أثر دراسة الحديث
للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
إن من يطلع على الجدال بين أتباع أهل المذاهب واختلافاتهم لايشك أن فتنة التعصب المذهبي من عوامل انحطاط المسلمين وتأخرهم؛ لأنها مسخت عقولهم فأصبحوا لا يفكرون إلا بعقول غيرهم، مع أن الأئمة الأوائل لم يتعصبوا لأقوالهم كما تعصب أتباعهم لها، بل حذروا من التعصب لأقوالهم، وأمروا باتباع الدليل، فعلى المسلم أن يتبع الدليل من الكتاب والسنة، مع احترام أقوال العلماء وإجلالهم وإن أخطئوا.
ترجمة الشيخ عبد المحسن العباد
المقدم: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله الأمين، الذي أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، بشيراً للمؤمنين، ونذيراً للكافرين، وعلى أصحابه الطيبين الطاهرين، ومن سلك سبيلهم، واهتدى بهديهم إلى يوم الدين. أما بعد: فإن من المصائب التي بليت بها هذه الأمة منذ قرون مضت وإلى يومنا هذا التعصب المذهبي المقيت، وهذا المرض هو الذي أضعف هذه الأمة الواحدة، وفرق صفوفها، إلى أن وصل الحال إلى أسوأ ما وصل إليه من اضطهاد بعض المذاهب لبعض، وقتال بعضهم لبعض، وصلاة المسلمين في المسجد الواحد أربع جماعات متفرقة!كل هذا التفرق، وكل هذا المرض الذي ألم بهذه الأمة، كان سببه التعصب المذهبي المقيت، ولا نجاة لهذه الأمة ولا خلاص لها إلا إذا تمسكت بكتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، تطبيقاً لما أمر به النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم حينما قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي).وحول هذا الموضوع وأثر دراسة الحديث في القضاء على هذا المرض العضال يحدثنا شيخنا وضيفنا الفاضل الشيخ عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن العباد. وقبل أن نترك له المجال نود أن نلقي الضوء على جوانب من حياة الشيخ العباد : الشيخ من مواليد شهر رمضان المبارك، عام (1353هـ)، بمدينة الزلفي. التحق الشيخ حفظه الله بمعهد الرياض العلمي عام (1372هـ)، ثم التحق بكلية الشريعة بالرياض، ثم عين مدرساً في معهد بريدة العلمي في عام (1379هـ)، ثم عين مدرساً بمعهد الرياض العلمي في العام الذي يليه، سنة (1380هـ)، ثم عمل مدرساً بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في عام إنشائها سنة (1381هـ)، وكان -حفظه الله- أول من ألقى فيها درساً.وفي تاريخ (30/9/1390هـ) عين نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية، ثم عين رئيساً لمركز البحث العلمي في الجامعة الإسلامية، وهو الآن أستاذ مشارك في قسم الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية. ومن مؤلفات الشيخ الكتب التالية: كتاب (اجتناء الثمر في مصطلح أهل الأثر). وله كتاب (عشرون حديثاً من صحيح البخاري، دراسة أسانيدها وشرح متونها).وله كتاب (عشرون حديثاً من صحيح مسلم، دراسة أسانيدها وشرح متونها). وله كذلك كتاب (من أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم). وله كتاب: (دراسة حديث: نضر الله امرأً سمع مقالتي رواية ودراية). وله كتاب: (قبس من هدي الإسلام). وله كتاب: (عالم الرسل) هذه بعض مؤلفات الشيخ حفظه الله، نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع هذه الأمة بهؤلاء العلماء الأفاضل.
شكر وعرفان لجمعية إحياء التراث الإسلامي
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم أولاً: قبل أن نبدأ بالموضوع أود أن أشكر جمعية إحياء التراث الإسلامي على إتاحة هذا اللقاء، وعلى جهودها المشكورة المباركة في القيام بالدعوة، والعمل على نشرها على النهج السليم، المستمد من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل السلف الصالح، وأشكر أيضاً حكومة الكويت على دعمها لهذه الجمعية، وتشجيعها لها، وكذلك ما قامت به ممثلة بوزارة الأوقاف من نشر بعض كتب التراث، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيد الجميع من التوفيق والهدى، وأن يوفق المسلمين جميعاً إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام أعظم نعم الله على المسلمين
موضوعنا هو حول أثر دراسة الحديث الشريف في ترك التعصب للمذاهب، والموضوع في الحقيقة أوسع من هذا؛ فالحديث سيكون حول واجب الأمة باتباع القرآن والحديث، وتوقير الأئمة، وترك التعصب لهم، هذا هو الموضوع الذي سيكون حوله الحديث، فأقول: الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وحجة على الثقلين: الجن والإنس، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين! رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].أما بعد: فإن نعم الله سبحانه وتعالى على عباده المسلمين عظيمة، وكثيرة، لا يحصيها العادون، كما قال عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ولكن أعظم وأجل هذه النعم هي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة، إذ لا تساويها ولا تدانيها نعمة، والله تعالى قد نوه بهذه النعمة العظيمة، وهذه المنة الجسيمة في كتابه العزيز، فقال سبحانه وتعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، وقال سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، وقال سبحانه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] . هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة في إرسال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بهذه الرسالة الخالدة، إنما كانت أعم النعم وأجلها؛ لأن فيها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، كما قال الله عز وجل: قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق:10-11]، فهذه أجل النعم وأعظمها.
عموم وشمول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
والرسول صلوات الله وسلامه عليه لما أرسله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين أرسله برسالة كاملة عامة شاملة، خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذه الرسالة العظيمة جمع الله تعالى فيها ثلاث خصال هي: الكمال: فلا نقص فيها بوجه من الوجوه، وقد نوه الله بهذه النعمة بقوله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فنوه الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بالكمال الذي حصل في شريعة رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة.وأما عمومها وشمولها فقد جاء ذلك في آيات كثيرة، كما قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء:105].وأما خلودها وبقاؤها إلى نهاية الدنيا وشمولها لكل أحد وأنه لا يسع أحداً الخروج عنها، فقد بينه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أهل النار)، فهذا فيه أن هذه الشريعة عامة لكل أحد، وناسخة لجميع الشرائع، وأنه بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يظفر أحد بالسلامة والنجاة والخلاص من النار إلا باتباع هذا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
إبلاغ النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة كما أمر
وقد قام صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، والنصح للأمة، وبلغ البلاغ المبين، ونصح تمام النصح، فما ترك خيراً إلا ودل الأمة عليه ورغبها فيه، وما ترك شراً إلا وبينه لها وحذرها منه، فعليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا من كمال نصحه، ومن كمال شفقته، ومن كمال حرصه صلوات وسلامه وبركاته عليه على سعادة ونجاة أمته. ومن كمال نصحه عليه الصلاة والسلام -وقد بين كل ما يحتاج الناس إليه- أنه رغبهم في حفظ هذا الحق، وفي العمل لهذا الحق، وفي الأخذ بهذا الحق.أما بالنسبة لكتاب الله العزيز فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وهذا فيه حث على تعلم القرآن وتعليمه، ومعرفة ما فيه من الخير، وما فيه من الهدى، وأن الذين يشتغلون بتعلمه وتعليمه هم خير الناس.وأما بالنسبة للسنة المطهرة فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وهذا الحديث جاء بروايات كثيرة، وهو يدل دلالة واضحة على أن المشتغل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا له صلوات الله وسلامه عليه هذه الدعوة العظيمة، وهي أن ينضره الله، وأن تكون له النضارة، وأن يكون على هذا النحو الذي دعا به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وهذا ترغيب منه صلوات الله وسلامه عليه في تلقي سنته، وفي حفظها، وفي التفقه فيها، وفي نقلها من سلف الأمة إلى من وراءهم، وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
حث النبي صلى الله عليه وسلم على التفقه في الدين
والتفقه في دين الله عز وجل أيضاً أرشد إليه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وحث عليه في الحديث الصحيح المتفق على صحته، الذي رواه البخاري و مسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).والفقه في الدين إنما هو عن طريق الكتاب والسنة، والأخذ من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من كمال نصحه صلى الله عليه وسلم، فقد بين وأرشد وأوضح، ونصح غاية النصح، وبين غاية البيان، ثم مع ذلك يوجه ويدعو لمن يقول بهذه المهمة العظيمة، فهذا مع بيانه وإرشاده ونصحه وتوجيهه حث وترغيب للعناية بكتاب الله عز وجل وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفقه فيهما، ومعرفة ما اشتملا عليه من الخير، وتعبد لله سبحانه وتعالى على نحو ما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
عناية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بالقرآن والسنة
ولما أرسله الله سبحانه وتعالى بهذه الرسالة الكاملة الشاملة الخالدة الباقية أكرم الله سبحانه وتعالى جماعة من الخلق بصحبته، وبالجهاد معه، وبتلقي حديثه، وبالنظر إليه في هذه الحياة الدنيا، وبسماعه كلامه. فهذه خصائص وميزات خص الله تعالى بها خير هذه الأمة الذين هم الأسوة والقدوة بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وهم صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، الذين ما كان مثلهم فيما مضى، ولا يكون مثلهم فيما يأتي؛ لأنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين. وقد أكرمهم الله سبحانه وتعالى بصحبة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وجعلهم المختارين بأن يكونوا في زمانه، وأن يتشرفوا برؤيته في هذه الحياة الدنيا، وأن يسمعوا كلامه من فمه الشريف عليه الصلاة والسلام، فيعوا ويحفظوا؛ لينقلوه إلى من بعدهم. وقد قاموا بهذه المهمة خير قيام، ووفقهم الله سبحانه وتعالى لتحقيق ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناية بكتاب الله عز وجل وبسنة رسول الله، والتفقه في دين الله، واتباع ما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام. فعنايتهم بالقرآن من أمثلتها أو من الأدلة عليها ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً). وهذه عناية بالقرآن تعلماً وتعليماً وعملاً، فقد كانوا إذا تعلموا عشر آيات من القرآن لم يتجاوزوهن حتى يتعلموا معانيهن والعمل بهن؛ حتى تعلموا العلم والعمل جميعاً.أما بالنسبة لسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فمعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله سبحانه وتعالى وهو يلقي الأحاديث على صحابته في مناسبات مختلفة، فتارة يبدؤهم وتارة يسألونه فيجيبهم، وأحياناً يأتي جبريل على صورة رجل فيلقي أسئلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته يسمعون، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) . فالصحابة رضي الله تعالى عنهم تلقوا ذلك عن رسول الله لملازمتهم له، أو لوجودهم معه، أو لوجود من يأتي ويسأل عما حصل له، واختلفوا في ذلك قلة وكثرة، فمنهم من كان يتحمل الأحاديث الكثيرة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنهم من كان قليل الحديث عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه. ومن أمثلة حرصهم على تلقي حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: أنهم كانوا يجمعون ويوفقون بين مصالحهم وبين الإتيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلقي السنة عنه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنا نتناوب على رعاية الإبل) بل لم يكن كل واحد يذهب لرعاية إبله، وإنما كانوا يجمعون إبلهم بعضها مع بعض، ثم يذهب بها واحد في يوم من الأيام والآخر يكون مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: تكون لكل واحد نوبة في رعاية الإبل، وإذا رعى الإبل وجاء فإنه يأتي ويحصل ما يمكنه من رسول الله عليه الصلاة والسلام.يقول عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: (كنا نتناوب على رعاية الإبل، فلما كانت نوبتي عجلتها بعشي -يعني: رجع بها في الرواح وفي نهاية النهار مبكراً- فجئت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ حيث وجدته قائماً يحدث الناس، فسمعته يقول: (ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين مقبلاً فيهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة) ، قال عقبة: فقلت: (ما أجود هذا!)، تلفظ بهذه الكلمة والناس يسمعونها، تلفظ بها من شدة فرحه بهذا الخير الذي أدركه من رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء متأخراً.قال عقبة : (فإذا أنا برجل يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر ، فقال: -أي: عمر -: إني رأيتك جئت آنفاً)، ثم بين له الشيء الذي فاته، فقال: قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء). فهذا الحديث الشريف يوضح لنا أموراً: أولاً: تناوبهم في العمل؛ ليظفروا بلقي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وأخذ السنة عنه.ثانياً: فرحهم واغتباطهم بما يحصلونه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان هذا الذي حصلوه قليلاً.ثالثاً: تعاونهم على الخير، وعلى إرشاد بعضهم بعضاً إلى ما فاته، كما حصل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع عقبة بن عامر ؛ حيث لفت نظره إلى ما قد فاته. فهذه النماذج تبين عنايتهم بكتاب الله عز وجل، وعنايتهم بسنة رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. وكان من حفظ الله سبحانه وتعالى لهذه الشريعة، ولسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن هيأ لها هؤلاء الصحب الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وخصهم بهذه الفضيلة، وهذه الخصيصة التي تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الخصيصة التي ظفروا بها هي في طليعة الأسباب التي تفوقوا وتميزوا بها على غيرهم، لأنهم هم الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الهدى، وهم الذين أدوه إلى من بعدهم من التابعين، وهكذا جيلاً بعد جيل.فإذاً: كل من يقتدي بسنةٍ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فإن الله سبحانه وتعالى يعطي الصحابي الذي نقلها مثل أجور من استفاد وعمل بهذه السنة؛ لأن هذا الصحابي الذي جاء بهذه السنة هو الواسطة بيننا وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو الذي جعله الله ينقل حكم هذه السنة عن الرسول إلى من بعده، فلهم مثل أجور من استفاد خيراً بسببهم. فأعمالنا الصالحة التي نعملها طبقاً لما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يعطي الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطانا؛ لأنه هو الذي دلنا على هذا الخير، ويعطي صحابة نبيه، وكل من تلقى عنهم، مثل أجر العامل الذي عمل بهذه السنة التي جاءت من طريق ذلك الصحابي ثم التابعي، وهكذا من بعدهم، فهو شرف عظيم، وفضل جزيل من الله عز وجل، يؤتيه من يشاء، والله سبحانه وتعالى ذو الفضل العظيم. ثم إن التابعين تلقوا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكانوا يرتحلون من بلد إلى بلد؛ ليظفروا بالحديث الواحد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الحديث حصل عليه أحدهم من طريق فيها نزول فإنه يذهب إلى ذلك الشخص الذي يكون عنده الحديث بعلو، ويأخذه منه مباشرة؛ لتقرب الوسائط وتقل بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالتابعون تلقوا السنة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهكذا تابعو التابعين ومن بعدهم، واستمر الأمر على ذلك، وكانت السنة محفوظة في الصدور، والله سبحانه وتعالى أعطى الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن وفقه الله سبحانه وتعالى؛ أعطاهم من الحفظ ومن الفهم ما هو مذهل، والإنسان عندما يسمع بعض الوقائع التي حصلت لبعضهم من الحفظ يتعجب، ويرى أن هذا شيء لا يحصل إلا لمن وفقه الله عز وجل، فكان الحفظ موجوداً في الصدور.
يتبع