رحلة في«زاد المعاد»
عبدالله محمد الدرويش
باحث دراسات إسلامية




فخرت أمتنا بعلمائها، وازدهت على الدنيا بكريم خصالها، فلا يمضي زمن إلا ويبْرز للكون آثار نهضتها.. والكتاب الذي بين أيدينا ألفه عظيم من عظماء هذه الأمة، حق لنا أن نفخر به وبأمثاله، وأن ننادي في الخافقين أين لكم من أمثاله؟!.
إنهم علماء أفذاذ بذلوا مهجهم في سبيل رسم الطريق لكل السالكين إلى الله، فيما يصلح دنياهم وأخراهم، فلم يبخلوا بجهد من جهودهم، أو علم من علومهم، إلا وقدموه طيبة به نفوسهم، يبتغون بذلك الأجر والمثوبة من الله عزوجل، وهم مع ذلك استفادوا من جميع أوقاتهم فلم يضيعوا شيئا هباء، ولم يسمحوا لسيف الزمن أن يقطعهم.
فهذا الإمام الحافظ ابن قيم الجوزية رحمة الله عليه ألف كتابه في حال سفر، وتشتت قلب، وتفرق همة، كما حدث عن ذلك في أثناء كتابه.
وهذا من أكبر دواعي معرفة مقدرة هذا الإمام على الاستفادة من المخزون المعرفي والثقافي الذي كان نبعا دفاقا ظهرت معالمه في هذا السفر العظيم الذي توضحت فيه آثار من سبقه، وألقت أنوارا وضاءة أنارت سبيل من لحقه.
فتلحظ عميق فقهه وفهمه في دراسته للموضوعات المطروحة ومناقشته لكل قضية فيها إشكال.. وليس هذا محصورا في مناقشته الفقهاء بل تعداه إلى اللغويين والنحاة، فلا يأخذ قولا على عواهنه، وإنما يدقق ويمحص بعد ذكر أقوال السابقين واللاحقين، فإذا كانت مسألة تتعلق بالنحو ذكر مدارس البصريين والكوفيين، وكشف النقاب عن الخطأ في المسألة.
وهو واثق مما يقول، لأن ما عنده غير موجود عند الآخرين، وتعبيره عن ذلك: وهي مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف.
وتنبع ثقته من عدم تعلقه بالأشخاص، وجنوحه إلى التمسك بالصحيح دون الوقوف عند الرجال.. ولذلك مال إلى مخالفة شيْخه وصرح بذلك. على الرغم من محبته البارزة لشيخه، إذ لا يخلو بحث من نقل عنه من رسائله أو أجوبته، وحتى ما يشاهده من أفعاله وتصرفاته.
حتى أننا عرفنا أنه ألف هذا الكتاب بعد وفاة شيخه، وكأنه بذلك يؤرخ لنضج فكره، وعميق فقهه، إذ إنه كتب كتابه بعدما عركته الحياة، وكشفت له الحقائق، وأنارت له السبل.
ونستطيع القول: إنه يؤرخ لعصره وما فيه من محاسن ومساوئ.
ولهذا: نكشف متابعته لحوادث عصره وما كان فيه من فتن ومؤامرات، وما كان للمؤلف من منزلة في قلوب الخلق، مع تبيان منزلته عند أولياء الأمر، حيث كانوا يستفتونه في الوقائع الجارية. وتآمر بعضهم على المسلمين.
وبذكره للوقائع نتعرف على بعض مظاهر العداوة لأهل دمشق ومقاومتهم للغزاة.
كما أنه يؤرخ لحياته وحياة من يعرفه ويحبه، ولذلك: يذكر حواره مع أهل الكتاب.
ويمر عرضا على ما يجري معه من أمراض وعلل في رحلته، حيث تحدث عن مرضه في مكة واستشفائه بالفاتحة وماء زمزم. وإصابته بالحمى.
ويرشدنا خلال ذلك إلى كتبه وما يؤمل في كتابته.. حيث يبين أن بعض الأبحاث مستوفى في كتاب له هو:
ـ التخيير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير.
وينبه على مواطن تحتاج إلى إطالة فيقول: وعسى أن نفرد فيه مصنفا شافيا إن شاء الله تعالى.
ـ تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته.
ـ جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام.
ـ مفتاح دار السعادة.
ـ مدارج السالكين.
ولا نعدم منه إيضاحا وبيانا لفائدة بعض هذه الكتب حيث يقول عن جلاء الأفهام: وهو كتاب فرد في معناه، لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها… .
وإذا أراد من القارئ أن يوسع مداركه في التعرف على معلومات أكثر ذكر له أنه أشبع الكلام في هذه المسألة في كتاب كذا.
أو يحيل على مكان غير معين فيقول: وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجها قد ذكرت في غير هذا الموضع.
وهو في منهجه يعتمد:
1ـ التجربة في كثير من الأمور الطبية. والشرعية.
2ـ المشاهدات الحسية التي يلحظها وله أثر فيها.
3ـ الرؤى المنامية، وقد أخذ ذلك عن شيخه الشهاب العابر.
4ـ النقول من الكتب الأصلية للمذاهب وغيرها، فينقل فصولا كاملة من المازري وابن قدامة في المغني، وابن حزم في المحلى بالآثار، ويسميه منجنيق الغرب.
ومن كتب الرجال: ككتب شيخه المزي… .
وينقل نصوصا بأسانيدها من كتب بعضها مفقود، مما يعطي كتابه أهمية أصالة النصوص.
5ـ الشيوخ: كان المصنف كالنحلة يأخذ الرحيق من كل الزهر.
والمتتبع لكتابه يلحظ استفادته من كثير من علماء عصره في كل الفنون، وإن كان أخذه عن بعضهم أكثر من بعض، فهو شديد الصلة بشيخ الإسلام يرقبه في كل حركاته وسكناته، وينقل عنه كل صغيرة وكبيرة، ويستذكره في كل مناسبة تعرض، وينقل بعض رسائله بنصها وفصها. كما ينقل عنه أصالة مشافهة أو بالواسطة فيقول: بلغنا عن شيخنا أبي العباس.
وكانت صلته بالعلماء منذ صغره ونعومة أظفاره، فظهرت مقدرته على تمييز الجيد من الرديء، وأسفه أن لا يكون قد قرأ علوما على بعضهم لانخرام منيتهم، من أمثال شيخه أحمد بن عبد الرحمن المعروف بالشهاب العابر حيث قال: وهذه حال شيخنا هذا، ورسوخه في علم التعبير، وسمعت عليه عدة أجزاء، ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه، لصغر السن، واخترام المنية له رحمه الله تعالى.
ويصرح بسماعه وقراءته على أمثال الحافظ أبي الحجاج المزي في كتبه: كالتهذيب.
وهو لا يقف عند شيخ لا يتعداه، بل يقتنص الفوائد من كل الناس، ولذلك يقول: سمعت أحمد بن المعدل ينشد.
وله استفادة من أصحابه حيث يقول: وحدثني صاحبنا أبوعبدالله محمد بن عثمان الخليل المحدث ببيت المقدس.
ويعزو الكلام لصاحبه منوها بفضله وفضل أهله، كقوله: أخبرني بذلك عنه ولده الإمام عز الدين عبدالعزيز أبوعمرو أعزه الله بطاعته.
وعندما كان يتحدث عن طب النبي " صلى الله عليه وسلم" استفاد من حذاق عصره في الطب وإن لم يذكر أسماءهم فيقول: أخبرني بعض حذاق الطب. وقال لي بعض فضلاء الأطباء.
وهو إمام في كل الفنون التي تطرق إليها؛ يحسبه من لم يتابعه في أبحاثه أنه لا يعرف غير ذاك العلم. وكأنه أراد من ذلك الوصول إلى حقيقة عقد الإخاء بين الحكمة والشريعة وعدم مناقضة أحدهما للآخر.
فإذا كشف عن علل الأحاديث رأيت ناقدا متقنا من أهل الفن يميز الطيب من الخبيث، ويكشف العلل، ويعرف الدقائق، مع تمييزه لطريقة العلماء المحققين من أمثال الإمام مسلم.
وإذا أورد أمثلة من اللغة أطنب حتى تظنه قد استوعب ما في كتب اللغة وكأنه متخصص في ذاك الفن.
ومن يستعرض كتابه من أوله إلى آخره، يجد فيه العالم المتقن، والفقيه المتمكن، والمؤرخ المدقق، والمحدث النقاد، الذي حاز قصب السبق في كل فن من فنون علم الشريعة، فيما يتعلق بعلاقة الإنسان مع نفسه، وربه، ومجتمعه.
فكان طبيب الأجساد، والأرواح، يعطي من هدي المصطفى " صلى الله عليه وسلم" الأدوية الناجعة، والبلسم الشافي.