر أمرائها إلى الهجرة إلى أفغانستان، حيث توفي هناك عام 1363هـ.
وتقع الآن في جمهورية "أوزبكستان"، وعدد سكانها يناهز ربع المليون من الأنفس(8).
وينسب إلى مدينة "بخارى" خلقٌ كثيرٌ من أئمة المسلمين في فنون شتى، على رأسهم أمير المؤمنين في الحديث الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي مولاهم، البخاري، كان جده الثالث "بردزبه" فارسيًا على دين قومه، ثم أسلم ولده المغيرة- أبو جد الإمام البخاري- على يد اليمان الجعفي- حاكم بخاري- وأتى بخارى، فنسب إليه نسبة ولاءٍ، عملًا بمذهب من يرى أن من أسلم على يده شخصٌ كان ولاؤه له.
ولد الإمام البخاري سنة (194هـ) ببخارى، وتوفى سنة (256هـ) بقرية "خرتنك" قريبًا من "بخارى".
وكان الإمام البخاري قد غادر مسقط رأسه "بخارى" وهو في الخامسة عشرة من عمره، ثم ظل يجوب الأمصار طلبًا للحديث، تخلل ذلك إقامته في بعض المدن لسنوات عدة، كإقامته بالبصرة خمس سنين متواصلةً، وكإقامته بالحجاز ستة أعوام، ولكن يبدو أنها لم تكن متواصلة، حتى انتهى به المطاف إلى مدينة "نيسابور"، التي وردها سنة (250هـ)، وقد استقبل الإمام البخاري من أهالي نيسابور استقبالًا حافلًا منقطع النظير، وظل يحدث فيها طيلة خمس سنوات.
ويبدو أن الإمام البخاري كان قد استوطنها بدلًا من مدينته "بخارى"، ولم يكن يرغب في الذهاب إلى بخارى لغلبة المخالفين فيها حسب تعبيره، ولكنه لم يستطع أن يستوطنها، بل خرج منها بعد خمس سنوات مكرهًا، وذلك بعد وقوع الوحشة بينه وبين إمام نيسابور محمد بن يحيى الذهلي، ومنع الأخير تلاميذه من حضور دروس الإمام البخاري، وبعد محنة دامت سنوات، قرر الإمام البخاري مغادرة نيسابور، فودعها متوجهًا إلى مسقط رأسه بخاري.
ولما سمع أهل بلده برجوعه نصبت له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله عامة أهل البلد، حتى لم يبق مذكورٌ لم يشارك في استقباله، ونثرت الدراهم والدنانير فرحًا بمقدمه، وبقي هناك مدةً وهو على ما يكون عليه أمثاله من إقبال الناس عليهم ونشر العلم، حتى وقعت وحشةٌ بينه وبين أمير بخاري خالد بن أحمد الذهلي، وكان هذا سبب مغادرته لبخارى.
وبعد وقوع الوحشة بين الإمام والأمير استعان الأمير ببعض من ينتسب إلى العلم من بعض المتعصبة حتى تكلموا في مذهب الإمام البخاري، فنفاه عن البلد.
وهكذا أخرج من هذا الإمام العملاق مسقط رأسه "بخارى"، ولم تسعه هذه المدينة التي خلدها البخاري على مدار التاريخ وسميت بسببه "قبة الإسلام"، ومع كثرة المشاهير الذين خرجوا من هذه المدينة العريقة، فإنها لم تنل من الشهرة ما نالته إلا بسبب الإمام العبقري الفذ العظيم.
وبعد خروج الإمام البخاري من بخارى توجه إلى قرية "خرتنك" وهي على فرسخين من مدينة "سمرقند"، وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، وتوفي هناك.
ونقل ابن عدي عن عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي أنه سمع البخاري ليلةً يدعو- وقد فرغ من صلاة الليل- قائلًا: "اللهم إنه قد ضاقت على الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك"، قال: فما تم الشهر حتى مات، وقبره بخرتنك(9).
وهكذا انتهت حياة هذا الإمام العظيم، ولكن ذكره مخلدٌ ما زالت الأجيال المتعاقبة تغرد باسمه، وتحلي المجالس بذكره، ولا زال يسكن قلوب ملايين المسلمين، بما أفنى عمره في خدمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ أحاديثه ويكفيه فخرًا كتابه الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.

الهوامش


عده الإمام ابن الصلاح النوع (65) من أنواع علوم الحديث.
إقليم "ما وراء النهر" يقع الآن ضمن دولتين من الجمهوريات التي تحررت من الاستعمار الروسي، وهي "طاجكستان" و"أوزبكستان".
معجم البلدان، لياقوت الحموي (1/280).
المصدر السابق.
الدولة السامانية أسسها أحمد بن سامان عام (261هـ) واستمرت (170) عامًا.
بلدان الخلافة الشرقية، ص506.
وقد جدد هذا المسجد ومنارته عام (515هـ) بأمر أرسلان خان، وقد حول بعد السيطرة الشيوعية إلى متحفٍ ومكتبة، ووضعت أمامه التماثيل، وسميت المكتبة باسم "مكتبة ابن سينا".
موسوعة المدن العربية والإسلامية، ص409.
أسامي من روى عنهم محمد بن إسماعيل البخاري، لابن عدي، ص67، تاريخ بغداد، 2/34، تهذيب الكمال (24/466)، سير أعلام النبلاء، (12/466).

* * *