تصحيح ما أخطأ العوام فهمه من الألفاظ في القرآن الكريم
د. علي عبد الله سعيد آل غرمان الشهري [(*)]
موضوع الاستشهاد الثاني: وكما فُهم المعنى السابق من الآية فهم كذلك منها انها ناسخة لفريضة الجهاد. وهذا ما لا تعنيه الآية. وحاصل ما قاله اهل العلم في تأويلها جملة من الأقوال نذكر اهمها:
القول الأول: انها منسوخة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) سورة التحريم (9). والرسول صلي الله عليه وسلم قاتل العرب ولم يرض منهم غير الإسلام. هذا قول ابن مسعود ([55]) وجماعة من المفسرين.
القول الثاني: انها ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في اهل الكتاب خاصة، وانهم لا يُكرهون على الإسلام إذا ارادوا الجزية. والذين يُكرهون هم اهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام، واية التحريم السابقة نزلت فيهم.
وقيل: إنها نزلت في السبْي متى كانوا من اهل الكتاب لم يُجبروا إذا كانوا كبارا، وإن كانوا مجوسا صغارا او كبارا او وثنيين فإنهم يُجبرون على الإسلام " لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين " لأنه لا تؤكل ذبائحهم، ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة والنجاسات وغيرها.
وهناك اقوال اخرى: انها نزلت في احوال خاصة ببعض الأنصار ([56]).
وكما بيّنا سابقاً ان الآية تدل على انه لكمال هذا الدين، ووضوح آياته وبراهينه لا يحتاج إلى الإكراه عليه، وانما الإكراه يقع على ما تنفر منه القلوب. اما سنة الجهاد فهي ماضية إلى قيام الساعة قال ابن سعدي ([57]): (ولا منافاة بين هذا المعنى وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد، فإن الله امر بالقتال ليكون الدين كله الله، ولدفع اعتداء المعتدين على الدين. واجمع المسلمون على ان الجهاد ماضٍ مع البرّ والفاجر، وانه من الفروض المستمرّة، الجهاد القولي والجهاد الفعلي، ومن ظن من المفسرين ان هذه الآية تنافي آيات الجهاد فجزم بأنها منسوخة فقوله ضعيف لفظا ومعنى، كما هو واضح بين لمن تدبر الآية الكريمة. كما نبهنا عليه ([58])).
2-الآية: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) سورة آل عمران (130)
موضوع الاستشهاد: يرى بعض من لا خلاق له ولا حظ من العلم والفهم ان الربا المحزم هو ما كان على هذه الصورة المذكورة في الآية، وان ما دون ذلك من صور التعاملات ذات النسب المتقاربة واليسيرة لا تدخل في هذا الحكم، ولا يشملها النهي. ولقد تسمع هذا المعنى يتردد من اناس على استحياء منهم يلتمسون به لأنفسهم مندوحة مما امعنوا فيه من المعاملات التي لم يستطيعوا مقاومة الرغبة امام ما تزينه لهم من الطرق، وما تعدهم به من الأماني، قال احمد شاكر ([59]) معلقا على تفسير هذه الآية: (والمتلاعبون بالدين من اهل عصرنا، واولياؤهم من عابدي التشريع الوثني الأجنبي-بل التشريع اليهودي في الربا- يلعبون بالقرآن، ويزعمون ان هذه الآية تدل على ان الربا المحرم هو " الأضعاف المضاعفة " ليجيزوا ما بقى من انواع الربا على ما ترضاه اهواؤهم واهواء سادتهم، ويتركوا الآية الصريحة: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة (279)... فكانوا في تلاعبهم بتأول هذه الآيات الصريحة اسوا حالا ممن- قيل فيهم- (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) سورة آل عمران (7). فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) ([60]).
والحق الذي لا ريب فيه: ان هذه الآية واحدة من آيات عدة جاءت بتحريم الربا بجميع اشكاله وصوره-ومسمياته التي ابتدعوها-تحريما صريحا قاطعا، قليلاً كان ام كثيرا. وانما خص هذه الصورة اي: (كونه اضعافا مضاعفة) لأحد سببين:
إما ان تكون هذه الآية واردة في سياق التدرّج في التشريع، فتكون هذه الآية سابقة لنزول اية سورة البقرة وتمهيدا لها، وتوطئة للتحريم الكلي " لأن التعامل بالربا كان منتشرا بين الناس حينئذ، فجاءت كمرحلة من مراحل التحريم " لتهيئة الناس وتنفيرهم من هذا التعامل القبيح من الربا الفاحش، ثم اتبعها بالتحريم القاطع في سورة البقرة بعد ان بين مساوئ واثار التعامل بالربا فقال تعالى:
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) البقرة: (275-279)
وإما ان يكون قد خصَّ هذه الصورة من القدْر المضاعف؛ لأن النفوس كانت مولعة بمثله، وكانت هذه الصفة أكثر شيوعا؛ لأن احوال المدينين العاجزين عن السداد مفضية إليه، فجاءت الآية بياناً للواقع الذي كان يحصل عندهم في الجاهلية، وتنبيها إلى شناعة هذا الفعل ومقته ([61]). والله اعلم.
3-الآية: قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ) سورة النساء (129).
موضوع الاستشهاد: يفهم من هذه الآية عند كثير من الناس على ان عدل الرجل بين نسائه متعذر ولو حرص عليه وحاوله، وذلك في جميع الأمور الزوجية، فإذا خوطب أحدهم بلزوم العدل في زوجاته وقد بدا منه شيء من الميل في نفقة او مبيت او نحوه احتج بهذه الآية " ليرفع عن نفسه الحرج ظنا منه ان ما هو عليه داخل في معنى الآية.
والصواب: ان هذه الآية لا تشمل كل ما يجري بين الرجل وزوجاته من التعامل؛ إذ ان مجمل معاملات الزوجين ينقسم إلى قسمين: قسم يستطاع العدل فيه، وقسم لا يستطاع العدل فيه.
فأما ما يدخل في استطاعة الزوج العدل فيه فهو مطالب به شرعا. وهذا الذي اشترطته اية إباحة التعدد في اول السورة، إذ قيدت الإذن بالتعدد بالقدرة على العدل، والإقساط بين النساء كما قال جل ثناؤه: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) النساء (3).. فإذا رأى من نفسه عدم القدرة على ان يسوى بين زوجاته فلا يعدد، وليقتصر على واحدة " لأن ذلك أسلم وأقرب ألا يجور.
واما ما لا يدخل في استطاعته فإن الله قد رفع عنه الحرج فيه فقال سبحانه: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) والمراد بذلك كما قال اهل العلم: الميل القلبي بالمحبة، والحظ من القلب، والحظوة، والمشاعر والأحاسيس، وقيل الجماع كذلك، فإن هذا كله مما لا يطيق الإنسان التصرف فيه ([62]).
وانت ترى انها متعلقة بالقلب فهي من اعماله، والقلوب لا يصرفها إلا رب العالمين ([63]).
هذا هو المراد بالآية هنا، والشاهد على ذلك انه اتبعه بقوله سبحانه: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ) كأنه يقول جل ذكره: إذا كنا قد رفعنا عنك الحرج فيما لا تستطيع العدل فيه فلا يؤدي بك ذلك إلى التمادي فتجور فيما تستطيعه فتذر المرأة كالمعلقة اي: لا هي مطلقة فتلتمس نصيبها عند غيره، ولا هي ذات زوج فتنعم بحظها من عشرته، وهذا فيه تحذير وتهديد.
وقد وصفت ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها ([64]) حال رسول الله صلي الله عليه وسلم مع نسائه فقالت: (كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما املك فلا تلمني فيما تملك ولا املك " يعني القلب) ([65]).
ومعنى: " فيما املك " اي: فيما أستطيع، ومعنى: " فلا تلمني " اي لا تؤاخذني. كما ورد عنه صلي الله عليه وسلم التحذير من الحيف على النساء، والجور في حقهن بذكر العقوبة الشديدة على ذلك بقوله: " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل" وفي رواية "ساقط ([66])". فليحذر الذين لا يجتهدون في تحقيق المساواة بين نسائهم ثم يؤولون الآية على هواهم " فإنها في واقع الأمر حجة عليهم، لا لهم.
4-الآية: قوله تعالى:( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) سورة الأعراف (107-110).
موضوع الاستشهاد: في هذه الآيات ونظائرها وصف لمعجزات موسى عليه السلام، وإخبار عن دعوى معارضيه بأنه ساحر، وان ما جاء به ضرب من السحر، ولما كانت العصا اظهر معجزاته كان أثرها في دعوته أكبر، واخبارها عندهم أشهر، حتى اقترنت شبهة السحر بها أكثر من غيرها من معجزاته، ولعل هذا الاعتقاد باق عند بعضهم إلى زماننا هذا.
واليوم نسمع ونقرا في كلامهم ذكر العصا السحرية. يقال حين يعبر الإنسان عن عدم قدرته على تحقيق امر من الأمور: ليست عندي عصا سحرية، او فلان لا يملك عصا سحرية لحل مشاكلهم او نحو هذا. وأكبر الظن ان هذه الجملة أصلها تلك المقالة في معجزة موسى عليه السلام، وان ما سُخرت له من الأعمال الخارقة على يد موسى سببه عندهم السحر لا الإعجاز وصدق النبوة، وان المنكرين توارثوها حتى شاعت واستعملها من لا يفطن إلى أصلها منا وربما منهم كذلك.
وفي هذا رد لصريح القرآن الكريم، واتهام لموسى كليم الله، وجحد لنبوته، وإنكار للمعجزة.
ولا ريب أن من جرت على لسانه من إخواننا المسلمين لا يرى هذا الراي، ولا يقصد إلى ذلك المذهب ولا يعتقده؛ لأنه في غفلة من هذا، ولو علمه لما ارتضاه، ولا تلفظ به، ولكن لما كان في هذا تعريض بدعوة موسى عليه السلام ومعجزته، وموافقة لقول من كذبوه وردوا دعوته وجب على المسلم ان يصون عن مثل هذا لسانه، والا يتعرض لأي من حقائق القرآن الكريم بشيء من التشكيك، او اللهو، او الاستهزاء، ويلزم من يعلم تنبيه من لا يعلم إلى خطر ذلك وخطئه.
5-الآية: قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) سورة العنكبوت (41).
معنى الآية: قال ابن كثير: (هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم الهة من دون الله يرجون نصرهم ورزقهم، ويتمسكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه، فليس في ايدي هؤلاء من الهتهم إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت، فإنه لا يجدي عنه شيئا، فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء ([67]).
موضوع الاستشهاد: ما يجري على السنة بعض الناس، وفي أحاديثهم إذا ارادوا ان يعبروا عن ضعف شيء قالوا: هذا كلام اوهن من بيت العنكبوت، او حجتك اوهن من بيت العنكبوت، او عملك، او قولك، او بيتك او نحو هذا، يريد ان يضرب المثل في الضعف والحقارة بما ينسبه لأحد من الناس.
ووجه الخطأ هنا: ان هذا القول فيه افتيات على النص القرآني، إذ يقرر القرآن ان بيت العنكبوت أضعف واوهن البيوت وهو الحق، وهذا يقول: إن هناك ما هو أضعف منه واوهن، فكأن في هذا تخطئة للآية، واستدراكا عليها... نعم ما يوصف بالضعف في بعض الكلام ليس محسوسا كما هو الحال في البيت ونحوه، فيقال: إن هناك فرقا بين تشبيه البيت ببيت العنكبوت وتشبيه القول او الحجة به " لأن المشبه هنا معنوي ولكنا نقول: إن التأدّب مع القرآن يقتضي الا يجاوز قاعدة المثل التي جاءت الآية بتقريرها فيجريها كما جاءت، سواء اكان المشبه محسوسا او غيره. وكما جرت العادة في الأمثال تجري بألفاظها دون تغيير او تعديل، فهي تستعمل في كل حادثة على إطلاقها الأول بألفاظها واسمائها-وهذا اشهر من ان ينبه إليه-جاء في البرهان للزركشي ([68]) قوله: (لا يجوز تعذى امثلة القرآن، ولذلك انكر على الحريري ([69]) في قوله في مقامته الخامسة عشرة: " فأدخلني بيتا احرج من التابوت، واوهى من بيت العنكبوت " ([70]) فأي معنى ابلغ من معنى اكده الله من ستة اوجه حيث قال: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) فأدخل إن، وبنى افعل التفضيل، وبناه من الوهن، واضافه إلى الجمع، وعزف الجمع باللام، واتى في خبر إن باللام وقد قال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) سورة الأنعام (152). وكان اللائق بالحريري الا يتجاوز هذه المبالغة وما بعد تمثيل الله تمثيل، وقول الله اقوم قيل، واوضح سبيل....) ([71]).
القسم الثالث: الكلمات التي يقع الخلل في ضبطها، ويؤثر في نطقها ومعناها
حدوث هذا امر طبيعي عند أكثر العوام بسبب عدم تحري الصحة في الضبط المرسوم على الكلمات، وعدم تلقي القراءة الصحيحة عن القراء المتقنين الذي يعد الأصل في تعلم القرآن الكريم. إذ من المعلوم: انه لا يؤخذ إلا سماعا ومشافهة من افواه القراء، مع طول المدارسة والتلقين، ورياضة اللسان على التلاوة حتى تستقيم عليه الكلمات والجمل، وتستكمل هيئاتها المحمودة في النطق. وهذه الكيفية غير متوافرة لدى هؤلاء، فيقع الخطأ منهم في إخراج الألفاظ وفي ضبطها، وكذلك في ادائها او تجويدها الذي هو مناط الصحة في التلاوة. على ان التجويد هنا-مع اهميته-ليس موضوعنا لأننا نناقش قضية سابقة له، وهي: إصلاح غلط اللسان، وضمان سلامة الألفاظ عليه، ثم نعالج بعد ذلك إذا أردنا كيفية الأداء.
كيف نصنع بمن تلقنه قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ) سورة الغاشية (8) فيصرّ على نطقها "وجيه" او قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ) سورة الكهف (19). فيأبى إلا ان يلفظها مفتوحة (الراء) او قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) النحل: (6). فيقراها (جمال) بكسر الجيم. هذا هو الأولى بالاستدراك الآن هو وامثاله، ثم ننتقل إلى ما بعده " لأن هذا لا نتجوز فيه لأحد أيا كان تجوزنا للعامي في احكام التجويد.
وكما ترى فإن السبب في هذه اللحون الظاهرة، المفسدة-غالبا-للفظ والمعنى هو: تناولها باللسان العامي المحض، دون تفريق بين ما درج عليه الإنسان في حياته العامة، وانطبع منطقة عليه، وبين ما يتطلّبه التنزيل من استعداد خاص للترتيل والأداء. وهذه جملة امثلة للكلمات التي يقع فيها خطأ العوام.
1-الآية: قوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) الحجر:(2).
لا تكاد تسمع احدا ينطق كلمة (رُبَّ) مع (ما) في حديثه إلا مشددة، فإذا سمعت من يخففها فهو من القلة المتيقظين من اهل العلم او طلابه. وعلى اي حال فليس تشديد الباء لحنا بل هو القراءة الثانية الثابتة في هذه الكلمة، مع قراءة التخفيف. وهما قراءتان صحيحتان عند اهل العلم في اية الحجر هذه، ولم ترد هذه الكلمة في غيرها. فقرا بتخفيف الباء عامة قراء اهل المدينة، وبعض الكوفيين، وبها قرا نافع ([72]) وعاصم ([73]). وقرا عامة اهل الكوفة والبصرة بتشديدها ([74]).
قال ابو جعفر الطبري: (إنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان معروفتان، بمعنى واحد، قد قرا بكل واحدة منهما ائمة القراء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب) ([75]).
وجه الاستدلال في هذه الكلمة: انه من المعروف عند اهل العلم ان القارئ إذا قرا بقراءة إمامه فعليه ان ينفذها على الحرف الذي قرا به، فلا يقرا في قراءة واحدة بوجوه شتى مما اختلف فيه الأئمة-إلا ما يستثنى في مقام تعليم القراءات-. ونحن نقرا في المصحف الذي بين ايدينا بقراءة حفص ([76]) عن عاصم، والوجه فيها التخفيف اي تخفيف الباء من (ربما) فمن شدد الباء فقد ادخل وجها في القراءة في هذا الموضع لم يقرا به صاحب الرواية، فيكون قد خلط في القراءة بين رواية إمامه، وقراءة غيره في ان
واحد. وهذا لا يرتضيه معاشر القراء، ونحن نعمل بما قرروه في هذا الشأن، فهم اهله
وخاصته ([77]).
والذي يحمل القارئ على هذا في الغالب إلْفه سماعها في الحياة العامة مشدّدة دائما كما قدّمت، فإذا مر بها في المصحف لم يفطن لضبطها، واخرجها على نحو ما سمع، وبالنطق الذي عليه تعوّد.
2-الآية: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) سورة الدخان (10).
من لحون العامة تشديد الخاء في كلمة "دخان "، ولم يعرف عند العرب فيها إلا وجه واحد، وهو: التخفيف، وإنما التشديد يكون على الدال إذا دخلت عليها (أل) التعريف وما عدا ذلك فلا ([78]).
ولأنها تستعمل كثيرا في كلامهم مشددة الخاء فإن ذلك كان له أثره عند بعضهم في القراءة، فتراه ينطقها مشددة، وإذا مر ذكر السورة في لفظه شددها، فيقول: سورة الدخان.
وما هذا بصحيح. وقد جاءت هذه الكلمة في القرآن مرتين: هنا، وفي سورة فصلت في قوله سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) الآية (11)، وكلاهما بتخفيف الدال والخاء. ومعنى الدخان: الْعُثان، دخان النار ([79])، والمراد به في الآية قيل: إنه من اشراط الساعة، وانه لم يأت بعد، وقيل: إنه ما اصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صلي الله عليه وسلم حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا، ففي الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود: (إن قريشا ابطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلي الله عليه وسلم فقال: "اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف " فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان... الحديث ([80])).
وقيل إنه يوم فتح مكة يوم حجبت السماء الغبرة ([81]). والله اعلم.
3-الآية: قوله تعالى: (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) سورة الدخان (27).
المشهور عند العامة في لفظ النعمة انها تنطق مكسورة (النون) واما الفتح فإنه غير مستعمل عندهم.
ومن هنا جاء اللحن في هذه الكلمة حين القراءة، كما ان قلة ورودها بهذه الصيغة في القرآن وعدم تردادها على اسماعهم-كغيرها من الصيغ-يشكل سبباً اخر في غرابتها عنهم، وجهلهم بها، إذ لم ترد إلا في موضعين هنا، في اية الدخان، وفي سورة المزمل (11) بينما تكررت نظيرتها بالكسر في القرآن كثيرا.
ولا شك ان اختلاف الصورة في الضبط واللفظ يؤثر في المعنى، فقد فسرها اهل العلم حين تفتح نونها: بالتنعّم والتّرفّه، والرخاء، وسعة العيش، او بمعنى: الحال من التمتع بالنعيم. واما بالكسر فتعنى: الخفض والدعة، والمال، واليد، والصنيعة، والمنّة ([82]). فكأن بينهما عموم وخصوص من وجه، وهي بالكسر اشمل. ونقل القرطبي في الفرق بينهما وجهين:
(أحدهما: انها بكسر النون في الملك، وبفتحها في البدن والدين.
الثاني: انها بالكسر من المئة، وهو: الإفضال والعطية. وبالفتح: من التنعيم، وهو سعة العيش والراحة ([83]).
وفي المفردات: (النِّعمة: الحال الحسنة، وبناء النِّعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة والرّكبة، والنَّعمة: التنعّم، وبناؤها بناء المزة من الفعل، كالضَّرْبة والشِّتمة. والنِّعمة للجنس، تقال للقليل والكثير) ([84]).
4-الآية: قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) سورة النبأ (9).
وجه اللحن في هذه الآية: ان كلمة (جعلنا) وكذلك امثالها تختزل فتحذف اللام وتصير النون مشددة، فتنطق هكذا (وجعنّا)، وقد يكون ذلك بداعي العجلة في القراءة، على نحو ما درج عليه العوام في حديثهم ومخاطباتهم. وهذا اللحن مفسد للقراءة؛ لأنه يخل بالعرف والمعنى، وفيه إسقاط حرف من الحروف الثابتة في القراءة لفظاً وخطاً.
والصواب: ان تنطق اللام ساكنة من الفعل (جعل) متصلة بــــــ (نا) ضمير المتكلم جل جلاله؛ ليكتمل بناء الكلمة، ويفهم معناها، ويحصل الأداء الصحيح للآية.
وهذا لا يحتاج إلى كلفة في معالجة النطق بها أيّاً كان حال القارئ، وإنَّما بشيء من التمهل والتؤدة في القراءة يستقيم له ذلك.
5-الآيات: قوله تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) سورة الفجر(15-16).
قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) سورة الكافرون (6).
وجه المخالفة: تقرا هذه الكلمات التي في اواخر الآيات الثلاث بإشباع الكسر إلى ان تخرج إلى صورة (الياء)، ولها نظائر كثيرة في القرآن يحدث فيها مثل ذلك.
وقد قراهن جماعة بإثبات (الياء) قالوا: لأنها اسم فلا تحذف، وأثبتها بعضهم في الوصل دون الوقف اتباعا لخط المصحف في وقفه، واتبع الأصل في وصله فجمع بين الوجهين.
ومنهم من قرا بالحذف في الوصل والوقف إتباعا للخط، واكتفى بالكسرة، وقرا بالياء في الوصل وأجرى الوقف على الوصل فحذف ([85]).
قال مكي ([86]): (والاختيار حذفها استخفافا، واتباعا للمصحف، ولأن عليه أكثر القراء) ([87]).
وعلى ذلك فإن قراءتها بالكسر في الوصل والوقف اصح وأسلم لئلا يخالف في قراءته إمامه، وموافقة لرسم المصحف الذي يعذ ذلك ركنا من اركان القراءة الصحيحة المقبولة ([88]).
قال القرطبي: (والسنة الا يخالف خط المصحف لأنه إجماع الصحابة) ([89]).
6-هذه الملاحظة تتعلق بعلامات الوقف أو الضبط في المصحف الشريف. وذلك ان بعضا من هذه العلامات تكتب في بعض النسخ بخط كبير يقارب في حجمه حجم حرف الرسم القرآني ([90])، ثم يُفسح لها خلال الآيات فيتوهم القارئ انها منها، وتنطق معها فيقرؤها، وهذا يحدث.
واقل ما يسببه ذلك انه يشوش عليه، ويقطع قراءته. كمن يكتب كلمة (قف) بعد الحروف المقطعة، او يكتب بعض الكلمات التي تحتمل قراءتها الوجهين في مكان واحد فوق بعضها. مثل كلمة (يبسط) و(يبصط) فيظن إن قراءتها لازمة او نحو ذلك.
يتبع