الأبعاد الأخلاقية في العملية الاجتهادية
د. محمد طونيو
يفيد التدبر في الحديث النبوي الجامع «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» أن البعثة النبوية جاءت من أجل أمر ضروري، لا يجوز أبدا تركه، لأنه متعلق بالدين بكليته. ذلك الأمر هو القيم الخلقية التي لا تكاد آية قرآنية أو حديث نبوي شريف يخلو منها، لأن موقع الأخلاق مركزي ضمن غايات البعثة المحمدية التي تستهدف العالمين بمقصد من أهم المقاصد العالية، إنه الرحمة في قوله عزوجل {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الأنبياء:107).
ومعلوم أن العملية الاجتهادية يجب أن تنطلق من مقصد الرحمة وتنتهي إليه في شمولية لكل الأحكام الفقهية التي تؤول في مجملها إلى أفعال أخلاقية.
وبالعودة إلى صلة المقاصد الشرعية بالجانب الخلقي، يلاحظ المتأمل في كتاب الموافقات للإمام الشاطبي وجود تكامل أخلاقي أصولي في إطار الحكم الشرعي. وقد قال في مقدمته «كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية». ذلك لأن القواعد الأصولية والمقاصد الشرعية لها ارتباط وثيق بالقيم الأخلاقية. أليس حفظ الضروريات الخمس أوضح برهان على صون المصالح الإنسانية عاجلا أم آجلا؟! وفي ذلك أوضح دليل على حفظ القيم الخلقية.
إن تنصيص الإمام الشاطبي على الآداب الشرعية في كلامه الآنف الذكر، يبرز بأوضح بيان الجانب الخلقي في قواعد الفقه وأصوله؛ لأن عدم وجود البعد الأخلاقي في القواعد الأصولية وعدم تحقيقها للفروع الفقهية المحققة للمصالح الشرعية والآداب الأخلاقية من تحسين السلوك وتقويم الجانب التربوي في حياة المكلف، يجعل تلك المسائل والقواعد عارية في أصول الفقه لا فائدة فيها، وبذلك فضبط القواعد الأصولية بهذه الشرطية يضمن قيام القواعد الأصولية على قيم تربوية وأخلاقية.
وقد نبه الشيخ الطاهر بن عاشور إلى اعتبار الجانب الخلقي ليس في الأحكام فحسب وإنما في شخصية المجتهدين، إذ «يتعين أن يكونوا -يعني المجتهدين- قد جمعوا إلى العلم العدالة واتباع الشريعة». ذلك لأن الخلق الإسلامي يورث الورع ونور العلم والعمل، وقد «كان الأئمة الأعلام الذين أورثوا من بعدهم ذلك الفقه العميق كانوا ممن اشتهروا بالورع قبل أن يشتهروا بالفقه وأخبارهم ناضحة بالنور والمعرفة». ومعلوم أن الورع هو ممارسة خلقية والتزام عملي بالأحكام، ويعد البعد عن الأهواء والشهوات علامة فارقة في سلوك المتصف بالورع، وقد قيل: الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات، ويرجع ذلك إلى أن الباعث على الورع عن المحارم والشبه هو إحدى ثلاث:
> إما حذر حلول الوعيد.
> وإما تعظيم الرب جل جلاله.
< وإما إجلاله أن يتعرض لما نهى عنه.
ومن جوامع كلم النبي " صلى الله عليه وسلم" بيانه للورع في قوله «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». وفي شرح دقيق لابن القيم لهذا الحديث ذكر أن «هذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة فهذه كاملة كافية شافية في الورع».
وحاصل القول مما تقدم، أن العملية الاجتهادية تقتضي لزوما أن يتخلق المجتهد بالقيم الإسلامية العملية، سالكا مسلك القدوة، كي يروم تحقق الروح المقاصدية للأحكام التي تؤول إلى أبعاد أخلاقية ذات تأثير عميق في نظام الأمة بدءا بالمهد المؤسس للقيم وهو الأسرة المسلمة.