قاعدة السياق( سباقاً ولحاقاً) وأثرها في التفسير
دراسة تطبيقية على تفسير أبي السعود المسمى ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم)
د. سليمان معرفي سفر[(*)]
ملخص البحث:
يهدف هذا البحث إلى تسليط الضوء على مسألة السباق واللحاق والسياق كطريقة من طرق التفسير التي يمكن أن يفسر بها القرآن, وإلى إمكان الترجيح بين الأقوال المختلفة في تفسير مسألة من المسائل أو تحديد مرجع الضمير, أو تحديد المراد من اللفظ المختلف فيه.
وقد عُني هذا البحث بالتركيز على مسألة السباق واللحاق والسياق وجمعها في مكان واحد, لا سيما من الناحية التطبيقية العملية في استعمالات المفسرين المتقدمين والمتأخرين لها, فاخترت واحداً من هذه التفاسير, وعرضت لنماذج فيه, لتتضح تلك الصورة لهذه الطريقة الهامة في تفسير القرآن, فاخترت نماذج من تفسير (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) للإمام أبي السعود, وقمت بالتطبيق عليها, حيث إن الإمام أبا السعود رحمه الله تعالى قد أوضح هذه الطريقة في التفسير بصورة واضحة جلية وصريحة.
خطة البحث:
أما الخطة التي وضعتها فهي على النحو التالي:-
مقدمة وتمهيد وفصلان وخاتمة وفهرس.
المقدمة: وتشمل أسباب اختيار الموضوع, وخطة البحث.
التمهيد: ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: السياق: السباق واللحاق.
المبحث الثاني: منهج الدراسة التطبيقية.
المبحث الثالث: منهجي في البحث.
الفصل الأول: ويشتمل على ترجمة الإمام أبي السعود رحمه الله تعالى.
المبحث الأول: اسمه وكنيته ولقبه ونسبه.
المبحث الثاني: مولده ونشأته.
المبحث الثالث: شيوخه وتلاميذه.
المبحث الرابع: وفاته.
المبحث الخامس: نبذة عن تفسير أبي السعود.
الفصل الثاني: ويشتمل على:
الأمثلة التطبيقية من تفسير أبي السعود رحمه الله تعالى والموسوم بـ: (إرشاد السليم إلى مزايا الكتاب الكريم).
الأمثلة التطبيقية من إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم.
الخاتمة وتشتمل على:
أهم نتائج البحث.
فهرس المراجع.
فهرس الموضوعات.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد ..
لقد اهتم أهل التفسير بدلالة السباق والسياق سلفاً وخلفاً, واعتبروها من أهم الدلالات التي لا غنى للمفسر عن الاستعانة بها, فمن السلف:
مسلم بن يسار البصري الفقيه, إمام التابعين في زمانه, وسليمان بن يسار الفقيه الإمام, عالم المدينة ومفتيها, وصالح بن كيسان.
ومن المفسرين: ابن جرير الطبري, وابن عطية, والقرطبي, والعز بن عبد السلام, وابن تيمية, وابن القيم, وابن كثير, والرازي, والزركشي في البرهان.
ومن الخَلَف:
الآلوسي, والشوكاني, وصديق حسن خان, وابن السعدي.
وغيرهم من أهل العلم([1]).
ومن الأمثلة على ذلك:
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ ولا أَكْثَرَ إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)([2]).
قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال إن الله معنا.
وتلا قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ) قال: يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها, هلا قرأت عليه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ)([3]).
بالعلم معهم, وقال في "ق": (ونَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ)([4])([5]).
فقد استدل الإمام أحمد بالسباق واللحاق والسياق على أن المراد بمعية الله تعالى في هذه الآية إنما هي معية العلم.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن الضحاك: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ) قال: هو الله على العرش وعلمه معهم([6]).
وقال ابن كثير في الآية نفسها: ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى, ولا شك في إرادة ذلك, وقال أيضاً:
وقال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم([7]).
فاستفتاح الآية بالعلم هو (السباق) واختتامها بقوله: (إنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هو اللحاق, وبهما معاً كان (السياق) الذي دل على أن المراد (بمعية) الله للعباد هي (معية) العلم لا معية الذات.
وقال ابن كثير في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ القُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ)([8]).
قال ابن كثير: قال الحسن: يعني النطق, وقال الضحاك وقتادة وغيرهما: يعني الخير والشر([9]).
قال ابن كثير: وقول الحسن – هاهنا – أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن, وهو أداء تلاوته, وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف([10]).
وهنا نرى ابن كثير يرجح قول الحسن في تفسير (عَلَّمَهُ البَيَانَ) بالنطق من خلال السياق.
وإلى هذا ذهب الإمام محمد الأمين بن المختار الشنقيطي في أضواء البيان عند قوله تعالى: (وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًا (25) فَكُلِي واشْرَبِي وقَرِّي عَيْنًا)([11]).
قال رحمه الله تعالى:
وقال بعض العلماء: إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به جذع يابس, فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني, وقال بعض العلماء: كان الجذع جذع نخلة نابتة إلا أنها غير مثمرة, فلما هزته أنبت الله فيه الثمر وجعله رطباً جنياً, وقال بعض العلماء: كانت النخلة مثمرة, وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجوداً, والذي يفهم من سياق القرآن أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة, وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة, ولم يكن الرطب والنهر موجودين قبل ذلك, سواء أقلنا: إن الجذع كان يابساً أو نخلة غير مثمرة, إلا أن الله أنبت فيه الثمر وجعله رطباً جنياً, ووجه دلالة السياق على ذلك أن قوله تعالى: (فَكُلِي واشْرَبِي وقَرِّي عَيْنًا), يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة, لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به, فوجود هذه الخوارق من تفجير النهر, وإنبات الرطب, وكلام المولد تطمئن إليه نفسها, وتزول به عنها الريبة, وبذلك يكون قرة عين لها, لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسياً منسياً لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت كما هو ظاهر, وخرق الله لها العادة بتفجير الماء, وإنبات الرطب, وكلام المولود لا غرابه فيه, وقد نص الله – جل وعلا – في آل عمران على خرقة لها العادة في قوله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)([12]).
قال العلماء: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء, وفاكهة الشتاء في الصيف, وإجراء النهر وإنبات الرطب ليس أغرب من هذا المذكور في سورة آل عمران([13]). أ. هـ.
أقول: فأنت ترى أن الإمام الشنقيطي يستدل بالسياق على أن الرطب الجني والنهر جعلهما الله تعالى من خوارق العادة لأن مريم عليها السلام إنما تقر عينيها بهذه الخوارق للعادة؛ لحاجتها الماسة لما يبين براءتها مما اتهموها به, مضافاً إلى ذلك كلام المولود, فبكل هذه الخوارق يمكن أن يحصل لمريم قرار العين, لا بمجرد الأكل والشرب, وقد أيد الشنقيطي ذلك بآية آل عمران التي يتبين فيها تعجب زكريا عليه السلام من وجود أطعمة عند مريم في غير زمان جنيها, فالمسألة كلها ترجع إلى خوارق العادة, كما دل عليه السياق.
وهذا العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي يستدل بالسياق في قوله تعالى: (مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى)([14]).
قال رحمه الله تعالى: وقيل: إن المراد بذلك رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء, وتكليمه إياه, وهذا اختيار كثير من العلماء رحمهم الله, فأثبتوا بهذا رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا, ولكن الصحيح القول الأول, وأن المراد به جبريل عليه السلام, كما يدل عليه السياق([15]).
يقول ابن القيم في بدائع الفوائد عن أهمية دلالة السباق والسياق:
السياق يرشد إلى تبيين المجمل, وتعيين المحتمل, والقطع بعدم الاحتمال, وتخصيص العام, وتقييد المطلق, وتنوع الدلالة, وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم, فمن أهمله غالط في نظره, وغالط في مناظرته, فانظر إلى قوله تعالى: (ذُقْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ)([16]).
كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير([17]).
وعليه, فهذه الرسالة التطبيقية على تفسير أبي السعود, أحببت من خلالها إيضاح هذه المسألة (السباق والسياق) بصورة تطبيقية ليتضح للقارئ أهمية هذا الموضوع, وأنه لا يجوز لمن يتعرض إلى تفسير كتاب الله تعالى أن يهمله, خصوصاً عند اختلاف الأقوال في التفسير.
أسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما جهلنا, وأن ينفعنا بما علمنا.
والحمد لله رب العالمين ..
التمهيد: ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول
التعريف بالسباق واللحاق والسياق
السباق:لغة: قال ابن فارس: (السين والباء والقاف: أصل واحد صحيح يدل على التقديم)([18]).
اصطلاحاً: ما سبق من الكلام, وتوقف فهم معنى ما بعده عليه.
السياق: جاء في اللسان: المهر: قيل للمهر سوق, لأن العرب كانوا إذا تزوجوا ساقوا الإبل والغنم مهراً؛ لأنها كانت الغالب على أموالهم, ووضع السوق موضع المهر وإن لم يكن إبلاً وغنماً.
والسياق: نزع الروح, وأصله سِواق, فقلبت الواو ياء لكسرة السين, وهما مصدران من ساق يسوق.
وساق بنفسه سياقاً: نزع بها عند الموت([19]).
وفي المعجم الوسيط:
وسياق الكلام: تتابعه وأسلوبه الذي يجري فيه([20]).
وهذا التعريف الأخير هو المراد من بحثنا هذا في معنى (السياق)
فمن تتابع الكلام وأسلوبه الذي يجري فيه يسهل تفسير المراد من الآيات الكريمة وتعيينه.
اللَّحاق لغة: بفتح اللام مصدر لَحِقَ يَلحَقُ لَحاقاً. وتلاحق القوم: أدرك بعضهم بعضا, والَّحَقُ: كل شيء لحقَ شيئاً أو لُحِق به([21]).
وفي بصائر ذوي التمييز: لحِقَه ولَحِق به لحقاً ولَحاقاً (بالفتح) أي أدركه([22]).
وفي المعجم الوسيط: اللَّحَقُ: ما يجيء بعد شيء يسبقه([23]).
واللحاق اصطلاحاً: ليس للعلماء تعريف اصطلاحي للحاق, ويمكن القول: بأن اللحاق هو: عجز السياق.
أي مجموع القرائن (مقالية, أو حالية) اللاحقة بآخر الكلام, أي يكون معناه: ما بعد الكلام وآخر الكلام.
وبهذه التعاريف يتضح لنا العلاقة بين السباق واللحاق والسياق, فإن السياق إنما يكون ويتشكل بالقرائن السابقة واللاحقة بالخطاب, وبها يكون المعنى الدلالي أدل على المقصود([24]).
ومن أمثلة دلالة السباق واللحاق في الدلالة على المقصود, ومن تفسير أبي السعود ذاته ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُ نَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإلَيَّ المَصِيرُ)([25]).
يقول أبو السعود في قوله تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُ نَكَ بِالْعَذَابِ) كانوا منكرين لمجيء العذاب المتوعد به أشد الإنكار, وإنما كانوا يستعجلون به استهزاءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجيزاً له على زعمهم, فحكى ذلك عنهم بطريق التخطئة والاستنكار, فقوله تعالى (وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ) إما جملة حالية, جيء بها لبيان بطلان إنكارهم؛ المجيئه في ضمن استعجالهم به وإظهار خطئهم فيه, كأنه قيل: كيف ينكرون مجيء العذاب الموعود والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبداً, وقد سبق الوعد, فلابد من مجيئه حتماً.
أو اعتراضية مبينة لما ذكر. وقوله تعالى: (وَإنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) جملة مستأنفة, إن كانت الأولى حالية, ومعطوفة عليها إن كانت اعتراضية سيقت لبيان خطئهم في الاستعجال المذكور ببيان كمال سعة ساحة حلمه تعالى ووقاره وإظهار غاية ضيق عَطَنِهم المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى مدداً طوالاً عندهم حسبما ينطق به قوله تعالى: (إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) ونَرَاهُ قَرِيبًا) ولذلك يرون مجيئه بعيداً ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ويجترئون على الاستعجال به ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها – وقوعاً وإخباراً – ما عنده تعالى من المقدار وقراءة "يعدون" على صيغة الغيبة, أي يعده المستعجلون أوفق لهذا المعنى, وقد جعل الخطاب في القراءة المشهورة لهم أيضاً بطريق الالتفات, لكن الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين, وقيل: المراد بوعده تعالى: ما جعل لهلاك كل أمه من موعد معين وأجل مسمى, كما في قوله تعالى: (ويَسْتَعْجِلُو َكَ بِالْعَذَابِ ولَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ العَذَابُ) فتكون الجملة الأولى – حالية كانت أو اعتراضية – مبينة لبطلان الاستعجال به ببيان استحالة مجيئه قبل وقته الموعود, والجملة الأخيرة بياناً لبطلانه, ببيان ابتناء على استطالة ما هو قصير عنده تعالى على الوجه الذي مر بيانه, فلا يكون في النظم الكريم حينئذ تعرض لإنكارهم الذي دسوه تحت الاستعجال, بل يكون الجواب مبنياً على ظاهر مقالهم, ويكتفي في رد إنكارهم ببيان عاقبة من قبلهم من أمثالهم.
هذا, وحمل المستعجل به على عذاب الآخرة وجعل اليوم عبارة عن يوم العذاب المستطال لشدته أو عن أيام الآخرة الطويلة حقيقة أو المستطالة لشدة عذابها مما لا يساعده سباق النظم الجليل ولا سياقه, فإن كلا منهما ناطق بأن المراد هو العذاب الدنيوي, وأن الزمان الممتد هو الذي مر عليهم قبل حلوله بطريق الإملاء والإمهال, لا الزمان المقارن له, ألا يرى إلى قوله تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ) إلخ فإنه كما سلف من قوله تعالى: (فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) صريح في أن المراد هو الأخذ العاجل الشديد بعد الإملاء المديد أي وكم من أهل قرية, فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب, ورجع الضمائر والأحكام مبالغة في التعميم والتهويل, أمليت لها كما أمليت لهؤلاء حتى أنكروا مجيء ما وعدوا من العذاب واستعجلوا به استهزاء برسلهم كما فعل هؤلاء (وَهِيَ ظَالِمَةٌ) جملة حالية مفيدة لكمال حلمه تعالى, ومشعرة بطريق التعريض بظلم المستعجلين, أي أمليت لها, والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء, ثم أخذتها بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال وقوله تعالى: (وَإلَيَّ المَصِيرُ) اعتراض تذييلي, مقرر لما قبله, ومصرح بما أفاده ذلك بطريق التعريض من أن مآل أمر المستعجلين – أيضاً – ما ذكر من الأخذ الوبيل أي إلى حكمي مرجع الكل جميعاً, لا إلى أحد غيري, لا استقلالاً ولا شركة, فأفعل بهم ما أفعل مما يليق بأعمالهم.
أقول: فأنت ترى أن أبا السعود يستدل هنا بسباق النظم الجليل وسياقه على أن المراد المتوعد به في قوله تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُ نَكَ بِالْعَذَابِ) إنما هو العذاب الدنيوي, وأن الزمان الممتد هو الذي عليهم قبل حلول ذلك بالعذاب كان بطريق الإملاء والإمهال لا الزمان المقارن له, وهو قوله تعالى: (وَإنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ).
ثم استدل على صحة ما يقول بما يعرف (باللحاق) أي بالكلام اللاحق للكلام السابق, وهو قوله تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإلَيَّ المَصِيرُ), لكنه رحمه الله تعالى لم يشر إلى ذلك في استدلاله, كما سنشير إليه من خلال كلامنا في الفصل الثاني عن الأمثلة التطبيقية.
فقد اعتاد أبو السعود عدم ذكر اللحاق, واقتصر على ذكر السباق والسياق. مع إثباته للاحق من الكلام, لكن دون أن يصرح به.
وها أنت قد رأيت كيف هو رحمه الله تعالى يستدل بالسباق ويؤكده باللحاق؛ ليتم بذلك السياق ويصح الاستدلال من خلال الآيتين الكريمتين من سورة الحج.
المبحث الثاني
منهج الدراسة التطبيقية
تعريف المنهج لغة:
طريق نهج: بين واضح ....... والجمع نَهجات, ونُهُج ونُهوج وطُرق نهجةٌ, وسبيل مَنَهج, ومنهجُ الطريق: وضَحُةُ.
والمنهاج: كالمنهج الطريق الواضح, واستنهج الطريق: صار نهجاً, ونهجتُ الطريق: أبنته وأوضحته؛ يقال: اعمل على ما نهجته لك([26]).
قال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وأما المنهاج فإن أصله: الطريق البين الواضح ....... ثم يستعمل في كل شيء كان بيناً واضحاً سهلاً.
فمعنى الكلام ... لكل قوم منكم جعلنا طريقاً إلى الحق يؤمه, وسبيلاً واضحاً يعمل به([27]).
وقال الجاحظ ابن كثير رحمه الله: (....... أما المنهاج: فهو الطريق الواضح السهل, والسنن الطرائق)([28]).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والمنهاج: السبيل, أي: الطريق الواضح)([29])([30]).
المنهج اصطلاحاً:
(مجموعة من القواعد العامة المصوغة من أجل الوصول إلى الحقيقة في العلم)([31]).
ويقول محمد بن صامل السلمي: (وكان العلماء المسلمون يعبرون عن المنهج بالأصول والقواعد ولذا وضعوا أصولاً وضوابط للبحث في مختلف العلوم مثل: أصول الحديث, أصول التفسير, أصول الفقه)([32]).
تعريف الدراسة التطبيقية:
(هي الدراسات التي تسعى لإبراز مواطن الوفاق أو الخلاف بين قضيتين, أو قضايا في موضوع واحد مع تفسير ذلك وتعليله)([33]).
ومن ثم فالدراسة التطبيقية هي تطبيق منهج من مناهج البحث العلمي على موضوع ما, ثم رصد النتائج؛ لتحليل نصوصها والحكم عليها.
المبحث الثالث
منهجي في البحث
ويتلخص منهج البحث في النقاط التالية:-
تخيرت أمثلة موضوع البحث من خلال النظر في تفسير الإمام أبي السعود رحمه الله تعالى.
بينت معاني بعض الألفاظ القرآنية الواردة في البحث.
عند ورود الآيات القرآنية قمت ببيان اسم السورة ورقم الآية في الهامش.
عزوت الأقوال إلى قائليها, وأشرت إلى المراجع في الهامش, مبيناً اسم الكتاب ومؤلفه والجزء والصفحة, أثبت رقم الطبعة وسنة الطبع ومكان الطبع في فهرس المراجع.
وضعت الآية المراد تفسيرها في صدر الصفحة, ثم تفسير أبي السعود لها من حيث السباق واللحاق والسياق.
قمت بالتعليق على كلام أبي السعود, وبينت كيفية استدلاله (بالسباق واللحاق والسياق) في الترجيح بين الأقوال.
قمت بعمل خاتمة تشتمل على:-
أهم نتائج البحث.
فهرس المراجع.
فهرس الموضوعات.
الفصل الأول
ترجمة الإمام أبي السعود
المبحث الأول: اسمه وكنيته ولقبه ونسبه.
هو أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي([34]).
المبحث الثاني: مولده ونشأته.
مولده:
ولد الإمام أبو السعود في سنة 898ه بقرية قريبة من القسطنطينية من خواص أوقاف الزاوية التي بناها السلطان بايزيد خان للشيخ محيي الدين والد أبي السعود([35]).
نشأته:
لقد أحاطت بالعلامة أبي السعود ظروف أهلته لأن يكون الذي كان, فقد تربى في أسرة مشهورة بالعلم والتقى والورع, فوالده هو الشيخ محيي الدين محمد بن مصطفى الاسكليبي الذي جمع بين رياستي العلم والعمل وأحبه السلطان بايزيد خان حتى اشتهر ين الناس بشيخ السلطان([36]).
وأما والدته فهي سليلة بيت علم وفضل, فهي بنت أخي العلامة علاء الدين علي القوشجي الذي برع في شتى العلوم, وكانت له باع طويلة في العلوم الرياضية, وله مصنفات عديدة في فروع العلم المختلفة([37]).
ومن هنا ندرك سر نبوغ الإمام أبي السعود؛ فنشأته في هذه البيئة الزاخرة بالعلم والفضل كان لها أكبر الأثر في تربيته.
قال صاحب العقد المنظوم: (وقد مهد له في مهده الصواب, وسخر له أبيات الخطاب, وتربى في حجر العلم حتى ربا, وارتضع ثدي العلم إلى ن ترعرع وحبا, ولا زال يخدم العلوم الشريفة حتى رحب باعه, وامتد ساعده واشتد اتساعه)([38]).
يتبع