أشد بن الفرات .. فاتح جزيرة صقلية

د. رفيق حسن الحليمي



تعد جزيرة صقلية كبرى جزر البحر الأبيض المتوسط، وأكثرها سكانًا، مساحتها 25815كم، تبعد عن شمال إفريقيا (تونس) 165كم، عاصمتها بالرمو، وهي تابعة لإيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية، وتتمتع بالحكم الذاتي، تنازعتها منذ القدم قوى خارجية لأهمية موقعها الاستراتيجي، وقد خضعت تاريخيًّا للفنيقيين ثم القرطاجيين فالإغريق ثم الرومان، وغزاها البرابرة، ثم انتقلت إلى البيزنطيين، ثم خضعت لحكم المسلمين حوالي 264 سنة إلى أن سقطت في أيدي النورمان سنة 1090م على يد روجر الأول.

تعد الحديقة الكبرى لإيطاليا منذ القدم، فقد كان يخرج منها- كل عام مرتين- أسطولان محملان بمئات القناطير من القمح والفواكه والخضراوات والجلود المدبوغة باللون الأرجواني، والحرير اللازوردي والمواد الصوفية (1)، كانت الجزيرة تضم خليطًا من الأجناس أهم عناصره الإغريق والطليان وإلى جانبهم جماعات لهم، إلى جانب جاليات من المنفيين المذنبين والمجرمين والعساكر المتمردين، وامتلأت بقطعان العبيد والأسرى، وصغار الملاك الذين عجزوا عن الفلاحة، لما بهظتهم الضرائب، فهربوا من إيطاليا إليها، ودفعوا حريتهم ثمنًا لذلك (2).
الفتح الإسلامي للجزيرة



فكر المسلمون في فتح الجزيرة وضمها إلى دار الخلافة كما هي الحال لكثير من المناطق التي كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية، فقد قام المسلمون بغزوات عدة لها «غير أنه لم يثبت لهم قدم فيها، ولم تكن تلك الغزوات من أجل الغنيمة دائمًا» (3)، إذ كان يحركهم دافع أسمى وهو الجهاد في سبيل الله، ولتأمين المسار البحري من جهة الشمال، حيث مركز الإمبراطورية الرومانية في روما التي تضمر العداء للفاتحين، والتي بدأت تستشعر منذ طلائع الفتوحات الخطر الداهم الذي استحوذ على مناطق متعددة من نفوذها (سورية- مصر - شمال إفريقيا- بلاد الأندلس).
فيروى أنه في عام 122هـ نزل حبيب بن أبي عبيدة، حفيد عقبة بن نافع فاتح إفريقيا أرض صقلية، ومعه ابنه عبدالرحمن، وفي نيته أن يمضي قدمًا في الفتح حتى يستولي علي الجزيرة كلها ، غير أن ثورة في إفريقيا شغلته عن غايته واضطرته إلى العودة لإخماد تلك الثورة، وقد كان من آثار تلك الغزاة أنها نبهت الروم إلى ناقوس الخطر الذي بدأ يقرع قريبًا من أسماعهم، فجعلتهم يتخذون من صقلية قاعدة حربية لحماية الإمبراطورية عند حدودها الجنوبية فعمروا فيه الحصون والمعاقل، وصاروا يخرجون مراكب تطوف بالجزيرة، وهي أمور زادت من صعوبة فتح الجزيرة، وربما صادفوا تجارًا من المسلمين فأخذوهم أسارى (4).
قيل إن رجلًا من سكان الجزيرة اسمه «فيمي» لجأ إلى بني الأغلب في القيروان يستنجدهم لرد اعتباره وشرفه، فكان ذلك سببًا في غزو الجزيرة، غير أني لا أطمئن كثيرًا لصحة هذا الرأي، لأنه يختزل جهاد المسلمين في مجرد نجدة رجل ظلمه قومه بسبب الاعتداء عليه أو على زوجته، وهو خبر يرويه هو نفسه، ولا دليل معه عليه، فشهادته مجروحة، فضلا عن أن المسلمين كانوا حريصين على تأمين حدود دار الخلافة الفتية، من كل جانب يستشعرون منه الخطر، ولم تكن آنذاك قد وهنت عزائمهم ولم تدب في صفوفهم النزاعات كما هي الحال في أواخر عهدهم في بلاد الأندلس، حيث المؤامرات والنزاعات وملوك الطوائف.

ومما يذكر أنه كان بين صقلية وإفريقيا هدنة لم تنقض مدتها، لذلك جمع زيادة الله الأغلبي والي تونس وجوه القيروان وفقهاءها وكان فيهم «أسد» لاستشارتهم في الأمر، وبعد نقاش اختلف فيه الفقهاء، انتهي الأمر كما أفتى أسد بن الفرات، وأقلع الأسطول من مدينة سوسة يوم السبت النصف من ربيع الأول عام 212هـ في نحو مائة مركبة (5).

أسد بن الفرات

(145هـ- 760م - 213هـ- 828م)، عربي صليبة، رحل في صغره مع والده إلى إفريقيا، ثم عاد فقرأ على مالك بن أنس بالمدينة، وذهب إلى العراق حيث التقى بتلاميذ أبي حنيفة النعمان، ثم رحل إلى مصر وعاد الى القيروان سنة 182هـ- 797م، شهر عالمًا في الفقه فأسند إليه زيادة الله الأغلبي قضاء مدينة القيروان، قاد حملة الأغالبة على صقلية، ومات في أثناء حصار سرقسطة ضحية لمرض الطاعون (6).
استمر جيشه في الجهاد، حتى تمكن بعد معاناة شديدة وحروب دامية، كان يقودها بطريقة صقلية من السيطرة على مدينة بالرمو، ومن ثم إخضاع الجزيرة كلها في عام 827م، قيل: لم يتمكن المسلمون من السيطرة الكاملة عليها، فقد بقي القسم الشرقي القريب من جهة القسطنطينية التي كانت تمده بالرجال والعتاد في قبضة البيزنطيين، وفي عام 1090م جاءت جيوش من الشمال بقيادة روجر الأول وأنهت الحكم الإسلامي للجزيرة.
حكم المسلمون الجزيرة ردحًا من الزمن (264 سنة) وهي ليست بالزمن الطويل كما هي الحال في بلاد الأندلس، وعلى الرغم من قصر هذه المدة فقد ترك المسلمون بصماتهم الواضحة في الحياة، بقيت آثارها شاهدة على ذلك حتى أيامنا هذه.

دروس وعبر من غزوة الجزيرة

- حرص قادة المسلمين على فريضة الجهاد في سبيل الله، لنشر رسالة التوحيد، وإصرارهم على تأمين حدود دولتهم من كل عدوان محتمل.
- لم يكن غزو الجزيرة مغامرة غير مدروسة، فقبل اتخاذ القرار بالغزو كان هناك مشاورات وحسابات تؤكد حرصهم على المجاهدين واتخاذ الحيطة والحذر، فقد سأل الفقيه المالكي «سحنون» المجتمعين للتشاور: كم بين صقلية وبين بلاد الروم؟ قالوا: يروح الإنسان- بحرًا- مرتين وثلاثة في النهار ويرجع، قال: ومن ناحية إفريقيا؟ قالوا: يوم وليلة، قال: لو كنت طائرًا ما طرت إليها (7)، وفي قوله تحذير من المغامرة من غزو الجزيرة لأنه وجد المسافة بين الجزيرة وبلاد الروم قريبة جدًّا، بحيث تسمح بإرسال المدد من رجال وعتاد بسرعة غير متوافرة لدى جيش المسلمين، لكن هذا الرأي قوبل برأي آخر تبناه أسد بن الفرات، وهو ضرورة غزو الجزيرة لتأمين المسار البحري، ولمنع الاعتداءات على السفن التجارية للمسلمين، وتحرير أسرى المسلمين.
- لم يقدم الفقهاء، الذين استشيروا ومنهم أسد بن الفرات على الإفتاء بالغزو إلا بعد أن تحللوا من الهدنة التي كانت بينهم وبين صقلية، والتي لم تكن مدتها قد انقضت، وذلك بذريعة وجود أسرى لدى حكام صقلية، ولم يتم الإفراج عنهم مع تصاعد الاعتداءات على السفن التجارية، وقد كان أسد بن الفرات نفسه صاحب هذه الفتوى، ولذلك أسندت إليه قيادة الحملة.
- لم يثن التقدم في السن أسد بن الفرات عن الجهاد في سبيل الله، فقد أسندت إليه الحملة وهو في الثامنة والستين من عمره تقريبًا، فلا نامت أعين الجبناء، وكان يدرك صعوبة الطريق، ووعورة المسلك، ومخاطر ركوب البحر وقوة الأعداء، فقد كان فتح صقلية «عنادًا مستمدًا من القوة النفسية التي خرج بها أسد بن الفرات فاتحًا أكثر من كونه سعيًا وراء غنيمة أو كسب» (8).
- لم يكن حكم المسلمين لجزيرة صقلية وغيرها من البلاد التي خضعت للفتوحات مجرد نزهة أو رحلة صيد وجني غنائم، بل كانت عمارة للأرض، وللنفس البشرية، ونشرًا لعقيدة التوحيد، ففي صقلية شجع المسلمون خلال حكمهم على الزراعة، والتجارة والفنون والعلوم والآداب، وظهر في صقلية شعراء عرب مثل ابن حمديس الصقلي وغيره (9) وبدأ المجتمع الإسلامي الواعد في صقلية يستقطب كثيرًا من المهاجرين الطامحين، وصارت المعاهد الإسلامية كعبة يقصدها كثيرون من علماء أوروبا، كان ذلك كله عندما تحدث العالم القديم في الأندلس وفي صقلية وشمال إفريقيا اللغة العربية، وسعوا إلى تعلمها سعيهم في طلب العمل والمعرفة، وقد استمرت الحضارة الإسلامية مزدهرة، تلقي بظلالها الوارفة على الحياة العامة في صقلية حتى خلال الحكم النورمندي الذي جاء في أعقاب الفتح الإسلامي (10).
د. رفيق حسن الحليمي


الهوامش


1- د. إحسان عباس، العرب في صقلية: دراسة في الأدب والتاريخ ص 28- دار المعارف المصرية.
2- المرجع السابق ص 29.
3- نفسه ص 31.
4- نفسه ص 32.
5- نفسه ص 33.
6- نفسه ص 34، الميسرة 147.
7- العرب في صقلية ص33.
8- نفسه ص 35.
9- نجيب العقيقي: المستشرقون ج1 ص366، ص 104، العرب في صقلية ص 175 وما بعدها.
10- الموسوعة ص 1126.