أثر النظرة المقاصدية في فهم النص القرآني
د . أشرف محمود عقلة بنى كنانة ([·])
ملخص البحث:
تناولت هذه الدراسة أثر النظرة المقاصدية في فهم النص القرآني ؛ التي تتوافر بها الأهلية عند المفسر للفهم الصحيح لمعاني كتاب الله تعالى واستنباط أحكامه وحكمه وأسراره ، توسيعا للإدراك والفهم ؛ فالقرآن حمال ذو وجوه ، وقد يقع التعارض الظاهري بين نصوصه ؛ فيقع كثير من الناس في الزلل نتيجة إغفال مراعاة قصد الشارع ، أو لعدم المعرفة به؛ وقد حاولت الدراسة حصر جوانب هذا الموضوع ؛ فبينت معنى المقاصد والفهم وأهميتها في تحديد المعنى الصحيح ، ثم بينت أهمية النظرة المقاصدية في فهم الخطاب القرآني ، وأن مراعاة هذا الجانب من شأنه أن يعصم المجتهد من الوقوع في الزلل ، ويعينه على معرفة سياق الكلام وعلى ترجيح أحد محتملات النص القرآني ، ثم ختمت الدراسة ببيان أثر المعرفة بالمقاصد في فهم الخطاب القرآني ؛ ليتبين من خلال المثال العملي مدى عظم هذه المعرفة وأهميتها؛ في توجيه النص القرآني ، وفي فهم أحكام القرآن ، وفي توسيع دلالة الخطاب القرآني ليشمل بعض الأحكام المستجدة ، ومعرفة الحكم عند سكوت الشارع " وبذلك يظهر أن من لم يعرف مقاصد القرآن الكريم لا يحل له أن يتكلم فيه" فليس الأمر مجرد إصدار الحكم بقدر ما هو استحضار مال الحكم.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلا شك أن من خير الأعمال التي يتوجه بها المرء إلى ربه جل وعلا: هو معرفة معاني القرآن الكريم وطرق دلالته على الأحكام ، ولا زال العلماء يبذلون قصارى جهدهم في استثمار معاني الخطاب القرآني بشتى الوسائل والسبل، ومن هذه السبل العظيمة : معرفة مقاصد الشارع من تشريعه ، إذ المعرفة بهذه المقاصد خير سبيل يوصل إلى المعنى المراد من الخطاب القرآني.
وقد جاءت هذه الدراسة لتبين أثر النظرة المقاصدية في فهم النص القرآني ؛ إذ بها تتوافر الأهلية عند المفسر للفهم الصحيح لمعاني كتاب الله تعالى واستنباط أحكامه وحكمه وأسراره ، توسيعا للإدراك والفهم ، واستخراجا للأحكام المستجدة منه؛ فالقرآن حمال ذو وجوه ، وقد يقع التعارض الظاهري بين نصوصه ؛ فيقع كثير من الناس في الزلل نتيجة إغفال مراعاة قصد الشارع ، أو لعدم المعرفة له؛ وهذا ما جاءت الدراسة لتبينه وتحدد أطره في مباحثها الثلاثة ، حيث عني المبحث الأول منها ببيان معنى المقاصد والفهم وأهميتهما في تحديد المعنى الصحيح ، ثم بين المبحث الثاني منها أهمية النظرة المقاصدية في فهم الخطاب القرآني ، ثم ختمت الدراسة بالمبحث الثالث الذي كان عنوانه : أثر المعرفة بالمقاصد في فهم الخطاب القرآني ؟ ليتبين من خلال المثال العملي مدى عظم هذه المعرفة وأهميتها؛ موضحة ذلك في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول : اثر المعرفة بالمقاصد في توجيه النص القرآني.
المطلب الثاني : أثر المعرفة بالمقاصد في فهم أحكام القرآن .
المطلب الثالث : أثر المعرفة بالمقاصد في توسيع دلالة الخطاب القرآني، ارتآها الباحث للدلالة على عظم هذه النظرة ، وأخيرا انتهت الدراسة بخاتمة فيها أهم نتائج البحث.
وقد اتبعت المنهج التالي في كتابة البحث ، وفي بيان مباحثه ومطالبه:
بينت أهم المصطلحات التي يحتاجها البحث.
عزوت الآيات القرآنية إلى سورها وأرقام آياتها، مع مراعاة ضبطها برسم المصحف.
خرجت الأحاديث النبوية والآثار السنية ، مع الحكم عليها - ما أمكن- إن لم تكن في الصحيحين أو في أحدهما.
ضربت من الأمثلة أهمها فيما يتعلق بخدمة موضوع البحث.
بينت آراء الفقهاء مع أبرز أدلتهم التي تتعلق بموضوع البحث ، والتي تظهر من خلالها النظرة المقاصدية في فهم القرآن الكريم وأحكامه.
رجعت إلى كل فن من الفنون إلى كتبه المعتمدة فيه.
علقت عقب الأمثلة وعقب وجه الدلالة منها على المراد؛ بما يتناسب مع إظهار أهمية النظرة المقاصدية.
ترجمت للأعلام غير المشهورين ، أو الذين لا توجد لهم مؤلفات مطبوعة متداولة ؛ فلم أترجم للصحابة أو التابعين ، أو للمشهورين من أهل العلم قديما وحديثا؛ لعدم الجدوى من ذلك.
وقد جاءت خطة البحث التفصيلية على النحو التالي:
المبحث الأول : معنى المقاصد والفهم وأهميتهما:
المطلب الأول : معنى المقاصد والفهم.
أولا: تعريف المقاصد.
ثانيا: تعريف الفهم.
المطلب الثاني : أهمية معرفة المقاصد للفهم الصحيح.
المبحث الثاني : أهمية معرفة المقاصد في فهم الخطاب القرآني:
اولا: العصمة من الوقوع في الزلل:
في حمل الظاهر المحتمل لمعان على المراد منه شرعا.
في حمل المتشابه على معناه الألصق به.
ثانيا: الاعانة على معرفة مقام التشريع المحتف بالنص (سياق الكلام ).
ثالثا: الاعانة على معرفة أحد المعاني المحتملة للنص (ترجيح أحد محتملات النص القرآني ).
المبحث الثالث : أثر المعرفة بالمقاصد في فهم الخطاب القرآني:
المطلب الأول : أثر المعرفة بالمقاصد في توجيه النص القرآني:
أولا: مراعاة مآلات الأفعال التي هي محل الأحكام .
ثانيا: فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه.
ثالثا: معرفة معاني القيود الواردة في الخطاب القرآني.
المطلب الثاني : أثر المعرفة بالمقاصد في فهم أحكام القرآن :
أولا: رفع التعارض بين ظواهر القرآن الكريم.
ثانيا: الترجيح بين المتعارضين.
المطلب الثالث : أثر المعرفة بالمقاصد في توسيع دلالة الخطاب القرآني:
أولا: توسيع دلالة النص القرآني ؛ ليشمل بعض الأحكام المستجدة .
ثانيا: معرفة الحكم عند سكوت الشارع عنه.
الخاتمة : وفيها أهم نتائج البحث.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المبحث الأول
وأهميتهما
المطلب الأول
معنى المقاصد والفهم
أولا: تعريف المقاصد:
تعريف المقاصد لغة:
المقاصد: جمع مقصد ومقصد. وأصلها: الفعل (قصد)، والقصد: العدل والاعتزام، أي: الاعتزام والتوجه نحو الشيء على اعتدال . وفي الحديث : "القصد القصد تبلغوا"([1])، أي: عليكم بالقصد من الأمور في القول والفعل ، وهو: الوسط بين الطرفين . والقصد في الشيء: خلاف الافراط . والقاصد: القريب . والقاصد: السهل ، وفي التنزيل العزيز: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ )(التوبة: 42)، سفرا قاصدا: أي غير شاق ([2]).
تعريف المقاصد اصطلاحا:
تضم كلمة مقاصد لغة معنى : الاعتدال والسهولة والقرب ، ومقاصد الشريعة اصطلاحا لا تخرج عن هذه المعاني " فقد عرفها الطاهر ابن عاشور بانها: "المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها"([3]).
وهذا التعريف يشمل المقاصد العامة فقط، ولعل أقرب التعاريف التي تشمل المقاصد بأنواعها العامة والخاصة والجزئية قولهم : مقاصد الشريعة ؛ هي: "الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها ؟ لمصلحة العباد"([4]).
لا يشك شاك بأن الشريعة الاسلامية من أعظم الشرائع على الاطلاق وأقومها، وأن لها مقاصد وغايات ترمي إلى تحقيقها، وأن هناك حكما راعتها الشريعة في جميع أحوال التشريع ؛ تحقيقا لمصلحة العباد في العاجل والآجل، ولو لم يكن التشريع هذه صفته لكان ضربا من العبث ، والعبث بعيد من تصرفات العقلاء، فكيف بخالق العقلاء جل وعلا.
وبهذا يتبين أن هدف الشريعة وغايتها؛ هو: مصلحة الانسان كخليفة الله في الأرض ، وكمسؤول أمامه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ؛ لأن الله تعالى استخلف بني آدم ليقيم العدل والانصاف والمساواة في الأرض بيسر وسهولة وعدم كلفة أو مشقة ، وغاية الغايات هي: تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة ، لمن اتبع هداه وانقاد لأمره ونهيه ([5]).
وقد يعبر عن المقاصد بألفاظ أخرى ، منها: الحكم، والعلل ، المعاني، المصالح . ويعبر عنها في القرآن الكريم والسنة المطهرة : بالإرادة . ويعبر في القرآن الكريم والسنة المطهرة عن المصالح بـ الخير والنفع والحسنات . وعن المفاسد: بالشر والضر والاثم والسيئات ([6]).
ثانيا: تعريف الفهم:
تعريف الفهم لغة:
الفهم هو: معرفتك الشيء بالقلب . يقال : فهمه فهما وفهامة؛ علمه وعرفه بالقلب . و فهمت الشيء عقلته وعرفته . ويقال : رجل فهم: سريع الفهم . ويقال : فهم و فهم و أفهمه الأمر و فهمه إياه : جعله يفهمه ، و استفهمه سأله أن يفهمه، واستفهمني فأفهمته وفهمته تفهيما، وتفهم الكلام : فهمه شيئا بعد شيء ([7]).
تعريف الفهم اصطلاحا :
الفهم اصطلاحا يطلق على: تصور المعنى من لفظ المخاطب . وقال الراغب هيئة للنفس بها يتحقق معاني ما يحس ([8]).
والتفهيم : إيصال المعنى إلى فهم السامع بواسطة اللفظ ([9]) وجودة الفهم وسرعته : ملكة للنفس يقتدر بها على الانتقال من الملزومات إلى اللوازم بلا فصل ([10]).
ويطلق الفهم على الفقه والبيان ؛ لأن الفقه في اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه ([11])، يقال فقه الرجل بالكسر يفقه فقها: إذا فهم وعلم . وفقه بالضم يفقه : إذا صار فقيها عالما. وقد جعله العرف خاصا بعلم الشريعة وتخصيصا بعلم الفروع منه ([12]).
والبيان : إظهار المقصود بأبلغ لفظ. وهو من الفهم وذكاء القلب مع اللسان ، وأصله الكشف والظهور ([13]).
المطلب الثاني
أهمية معرفة المقاصد للفهم الصحيح:
بعد بيان معنى المقاصد ومعنى الفهم ، يظهر جليا مدى الارتباط الوثيق بين الفهم ومقاصد الشريعة الاسلامية ؛ فالمقاصد تتضمن معنى معرفة مرامي الشريعة القريبة والبعيدة ؛ ليتحقق الهدف من التشريع ؛ ولا شك أن ذلك يحتاج إلى جودة القريحة والى سرعة الفهم والتصور للمعنى المراد من اللفظ ، عن طريق إظهار المقصود بأبلغ لفظ، كما هو أسلوب القرآن الكريم في البيان .
والمعرفة بالمقاصد لا يستغني عنها العالم أو طالب العلم ؛ خصوصا المفسر والفقيه ؛ لأن المفسر يوضح معاني الفاظ القرآن الكريم ؛ ليتوصل إلى فقه اللفظ ، وفقه اللفظ لا يمكن إدراكه بدون "حسن التصور للمعنى المراد من لفظ المخاطب ، وادراك مراميه ومقاصده " ([14])، وذلك هو المقصود بالفهم ؛ فبين الفهم والمقاصد ارتباط وثيق ، ولا يمكن أن يحصل الفهم بدون معرفة المقاصد.
يقول الشاطبي في قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ )(النساء: 82 ومحمد: 24): "فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن ؛ فلم يحصل منهم التدبر... وإذا حصل التدبر لم يوجد في القرآن خلاف البتة "([15])؛ فمقاصد القرآن الكريم وأسراره لا تنكشف ولا تتضح إلا بالفهم الصحيح العميق ، مع التفكر في معاني النص ومدلولاته ودقة التأمل وطول النظر فيه، ومن هنا فإن زلة العالم اكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ([16]).
ومن لم يفهم مقاصد الشريعة سوف يضل في فهم معاني القرآن والسنة؛ إذ الشريعة مبناها على الكتاب والسنة ، فإذا أغفلت المقاصد فقد أغفل جزء من الشريعة ، ومن لم يفهم مقاصد الشريعة الإسلامية ربما ضل في حمل الظاهر أو المتشابه المحتمل لمعان على المراد منه شرعا؛ إذ الواجب حمل اللفظ على ما يوافق نصوص الشارع ومقاصده ، وابطال كل تأويل يخالف ذلك ويناقضه ([17]). قال الشاطبي : "فإن القرآن والسنة لما كانا عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي ، كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما، إذ لا يصح له النظر حتى يكون عالما بهما، فإنه إذا كان كذلك " لم يختلف عليه شيء من الشريعة "([18]). قال الدكتور عبد الله دراز عقب كلام الشاطبي هذا: "أي؛ فالاختلاف منشؤه أحد أمرين : ضعف في اللغة العربية واستعمالاتها، أو جهل بمقاصد الشريعة ، أو هما معا" ([19]).
وقد عد كثير من الأصوليين المعرفة بالمقاصد شرطا من شروط المجتهد؛ حيث إن المجتهد يتصرف في الشريعة باستنباط الأحكام من النصوص والقواعد والمبادئ ، ويطبقها على الوقائع ؛ فهذا لابد له من معرفة مقاصد الشريعة ؛ لأن اجتهاده في النصوص التي لم تتضح دلالتها إنما يكون صوابا بحسب قربه وبعده من مقصد الشارع ، ولذلك وجب عليه اتباع ما هو الأقرب ([20]).
وقد بين الطاهر ابن عاشور - رحمه الله - أن مدى احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشارع يقع على أنحاء خمسة وذكر منها: " فهم أقوالها – أي الشريعة -، واستفادة مدلولات تلك الأقوال ، بحسب الاستعمال اللغوي ، وبحسب النقل الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل الاستدلال الفقهي "([21]).
ورغم أن الأصوليين قرروا أن العوام والمقلدين ليسوا بحاجة إلى معرفة المقاصد، وأن الأصل فيهم أن يتلقوا الشريعة بدون معرفة مقاصدها التي ترمي إليها؛ لأن معرفة المقاصد نوع دقيق من أنواع العلم لا يخوض فيه إلا من بلغ حظا كبيرا من العلم ([22])؛ إلا أن ذلك ليس على إطلاقه ؛ ففد يستفيد العامي والمقلد من المعرفة بالمقاصد بأحد أنواع الاستفادة غير استنباط الأحكام من النصوص " فهو ليس أهلا للاستنباط ، وغير مطلوب منه الاستنباط ، لكن لا مانع من تعلمه لمقاصد الشريعة" لتتوسع مداركه ويأخذ من العلم ما ينفعه دون أن يتجاوز حدوده ومؤهلاته ، وليس له أن يفتى أو يستنبط ؛ وليزداد تمسكه بهذا الدين وينشرح صدره به ([23]).
إذن فلمعرفة مقاصد الشريعة والعلم بها فوائد وآثار إيجابية تعود على المسلم المكلف ، سواء كان مجتهدا أو قاضيا أو حاكما، أو طالب علم، أو داعية ومربيا، أو كان عاميا مقلدا، بل ربما كان لذلك فوائد تعود على غير المسلمين، وبيان ذلك على النحو التالي ([24]):
أهمية المقاصد بالنسبة للمجتهدين والقضاة والحكام :
هذه الفئة من الناس هي الأحوج لمعرفة مقاصد الشريعة الاسلامية ؛ حيث يتعلق بها تقدير النفع للأمة ، والموازنة بين المصالح والمفاسد، واختيار الأنسب للناس والمجتمع.
فالمجتهد يحتاج إلى المقاصد الشرعية لفهم القرآن الكريم ، وأخذ الحكم منه، وكذلك الشأن في السنة المطهرة ، وفي سائر أدلة التشريع ، واكثر ما يحتاج المجتهد لذلك عند تطبيق النصوص الشرعية على الوقائع والحوادث المستجدة ، وفي توجيه الفتوى وتغيرها حسب الظروف والأحوال ، إذ الهدف من الفتوى تطبيق النصوص على الوقائع ([25]).
والقاضي كالمجتهد - أيضا - في حاجته للمعرفة بمقاصد الشريعة ، وهذه المعرفة تعينه على العدل والحكم الصحيح المطابق للواقع.
أما الحاكم فقد اتفق الفقهاء على أن تصرفات الامام (الحاكم) على الرعية منوطة بالمصلحة ، أي إن جميع تصرفات الحاكم مرتبطة بتحقيق مصالح الناس ؛ فإن لم تحقق تصرفاته مصالح الناس لحقهم الحرج والضيق والمشقة ([26]).
أهمية المقاصد بالنسبة لطلاب العلم الشرعي:
طالب العلم الشرعي وخصوصا المبتدئ لا بد أن يخصص قدرا كبيرا من وقته للتعرف على مقاصد الشريعة الاسلامية ؛ حيث إن مجرد حفظ المعلومات العلمية ودراستها لا تكفي ؛ بل لا بد من دراستها مع الروح التي فيها، وإلا أصبح طالب العلم مجرد آلة تحفظ المعلومات دون وعي أو فهم، وبمعرفة طالب العلم الشرعي لمقاصد الشريعة تتكون عنده نظرة تكاملية للشريعة ولأحكامها، وتصبح عنده صورة شاملة عنها؛ فيسلم من الاضطراب والتشتت ، وتتبين له الأهداف السامية التي ترمي إليها الشريعة الغراء من تشريعها للأحكام ، والغايات الجليلة التي جاءت الشريعة لأجلها، فيزداد إيمانه وقناعته ومحبته للشريعة ، وتمسكه بدينه وثباته عليه ، وهو إذا وصل إلى هذه المرحلة ، سيعلم علم اليقين أنه لم يؤت من العلم إلا قليلا، وأنه لم يصل بعد إلى درجة الاجتهاد؛ فيتواضع للآخرين ، ويحسن الاعتذار للمخالفين ، ولا يجزم بالحكم ، أو يلزم الغير به، وهذه من افضل درجات السلوك لدى الطالب المبتدئ .
أهمية المقاصد بالنسبة للدعاة :
الداعية والمربي له وظيفة فاعلة في الأمة وهو القدوة الصالحة إذا أحسن الدعوة والتربية ، والعلم بمقاصد الشريعة من اكبر الوسائل التي تعين المربي والداعية على دعوته وتربيته ؛ فإذا وضع نصب عينيه أن دعوته وتربيته ترمي إلى تحقيق مصالح المدعوين والمربين ، وتدفع المفسدة عنهم ، وتحقق السعادة لهم في الدنيا والآخرة ، ووازن بين ما ينفع وما يضر، وأعطى كل ذي حق حقه من ذلك، نجح في دعوته وتربيته ، وكان وريثا للأنبياء والصالحين في الدعوة إلى الاصلاح ، وخصوصا في هذه الأيام التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى نشر سماحة الإسلام ويسر الشريعة وصفائها، ونشرها في الأرض بكافة الوسائل ؛ فإذا بصر الداعية والمربي الناس بأهداف الشريعة ومقاصدها من العدل والرحمة والاشفاق على الآخرين وحب الخير لهم، تم الاقتناع بدين الله تعالى ، وازدادت القناعات بهذه الشريعة الغراء، وتشوق الناس إلى التكاليف الشرعية ([27]).
أهمية المقاصد بالنسبة لعوام المسلمين:
لعل عوام المسلمين هم الطائفة الأقل استفادة من مقاصد الشريعة الاسلامية ؛ ذلك لأن لديهم عاطفة جياشة في حب الاسلام وأهله ، ولكنها عاطفة - في كثير من الأحيان - دون بصيرة أو علم، ودون فهم لمرامي الشريعة ومقاصدها القريبة والبعيدة ، لذلك نجد أن هناك تصرفات من العوام تخالف الشريعة الاسلامية ومقاصدها، ولكنهم يظنون أن فيها المصلحة والخير، لذلك يفعلونها، وقديما قالوا: وكم من باغ للخير لم يبلغه.
ومن هذه التصرفات مثلا: قول بعضهم : الدين في القلب ؛ تجده يترك كثيرا من التكاليف ويزعم أنه مؤمن ، والشيطان يسول له أنه على حق وصواب ؛ فبعض العوام بهذه الحجة يترك الصلاة قائلا: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، أو يقول: الله لا يريد لي الهداية . أو يقوم بالجمع بين الصلوات دون سبب من مطر أو مرض، بحجة أنه لا يريد التعطل عن العمل ؛ لأن الاسلام حث على العمل ، وبعض الفتيات مثلا تترك اللباس الشرعي ؛ بحجة أن الاسلام دين السماحة واليسر وعدم التشدد، زاعمة أن اللباس الشرعي فيه تشدد وتنطع ، إلى غير ذلك من تسويلات الشيطان نتيجة للفهم الخاطئ للدين ، ونتيجة للجهل بمقاصد الإسلام .
فإذا تعلم هؤلاء جميعا مقاصد الشريعة الغراء، وما تهدف إليه من غايات ، وأن في تكاليفها السعادة للبشر وتحقيق مصالحهم ، ودرء المفاسد عنهم ، فلا شك أن هذه الأفكار الهدامة والتصرفات الخاطئة ستزول عنهم ، وسيعلمون أن ما ظنوه من تلك الأمور مصالح ، أنها أوهام وتلبيسات من الشيطان ، واكثر ما يحتاج العامي لمعرفة مقاصد الشريعة في وقتنا، الذي امتلأ بالغزو الفكري ، والتيارات المستوردة ، والمبادئ البراقة ، والدعوات الهدامة ، عبر وسائل الاعلام الحديثة، والتي تهدف إلى تشويه الإسلام والافتراء عليه وإلصاق الاتهامات به؛ كالتخلف والرجعية ، والسذاجة وغيرها ([28]).
أهمية المقاصد لغير المسلمين:
كثير من غير المسلمين يعيشون عيشة ضنكى، ويشعرون أنهم يعيشون إلى غير هدف، حتى سجلت في بعض البلاد التي تمتاز بالتقدم التكنولوجي والصناعي ، أعلى نسب انتحار؛ لماذا؟ لأنهم يبحثون عن السعادة ، فلا يجدونها. لأنهم يبحثون عما يحقق مصالحهم ويدفع عنهم المفاسد والآلام ، فلا يجدونه؛ نتيجة للخواء الروحي ، وفساد الفطرة .
فإذا ما وقف هؤلاء على المصالح الحقيقية والمضار الحقيقية في حياتهم، وعلموا أن الاسلام الحنيف جاء ليخرجهم من الظلام والشفاء، إلى النور والهدى والسعادة ، وعلموا أن التمسك بالإسلام يحقق لهم كل المصالح التي يريدونها، ويسد الفراغ الروحي لديهم، لا شك أنهم سيفكرون في أنفسهم ويراجعون عقيدتهم ودينهم ، وذلك كله يتوقف على نجاح الداعية الاسلامي في دعوة أمثال هؤلاء إلى الإسلام ، ومدى قدرته على إقناعهم بمبادئ الشريعة الغراء، واعطائهم التصور الصحيح عنها، وكم نجح كثير من الدعاة في ذلك، بسبب أنهم وقفوا على مقاصد الشريعة الاسلامية ، وأوقفوا غيرهم عليها كذلك، واكثر ما يدلل على أهمية تعريف غير المسلمين بمقاصد الاسلام ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بينها في دعوته للمشركين وصرح بها، حتى دانت له قبائل العرب وخضعت لشريعته صلى الله عليه وسلم ([29]).
المبحث الثاني
أهمية معرفة المقاصد في فهم الخطاب القرآني
تعين معرفة مقاصد الشارع المجتهدين في الوقوف على المعاني المرادة للمشرع من نصوصه ؛ فتيسر طرق الاستنباط.
قال الشاطبي : "والاجتهاد في المعاني الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد العربية ، والاجتهاد في المعاني الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد الشريعة، والاجتهاد في مناط الأحكام يلزم فيه المعرفة بمقاصد ذلك المناط من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه غيره ، وهو ظاهر" ([30]).
ويمكن أن يظهر ذلك من خلال ما يلي:
أولا - العصمة من الوقوع في الزلل:
لا شك أن معرفة العالم بالمقاصد تعصمه من الزلل والانحراف ؛ لأنها توسع الآفاق وتعطي أبعادا جديدة للنص لم يكن يتوقعها بدون معرفة المقاصد، وفي مقابل ذلك كم أوقعت الحرفية في التعامل مع النصوص أناسا في الزلل والتعصب ؛ فهم مأمورون بالأخذ بالنصوص وعدم مخالفتها، وذلك هو الواجب، ولكن ليس بمنأى عن روح التشريع ومقصده ، ومراميه وأهدافه.
ومقاصد القرآن الكريم وأسراره لا تنكشف ولا تتضح إلا بالفهم الصحيح العميق ، مع التفكر في معاني النص ومدلولاته ودقة التأمل وطول النظر فيه، ومن هنا فإن زلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ([31])، فعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: " هل تعرف ما يهدم الاسلام ". قال قلت: لا. قال: "يهدمه زلة العالم ، وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلين "([32])، وقد شبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير ([33]).
وعن يزيد بني عميرة ([34]) صاحب معاذ : أن معاذا رضي الله عنه قال يوما في مجلس جلسة :" وراءكم فتن يكثر فيها المال ، ويفتح فيها القرآن حتي يأخذه المؤمن والمنافق والحر والعبد والرجل والمرأة والكبير والصغير ؛ فيوشك قائل أن يقول :فما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ! والله ما هم بمتبعي حتي أبتدع لهم غيره ، فإياكم وما أبتدع ؛ فإن ما أبتدع ضلالة ، واحذروا زيغة الحكيم ؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة ضلال على فم الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة حق " ، قال قلت له : وما يدرينى يرحمك الله أن الحكيم يقول كلمة ضلالة وأن المنافق يقول كلمة حق ؟ قال " اجتنبت من كلام الحكيم المشتبهات التي تقول ما هذه ؟ ولا ينئينك ذلك منه ؛ فإنه لعلة أن يراجع ويلقي الحق إذا سمعه فإن على الحق نورا".
وفي رواية: " ولا يثنينك ذلك عنه " وفيها " المشتهرات " عوضا عن " المشتبهات"([35]).
وزيغة الحكيم ؛ هي: انحراف العالم عن الحق ، والمعنى : أحذركم مما صدر من لسان العلماء من الزيغة والزلة وخلاف الحق أن تتبعوه . والمشتهرات: الكلمات المشتهرات بالبطلان التي ينكرها الناس ؛ فينبغي أن لا يصرف ذلك عن الصراط المستقيم ؛ فلعل الحكيم يرجع عن المشتهرات إلى الحق ، فخذ أنت ما لا يخفى عليك ؛ وعليك أن تجتنب من كلمات الحكيم المنكرة الباطلة ، ولكن لا تترك صحبة الحكيم ؛ فلعله يرجع عنها، ومعنى : "ولا ينئينك": أي لا يباعدنك ([36]).
وقد نهى العلماء عن الطبوليات؛ فقالوا: زلة العلم مضروب لها الطبل ([37]) والطبوليات هي: المسائل التي يراد بها الشهرة ، وسميت طبوليات؛ لأنها مثل الطبل لها صوت ورنين ؛ فإذا جاء بمسألة غريبة عنه، واشتهرت كانت كأنها صوت الطبل ([38]).
وأكثر ما يظهر زلل العالم في أمرين هما: حمل الظاهر على المحتمل لمعان على المراد منه شرعا، وحمل المتشابه على معناه الألصق به، وسوف أبين كل واحدة بمثال كما يلي:
في حمل الظاهر المحتمل لمعان على المراد منه شرعا:
ومن أمثلة ذلك: ما ذهب إليه بعض العلماء ([39]) من جواز إتيان النساء في أدبارهن استدلالا بقول الله تعالى : (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )( البقرة: 233 ) ؛ بحجة أن معنى (أنى): من أين؛ أي: من أي جهة؛ لأن (أنى) تأتي بمعنى : (كيف) وبمعنى : (حيث) وبمعنى : (متى) ([40]).
فهذا استدلال غير صحيح يخالف معنى النص ، ويخالف الفطرة السليمة، وما قصدته الشريعة من تطهير النفس وبعدها عن أماكن القذر؛ حيث إن تحريم إتيان المرأة في دبرها يوافق تحريم إتيان الحائض من حيث المقصد والحكمة يقول الله تعالى : (قُلْ هُوَ أَذًى ) (البقرة: 222)، ثم إن معنى الحرث في الآية هو الزرع ، وزرع الولد لا يكون إلا في الفرج ؛ وهي جملة مبينة لما أجمل من قول الله تعالى: ( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)(البقرة 222) ومعنى قوله تعالى : (أَنَّى شِئْتُمْ) (البقرة: 223)، أي: كيف شئتم من أي مكان ([41]).
قال الألوسي : "والقول بان الآية حينئذ تكون دليلا على جواز الاتيان من الأدبار: ناشيء من عدم التدبر في (أَنَّى) لازمة إذ ذاك؛ فيصير المعنى : من أي مكان ، لا في أي مكان ؛ فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال ، لا تعميم مواضع الاتيان ؛ فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها.... وياليت شعري كيف يستدل بالآية على الجواز! مع ما ذكرناه فيها، ومع قيام الإحتمال كيف ينتهض الاستدلال ، لا سيما وقد تقدم قبل وجوب الاعتزال في المحيض ، وعلل : بأنه أذى مستقذر تنفر الطباع السليمة عنه، وهو يقتضي وجوب الاعتزال عن الإتيان في الأدبار لاشتراك العلة ، ولا يقاس ما في المحاش من الفضلة بدم الاستحاضة، ومن قاس فقد أخطأت إسته الحفرة ؛ لظهور الاسقذار والنفرة مما في المحاش دون دم الاستحاضة ؛ وهو دم انفجار العرق كدم الجرح ([42]).
وقد جاء سبب نزول الآية ؛ ليبين صراحة أن المقصود ب: (أَنَّى )كيف شئتم من أي مكان ؛ وهى بمعنى : (حيث)؛ فيما أخرجه البخاري ومسلم عن المنكدر قال: سمعت جابرا رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ؛ فنزلت : (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )( البقرة : 223) ([43]).
في حمل المتشابه على معناه الألصق به:
ومن ذلك: أن نافع بن الأزرق ([44]) سال ابن عباس رضي الله عنهما؛ فقال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي .قال: (فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) المؤمنون: 101)، (واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )(الأنعام: 23 ) ، فقد كتموا فيهذه الآية . وقال : (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) إلى قوله : (الأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا )( النازعات: 28-30) ؛ فدكر خلق السماء قبل الأرض . ثم قال: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)( فصلت: 9)، إلى أن قال: (ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وهِيَ دُخَانٌ )(فصلت: 11 )؛ فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء. وقال :( وكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا النساء: 96)، (وكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا )( النساء: 158)،( وكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)( النساء : 134 ) فكأنه كان. ثم مضى؛ فقال ابن عباس : (فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ )(المؤمنون: 101)، في النفخة الأولى : (ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ ومَن فِي الأَرْضِ إلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ)( الزمر: 68)؛ فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة : (وأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ )( الصافات: 27). وأما قوله: (واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) ( الأنعام: 23)، (ولا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )( النساء: 42 ) ؛ فان الله يغفر لأهل الاخلاص ذنوبهم؛؟ فقال المشركون : تعالوا نقول ما كنا مشركين ؛ فختم على أفواههم ، فتنطق أيديهم ؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده : (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ ولا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )(النساء :42)، وقوله عز وجل: (خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ )( فصلت: 9)، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن : (فِي يَوْمَيْنِ )(فصلت: 12)، آخرين ثم (دَحَاهَا) ( النازعات: 30): دحا الأرض ؛ أي: أخرج الماء والمرعى ، وخلق الجبال والآكام وما بينهما: (فِي يَوْمَيْنِ ) (فصلت: 9)؛ فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السموات في يومين : (وكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا )(النساء: 96)، سمى نفسه ذلك، وذلك قوله ؛ أي: لم أزل كذلك ؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد" فلا يختلف عليك القرآن" فإن كلا من عند الله "([45]).
فجواب ابن عباس رضي الله عنه الطويل هذا وقوله فيه: "فلا يختلف عليك القرآن ؛ فإن كلا من عند الله " يطهر أهمية تفسير القرآن بالقرآن ، ورد بعضه إلى بعض؛ ليعلم متشابهه ويزول الاشكال من الذهن ، وذلك لا يحصل إلا لمن أدرك مقاصد التشريع جملة ، وعلم أن الأدلة الشرعية لا يمكن أن تنافي أو تعارض الفهم السليم من العقل السليم ؛ وبذلك ينتفي الزلل عن العالم ؛ فيحمل ما تشابه في ذهنه أو ما أشكل عليه على المعنى الأشبه به والألصق.
قال الشاطبي جوابا على قول قن قال: إن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس ، ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول ؛ فلا تفهمها أصلا: "إن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول ، وإن توهم بعض الناس فيها ذلك؛ لأن من توهم فيها ذلك؛ فبناء على اتباع هواه ... لا أنه بناء على أمر صحيح ؛ فإنه إن كان كذلك ؛ فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف ، وان فرض أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله ؛ فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجي ، لا لمخالفته لها" ([46]). "ثم لم يزل هذا الاشكال يعتري أقواما، حتى اختلفت عليهم الآيات والأحاديث ، وتدافعت علي أفهامهم ؛ فتبجحوا به قبل إنعام النظر"([47]).
ثانيا - الإعانة على معرفة مقام التشريع المحتف بالنص (سياق الكلام ):
لدلالة السياق أهمية كبرى في فهم الكلام وتبيين معاني الجمل التي يعتريها غموض ، وكذلك الأمر في ترجيح بعض المعاني والمقاصد على بعض، وفوائد معرفة سياق النظم عديدة ؛ فإن كل ما يتكلم به سواء كان قرآنا أم سنة أو شعرا أو نثرا، لا بد له من معنى مقصود مراد، وقد يأتي هذا الكلام مقترنا بكلام آخر، أو بواقع معين ، أو بنبرة صوت معينة ، أو بإشارة محددة ، والذي يوضح القصد من كل ذلك هو السياق .
قال ابن القيم : "إن دلالة النصوص نوعان : حقيقية ، واضافية. فالحقيقية: تابعة لقصد المتكلم وإرادته. وهذه الدلالة لا تختلف . والاضافية: تابعة لفهم السامع وادراكه، وجودة فكره وقريحته ، وصفاء ذهنه ، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها. وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك ([48])... والمقصود: تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص ، وأن منهم : من يفهم من الآية حكما أو حكمين ، ومنهم : من يفهم منها عشرة أحكام أو اكثر من ذلك. ومنهم : من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ، ودون إيمائه واشارته وتنبيهه واعتباره . وأخص من هذا وألطف ، ضمه إلى نص آخر متعلق به؛ فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده . وهذا باب عجيب في فهم القرآن ، لا ينتبه له إلا النادر من أهل العلم؛ فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا، وتعلقه به ([49]).
ومن الأمثلة التي تبين أهمية سياق النظم المحتف بالنص : قوله تعالى: (إن وهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ )( الأحزاب: 50) ؛فقد استدل بها الحنفية ، وبعض المالكية على: جواز انعقاد النكاح بلفظ الهبة ؛ فإذا جاز انعقاد نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة ، جاز انعقاد أنكحة الأمة به بالقياس عليه ([50]).
وقد رد عليهم أصحاب الامام الشافعي ذلك: بأن الله تعالى لفا قال: (خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ) ( الأحزاب: 50 ) ؛ فدل ذلك على اختصاصه صلى الله عليه وسلم بشيء دون المؤمنين ؛ فيحتمل أن يكون ذلك الشيء هو جواز النكاح بلا مهر، ويحتمل أن يكون ذلك جواز انعقاد نكاحه بلفظ الهبة ، واذا كان اللفظ محتملا للمعنين؛ لم يصح القياس حتى يترجح أن المراد بالاختصاص هو ملك البضع من غير عوض، لا جواز النكاح بلفظ الهبة ([51]).
فيقول لهم الأولون : إن سياق الآية يرجح أن المراد ملك البضع ؛ وذلك : أن الآية سيقت لبيان شرفه صلى الله عليه وسلم علي امته ونفي الحرج عنه؛ ولذلك قال تعالى : (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ ومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) (الأحزاب:50) ، ولا شك أن الشرف لا يحصل بإباحة لفظ له وحجره على غيره ، إذ ليس في ذلك شرف، بل إنما يحصل الشرف بإسقاط العوض عنه، حتى يكون تعالى ذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع من الإحلالات ؛ هي ([52]):
إحلال نكاح بمهر؛ وهو قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أَجُورَهُنَّ ) (الأحزاب : 50)
إحلال بملك يمين ؛ وهو قوله تعالى : (ومَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) (الأحزاب : 50).
إحلال بلا مهر بل بتمليك مجرد؛ وهو قوله تعالى : (إن وهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) (الأحزاب: 50).
والحرج المقصود نفيه من الآية إنما يكون بإيجاب العوض عليه ، لا بحجر لفظ يؤدي المعنى المطلوب دونه ألفاظ كثيرة أسهل منه.
فهذا السياق كله يدل على أن المراد بالخلوص ؛ هو: ملك البضع من غير مهر، وليس اللفظ ([53]) هو الذي دل على ذلك، وانما دل عليه سياق الآيات .
وذلك يؤكد على أن النظر في سياق الآيات يحقق المقصود الأصلي للشارع من كلامه ، وان إغفال سباق النصوص ولحاقها، وفهم اللفظ مجردا دون ذلك؛ يوقع في فهم الخطاب القرآني فهما مغلوطا، أو متعسفا، أو على وجه فيه نقص؛ إذ الكلام مرتبط بعضه ببعض ، وهذا الارتباط هو مقصود المتكلم من كلامه ، يظهر ذلك بعد التأمل والبحث والنظر.
قال الدكتور عبد الوهاب أبو صفية ([54]) في معنى السياق : "هو الكلام الذي خرج مخرجا واحدا، واشتمل على غرض واحد، هو المقصود الأصلي للمتكلم، وما انتظمت أجزاؤه في نسق واحد، مع ملاحظة أن الغرض من الكلام أو المعاني المقصودة بالذات هي العنصر الأساس في مفهوم السياق ... وليس المقصود من السياق هو معنى المفردات اللغوية ، ومعاني التراكيب اللغوية " ([55]).
ثالثا - الإعانة على معرفة أحد المعاني المحتملة للنص (ترجيح أحد محتملات النص القرآني ):
من طبيعة القرآن الكريم أن اللفظة الواحدة منه، قد تحتمل كثر من معنى؛ ولذلك أنواع شتى؛ منها: اللفظ المشترك الذي يحمل على أكثر من معنى ، ومنها: اللفظ المتردد بين حمله على الحقيقة أو على المجاز، ومنها: اللفظ المرن الفضفاض الذي تتعدد احتمالاته لسبب أو لآخر، ومنها اللفظ المختلف في إعرابه ؛ فالإعراب هو الفارق بين المعاني ، ومنها اللفظ الدقيق الذي لا يحتمل إلا معنى واحد ([56])
وبذلك اكتسبت اللغة اتساعا كبيرا اكثر من غيرها، مما تعظم معه الأهمية، وتشتد الضرورة بسببه إلى الاحاطة بألفاظها ومراميها القريبة والبعيدة ، مع فهم مقصد المتكلم بها ومعرفة مآلاته، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم "يناطق العرب بلغتهم، كما يناطقهم بعرف شرعه " ([57]).
وحول طبيعة الخطاب القرآني يقول الجصاص : "إن الله تعالى يذكر إيجاب الأحكام تارة بالنصوص ، وتارة بالدلالة على المعنى المراد من غير نص عليه، وتارة بلفظ يحتمل للمعاني ، وهو في بعضها أظهر، وبه أولى ، وتارة بلفظ مشترك يتناول معاني مختلفة يحتاج في الوصول إلى المراد بالاستدلال عليها من غيره ، وقد وجد ذلك كله في القرآن " ([58]).
ولترجيح أحد المعاني التي يحتملها النص القرآني طرق كثيرة عند الأصوليين ؛ منها مراعاة مقصود الشارع من التشريع ؛ ليظهر المعنى المعتبر؛ ومن ذلك قول الله جل وعلا: (والْمُطَلَّقَا ُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ )(البقرة: 228) ؛ فإن لفظ "القرء" مشترك بين الطهر والحيض ، يحتمل لفظه كلا منهما، بإجماع العلماء ([59])، لكن وقع الاختلاف بأي المعنيين تفسر هذه اللفظة على قولين، وجاء أصحاب كل قول بأدلة على صحة قولهم ، رغم أن طبيعة اللغة تقتضي أن كلا الفريقين مصيب ؛ لأن القرء هو: الوقت ، وكل شيء أتاك لوقت معلوم ؛ فقد أتاك لفرئه، والحيض يأتي لوقت فهو قرء، والطهر يأتي لوقت فهو قرء ([60]).
وقد اختلف الفقهاء في معنى القرء على قولين بناء على طبيعة المعنى اللغوي لمعنى القرء الذي يحتمل أمرين:
القول الأول : أن معنى "قروء" هو الأطهار:
وهو قول مالك ([61])، والشافعي ([62])، وأحمد ([63]) في أحد قوليه ، وداود، وابن حزم الظاهريين ([64]). وقد استدلوا بأدلة كثيرة على ترجيح قولهم هذا؛ ومنها: أن الله تعالى قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ )(الطلاق: 1)، ومعنى لعدتهن : أي مستقبلات عدتهن ، والطلاق إنما يقع في الطهر؛ فاذا قلنا: "القروء" هي الحيضات، لم تحتسب الحيضة التي طلقها فيها، ولزمها ثلاث حيضات مستقبلة ؛ لقوله تعالى : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)( البقرة: 228) فلا بد منها كاملة ، أما إذا قلنا: "القروء" هي الأطهار، احتسب الطهر الذي طلقها فيه قرءا، ولو بقي منه لحظة ([65]).
القول الثاني : أن معني "قروء" هو الحيضات:
وهو قول أبي حنيفة ([66])، وأحمد في أصح الروايتين عنه ([67])، وقد استدلوا بأدلة كثيرة على ترجيح قولهم هذا؛ ومنها: أن الله تعالى جعل العدة (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) ( البقرة: 228) ، والذي يظهر أن الثلاثة لا بد أن تكون كاملة من غير زيادة ولا نقصان ، وهي لا تكون كاملة ، إلا إذا كانت بمعنى الحيض لا بمعنى الطهر ([68])؛ حيث إنه من المتفق عليه أن الطلاق المشروع ؛ هو: ما يكون حال طهر المرأة ؛ فإذا حصل الطلاق حال الطهر واحتسب الطهر من العدة ، كانت طهرين كاملين وبعض الطهر، وهو الفترة الزمنية التي بقيت من الطهر الذي وقع الطلاق فيه، وان لم يحتسب ذلك الطهر من العدة ، كانت العدة ثلاثة أطهار وبعض الطهر؛ ففي كلا الحالتين : لم تكتمل الثلاثة ؛ ففي الحالة الأولى كانت ناقصة ، وفي الحالة الثانية كانت زائدة ؟ فوجب المصير إلى اعتداد المرأة بثلاث حيضات كاملات ، تبتدئ بعد الطهر الذي طلقت فيه ([69]).
وبذلك تظهر أثر النظرة المقاصدية في ترجيح القول الأخير؛ حيث إن اعتبار "القرء" هو الطهر يؤدي إلى الانقاص من مقدار العدة ؛ لعدم احتساب جزء الطهر الذي امر الأزواج أن لا يطلقوا إلا فيه من مدة الحيض ؛ فيؤدي إلى عدم اكتمال مدة الحيض التي أمر الله تعالى بإتمامها، وهذا هو الذي يتوافق مع روح التشريع ومقاصده .
المبحث الثالث
أثر المعرفة بالمقاصد في فهم الخطاب القرآني
المطلب الأول
أثر المعرفة بالمقاصد في توجيه النص القرآني
أولا - مراعاة مآلات الأفعال التي هي محل الأحكام :
لا بد لمن يفسر القرآن الكريم وينظر في معانيه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل الحكم الصادر عنه، مع تقديره لعواقب الأمور؛ فمهمته لا تنحصر في إصدار الحكم فقط، بل لا بد أن يستحضر مع ذلك مآلاته وآثاره ، وإلا تطرق الخطأ إلى حكمه كثير ([70]).
قال الشاطبي : "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، سواء اكانت الأفعال موافقة أم مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام، إلا بعد نظرة إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب ، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل، على خلاف ما قصد فيه... وهو مجال للمجتهد صعب المورد" إلا أنه عذب المذاق ، محمود الغب ، جار علي مقاصد الشريعة ([71])... ويسمى صاحب هذه المرتبة: الرباني ، والحكيم ، والراسخ في العلم ... ومن خاصيته : أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات" ([72])، وغيره يجيب عن السؤال وهو لا يبالي بالمآل ([73]) .
وقد وردت حوادث كثيرة عن المفتين من الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن غيرهم تبين مدى اعتبارهم لهذه القاعدة العظيمة ؛ ومن ذلك:
عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن فغفل ؛ فسألته عن امرأة فجرت فحبلت؛ فلما ولدت قتلت ولدها؟ فقال ابن مغفل : ما لها؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي ؛ فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين : (ومَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا) (النساء: 110)، قال: فمسحت عينها ثم مضت ([74]). فأفتاها عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أولا بان لا توبة لها" ليريها عظم جرمها، ثم لم يرد أن يجمع عليها قتلها لولدها وعدم قبول توبتها" فبشرها بقوله تعالى : (ومَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا )(النساء: 110).
قال الشيخ أحمد شاكر: "وهذا الخبر من محاسن الأخبار الدالة على عقل الفقيه ، وبصره بأمر دينه ، ونصيحته للناس في أمور دنياهم " ([75]).
قال الطبري في تفسير هذه الآية : "يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يعمل ذنبا؛ وهو: (سُوءًا )( أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ )بإكسابه إياها ما يستحق به عقوبة الله ، (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ) يقول : ثم يتوب إلى الله بإنابته مما عمل من السوء وظلم نفسه ، ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبه وتذهب جرمه ، (يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا )، يقول: يجد ربه ساترا عليه ذنبه ، بصفحه له عن عقوبة جرمه ، رحيما به" ([76]).
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه" فقال : لمن قتل مؤمنا توبة، قال: "لا إلا النار"؟ فلما ذهب قال له جلساؤه : ما هكذا كنت تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة فما بال اليوم . قال: "إني أحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا ". قال فبعثوا في أثره ، فوجدوه كذلك ([77]).
قال الزيلعي : "قيل: هذه إحدى الروايتين عنه، والمشهور عنه: أن له توبة، وحمل الأول منه على التغليظ ، وانما أفتى بذلك ؛ لأنه ظن أن السائل سأل ليقتل فاراد زجره عن ذلك ([78]).
فابن عباس رضي الله عنه عرف قصد السائل من سؤاله ؛ فأجابه بنقيض مقصوده ليردعه عن القتل ؛ فشدد عليه وغلظ ، وليس يخفى ما في هذه الفتوى من الحكمة اعتدادا بمآل فعل الرجل ، رغم أن النص القرآني يقضي بقبول توبة قاتل العمد؛ وذلك في مثل قوله تعالى : (إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا )(النسا : 48 و116)، والمغفرة في هذه الآية تشمل قاتل العمد إن هو تاب.
قال الألوسي : "وكان هذا - ايضا - شأن غيره - أي غير ابن عباس – رضي الله عنه - من الأكابر: فقد قال سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، فاذا ابتلى رجل قالوا له: تب" ([79]).
وقال ابن عطية : "وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا يقصدون الاغلاظ والتخويف أحيانا، فيطلقون لا تقبل توبة القاتل . منهم : ابن شهاب ... ومنهم : ابن عباس " ([80]) .
عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: جاء رجل فقال : يا ابن عباس ، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، قال: "أو بلغت ؟" قال: أرجو. قال: "فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله عز وجل فافعل " قال: وما هن؟. قال: "قوله عز وجل: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وأَنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ )(البقرة: 44) أحكمت هذه الآية ؟" قال: لا. قال: فالحرف الثاني ؟. قال: "قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ( الصف: 2-3) أحكمت هذه الآية ؟". قال: لا. قال: فالحرف الثالث ؟ قال: "قول العبد الصالح شعيب عليه السلام : (ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) ( هود 88) أحكمت هذه الآية ؟". قال: لا. قال: "فابدأ بنفسك " ([81]).
فقد راعى ابن عباس رضي الله عنه حال الرجل وماله ، وهل هو أهل لأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قبل أن يجيز له ذلك؛ حتى يتحقق المقصود الالهي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه ليس المطلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجردا دون المقدرة عليه ؛ كما في قوله تعالى: (ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) ( آل عمران : 104 )؛ فمع ثناء الله تعالى على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، إلا أن ذلك مقيد بحال القدرة عليه ، وبحال عدم ترتب منكر أعظم مما أنكره على غيره ، وفي ضوء ذلك يعمل بالنص القرآني السابق.
يتبع