﴿إذ قال له ربه أسلم ﴾ أخلص دينك لله سبحانه بالتَّوحيد وقيل: أسلم نفسك إلى الله ﴿ قال أسلمت ﴾ بقلبي ولساني وجوارحي ﴿ لرب العالمين ﴾.--حين نتكلم عن الاستسلام فإننا نقصد به تلك الحقيقة التي بينها الله فى كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم -وهى الخضوع والانقياد لله بفعل أوامره وترك نواهيه والرضا باحكامه والتسليم المتضمن لمعنى العبودية، فلا يجد العبد في نفسه حرجًا من أَمرٍ أمَرَ الله به أو ورسولُه صلى الله عليه وسلم، ؛ ولذا نفى الله الإيمان عمن لم يحصُل هذا المعنى في قلبه ولم يحقِّقه في نفسه فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يقذف في النار أحبّ إليه من أن يعود في الكفر بعد أن نجاه الله منه، ولا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»والاستسلام هو العلامة الفارقة بين المؤمن والمنافق، فالناس ثلاثة أصناف: كافر معلن بكفره جاحد للرسالة ورادّ لما جاءت به الرسل، ومنافق متستّر بنفاقه، ومؤمن ظاهرًا وباطنًا وهو المستسلم لأوامر الله عز وجل الرّاضي بحكمه وشرعه
وفى القرآن والسنة وسيرة الصحابة نماذج من هذا التسليم - من ذلك قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فقد أمر الله إبراهيم بذبح ولده الذي ولد له بعد أن كبر إبراهيم في السن وصارت زوجته عجوزًا، فما إن بلغ هذا الطفل السن التي يمشي فيها مع والده حتى أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه، وهذا الأمر امتحان واختبار من الله لبيان مدى الاستسلام لتطبيق أمر الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك عقب القرآن على هذه القصة حين وصف إبراهيم وابنه عليهما السلام بالاستسلام فقال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين} [الصافات: 103]، وقال: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين} [الصافات: 105]، وقال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِين} [الصافات: 106].---ومن ذلك ايضا ما حققه الصحابة -رضوان الله عليهم-، - لما نزلت آية تحريم الخمر، فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ سورة المائد:91 ماذا فعلوا؟ كسروا قنان الخمر وأراقوها مباشرة، فجرت في السكك والطرقات-------لما نزلت آية الحجاب، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، أول ما رجع الرجال إلى نسائهن، يتلون عليهن آيات الله والأمر بالحجاب، مباشرة عمدن إلى مروطهن فشققنها، وجعلنها خمرًا، احتجبن بها----عندما نزلت الآية بتحويل القبلة، وكانت القبلة إلى الشمال، إلى بيت المقدس، والمسلمون بالمدينة، والتحويل إلى الجنوب، إلى مكة، جاء رجل ممن صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجده المسجد النبوي إلى قوم من المسلمين يصلون بمسجد قباء، ما بلغهم تحويل القبلة،، فشهد بالله أن القبلة قد حولت، فماذا فعل هؤلاء المسلمون؟ هؤلاء، الصحابة،استدارو ا في الصلاة فتحولوا كما هم من الشمال إلى الجنوب، من بيت المقدس إلى الكعبة،
وقد أجمل الإمام ابن القيم -رحمه الله- الكلام في التسليم إجمالا جمع فيه شتات الأمر، ورد شارده على وارده، فقال رحمه الله: “ومن منازل: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] منزلة التسليم، وهي نوعان: تسليم لحكمه الديني الأمري، وتسليم لحكمه الكوني القدري. فأما الأول: فهو تسليم المؤمنين العارفين، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنُفِسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فهذه ثلاث مراتب: التحكيم، وسعة الصدر بانتفاء الحرج، والتسليم. وأما التسليم للحكم الكوني: فمزلَّة أقدام ومضلَّة أفهام، حيَّر الأنام وأوقع الخصام، وهي مسألة الرضا بالقضاء، والتسليم للقضاء يحمد إذا لم يؤمَر العبد بمنازعته ودَفعه، ولم يقدر على ذلك، كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها. وأما الأحكام التي أمر بدفعها فلا يجوز له التسليم إليها، بل العبودية مدافعتها بأحكام أخر أحبّ إلى الله منها”
فالاستسلام شامل للرضا بحكم الله الشرعي، وهو أمره ونهيه الواردان في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يندرج تحت هذا المعنى التصديق بالأخبار وتلقيها بالقبول والإقرار، وعدم الرد لها، وبهذا صرح السلف ووردت الآثار. والمعنى الآخر وهو الرضا بأقدار الله الجارية على العبد من غير مشورة له أو اختيار. فلا يكون العبد مستسلما لله عز وجل حتى يحقّق هذه المعاني في نفسه، ويتبناها اختيارا منه ورضًا، فإذا تحققها فإن النصوص تجتمع عنده إذا كان معتنيا بالشرع، وتلتئم وتتوافق وتستقرّ وتثبتُ قدمه في الدين، وينتفى عنه الريب والشك، .--------ويقول بن القيم رحمه الله- وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي والهوى على العقل وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق وأثبت بها من باطل وأميت بها من هدى وأحي بها من ضلالة وكم هدم بها من معقل الإيمان وعمر بها من دين الشيطان وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل بل هم شر من الحمر وهم الذين يقولون يوم القيامة لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [اعلام الموقعين]-----------
ويقول ابن القيم : فأقسم سبحانه بأجل مقسم به، وهو نفسه، عز وجل، على أنه لا يثبت لهم الإيمان ولا يكونون من أهله حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع في جميع أبواب الدين .
ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه، حيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا، وهو الضيق والحصر، من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتسليم، لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر.. ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى : "وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" فذكر الفعل مؤكدًا بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، وهو التسليم والخضوع له والانقياد لما حكم به طوعًا ورضا، وتسليمًا لا قهرًا ومصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهًا بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه ، وأبر به منها، وأقدر على تخليصها .
فمتى علم العبد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلم له وسلم إليه : انقادت له كل علة في قلبه، ورأى ألا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد ]--زاد المهاجر إلى ربه]