الانتفاع بالفوائد الربوية والأموال المشبوهة
في العمل الخيري
د. عباس أحمد محمد الباز [·]
ملخص البحث:
الأصل العام في الشريعة : أن المال المكتسب بسبب حرام لا يدخل في ملك المسلم، والواجب التحلل منه والخروج عن إثمه بدفعه إلى الفقراء والمحتاجين ، أو التبرع به إلى مشروع خيري يحقق منفعة عامة للإسلام والمسلمين ، وعلى هذا الأصل يمكن تخريج الحكم الشرعي في الانتفاع بالأموال الربوية ، وكذلك الأموال المشبوهة في مشاريع العمل الخيري، سواء أكان اكتساب هذه الأموال - الفوائد الربوية - بإرادة واختيار، أم كان باضطرار، كالأموال التي تستحق لأبناء الجاليات المسلمة ممن لا يجدون مصارف إسلامية يضعون أموالهم فيها ، فيضطرون إلى وضع أموالهم في المصارف الربوية، فتترتب لهم فوائد ربوية بمبالغ كبيرة ، حيث يمكن تحويل هذه الأموال إلى الجمعيات الخيرية ؛ لتقوم هذه الجمعيات بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين ، ويمكن أن تقوم هذه الجمعيات باستثمار هذه الأموال في مشروعات خيرية ومصالح عامة ، كبناء المدارس والعيادات الطبية ...؛ ليستفيد منها المحتاجون وأفراد المجتمع وفق الأصل السابق.
وقد تبين بالبحث أنه يمكن للجمعيات الخيرية أن تستقبل الأموال المشبوهة وأموال الفوائد الربوية وتقوم على استثمارها اذا راعت الضوابط التالية.
أولا : أن لا تحرص على جمع هذه الأموال وتتبعها، بل تأخذها إذا عرضت عليها وتبرع بها حائزها بمبادرة منه.
ثانيا : أن لا تدخل أموال الفائدة الربوية في بناء المساجد، ولا في طباعة القران الكريم، بل ينتفع بها في وجوه البر الأخرى، كالإنفاق على الفقراء والمحتاجين ، ومداواة المرضى ، وإعانة طلبة العلم الفقراء ممن لا يجدون المال للتداوي والتعلم ...
ثالثا : أن لا تدفع الجمعيات الخيرية رواتب موظفيها والقائمين عليها من أموال الفائدة الربوية ، بل تذهب هذه الأموال إلى مستحقيها من الفقراء والمحتاجين والمشروعات الخيرية.
رابعا: أن تودع أموال الفائدة الربوية في حساب مصرفي خاص بعيدا عن أموال الزكاة والصدقات الأخرى الطيبة التي تأتي إلى العمل الخيري من كسب حلال .
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آلة الطيبين الطاهرين ، وبعد:
فقد كان للعمل الخيري دور رئيس في نشر الإسلام وتثبيت دعائمه ، وذلك من خلال الربط بين فعل الخيرات ، وبين الثواب والأجر على فعل هذه الخيرات . يقول تعالى: ((وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)) ([1]) ويقول تعالى: ((وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)) ([2]).
وقد بدأ العمل الخيري في الإسلام مبكرا مع بداية الدعوة السرية ، وكان أول عمل خيري في الإسلام قصد منه تحقيق النفع العام هو تبرع الصحابي الجليل الأرقم بن أبي الأرقم ([3]) بداره ؛ لتكون مدرسة تعليمية ، ومركزا علميا يتعلم فيه الصحابة الإسلام وتلاوة القرآن الكريم ، ثم توالى بعد ذلك العمل الخيري ، وتطور بانتشار الإسلام وخروج الدعوة إلى العلن ، حيث شرع الإسلام أبوابا رحبة لعمل الخير، بدءا بتشريع الزكاة الواجبة التي هي ركن من أركان إقامة الدين إلى جانب الصدقات الأخرى التي شجع عليها وندب إلى فعلها، كذلك استحدث الإسلام بابا للصدقات الجارية التي يدوم ثوابها لفاعلها، وهي الصدقة الجارية المعروفة بالوقف الخيري ([4])، وهو باب واسع للعطاء والتكافل ([5]).
وقد كان من أوسع أبواب العمل الخيري التي شرعها الإسلام : الصدقة بالمال أنفاقه في وجوه البر المختلفة ، واشترط لقبول هذا الإنفاق أن يكون المال المنفق من كسب طيب حلال؛ لقول الله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ)) ([6]) كما مدح تعالى على فعل الخير وإنفاق المال فيه في قوله تعالى : ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) ([7]) وهذا عام في جميع أوجه إنفاق المال سواء أكان من قبيل الصدقة الواجبة أو النافلة ، فعموم اللفظ يتناول ما كان مفروضا وما كان تطوعا، وقد اشتهر من الصحابة من عني بالعمل الخيري وكثرة فعل الخير والإكثار من الصدقات ، ومن هؤلاء : بعض زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم- كالسيدة زينب بنت خزيمة التي عرف عنها حبها الإحسان إلى المساكين حتى لقبت بأم المساكين ([8]). وكذلك الصحابي الجليل عثمان بن عفان الذي قام بأعمال خير كثيرة ، منها : شراؤه بئر رومة وجعلها سبيلا لمن مر عليها من الناس ، لتكون وقفا وصدقة جارية في سبيل الله ([9]).
ولما كان انتشار الإسلام وحضوره في عصور الإسلام الأولى مؤثرا في نفوس الناس وأفعالهم وتصرفاتهم ، فقد كان الغالب على المال الذي بين أيديهم ، وكذلك المال الذي يتبرعون به لجهات البر ومصالح الخير أنه من كسب حلال ومن مصدر طيب ، أي أن مشاريع العمل العام التي كان يقوم الأفراد على إنشائها والإنفاق عليها كانت تؤسس بالمال الحلال ، ويعد تأسيسها ودعم وجودها جزءا من العبادة والطاعة التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى ، فلم يكن هناك ما يستدعي بحث حكم تأسيس الأعمال الخيرية بمال من كسب حرام أو دعم الأعمال الخيرية القائمة بمثل هذا المال ، ومع وجود المكاسب الحرام وانتشار التعامل بالربا والقمار واليانصيب ... ظهرت الحاجة إلى البحث في حكم التبرع بالمكاسب الحرام إلى العمل الخيري الذي يهدف إلى تقديم خدمة عامة ،...فجاء هذا البحث محاولة للإجابة عن حكم تقبل العمل الخيري للأموال التي يشتبه في مصدر كسبها، وكذلك الأموال التي يتحقق من كسبها من مصدر حرام .
أهمية الدراسة
تظهر أهمية الدراسة من خلال البحث في النقاط التالية:
أولا : الوقوف على الرأي الشرعي في بيان حكم استقبال العمل الخيري الأموال ذات مصادر الكسب غير المشروعة ، وتلك الأموال التي يقع الاشتباه في مصادر كسبها.
ثانيا: إجابة القائمين على مشاريع العمل الخيري عن جواز قبول العمل الخيري أموالا مشبوهة أو معلومة من حيث مصادرها وطرق اكتسابها غير المشروع ، لتصرف في وجوه الخير والبر وتأسيس المشروعات النافعة ؟ وبخاصة مع تكرر عرض مثل هذه الأموال ، وتكرر السؤال من الجمعيات الخيرية التي تأتيها مثل هذه الأموال عن حكم قبولها، أو رفض هذه الأموال والامتناع عن أخذها.
الدراسات السابقة:
تناولت دراسات متعددة الحديث عن العمل الخيري في الإسلام عموما ، والقليل منها من تناول هذه المسألة، ومما اطلع عليه الباحث من هذه الدراسات :
أ- أصول العمل الخيري في الإسلام
وهو كتاب تناول المؤلف فيه الحديث عن القواعد العامة للعمل الخيري في الإسلام كمبدأ من مبادئ التكافل الاجتماعي وباب من أبواب التعاون على فعل الخير، وقد ورد الحديث عن المسألة التي تطرق إليها البحث باختصار دون تفصيل.
ب- العمل الخيري مع غير المسلمين
للباحث حسن وهدان ، وهي رسالة دكتوراه تقدم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراه في الفقه وأصوله من الجامعة الأردنية ، تناول فيها الحديث عن جملة من الموضوعات التي تتعلق بالعمل الخيري مع غير المسلمين مثل : موارد العمل الخيري المالية ، أدلة مشروعية العمل الخيري مع غير المسلمين ، أنواع العمل الخيري مع غير المسلمين ، حكم تقديم المساعدة لغير المسلم مع الشرح والبيان هل مساعدة غير المسلم بالمال أو التبرع له بالمال والأعضاء البشرية يمكن أن يعد صدقة ينال بها المسلم الأجر والثواب أم لا؟ ولم يتعرض الباحث إلى حكم استقبال العمل الخيري للأموال المشبوهة والمحرمة.
ج - قواعد العمل الخيري في الإسلام
للباحثة تمام العساف ، وهي رسالة دكتوراه تقدمت بها الباحثة لنيل درجة الدكتوراه في الفقه وأصوله من الجامعة الأردنية . تناولت فيها الحديث عن القواعد العامة التي تنظم العمل الخيري كما جاءت بها الشريعة الإسلامية دون التعرض إلى التفصيلات والجزئيات .
د - العمل الخيري المؤسسي
للباحث عبد الله محمد المطوع ، تحدث فيه عن العمل الخيري المؤسسي المقترن بالدعوة مع التركيز على دراسة وصفية ميدانية على مؤسستين خيريتين في السعودية . أي أن الكتاب يعالج أهمية العمل الخيري في الدعوة إلى الله ، فهو مقتصر على هذه المسألة.
هـ- العمل الخيري في الإسلام
للباحث حمدان مسلم المزروعي ، تناول الحديث عن جملة موضوعات تتعلق بالعمل الخيري ، منها : مشروعية العمل الخيري ، أهداف العمل الخيري في الإسلام وأنواعه، ثمار العمل الخيري ونتائجه . وليس من موضوعاته المسائل الفقهية التي تختص بالعمل الخيري .
و- القواعد الفقهية للعمل الخيري في الإسلام
بحث مقدم إلى مؤتمر العمل الخيري الخليجي الثالث الذي نظمته دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي في الفترة من 20 - 22 يناير 2008 للباحثة جميلة الرفاعي تناولت فيه الحديث عن بعض القواعد الفقهية التي تضبط وتنظم العمل الخيري في الإسلام ، وليس من مسائل البحث الحديث عن حكم استقبال العمل الخيري للأموال المحرمة أو المشبوهة.
ز- ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي المنعقدة في المدينة المنورة 17- 20 رمضان 1423 هـ
حيث بحث المشاركون فيها جملة من المسائل الشرعية وصدر عنها مجموعة من الفتاوى في الاقتصاد الإسلامي من بينها فتوى بخصوص صرف الأموال الربوية في المصالح العامة ([10]).
ح- العمل الخيري تكافل اجتماعي وعمل إنساني
للباحث عبد الملك منصور، وهو بحث مقدم إلى مؤتمر العمل الخيري الخليجي الثالث الذي نظمته دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي في الفترة من 20-22 يناير 2008 عرض فيه الباحث جملة من المقترحات للنهوض بالعمل الخيري .
ط - الأموال الربوية ومصارفها في العمل الخيري
بحث مقدم إلى مؤتمر العمل الخيري الخليجي الثالث الذي نظمته دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي في الفترة من 20 - 22 يناير 2008 للباحثين محمود أبو ليل وإبراهيم الشال، عرض فيه الباحثان إلى حكم دفع المال الربوي إلى العمل الخيري ، إلا أن البحث جاء مختصرا.
مشكلة الدراسة:
تتلخص مشكلة الدراسة من خلال محاولة الإجابة عن الأسئلة التالية:
أولا : ما الرأي الشرعي في قبول جمعيات العمل الخيري وهيئات الإغاثة التطوعية الأموال الربوية والأموال المشبوهة لإنفاقها في أعمال البر والخير مع علم هذه الجمعيات بمصادر كسب هذا الأموال المحرمة؟
ثانيا : ما أوجه الإنفاق المحتملة للأموال الربوية والمشبوهة التي يمكن للجمعيات الخيرية أن تنفق فيها مثل هذه الأموال ؟
ثالثا : ما الضوابط الشرعية التي ترد على قبول العمل الخيري المال المشتبه في مصدر كسبه ، وكذلك المال الربوي المتحقق من مصدر كسبه؟
منهجية البحث:
اتبع الباحث المنهج الوصفي التحليلي من خلال :
أولا : استقراء الاجتهادات والآراء الفقهية ذات الصلة وعرضها مع أدلتها وتحليلها وفق قواعد الشريعة وأحكامها الثابتة.
ثانيا : المقارنة بين الآراء الفقهية ومناقشتها والترجيح بينها بقوة الدليل.
مخطط الدراسة
المطلب الأول : مفهوم العمل الخيري وتكييفه الفقهي.
المطلب الثاني : مصادر الإنفاق المالي في العمل الخيري وحكم قبول العمل الخيري للمال الحرام .
المطلب الثالث : التأصيل الفقهي لقبول المصالح العامة والعمل الخيري المال الحرام .
المطلب الرابع : حكم التبرع بالأموال الربوية والأموال المشبوهة إلى العمل الخيري .
المطلب الخامس : ضوابط الانتفاع بالأموال المشبوهة والمحرمة في العمل الخيري .
المطلب الأول
مفهوم العمل الخيري وتكييفه الفقهي
أولا: مفهوم العمل الخيري
لم يرد للعمل الخيري ذكر في مؤلفات الفقهاء بهذا التعبير المركب من هذين المصطلحين، إلا أن فحوى هذا المصطلح وتحديد مضمونه ومعرفة المراد منه يمكن استخلاصه مما جاء في أقوالهم واجتهاداتهم عند الحديث عن أحكام الصدقات والهبات والتبرعات والأوقاف وسائر العبادات المالية التي قصد الشارع منها تحقيق التكافل والتأخي بين أفراد المجتمع من خلال التشجيع على عمل الخير والحض عليه.
وقد تحدث الفقهاء عن العمل الخيري بطريق غير مباشرة ، أي دون ذكر مثل هذا المصطلح من خلال حديثهم عن إنفاق المال في المصالح العامة من حيث الإيرادات التي تأتي إليها، وكذلك النفقات التي تنفق فيها هذه الإيرادات ، وعن مصرف في سبيل الله كأحد السهام التي يذهب إليها الإنفاق المالي عند توزيع الزكاة ، فهذه الجهات وما يشبهها تمثل مفهوما عاما للعمل الخيري بما تؤديه من وظيفة اجتماعية تحقق نفعا عاما.
وباستقراء النصوص الشرعية وأقوال الفقهاء واجتهاداتهم في الحديث عن التبرعات والصدقات من جهة مقاصدها وغاياتها الشرعية والإنسانية ، وكذلك من جهة حكمة المشروعية لتشريع الصدقات الواجبة والنافلة يظهر المراد منه ، فهو في الجانب المالي كل عمل ذي طابع مالي يراد به تحقيق منفعة خاصة أو عامة.
والمصلحة الخاصة تتمثل في دفع أموال الزكاة أو الصدقات ... إلى مستحقيها من الفقراء والمساكين والمحتاجين لإنفاقه في سد الحاجة ، وعادة ما تكون حاجة هؤلاء الفقراء والمساكين إلى المال لسد الحاجات الأساسية كالطعام واللباس والإنفاق الاستهلاكي المعتاد الذي يقي به الإنسان نفسه ذل السؤال والطلب.
أما أن كان محل عمل الخير تقديم الصدقات والتبرع بالأموال على وجه النفع العام ، فعندئذ يتحدد المراد منه بمفهومه الخاص.
ويمكن استخلاص مفهوم العمل الخيري وتحديد المراد منه بأنه مصطلح ذو مدلول واسع يقصد به إنفاق المال في عمل مشروع ذي نفع اجتماعي يحقق مصلحة عامة على وجه الدوام قصد به التقرب إلى الله تعالى ماديا كان أو معنويا.
والمصلحة العامة تتمثل في الإنفاق المالي الذي ينتفع به عموم أفراد المجتمع ، كإنشاء المستشفيات والمدارس الخيرية والمساجد ..وهذا مفهوم عام للعمل الخيري .
ثانيا : التكييف الفقهي للعمل الخيري
والعمل الخيري في حياة الناس ذو أهمية كبيرة في إقامة المشروعات الخيرية والمصالح العامة التي ينتفع بها من كان محتاجا إلى ما تقدمه من منافع وخدمات ، كالتعليم والتطبيب ... وهو فيما يقصد إلى تحقيقه من تقديم العون والمساعدة لمن يحتاجها صورة من صور الصدقة التي شرعها الإسلام وكافأ بالحسنات على فعلها.
المثوبة عند الله تعالى أجزل وأفضل عندما تكون الصدقة مستمرة غير منقطعة؛ لأن الخير الدائم - وإن كان قليلا - أفضل من المنقطع لدوام أثره الطيب بين الناس، لذلك يقول الرسول –صلى الله عليه وسلم- : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" ([11])
وعند النظر في الغاية التي تقوم لأجلها مؤسسات العمل الخيري وهيئاته التطوعية، ومحاولة تبين التكييف الفقهي لما تقصد إليه من عمل ولما ترمي إليه من غاية يلاحظ أن الجمعيات الخيرية وهيئات العمل التطوعي ومؤسسات الإغاثة وسيلة ربط بين من يرغب في تقديم المال لفعل الخير وبين من يحتاج إلى هذا المال ، فهي تتطوع لاستقبال المال وتتبرع بإيصاله إلى من يكون محتاجا إليه بالإنفاق المباشر أو بإنشاء المشروعات التي يبقى نفعها دائما، وهي بهذا الوصف تقدم عملا عاما، لأن منفعة الجهد المبذول منها في جمع المال وإنفاقه ليس محصورا بشخص أو مجموعة من الأشخاص؛ لأن غايتها تقديم نفع عام ، فهي - بالمفهوم العام - تمثل مصلحة عامة ، ويمكن أن يكيف عملها وطبيعة وجودها على اعتبارها جهة عمل عام تقدم منفعة ينتفع بها عموم من يحتاج إلى هذه المنفعة ، فهي أشبه حالا - من حيث دورها في المجتمع، ومن حيث الوظيفة التي تؤديها - بالمصالح التي كان يقوم على إنشائها ويحرص على وجودها ورعايتها بيت مال المسلمين ، كذلك تشبه في عملها جهات البر التي كان يؤسسها أفراد المجتمع لتقديم خدمة عامة لمن يحتاجها، كالوقف الخيري الذي حث عليه الإسلام وشجع على وجوده ، وقد كانت جهات البر العام تتلقى الدعم المادي من الدولة - أي من بيت مال المسلمين الذي يمثل خزانة الدولة المالية - كما كان ينفق على هذه الجهات الأفراد الذين يتبرعون بأموالهم لإقامة بعض المصالح العامة عن طريق الصدقة أو الوقف أو الهبة ... أما العمل الخيري فيتلقى الدعم من أموال التبرعات والصدقات من المؤسسات والأفراد، وعلى هذا يمكن تكييف العمل الخيري على أنه صدقة من الصدقات الجارية يراد به فعل الخير؛ تحصيلا للأجر والثواب ، سواء أكان فعل الخير تطوعيا بتقديم الصدقة النافلة والتبرعات غير المفروضة ، أو كان فريضة ، كدفع الزكاة لمستحقيها ممن ذكر الله في كتابه العزيز.
المطلب الثاني
مصادر الإنفاق المالي في العمل الخيري وحكم قبول العمل
الخيري للمال الحرام
العادة الغالبة : أن يكون مصدر الأموال التي تنفق على الأعمال والمشروعات التي تتولى هيئات العمل الخيري ومؤسساته الخيرية إنشاءها وإقامتها من أموال الصدقات والتبرعات والأموال الزكوية التي يحرص على أدائها أهل الخير ومن يخرجون زكاة أموالهم ، ولا شك أن الجمعيات الخيرية قامت لمثل هذا الهدف ، فهي تجمع الصدقات والتبرعات من أموال المحسنين ، وتوجه إنفاقها في أوجه النفع المستحقة لهذه الأموال، مما يعود بالفائدة على أفراد المجتمع المستحقين لهذه الأموال ، وقد تطور عمل هذه الجمعيات وصارت جهات موثوقة يلجأ إليها المحسنون وأرباب الأموال ومن عندهم أموال يرغبون في إنفاقها في عمل الخير، فيدفعون صدقاتهم وزكاة أموالهم إلى هذه الجمعيات؛ لتقوم بإيصالها إلى المستحقين من الفقراء والمساكين.
والأصل في عمل الخير أن يكون الإنفاق عليه من مصدر كسب طيب مما رزق الله من مال حلال؛ لأن الله طيب لا يقبل من العمل إلا ما كان طيبا، وعمل الخير المالي كسائر الأعمال التي يجب أن يكون الإنفاق عليها من المال الحلال الطيب . إلا أن هناك حالات يتم من خلالها عرض مبالغ مالية جاءت إلى حائزيها من طريق حرمها الشارع الحكيم ، وقد يحصل للمسلم الذي يكتسب مالا من طريق حرام كالربا، أو الرشوة ، أو الاحتكار ... توبة تدفعه إلى إبراء الذمة مما اكتسب من مال حرام ، فيتبرع به إلى جهات البر المختلفة ويتحلل منه بدفعه إلى الفقراء والمحتاجين ، وقد يأتي به إلى إحدى الجمعيات الخيرية؛ لتنفقه فيما تقوم به من عمل خير. حيث لاحظ القائمون على عمل الخير من خلال إدارتهم لعمل الجمعيات الخيرية ومؤسسات الإغاثة أن من أرباب الأموال من يأتي إلى الجمعيات الخيرية ومؤسسات العمل التطوعي وعنده أموال مكتسبة من طريق حرمها الشرع ، خاصة الأموال التي تكتسب عن طريق الفائدة الربوية التي تتحصل بإيداع المال في المصرف الربوي ، ويصرح هؤلاء أن مصدر كسب هذا المال جاء عن طريق الفائدة الربوية ، وهو يتبرع به تخلصا من هذا المال المكتسب من طريق حرام وخروجا من الإثم.
وهناك حالات قد لا يصرح المتبرع أن المال الذي يتبرع به من كسب حرام ، كما أن هناك حالات يشتبه أن يكون مصدر حيازة المال فيها من مسلك نهت عنه الشريعة، فيقع الاشتباه أن يكون مصدر هذا المال قد أتى من طريق لا يرضاه الشارع الحكيم دون قيام دليل على حرمة طريق اكتسابه ، فيقع السؤال عن حكم استقبال العمل الخيري للأموال التي يشتبه في اكتسابها من طريق محرمة أو يقع العلم يقينا بأنها أموال من كسب حرام ؟ وفي حال قبول العمل الخيري لمثل هذا الأموال ، هل يكون لها مصارف محددة في الإنفاق ؟ أم يجوز إنفاقها في أي وجه من وجوه العمل الخيري ؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى تأصيل مسألة حكم التبرع بأموال الكسب الخبيث إلى العمل الخيري ، كما يحتاج إلى معرفة حكم قبول العمل الخيري لمثل هذا المال. وقد جاء البحث محاولة للوقوف على الرأي الشرعي في هذه المسألة من خلال الإجابة عن الأسئلة السابقة.
فمن المتفق عليه في شريعة الإسلام : أنه يحرم على المسلم أن يكتسب المال بطريق حرام كالربا، أو القمار، أو الرشوة ، أو الاحتكار ...؛ لأن مثل هذه الوسائل في كسب المال تعد من باب أكل أموال الناس بالباطل، والله تعالى يقول : ((وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)) ([12]) ولأن أكل أموال الناس بالباطل فيه نشر للفساد والفوضى وذهاب الأمن وضياع الحقوق والأخلاق ، وفيه إعانة على المعصية والعدوان ، وكل ذلك مما نهى الله تعالى عنه ، والواجب على من حاز مالا بطريق حرام أن يقوم برده إلى صاحبه أن كان قد أخذ منه بغير علمه ، أو كان قد أخذه منه بغير رضاه واختياره ، كأن يكون مأخوذا زيادة على قرض ربوي؛ مستغلا حاجة المقترض إلى المال ، أو كان قد غصبه منه ، أو سرقه منه بغير علمه ... فالواجب أن يرده إليه أن كان حاضرا معلوما عنده ، فإن كان غائبا فينتظره حتى يعود، وأما إن كان مجهولا لا يعلم حاله أو مكان وجوده ، فالواجب البحث عنه ، فإن وجده رد إليه ماله ، وإن لم يجده أو وجده قد فارق الحياة بالموت رد المال إلى ورثته على اعتبار أن هذا المال بالأخذ منه رغم إرادته لم يخرج عن ملكه ، فيؤول بعد موته إلى مالكه بالخلفية ، وهو الوارث ([13]).
فما سرق من المال ، أو غصب من صاحبه ، أو أخذ منه استغلالا وإذعانا، فالواجب عند التوبة رد هذا المال إلى صاحبه ، وهذه قاعدة مطردة في كل كسب أخذ من مالكه بغير إذنه أو إرادته ، فإن كان هذا الكسب لا يختص بمالك معين كأن يكون أخذ من ملاك كثيرين يتعذر مع الكثرة معرفة عددهم أو حصرهم ، كما لو كان التائب تاجرا محتكرا أو غاشا في بيعه وشرائه . .. مما يعسر معه رد الأموال إلى أصحابها لعدم القدرة على الوقوف عليهم ، فالواجب إنفاق هذا المال في وجوه البر أو في المصالح العامة.
يقول ابن تيمية : " المال الذي لا نعرف مالكه يسقط عنا وجوب رده إليه ، فيصرف في مصالح المسلمين ، والصدقة من أعظم مصالح المسلمين ، وهذا أصل عام في كل مال جهل مالكه بحيث يتعذر رده إليه كالمغصوب والعواري ([14]) والودائع . . . وإذا صرفت على هذا الوجه جاز للفقير أخذها؛ لأن المعطي هنا إنما يعطيها نيابة عن صاحبها ..." ([15]) وهذا يعني أن المال إذا اخذ من مالكه جبرا عنه فهو أحق به برده إليه ، فإن تعذر الرد إليه أنفق في المصالح العامة ([16]).
ولم يقع خلاف بين الفقهاء في أن المال الذي يحوزه المسلم بوسيلة كسب محرمة كالسرقة ، أو القمار، أو الرشوة ، أو الغصب ... لا يدخل في ملك الآخذ المرتكب للفعل الحرام لا في الحال ولا في المآل ، إلا أن الخلاف عندهم في مصير المال المكتسب بالطريق الحرام إذا كان المال قد أخذ من صاحبه برضا واختيار منه ، كأن يكون قد بذله في معصية بدفعه مهرا لبغي أو حلوانا لكاهن يدعي معرفة علم الغيب ، أو قدمه رشوة للوصول إلى منفعة ليست له ، أو كان قد اقرض المال بالربا .. .أي أن الخلاف فيمن هو مالك المال الحرام المقبوض بالعمل الحرام بعد وقوع المعصية التي كان مالك المال سببا في وقوعها ببذله ماله برضاه واختياره دون أن يجبره أحد على فعل الحرام ، فهؤلاء وأمثالهم إذا أراد أحدهم التحلل مما أخذ من مال حرام ، هل ترد إليهم أموالهم ؟ أم يحرمون منها وتذهب إلى الفقراء والمصالح العامة ([17]).
لتحديد الحكم الشرعي في الانتفاع بالأموال الربوية ، وكذلك الأموال المشبوهة من حيث مصادر كسبها في العمل الخيري، فلا بد من تأصيل المسألة فقهيا وتخريجها وفق قواعد الفقه وأراء علمائه.
المطلب الثالث
التأصيل الفقهي لقبول المصالح العامة والعمل الخيري
المال الحرام
تناول الفقهاء الحديث عن إنفاق الكسب الحرام والمال الخبيث في عمل الخير من خلال حديثهم عن مصير المال المكتسب بطرق غير مشروعة ، وكذلك المال الذي يقع الاشتباه في مصدر كسبه ، كما تناوله الفقهاء من خلال حديثهم عن توبة حائز المال الحرام ، كيف يتحلل من المال الحرام الذي بين يديه ، وما الجهة التي يؤول إليها مثل هذا المال ؟
الوقوف على آراء الفقهاء في المسألة يعرف من أقوالهم واجتهاداتهم في مصير المال المأخوذ بطريق حرام ، والمصرف الذي يرد إليه هذا المال توبة وخلاصا من المغرم والإثم.
أراء الفقهاء في المسألة
تعددت أقوال الفقهاء في المسألة وباستقراء ما جاء في اجتهادات أهل العلم والفقه، وبالتخريج على آرائهم يجد المسلم الذي حاز مالا من كسب حرام ، وكذلك من كان عنده مال يشتبه في مصدره أن أمامه مخارج متعددة للتحلل من المال الحرام والتخلص منه، والخروج من الإثم والمغرم عند الله تعالى ، وهذه المخارج هي أقوال واجتهادات لأهل العلم في المسألة، وهذه الأقوال هي:
القول الأول : إتلاف عين هذا المال وإهدار منفعته
أي إبطال التعامل بهذا المال وإخراجه من أيدي الناس وقطع الأيدي عن تداوله بأن تهدر منفعته وتعطل ، ويتحقق ذلك بإخراجه من التداول بالإتلاف أو الحرق أو الإلقاء في البحر . وهو قول الفضيل بن عياض ([18]). حيث نقل عنه الغزالي في كتابه الإحياء أنه وقع في يده درهمان فلما علم أنهما من غير وجههما رماهما بين الحجارة وقال : لا أتصدق إلا بالطيب ولا أرضى لغيري ما لا أرضاه لنفسي ([19]).
وتوجيه هذا القول أن الكسب الآتي من طريق حرام لا يرضى عنها الشارع مال خبيث لا يجوز الانتفاع به ، ولا يجوز دفعه لمن ينتفع به من الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجة ، وكذلك لا يجوز صرفه في مصالح المسلمين العامة أو جعله في بيت المال ، فهو مال خبيث لا يحل الانتفاع به في أي وجه من الوجوه .
القول الثاني : أن يجعل هذا المال في بيت المال
وهذا القول على خلاف القول السابق ، أي أن يودع هذا المال في خزانة الدولة أو إحدى مؤسساتها تنفقه في ما تراه مناسبا، وفيما يخدم أفراد المجتمع ، وفق ما يراه ولي الأمر . وهو قول الشافعية ([20]).
القول الثالث : حصر منفعة هذا المال في الفقراء والمحتاجين
أي أن يتم التبرع بالمال المكتسب بطريق غير مشروعة إلى الفقراء والمساكين دون المصالح العامة ، سواء أكان هذا المال قليلا أم كثيرا، فيدفع إليهم ينفقونه على أنفسهم ويسدون به حاجاتهم ، فمثل هذا المال يذهب إلى الفقراء والمحتاجين دون المصالح العامة ، فينفق عليهم منه ، ويكونون المستحقين لهذا المال حصراً وقصراً ([21]). وهذا الرأي يمنع على غير الفقير والمسكين أن ينتفع بهذا المال؛ لأن منفعة هذا المال أصبحت مقصورة على مالك مخصوص وهو الفقير والمسكين . وهذا القول أخص من القول السابق وأضيق في التطبيق ، وهو قول لبعض أهل العلم من المعاصرين ([22]).
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة من المنقول والمعقول ، منها:
الأدلة الشرعية التي تؤيد ملكية الفقراء لهذا المال ، وليس ملكية مصالح المسلمين العامة له ، وتمليكه إلى المصالح العامة يحتاج إلى دليل شرعي ([23]).
القياس على المال الملتقط الذي لا يعرف له مالك ، فمن التقط مالا وعجز عن رده إلى مالكه يجعله من يلتقطه في الفقراء والمساكين دون المصالح العامة بعد تعريفه وعدم معرفة مالكه ([24]). فالمال الحرام مصرفه الفقراء والمساكين حصرا وقصرا ([25])، ومثله المسلم الذي جمع ثروة من طريق حرام كالسرقة أو الربا أو الرشوة...، ثم تاب وأراد أن يرد هذه الأموال إلى أصحابها كما هو الواجب ، فلم يستطع؛ لأنه لم يعد يعرفهم ، فهذه الأموال سبيلها الفقراء، ومن وضع ماله في مصرف ربوي واستحق عليه فائدة "فعليه أن يأخذ تلك الفائدة التي يحتسبها المصرف الربوي عن ودائعه لديه ويوزعها على الفقراء حصرا وقصرا؛ لأنهم مصرفها الشرعي "([26]).
ومن الأدلة ([27]) على عدم التوسع في صرف الفوائد الربوية في المصالح العامة للمسلمين ، وحصر إنفاقها في الفقراء :
أن الفقراء هم أصحاب هذه الأموال يملكونها حلالا بدليل الشرع ، ولا تتحقق هذه الملكية إلا بالقبض، فإذا صرفت في المصالح العامة لم يتحقق القبض.
إذا كانت الفوائد البنكية ملكا للفقراء، فلا يجوز صرفها في المصالح العامة؛ لأن هذا الصرف يفترض التملك ، والمودع لا يملك فوائد ماله حتى يقرر التصرف فيها، بل الفقراء هم الذين يملكون هذه الفوائد، وهم الذين يقررون صرفها.
القول في صرف الفوائد للفقراء لا يجعل للمودع دورا إلا مساعدة الفقير في تحصيل هذا المال من المصرف مباشرة ،بينما صرف المال الربوي في المصالح العامة يقتضي التملك ثم التصرف -لأن تصرف المسلم لا يصح إلا فيما يملك- وفي ذلك شبهة أكل الربا.
القول الرابع : دفع المال المكتسب من ط ريق حرام إلى الفقراء والمحتاجين أو جعله في بيت المال أو المصالح العامة.
والفرق بين أن يكون مصرف هذا المال هم الفقراء والمساكين ومن هم بحاجة إليه، وبين أن يجعل في بيت المال أو في مصالح المسلمين العامة : أن الاقتصار على دفعه إلى الفقراء والمحتاجين يجعل منهم المصرف المتعين لمثل هذا المال ، بحيث لا يعطى إلى غيرهم؛ لأن هذا مال لا يصلح أن ينتفع به غير من هو مستحق له وهم الفقراء والمحتاجون ، بينما إذا أنفق في المصالح العامة ، فإن المحتاج وغير المحتاج يمكن أن ينتفع بهذا المال من خلال المشاريع والمرافق العامة التي تقيمها الجهة المسؤولة عن المصالح العامة ، فلا تكون منفعة هذا المال محصورة بفرد أو فئة من الناس ([28]).
وقد استدل هذا الفريق بالأدلة التالية:
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي حميد الساعدي قال : " استعمل النبي –صلى الله عليه وسلم-رجلا من الأزد يقال له : ابن اللتبية على الصدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم، وهذا أهدي لي، قال : فقام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال : ما بال عامل أبعثه فيقول : هذا لكم ، وهذا أهدي لي ؟ أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده ، لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير : له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر ([29])، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ([30]) ثم قال : اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت " ([31]). فالرسول –صلى الله عليه وسلم-لم يقبل من ابن اللتبية أن يأخذ المال الذي جاءه بسبب الوظيفة العامة التي عينه فيها، وهي وظيفة جمع أموال الصدقات والزكوات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام عاب عليه قبول مثل هذه الهدية التي أهديت إليه بسبب الوظيفة، وهو - كذلك - لم يسلم لابن اللتبية قوله أن هذا المال هدية "هذا لكم وهذا أهدي إلي" ووقوف النبي -صلى الله عليه وسلم- خطيبا بالناس بسبب ما حصل من ابن اللتبية يدل على رفض التشريع ما وقع من ابن اللتبية ، وأن المال الذي تحصل لم يكن تحصيله بطريق حلال يرضاها الشارع الحكيم ، فدل على أن سبب الإعطاء هو الطمع في المحاباة من الذين دفعوا هذا المال إلى ابن اللتبية ، فغلظ النبي -صلى الله عليه وسلم- القول فيما وقع " سدا لهذا الباب ، ومنعا لتكرره ممن يمكن أن تحدثه نفسه باستغلال موقعه الوظيفي بقبول العطايا والهدايا، ولما لم يقر عليه الصلاة والسلام ابن اللتبية على ما فعل من أخذه للمال وقبوله إياه دل على عدم جواز انتفاع ابن اللتبية بما أخذ، ولما لم يطلب عليه الصلاة والسلام من ابن اللتبية أن يقوم برد هذه الأموال إلى أصحابها دل هذا على أن مثل هذا المال لا يرد إلى باذله ، كما لم يأمره بإبطال منفعته بالحرق أو الإتلاف ...وهذا كله دال على أن المال الذي لم يتعين له مالك أو ليس له مالك مخصوص كالمال الذي أتى به ابن اللتبية يكون مآله بيت المال ، أي في المصالح العامة للمسلمين . قال ابن بطال معلقا على هذا الحديث : " فيه أن هدايا العمال تجعل في بيت المال ، وأن العامل لا يملكها إلا أن طلبها له الإمام ، وفيه كراهة قبول هدية طالب العناية " ([32]) ويقول ابن تيمية : " المال المكسوب إن كانت عين أو منفعة مباحة في نفسه وإنما حرمت بالقصد مثل من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا، أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها فهذا يفعله بالعوض ، ولكن لا يطيب له كله، وأما أن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي وثمن الخمر : فهنا لا يقضى له به قبل القبض ، ولو أعطاه إياه لم يحكم برده ، فإن هذا معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض والمعوض ، ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما، لكن يصرف في مصالح المسلمين " ([33]) ويقول كذلك : " وما أخذه العمال وغيرهم من المسلمين بغير حق ، فلولي الأمر العادل استخراجه منهم ، كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل ... ([34]) ثم علق بعد أن ذكر حديث ابن اللتبية قائلا: "وكذلك محاباة الولاة في المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك : هو نوع من الهدية ، ولهذا شاطر عمر بن الخطاب من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة ، وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك؛ لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية " ([35]).
أخرج البيهقي في دلائل النبوة من طريق رجل من الأنصار قال : "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في جنازة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو على القبر يوصي الحافر : أوسع من قبل رجليه ، أوسع من قبل رأسه ، فلما رجع استقبله داعي امرأة ، فجاء وجيء بالطعام ، فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-يلوك لقمة في فمه ، ثم قال : أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها، فأرسلت المرأة : يا رسول الله ، إني أرسلت إلى البقيع تشترى لي شاة فلم توجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بها بثمنها فلم يوجد ، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : أطعميه الأسارى" ([36]).
والمال المأخوذ بغير إذن مالكه يعد سرقة أو غصبا ، حقيقة أو حكما ، وكلاهما محرم في الشريعة ، فلما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإطعام لحم هذه الشاة التي أخذت دون إذن من صاحبها إلى الأسارى دل على جواز انتفاع الفقراء ومن في حكمهم كالأسرى بالمال غير الطيب، إذ الأسارى من فئة الفقراء والمساكين.
ج- مراهنة أبي بكر الصديق لبعض كفار قريش لما نزل قول الله تعالى ((الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) ([37]) حيث قال بعض المشركين لبعض الصحابة ومنهم أبو بكر الصديق: ألا ترون ما يقول صاحبكم ؟ يزعم أن الروم ستغلب فارس ، فخاطرهم ([38]) أبو بكر على ذلك، فلما حقق الله صدقه وغلبت الروم فارس وكسب أبو بكر الرهان وكان مائة من الإبل قال له -عليه الصلاة والسلام - "هذا سحت فتصدق به" وفرح المؤمنون بنصر الله ، وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لأبي بكر في المخاطرة مع الكفار ([39]). وهذا واضح الدلالة على أن مال الرهان الذي هو مال حرام يذهب به حائزه إلى الصدقة ، أي إلى الفقراء والمساكين ، أو يجعل في المصالح العامة؛ لأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر بالتصدق بمال السحت الآتي عن طريق الرهان جاء عاما، ولم يحصر الصدقة بالفقراء أو بيت المال أو المصالح العامة.
د- روي عن ابن مسعود أنه اشترى جارية ، فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن ، وبحث عنه فلم يجده ، فتصدق بالثمن ، وقال : اللهم هذا عنه إن رضي، وإلا فالأجر لي ([40]).
هـ- فعل عمر -رضي الله عنه- فيما رواه مالك والبيهقي عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال : خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر في جيش إلى العراق . فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة . فرحب بهما وسهل . ثم قال : لو أقدر لكما على امر أنفعكما به لفعلت . ثم قال بلى ، ها هنا مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما . فقالا وددنا ذلك ، ففعل، وكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال . فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر، قال : أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما ؟ قالا : لا، فقال عمر : ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما ، أديا المال وربحه ، فأما عبد الله فسكت ، وأما عبيد الله فقال :ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا ! لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه . فقال عمر : أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله . فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فقال عمر : قد جعلته قراضا. فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه. وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال " ([41]).
وهكذا كان يفعل عمر مع من في يده مال من كسب حرام ؛ يأخذه ويجعله في بيت مال المسلمين؛ ليقوم بيت المال بعد ذلك بإنفاقه في الجهات المستحقة له.
وهذا الرأي يساوي بين دفع المال المكتسب بطريق حرام إلى الفقراء والمساكين وبين جعل هذا المال في منفعة عامة يستفيد منها من كان محتاجا إليها، سواء أكان من الفقراء أم من غيرهم.
يتبع