حجية الاستحسان
عند الإمام مالك
د. مسعود صبري إبراهيم [*]
ملخص البحث:
اختلفت اراء فقهاء المالكية في صحة نسبة الاستحسان إلى الإمام مالك، وهل يعد الاستحسان اصلا من اصول الاجتهاد في عند مالك ام لا؟ وكان ذلك الاختلاف حول أصل من اصول الاجتهاد الكبرى داعيا إلى محاولة الكشف عن حقيقة موقف الإمام مالك منه، وعرض الآراء المختلفة وادلتها، ومناقشتها من خلال اصول المالكية دون غيرهم، للوقوف على حقيقة موقف الإمام مالك -رحمه الله -من (الاستحسان).
وقد انتهى البحث إلى ان اخذ الإمام مالك بالاستحسان حجة شرعية، وليس دليلا مستقلا، فهو أقرب إلى طرق الترجيح عند التعارض، وهي الفكرة التي قام عليها الاستحسان من ترجيح مقتضى دليل على القياس او على مقتضى الدليل العام، وعضد هذا كثرة انواع الاستحسان عند المالكية " بما يساندها من مواقف الإمام التي ترجح القول به، وإن لم يكن دليلا مستقلا كبقية الأدلة، ولكن كثرة العمل به عنده اوجبت اعتباره حجة يعمل بها وإن لم يكن دليلا، مع بيان الفرق بين الحجة والدليل.
المقدمة:
يعد مذهب الإمام مالك - رحمه الله - احد المذاهب السنية الأربعة ، وقد كان لمذهب مالك - خاصة - انتشار كبير في عدد من دول العالم ، وتم اعتماد المذهب كأساس لعدد من القوانين في الدول العربية ، بل وبعض القوانين الأوربية ، قد اعتمدت تلك القوانين عددا من اراء المذهب المالكي ([1]) ، خاصة فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ، وذلك لما امتاز به المذهب المالكي بقدرته على اعتبار السياق الاجتهادي " ولذا كثرت فيه النوازل أكثر من غيره من المذاهب الأخرى ، فكان اكثر المذاهب الفقهية لصوقا بحياة الناس على اختلاف أشكالها " سياسية ، واجتماعية ، واقتصادية ، خاصة فيما يتعلق بمجال القانون العام والخاص ، ومناهج العلوم الاجتماعية ، وهذا ما دفع عددا من الدول الأوربية إلى
ترجمة مؤلفات فقهية مالكية إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية والإيطالية . وتعود حيوية المذهب المالكي إلى اصوله التي ابتنى عليها، وكان منها عدد من الأصول التي اعطته تلك الحيوية، كالاستحسان، وفتح الذرائع، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، وعمل اهل المدينة، فامتاز المذهب بسعة اصوله وعمقها، وكثرة قواعده ودقتها، وتعدد الأقوال الفقهية والآراء الاجتهادية لعلمائه وغيرها من الخصائص، مما جعله اغنى المذاهب الفقهية تأصيلا وتنزيلا.
مشكلة الدراسة:
الاستحسان أحد مصادر المذهب المالكي التي تتعلق بحيوية هذا المذهب، وقد شاب بيان رؤيته في المذهب ونسبته إلى الإمام مالك اختلاف في الرؤية بين فقهاء المذهب، فأنكره بعضهم، وأثبته اخرون، فكان مقصود هذا البحث تحقيق المسألة في المذهب، خاصة عند الإمام مالك قبل أئمة المذهب.
هدف البحث:
بيان حقيقة موقف الإمام مالك من الاستحسان " وبخاصة في ظل الاختلاف حول موقفه من علماء المذهب المالكي.
أسئلة البحث:
يجيب البحث عن الأسئلة التالية:
ما مدى اعتبار الإمام مالك -رحمه الله -للاستحسان في الاحتجاج والاجتهاد الفقهي؟
هل كان الإمام مالك يعد الاستحسان دليلا من أدلة التشريع، ام طريقة من طرق الاجتهاد؟
أين يقع الاستحسان من أصول الإمام مالك؟
الدراسات السابقة:
تنوعت الدراسات السابقة إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: المؤلفات الأصولية وبخاصة ما يتعلق بأصول مذهب الإمام مالك-رحمه الله -، وهي أشهر من أن تعرف في مثل هذا المقام.
النوع الثاني: الدراسات المعاصرة حول أصول الإمام مالك بشكل عام، ومن أهمها: القواعد والضوابط الفقهية المستخلصة من كتاب أصول الفتيا؛ للإمام ابن حارث الخشني، للباحثة: " عزيزة عكوش " رسالة ماجستير -جامعة الجزائر-كلية العلوم الإسلامية -الخروبة. وأصول فقه الإمام مالك النقلية، د. عبدالرحمن شعلان، رسالة دكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود . مطبوعات جامعة ام القرى، واراء الإمام مالك الأصولية من خلال كتاب المدونة الكبرى (كتاب النكاح). جمعا ودراسة، عبد الرقيب صالح الشامي، وأصول فقه الإمام مالك .. أدلته العقلية، د. فاديغا موسى. رسالة ماجستير بكلية الشريعة بالرياض، نشر: دار التدمرية. والتحقيق في مسائل أصول الفقه التي اختلف النقل فيها عن الإمام مالك بن أنس، د. حاتم باي، نشر مجلة الوعي الإسلامي الكويت :1432 ه=2011 م. واصله: رسالة ماجستير، تخصص الفقه واصوله، بكلية الشريعة بالجامعة الأردنية.
النوع الثالث: دراسات حول الاستحسان في المذهب المالكي: ومن اهم تلك الدراسات: تحرير القول في مسمى الاستحسان عند المالكية، د. نعمان جغيم، بحث منشور في مجلة الشريعة والقانون، كلية القانون، جامعة الإمارات العربية المتحدة، العدد الثالث والثلاثون -ذو الحجة 1428 هـ-يناير 2008 م، ومصطلح الاستحسان وأثر الاختلاف في دلالته في اختلاف الأصوليين. للدكتور محمد جميل استاذ بجامعة اغادير -جنوب المغرب، وذلك في مؤتمر علمي عقد بجامعة مولاي عبد الله حول الدراسات المصطلحية. .
أهم الفوارق بين البحث والدراسات السابقة:
اما عن النوع الأول، فقد اهتمت المؤلفات الأصولية ببيان اصول المذهب المالكي بشكل عام، وجاء الحديث عن الاستحسان مبحوثا ضمن تلك الأصول، وكان كل إمام يعبر عن رايه، كما ان الفترات الزمانية المتباعدة لم تجمع كل الآراء حول الاستحسان في مؤلف واحد، فجاء الحديث عنه متناثرا في المصنفات الأصولية، لم تجمع الآراء حوله في مصنف واحد.
اما عن الدراسات المعاصرة العامة، فلم يكن قصدها إفراد الاستحسان بالحديث، مما يجعل الاهتمام به لا يأخذ المساحة المطلوبة لإفراد الحديث عنه، وقد اختلفت درجة الاهتمام بالاستحسان فيه، فجاءت متفاوتة بين الاقتضاب والتوسط غالبا. وأقرب تلك الدراسات المتخصصة في موضوع البحث بحث الدكتور نعمان جغيم، الموسوم بـ " تحرير القول في مسمى الاستحسان عند المالكية ".
ومن اهم الفوارق بينه وبين هذا البحث: ان البحث المذكور خص الحديث عن الاستحسان في المذهب المالكي بشكل عام، بما في ذلك موقف الإمام مالك -رحمه الله -، بينما افرد هذا البحث الحديث عن الاستحسان عند الإمام مالك، وليس في المذهب المالكي، كما انه عقد مقارنة في الاستحسان بين المذهب الحنفي والمالكي، وافردت البحث في المذهب المالكي وحده. وانتهى البحث المذكور بنفي الاستحسان عن المذهب وانتهيت إلى إثباته.
حدود البحث:
الحد الأصولي: أصل الاستحسان من اصول المالكية، وما يتبعه من تطبيقات من الفقه المالكي عند الإمام مالك. والحد الزمني: من زمن مالك -رحمه الله -إلى زمن بعض المحققين في المذهب المالكي، كابن عاشور ومحمد الخضر حسين، رحمهما الله تعالى. والحد المذهبي: المذهب المالكي، وما نقل عن غير المذهب المالكي جاء كالخادم للأصل، كالتعاريف وصلة الاستحسان ببعض المصطلحات الأخرى.
منهج الدراسة:
هو منهج وصفي قائم على الاستقراء والتحليل والاستنباط. تمثل منهج الدراسة عدة نقاط:
الأولى: النقل عن ائمة المذهب المالكي في التأصيل بخلاف المباحث الثانوية.
الثانية: الاعتماد على المصادر الأصيلة في المقام الأول.
الثالثة: الاقتباس بقدر الحاجة.
الرابعة: تقديم النقل على المعنى.
الخامسة: عزو الآيات وتخريج الأحاديث مما هو متعارف في الكتابة الاكاديمية.
السادسة: ذكرت المراجع في الهامش دون البيانات خشية الإطالة.
السابعة: كثرة التمثيل " جمعا بين التأصيل والتنزيل.
خطة البحث:
المبحث الأول: ماهية الاستحسان، والمبحث الثاني: حجية الاستحسان عند الإمام مالك، والمبحث الثالث: عدد المسائل التي بنيت على الاستحسان في مذهب مالك، والمبحث الرابع: انواع الاستحسان عند مالك -رحمه الله -. والمبحث الخامس: الاستحسان بين الاستقلال والتبعية في الأدلة. والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
المبحث الأول
ماهية الاستحسان
المطلب الأول
مصطلح( الاستحسان) عند الامام مالك
المسألة الأولى: الاستحسان في اللغة:
الاستحسان مصدر سداسي من الفعل (استحسن)، وهو: عد الشيء واعتقاده حسنا ([2]) ، وهو استفعال من الحسن، والحسن، محركة: ما حسن من كل شيء ([3]) . وقيل: هو: طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمور به، كما قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ([4]) . وقيل: الاستحسان استخراج المسائل الحسان، ... ويجيء الاستفعال بمعنى الإفعال كما يقال: اخرج واستخرج فكأن الاستحسان -هاهنا -إحسان المسائل وإتقان الدلائل ([5]) .
المسألة الثانية: سبب تسمية الاستحسان بهذا الاسم:
سمي الاستحسان بهذا الاسم، وعرف بهذا المصطلح؛ " لكون العمل به مستحسنا، ولكونه مائلا عن سنن القياس الظاهر، فكان هذا الاسم مستعارا لوجود معنى الاسم فيه بمنزلة الصلاة، فإنها اسم للدعاء، ثم أطلقت على العبادة المشتملة على الأركان من الأفعال والأقوال لما فيها من الدعاء عادة " ([6]) .
المسألة الثالثة: مصطلح الاستحسان في مؤلفات الإمام مالك:
لم يرد عن الإمام مالك استعماله لفظ " الاستحسان "، او " استحسن " في الموطأ مطلقا. اما في المدونة الكبرى فقد ورد لفظ " الاستحسان" في موضعين ([7]) ، ولفظ " استحسن" في تسعة مواضع ([8]) ، ولفظ: "استحسان" في ثلاثة مواضع ([9]) ، ولفظ "استحسنت" في ستة مواضع ([10]) .
وجاء استعمال "الاستحسان" في المدونة على عدة معان، منها: الأول: استعماله في مقابلة القياس، إما بمعنى استثناء جزئية من قاعدة، او نص يتصفان بالعموم، او بمعنى العدول عن القياس في مسألة يكون القياس فيها غير متوافق مع مقاصد الشارع، وقد ورد هذا الاستعمال في ثمانية مواضع ([11]) . الثاني: استعماله بمعنى الاستحباب المقابل للكراهة في موضعين ([12]) الثالث: استعماله بمعنى فعل الأفضل والأولى في اربعة مواضع ([13]) الرابع : استعماله بمعنى ترجيح راي من الآراء المختلفة، وذلك في اربعة مواضع ([14]) .
أغراض استعمال الاستحسان عند الإمام مالك -رحمه الله -: اما الغرض الذي كان من اجله ذلك الاستحسان، فهو: إما التخفيف على الناس ومراعاة مصالحهم، وقد ورد ذلك في عشرة مواضع ([15]) . وإما تفضيل فعل الشيء من باب الاحتياط، وقد ورد في ستة مواضع ([16]) . كما استعمل في موضع واحد من باب المسامحة والإحسان إلى
المطلقة ([17]) . وفي موضع اخر مراعاة للقصد الحسن للفاعل ([18]) .
تعريف الاستحسان عند المالكية: يدور الاستحسان عند المالكية على عدة معان، هي: الأخذ بأقوى الدليلين عند التعارض، او يقوم الاستحسان على الاستثناء والترخص من الحكم العام للمصلحة، او مراعاة العرف او التخفيف خاصة إن كان في الأخذ بالقياس غلو في الحكم ([19]) .
المبحث الثاني
حجية الاستحسان عند الامام مالك
اختلف فقهاء المالكية في اعتبار " الاستحسان " اصلا من اصول مالك على رأيين، ونص علماء المالكية على هذا الاختلاف، قال ابن رشد -رحمه الله -: "وقد اختلفوا في معنى الاستحسان الذي يذهب إليه مالك كثيرا، فضعفه قوم وقالوا: إنه مثل استحسان ابي حنيفة، وحدوا الاستحسان بأنه قول بغير دليل. ومعنى الاستحسان عند مالك هو
جمع بين الأدلة المتعارضة، وإذا كان ذلك فليس هو قول بغير دليل "([20]) . وقال الباجي-رحمه الله -" وقد اختلفت تأويلات اصحابنا في الاستحسان "([21]) .
الرأي الأول: الاستحسان من أصول مالك: يتجه اصحاب هذا الراي إلى ان الاستحسان أصل من اصول مالك، وبه قال ابن القاسم، واشهب واصبغ وابن المواز، وابن العربي، والدردير والدسوقي وغيرهم. فقد ورد عن أشهب ان مالكا قال: " الاستحسان تسعة اعشار العلم "([22]) . وقال ابن العربي -رحمه الله -عن الاستحسان: "وبه قال مالك "([23]) . وقد حكى الإمام الدردير -رحمه الله -عن الإمام مالك قوله بالاستحسان في اربعة مسائل، هي: الشفعة في العقار، والشفعة في الثمار، والقضاء في القصاص بشاهد ويمين، وتمييز دية انملة الإبهام عن انامل الأصابع الأخرى بجعل ديتها خمسة من الإبل، يعني نصف دية الأصبع، مع ان دية الأنملة في الأصابع الأخرى هي ثلث دية الأصبع فقط، وزاد الدسوقي -رحمه الله -في شرحه على الدردير خامسة، وهي وصاية الأم على ولدها إذا تركت له مالا يسيرا كالستين دينارا ([24]) .
الرأي الثاني: الاستحسان ليس أصلا من أصول مالك: يتجه الراي الآخر إلى ان الاستحسان لا تصح نسبته إلى الإمام مالك، وبه قال القاضي عبد الوهاب والباجي والقرطبي وما يفهم من كلام القاضي عياض والشريف التلمساني، وابن الحاجب وغيرهم. فجاء في المسودة لآل تيمية: " قال القاضي عبد الوهاب المالكي ليس بمنصوص عن مالك، إلا ان كتب اصحابنا مملوءة من ذكره والقول به، ونص عليه ابن القاسم واشهب وغيرهما"([25]) . وصرح الباجي -رحمه الله -بإنكار الاستحسان فقال: " ومن أنكر من اصحابنا الاستحسان منع ذلك كله، وهو الصواب عندي، والله اعلم " ([26]) .
وقال في كتاب الحدود: "وإذا قلنا: إنه ترك مقتضى القياس، فحده بما تقدم من انه اختيار من غير دليل ولا تقليد" ([27]) . وقال القاضي عياض -رحمه الله -: "واما أبو حنيفة فإنه قال بتقديم القياس والاعتبار على السنن والآثار، فترك نصوص الأصول وتمسك بالمعقول وأثر الراي والقياس والاستحسان، ثم قدم الاستحسان على القياس فأبعد ما شاء"([28]) . وقال ابن الحاجب -رحمه الله -في الحديث عن الأدلة المختلف فيها: " الاستحسان. قال به الحنفية والحنابلة، وأنكره غيرهم، حتى قال الشافعي – رحمه الله: " من استحسن فقد شرع"([29]) . وقال القرافي -رحمه الله -: " وهو حجة عند الحنفية وبعض البصريين منا، وأنكره العراقيون " ([30]) .
وقال الباجي -رحمه الله -: "ذكر محمد بن خويز منداد معنى الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك: هو القول بأقوى الدليلين " ([31]) . يعني نفي الاستحسان عن الإمام مالك. وقال الشوكاني -رحمه الله -: " ونسبه إمام الحرمين إلى مالك، وأنكره القرطبي فقال: ليس معروفا من مذهبه ([32]) .
الترجيح: الراجح ان الإمام مالك -رحمه الله -كان يعتمد الاستحسان في اجتهاده، ويدل على ذلك ما يلي:
أولا-نص الإمام مالك نفسه بأن الاستحسان تسعة اعشار العلم: ورغم ان الإمام ابن حزم -رحمه الله -يرفض الاستحسان، إلا انه روى هذا الأثر عن مالك بسند جيد ([33]) . وقال الإمام الشاطبي -رحمه الله -معلقا على هذا الأثر: " وهذا الكلام لا يمكن ان يكون بالمعنى الذي تقدم قبل، وانه ما يستحسنه المجتهد بعقله، او انه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه، فإن مثل هذا لا يكون تسعة اعشار العلم، ولا اغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة " ([34]) . وقال القاضي ابو يعلى -رحمه الله -: " وكتب مالك بن انس مشحونة بذكر الاستحسان في المسائل ". وقال الإمام ابن تيمية -رحمه الله -: " وكتب مالك مشحونة بالاستحسان " ([35]) .
ثانيا-إنه بالنظر إلى من نسب الاستحسان إلى الإمام مالك ومن نفاه عنه، تبين لنا ان ممن نسبه: ابن القاسم واشهب ومن تلامذة التلاميذ: اصبغ، ثم ابن المواز، وهم اعلى رتبة في المذهب ممن نفاه، فابن القاسم واشهب تلامذة الإمام مالك، وتلقيا عنه مباشرة، وهما افهم لمراد الإمام من غيرهما. وقد نص ابن القاسم -رحمه الله – على الاستحسان الذي هو بخلاف القياس، وذلك في جواز مالك الوصية من الأم في القليل دون غيرها، فقال ما نصه: "إنما استحسن مالك في الأم، وليست الأم كغيرها من هؤلاء، ولأن الأم والدة وليست كغيرها وهو مالها، وهذا ليس بماله الذي يوصي به لغيره، وما هو بالقياس، ولكنه استحسان " الا ترى ان الأم تعتصر ما وهبت لابنها او ابنتها وتكون بمنزلة الأب، والجد والأخ لا يعتصران، فهذا يدلك -ايضا -على الفرق بينهما" ([36]) .
ثالثا-إن بعض الأقوال التي تنفي نسبة الاستحسان إلى الإمام مالك لم تدون في كتب المالكية، وإنما جاءت في كتب غير المذهب: فيلاحظ ان راي القاضي عبد الوهاب المالكي -رحمه الله -نقل في غير كتب المالكية، كما انه قال: " ليس بمنصوص عن مالك إلا ان كتب اصحابنا مملوءة من ذكره والقول به، ونص عليه ابن القاسم واشهب وغيرهما" ([37]) ، فهو ينفي ان يكون الإمام مالك قد نص عليه، وعدم النص ليس بلازم للنفي، فلم ينص الصحابة -رضوان الله عليهم -على اصول وقواعد الفقه، لكن نسبتها إليهم معلومة. واما إنكار القرطبي -رحمه الله -فقد جاء بعد نسبة إمام الحرمين الاستحسان إلى الإمام مالك، " فلعل إنكار القرطبي إنما كان على اساس ان الاستحسان عند إمام الحرمين هو: ترك الدليل من غير حجة، ومالك لا يقول بهذا النوع من الاستحسان، ولا أحد من اصحابه " ([38]) . ولم يصرح ابن الحاجب – رحمه الله -بإنكار مالك للاستحسان، بل لم ينص صراحة على موقف الإمام منه، وقد نقل عن الشافعي قوله: لا ينسب لساكت قول ([39]) . وان القرافي -رحمه الله – وإن نسبه إلى بعض مالكية البصرة، وأنكره المالكية العراقيون، لكنه سكت عن موقف الإمام منه، فليس في قوله دلالة على قول الإمام به او تركه.
والمدرسة المالكية العراقية إن نسب إليها إنكار الاستحسان، فإنه قد أثبته واحد من كبار المدرسة العراقية وهو ابن خويز منداد البصري -رحمه الله -، وقد نافح عن الاستحسان وابان عنه كثيرا من الغموض، وشرحه مفصلا. قال الباجي – رحمه الله -: "ذكر محمد بن خويز منداد معنى الاستحسان الذي ذهب إليه اصحاب مالك: هو القول بأقوى الدليلين " ([40]) . يعني نسبته إلى الأصحاب لا إلى الإمام مالك. وفي هذا القول: تصريح باعتبار الاستحسان في المذهب، ولكن الاختلاف في تعريفه، وكما هو معلوم ان الاستحسان له عدة معان.
رابعا-إن مما دعا بعضهم إلى إنكار الاستحسان هو: عدم وضوح معناه في بادئ الأمر، وهذا ما عناه ابن العربي المالكي -رحمه الله -حين قال: " واما اصحاب مالك فلم يكن فيهم قوي الفكر ولا شديد المعارضة يبده إلى الوجود، وقد تتبعناه في مذهبنا والفيناه -ايضا -منقسما اقساما، فمنه: ترك الدليل للمصلحة، ومنه: ترك الدليل للعرف، ومنه: ترك الدليل لإجماع اهل المدينة، ومنه: ترك الدليل للتيسير لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق " ([41]) .
وتنبه الطاهر ابن عاشور-رحمه الله -إلى المعنى ذاته، فقال: "وعندي انهم لو شرحوا مرادهم -ولو بتأويل -لما احوجوا الشافعي إلى هذا القيل " ([42]) . يضاف إلى هذا ان الاستحسان "يعد من ادق مسالك الاستدلال والاحتجاج " لوقوعه بين ادلة متعارضة متدافعة، مما ادى القائلين به إلى الاختلاف في مفهومه " فدقة معناه وخفاؤه في ذاته كان من اجلى اسباب هذا الاضطراب " فالآخذ بالاستحسان هو اخذ بدقيق العلم، ولطيف المعنى. والمعاني الدقيقة والمسالك الخفية يعسر -خاصة في البداءات-إبرازها في حدود لفظية " ([43]) .
خامسا-إن بعض الباحثين الذين بنوا بحثهم على نفي الاستحسان عن الإمام مالك -رحمه الله -ذكروا ما يدل على ان الاستحسان معتبر عند الإمام مالك، ومما نقل: ان الإمام مالك -رحمه الله -ذكر مصطلح الاستحسان في المدونة الكبرى في موضعين، ولفظ " استحسن " في تسعة مواضع، ولفظ:" استحسان " في ثلاثة مواضع، ولفظ "استحسنت" في ستة مواضع.
وعن المعاني التي حملها "الاستحسان" في المدونة، منها: استعمال الإمام مالك الاستحسان في مقابلة القياس، إما بمعنى استثناء جزئية من قاعدة، او نص يتصفان بالعموم، او بمعنى العدول عن القياس في مسألة يكون القياس فيها غير متوافق مع مقاصد الشارع، وقد ورد هذا الاستعمال في ثمانية مواضع.. وهذا هو أحد اهم معاني الاستحسان واستعمالاته الاجتهادية، وهو يثبت اعتباره عند الإمام مالك. كما ذكر الباحث من الأغراض التي تناولها الاستحسان: انه إما التخفيف على الناس ومراعاة مصالحهم، وقد ورد ذلك في عشرة مواضع، واما تفضيل فعل الشيء من باب الاحتياط، وقد ورد في ستة مواضع. فهذه ستة عشر موضعا ذكرها من ينكر نسبة الاستحسان إلى الإمام مالك نص على انه استعملها فيما يعرف باستحسان المصلحة، او الاستحسان من باب الاحتياط. ونحن مع الباحث في انه ليس كل ما ذكر في المدونة من لفظ الاستحسان ومشتقاته انه استعمل في المعنى الاصطلاحي، لكن هذا لا يعني المعنى الاصطلاحي بالكلية، بل استعمل بالمعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي. ولعل من نفى الاستحسان عن مالك اراد بذلك تلك المعاني التي صاغها بعضهم باعتباره نوعا من التشهي، او القول بالراي، او انه دليل ينقدح في ذهن المجتهد، وكل هذه المعاني منفية -قطعا-عن ان يقول بها الإمام مالك رحمه الله. ويؤيد هذا قول الإمام الشاطبي معلقا على قول مالك: "الاستحسان تسعة اعشار العلم ": "وهذا الكلام لا يمكن ان يكون بالمعنى الذي تقدم قبل، وانه ما يستحسنه المجتهد بعقله، او انه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه، فإن مثل هذا لا يكون تسعة اعشار العلم، ولا اغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة " ([44]) .
سادسا-إن الاستدلال بأن من اعتنى بذكر اصول مالك لم يذكر الاستحسان على انه أصل من اصوله، فيجاب عنه انه ليس بلازم ان يكون ذكر الأصول على جهة الشمول والكمال، فكم من إمام في المذهب عد اصول إمام مذهبه، ولم يذكرها بالكلية، كما هو الحال -مثلا-عند الإمام ابن القيم، فقد عد اصول احمد خمسة، وهي أكثر عند التحقيق. كما انه يجب التفريق بين كون الاستحسان حجة، وبين كونه دليلا مستقلا، فبعض الأئمة كالشاطبي يرى الاستحسان حجة الاستحسان عند مالك، لكنه لا يراه دليلا مستقلا، فهو اشبه بطريقة للاستدلال، ومن هنا ادخل -فيما بعد في الأدلة، قال الشاطبي: "الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة، إلا انه نظر إلى لوازم الأدلة ومألاتها" ([45]) . وقد اورد الشاطبي الاستحسان في كتاب الاجتهاد من: "الموافقات" بعد كتاب الأدلة، ولعل هذا ما يفسر قول اصبغ ممن اتهم بالمغالاة في الاستحسان حين قال والاستحسان عماد العلم " ([46]) ، بمعنى انه طريقة يعتمد عليها في الاجتهاد، وليس دليلا مستقلا، لكنه بلا شك حجة شرعية.
المبحث الثالث
عدد المسائل التي بنيت على الاستحسان في مذهب مالك
اختلفت نظرة الفقهاء إلى استعمال الاستحسان وعد المسائل التي بنى عليها الإمام مالك اجتهاده بناء عليه، بين مضيق وموسع. فمن ذهب إلى نفي الاستحسان عن الإمام مالك حاول ان يحصر المسائل التي قال بها الإمام بناء على الاستحسان في أربعة مسائل. ورد الإمام الدسوقي -وهو واحد ممن نسب الاستحسان للإمام مالك – انه استعمله في غيرها، لكنه لم يسبق في هذه ([47]) .
وصرح ابن خويز منداد بكثرة المسائل بل والأبواب التي اعتمد مالك على الاستحسان فيها، فقال:" عليه عول مالك وبنى عليه ابوابا ومسائل من مذهبه " ([48]) . وينص الشاطبي في الموافقات على ان المسائل التي بني عليها الاستحسان في مذهب مالك كثيرة، فقال: " مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المأل، وفي مذهب مالك من ذلك كثير" ([49]) . كما نص الشاطبي -رحمه الله -في الاعتصام في الحديث عن الفروق بين المصالح المرسلة والاستحسان والبدعة، وان الاستحسان على عشرة انواع، وذكر النوع العاشر من الاستحسان، فقال: العاشر: انهم قالوا: إن من جملة انواع الاستحسان مراعاة خلاف العلماء وهو أصل في مذهب مالك، ينبني عليه مسائل كثيرة " ([50]) . وقال الشيخ عليش -رحمه الله: "وقال الإمام " -رضي الله عنه -"إنه تسعة اعشار العلم. ابن خويز منداد عليه عول الإمام مالك "-رضي الله عنه -" وبنى عليه ابوابا ومسائل إلا ان غير هذه الأربعة وافق استحسانه فيه قولا لغيره، وإذا تصفحت مسائل المذهب ظهر لك ذلك" ([51]) . وإن كان بعض العلماء يجعل مراعاة الخلاف اصلا، ويجعله الشاطبي نوعا من انواع الاستحسان، فإذا ضممت المسائل التي بنيت على الاستحسان ومراعاة الخلاف تجمع لدينا مسائل كثيرة بنيت على هذا الأصل، مما يثبت قوة الاستناد إليه واعتباره في فقه الإمام مالك. وحين يعرف الشاطبي الاستحسان بأنه تخصيص لعموم الدليل بالمصلحة عند مالك ينص على كثرة المسائل في المذهب من هذا النوع قائلا: " وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثير جدا".
المبحث الرابع
أنواع الاستحسان عند مالك-رحمه الله-
اشتهر عن المالكية: ان الاستحسان -عند من يراه -اربعة انواع، وأشهر ما نقل في هذا قول ابن العربي ([52]) . ولكن المتتبع لأقوال المالكية في الحديث عن الاستحسان يلحظ ان انواع الاستحسان عند المالكية أكثر مما ذكر ابن العربي، ويمكن إجمالها فيما يلي: الاستحسان بالعرف، والاستحسان بالمصلحة، والاستحسان بإجماع أهل المدينة، والاستحسان بالتيسير، والاستحسان بسد الذريعة، والاستحسان بالضرورة، والاستحسان باعتبار القرينة، والاستحسان بالقياس الخفي، والاستحسان بمراعاة الخلاف، والاستحسان بالاحتياط.
يتبع