تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 40 من 40

الموضوع: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (21)


    حديث (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب)





    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن وكيع قال أبو بكر: حدثنا وكيع عن زكريا بن إسحاق قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس عن معاذ بن جبل قال أبو بكر ربما قال وكيع عن ابن عباس أن معاذا قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افْتَرَضَ عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.

    المبحث الأول: التخريج:

    روى مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذه الطريق ثم عقبه بطرق أخرى فقال: حدثنا ابن أبي عمر حدثنا بشر بن السري حدثنا زكريا بن إسحاق (ح) وحدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو عاصم عن زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: ((إنك ستأتي قوماً...))، بمثل حديث وكيع.

    حدثنا أمية بن بسطام العيشي حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح ـ وهو ابن القاسم ـ عن إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن قال: ((إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوقَ كرائم أموالهم)).

    وهذه الطرق عند مسلم مدارها على يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد، إلا أن المتن في الطريق الأولى من مسند معاذ رضي الله عنه، وفي بقية الطرق من مسند ابن عباس رضي الله عنهما، أما سائر الروايات الآتية عند البخاري وغيره فهي من مسند ابن عباس وكلها عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد.

    وأخرجه البخاري في صحيحه في سبعة مواضع قال في أولها ـ وهو أول حديث عنده في كتاب الزكاة ـ: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)).

    والثاني: في (كتاب الزكاة) في (باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة)، رواه عن شيخه أمية بن بسطام بمثل إسناده ونحو متنه عند مسلم.

    والثالث: في (كتاب الزكاة) أيضاً في (باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا)، قال فيه:

    حدثنا محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).

    والرابع: في (كتاب المظالم، باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم) قال فيه: حدثنا يحيى بن موسى حدثنا وكيع حدثنا زكريا بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: ((اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)).

    والخامس: في (كتاب المغازي) في (باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع). أخرجه عن شيخه حبان بن موسى عن عبد الله بن المبارك عن زكريا بن إسحاق بمثل إسناده ومتنه في (باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا).

    والسادس والسابع: في (كتاب التوحيد) في (باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى). وهو أول حديث عنده في (كتاب التوحيد) قال فيهما: حدثنا أبو عاصم حدثنا زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن...، وحدثني عبد الله بن الأسود حدثنا الفضل بن العلاء حدثنا إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بن محمد بن صيفي أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول سمعت ابن عباس يقول: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا نحو اليمن قال له: ((إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس)).

    ورواه أبو داود في (كتاب الزكاة) من سننه في (باب في زكاة السائمة) قال فيه: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا زكريا بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن...، وساق متنه بنحو سياقه عند مسلم من حديث وكيع إلا أن فيه: ((فإن هم أطاعوك لذلك)) بدل قوله: ((فإن هم أطاعوا لذلك)) وفيه ((فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)) بدل ((فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))، وهو عنده من مسند ابن عباس رضي الله عنهما.

    وأخرجه الترمذي في جامعه في (كتاب الزكاة، باب كراهية أخذ خيار المال في الصدقة) رواه عن شيخه أبي كريب عن وكيع بمثل إسناده ومتنه عند مسلم إلا أنه من مسند ابن عباس لا من مسند معاذ.

    وأخرج طرفاً منه في (كتاب البر) وهو قوله: ((اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). بإسناده في (كتاب الزكاة)، وقال: قال أبو عيسى: وفي الباب عن أنس وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وأبي سعيد، وهذا حديث حسن صحيح وأبو معبد اسمه نافذ. انتهى.

    وأخرجه النسائي في موضعين من (كتاب الزكاة) في سننه أولهما في (باب وجوب الزكاة) وهو أول حديث عنده في (كتاب الزكاة) قال فيه: أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن المعافى عن زكريا بن إسحاق المكي قال حدثنا يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله عزوجل فرض عليهم خمس صلوات في يوم وليلة، فإن هم ـ يعني أطاعوك بذلك ـ فأخبرهم أن الله عزوجل فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك بذلك فاتق دعوة المظلوم)).

    والثاني في (باب إخراج الزكاة من بلد إلى بلد) قال فيه: أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك قال حدثنا وكيع قال حدثنا زكريا بن إسحاق وكان ثقة عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ بن جبل إلى اليمن فقال: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب...)) وساق متنه بنحو حديث وكيع عند مسلم.

    وأخرجه ابن ماجه في سننه، وهو أول حديث عنده في (كتاب الزكاة، باب فرض الزكاة) قال فيه: حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا زكريا بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال، وساق متنه بمثل متنه عند مسلم من حديث وكيع.

    وأخرج طرفاً منه الدارمي في سننه في (كتاب الزكاة، باب النهي عن أخذ الصدقة من كرائم أموال الناس) فقال: أخبرنا أبو عاصم عن زكريا عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: ((إياك وكرائم أموالهم)).

    وأخرجه الدار قطني في أواخر (كتاب الزكاة) من سننه من طريقين إلى يحيى بن عبد الله بن صيفي.

    والحديث من هذه الطرق جميعها من مسند ابن عباس لا من مسند معاذ، إلا في هذه الطريق الواحدة عند مسلم عن شيوخه أبي بكر وأبي كريب وابن راهويه، وقد قال النووي في شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم بعد أن أشار إلى أن الرواية الأولى عند مسلم تقتضي أن الحديث من مسند معاذ والروايتين الأخيرتين تقتضيان أن الحديث من مسند ابن عباس: ((ووجه الجمع بينهما أن يكون ابن عباس سمع الحديث من معاذ فرواه تارة عنه متصلاً وتارة أرسله، فلم يذكر معاذاً وكلاهما صحيح، كما قدمنا أن مرسل الصحابي إذا لم يعرف المحذوف يكون حجة، فكيف وقد عرفناه في هذا الحديث أنه معاذ، ويحتمل أن ابن عباس سمعه من معاذ وحضر القضية، فتارة رواها بلا واسطة لحضوره إياها، وتارة رواها عن معاذ، إما لنسيانه الحضور أو لمعنى آخر، والله أعلم)).

    وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرحه للحديث في (كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا): قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن)، كذا في جميع الطرق إلاّ ما أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيع فقال فيه: عن ابن عباس عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فعلى هذا فهو من مسند معاذ، وظاهر سياق مسلم أن اللفظ مدرج لكن لم أر ذلك في غير رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وسائر الروايات أنه من مسند ابن عباس)، فقد أخرجه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع فقال فيه: عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا، وكذا هو في مسند إسحاق بن إبراهيم ـ وهو ابن راهويه ـ قال: حدثنا وكيع، وكذا رواه عن وكيع أحمد في مسنده، وأخرجه أبو داود عن أحمد، وسيأتي في (المظالم) عن يحيى بن موسى عن وكيع كذلك، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن محمد بن عبد الله المخرمي وجعفر بن محمد الثعلبي وللإسماعيلي من طريق أبي خيثمة وموسى بن السدي، والدار قطني من طريق يعقوب بن إبراهيم الدورقي وإسحاق بن إبراهيم البغوي كلهم عن وكيع كذلك، فإن ثبتت رواية أبي بكر فهو من مرسل ابن عباس، لكن ليس حضور ابن عباس لذلك ببعيد، لأنه كان في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو إذ ذاك مع أبويه بالمدينة.

    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

    الأول: شيخ مسلم أبو بكر بن أبي شيبة: وهو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، إبراهيم بن عثمان الواسطي الأصل، أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي ثقة حافظ صاحب تصانيف، من العاشرة مات سنة خمس وثلاثين ومائتين. قاله الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي. وقال الخزرجي في (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال): عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي بموحدة مولاهم أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي الحافظ، أحد الأعلام وصاحب المصنف، عن شريك وهشيم وابن المبارك وجرير بن عبد الحميد وابن عيينة وخلق، وعنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وأبو زرعة وعثمان بن خرزاذ وأحمد بن علي المروزي وخلق. قال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ منه. وقال الخطيب: كان متقناً حافظاً، صنف التفسير وغيره. انتهى. وذكره الذهبي في (الميزان) وقال: وثقه الجماعة وما كاد يسلم...، ثم بين رأيه فيه قائلا: قلت: أبو بكر ممن قفز القنطرة وإليه المنتهى في الثقة. انتهى. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) كثيراً من شيوخه وتلاميذه، ونقل توثيقه عن العجلي وأبي حاتم وابن خراش وابن قانع، وقول أبي عبيد القاسم: انتهى العلم إلى أربعة: فأبو بكر أسردهم له، وأحمد أفقههم فيه، ويحيى أجمعهم له، وعلي أعلمهم به. وقول ابن حبان فيه: كان متقناً حافظاً دينا، ممن كتب وجمع وصنّف وذاكر، وكان أحفظ أهل زمانه للمقاطيع. وختم ترجمته الحافظ في (تهذيب التهذيب) بقوله: وفي الزهرة: روى عنه البخاري ثلاثين حديثاً ومسلم ألفاً وخمسمائة وأربعين حديثا.

    الثاني: شيخ مسلم أبو كريب: قال الحافظ في (التقريب): محمد بن العلاء بن كريب الهمداني أبو كريب الكوفي، مشهور بكنيته، ثقة حافظ، من العاشرة مات سنة سبع وأربعين ـ أي بعد المائتين ـ وهو ابن سبع وثمانين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة، وسمى في (تهذيب التهذيب) عدداً من شيوخه وتلاميذه، وذكر جملة من ثناء العلماء عليه وتوثيقه عن النسائي ومسلمة بن قاسم وقال: وذكره ابن حبان في الثقات. وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه البخاري خمسة وسبعين حديثاً ومسلم خمسمائة وستة وخمسين حديثاً.

    الثالث: شيخ مسلم إسحاق بن إبراهيم: قال الحافظ في (التقريب): إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي، أبو محمد بن راهويه المروزي، ثقة حافظ مجتهد قرين أحمد بن حنبل. ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير، مات سنة ثمان وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ وله اثنان وسبعون، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه. وذكر الذهبي في (الميزان) وابن حجر في (تهذيب التهذيب) أن كنيته أبو يعقوب. وقال الخزرجي في (الخلاصة): الإمام الفقيه الحافظ العلم، ولد سنة إحدى وستين ومائة، عن معتمر بن سليمان والدراوردي وابن عيينة وبقية وابن علية، وخلق بالحجاز والشام والعراق وخراسان، وعنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال: ثقة مأمون أحد الأئمة. قال أحمد: لا أعلم لإسحاق نظيراً، إسحاق عندنا من أئمة المسلمين، وإذا حدثك أبو يعقوب أمير المؤمنين فتمسك به. وقال الخفاف: أملى علينا إسحاق أحد عشر ألف حديث من حفظه ثم قرأها يعني في كتابه فما زاد ولا نقص.

    الرابع: شيخ شيوخ البخاري وكيع: قال الحافظ في (التقريب): وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي ـ بضم الراء وهمزة ثم مهملة ـ أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد، من كبار التاسعة، مات في آخر سنة ست أو أول سنة سبع وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله سبعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وترجم له في (تهذيب التهذيب) في سبع صفحات، ذكر فيها عدداً ممن روى عنهم، وعدداً ممن رووا عنه، ومن الذين روى عنهم: أبوه وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وابن جريج، والأوزاعي، ومالك، وزكريا بن إسحاق، وزكريا بن أبي زائدة، وسفيان الثوري، وشعبة.

    ومن الذين رووا عنه: عبد الرحمن بن مهدي، وأحمد، وعليّ، ويحيى، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، والحميدي، والقعنبي، وغيرهم. وذكر فيها كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك: قول عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه: ((ما رأيت أوعى للعلم من وكيع ولا أحفظ منه)). وقول عليّ بن خشرم: ((رأيت وكيعاً، وما رأيت بيده كتاباً قط، إنما هو يحفظ، فسألته عن دواء الحفظ؟ فقال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ)). وقول ابن سعد: ((كان ثقة مأموناً عالياً، رفيع القدر كثير الحديث حجّة)). وقول العجلي: ((كوفي ثقة عابد صالح أديب، من حفاظ الحديث وكان يفتي)). وقول إسحاق بن راهويه: ((كان حفظه طبعاً، وحفظنا بتكلف)).

    الخامس: زكريا بن إسحاق: قال الحافظ في (التقريب): زكريا بن إسحاق المكي ثقة رمي بالقدر، من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عمرو بن دينار، وأبي الزبير، وإبراهيم بن ميسرة، ويحيى بن عبد الله بن صيفي، وغيرهم. وعنه أزهر بن القاسم، وروح بن عبادة، وبشر بن السري، وابن المبارك، وعبد الرزاق، ووكيع، وأبو عامر العقدي، وأبو عاصم، وغيرهم.

    ونقل توثيقه عن أحمد وابن معين وأبي داود وابن سعد ووكيع والبرقي والحاكم. وقال الذهبي في (الميزان): ثقة حجة مشهور. قال ابن معين: قدري ثقة. انتهى، ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

    السادس: يحيى بن عبد الله بن صيفي: قال الحافظ في (التقريب): يحيى بن عبد الله بن محمد بن صيفي المكي، ثقة من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام، وأبي معبد مولى ابن عباس، وأبي سلمة بن سفيان، وعتاب بن حنين، وسعيد بن جبير. وعنه ابن جريج، وإسماعيل بن أمية، وزكريا بن إسحاق، وعبد الله بن أبي نجيح، وغيرهم. ونقل توثيقه عن ابن معين والنسائي وابن سعد. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

    السابع: أبو معبد واسمه نافذ: قال الحافظ في (التقريب): نافذ ـ بفاء ومعجمة ـ أبو معبد مولى ابن عباس المكي، ثقة من الرابعة مات سنة أربع ومائة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): نافذ أبو معبد مولى ابن عباس حجازي روى عن مولاه. وعنه عمرو بن دينار، ويحيى بن عبد الله بن صيفي، وأبو الزبير، وسليمان الأحول، والقاسم بن أبي بزة، وفرات القزاز. ونقل توثيقه عن أحمد وابن معين وأبي زرعة، وقال: وذكره ابن حبان في الثقات.

    الثامن: ابن عباس رضي الله عنهما: وهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي أبو العباس المكي ثم المدني ثم الطائفي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وحبر الأمة وفقيهها وترجمان القرآن، وهو أحد المكثرين في الصحابة من رواية الحديث، وأحد العبادلة الأربعة، مات في الطائف سنة ثمان وستين، وحديثه في الكتب الستة، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الثاني من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    التاسع: معاذ بن جبل رضي الله عنه: وهو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي المدني، مات بالشام سنة ثمان عشرة، وحديثه في الكتب الستة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث السادس عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

    (1) رجال الإسناد التسعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ البخاري أبا بكر بن أبي شيبة فلم يخرج حديثه الترمذي، وشيخه إسحاق بن إبراهيم بن راهويه فلم يخرّج له ابن ماجه.

    (2) في الإسناد ثلاثة كوفيون وهم: أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب ووكيع، وأربعة مكيون وهم: زكريا بن إسحاق ويحيى بن عبد الله بن صيفي وأبو معبد وابن عباس.

    (3) في الإسناد مولى من أعلى وهو: ابن عباس، ومولى من أسفل هو: أبو معبد، فالحديث من رواية مولى من أسفل عن مولى من أعلى.

    (4) في الإسناد رجل وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث وهو: إسحاق بن راهويه، وصفه بذلك أحمد بن حنبل.

    (5) في الإسناد ثلاثة اشتهروا بكناهم وهم: أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء وأبو معبد مولى ابن عباس.

    (6) وكيع في الإسناد غير منسوب وهو: ابن الجراح، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال صحيح مسلم من يسمى بهذا الاسم غيره، بل جملة من يسمى وكيعاً في الكتب الستة ثلاثة: الأول وكيع بن الجراح وقد اتفقوا على إخراج حديثه، والثاني وكيع ابن عدس وهو من رجال الأربعة، والثالث وكيع بن محرز وهو من رجال ابن ماجه وحده.

    (7) في الإسناد إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في (تهذيب التهذيب): وقال الآجري: سمعت أبا داود يقول: إسحاق بن راهويه تغير قبل أن يموت بخمسة أشهر، وسمعت منه في تلك الأيام فرميت به. انتهى. والحكم في رواية المختلط عند المحدثين قبول ما حدّث به قبل الاختلاط دون ما كان بعده. وقد قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: واعلم أن ما كان من هذا القبيل محتجاً به في الصحيحين، فهو مما علم أنه أخذ قبل الاختلاط.

    (8) في الإسناد صحابيان: ابن عباس ومعاذ رضي الله عنهما، فهو من رواية صحابي عن صحابي.

    (9) قال في الإسناد أولاً: عن ابن عباس عن معاذ بن جبل ثم قال: قال أبو بكر: ربما قال وكيع عن ابن عباس أن معاذا قال.

    قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: هذا الذي فعله مسلم ـ رحمه الله ـ نهاية التحقيق والاحتياط والتدقيق، فإن الرواية الأولى قال فيها: (عن معاذ)، والثانية: (أن معاذا)، وبين (أنَّ) و(عن) فرق، فإن الجماهير قالوا: (أنَّ) (كـعن)، فيحمل على الاتصال. وقال جماعة: لا تلتحق (أنَّ) بـ (عن)، بل تحمل (أنَّ) على الانقطاع ويكون مرسلاً، ولكنه هنا يكون مرسل صحابي، له حكم المتصل على المشهور من مذاهب العلماء، ثم قال: فاحتاط مسلم ـ رحمه الله ـ وبيّن اللفظين، والله أعلم.

    المبحث الرابع: شرح الحديث:

    (1) هذا الحديث صدر به البخاري (كتاب الزكاة) و(كتاب التوحيد) من صحيحه، وصدر به أيضاً النسائي وابن ماجه (كتاب الزكاة) من سننهما، وتبعهم في ذلك بعض المصنفين في الحديث، كالحافظ عبد الغني المقدسي في (عمدة الأحكام)، والمجد بن تيمية في (منتقى الأخبار)، والحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام)، والشيخ أحمد بن عبد الهادي المقدسي في (المحرر في الحديث)، والإمام البغوي في (مصابيح السنة) وغيرهم، ولعل ذلك لاشتمال هذا الحديث على فرضية الزكاة مع التحذير من الظلم فيها.

    (2) قول معاذ رضي الله عنه: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم) بينت الروايات الأخرى أن بعثه هذا كان إلى اليمن وهو في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث في الموضع الثالث من مواضع إيراد البخاري هذا الحديث في (كتاب الزكاة): وكان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلمكما ذكره المصنف ـ يعني البخاري ـ في أواخر المغازي، وقيل كان ذلك في أواخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك. رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، وقيل: بعثه عام الفتح ستة ثمان، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها، واختلف هل كان معاذا والياً أو قاضياً؟ فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول. انتهى.

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (فتح المجيد): ومن فضائل معاذ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن مبلغاً عنه ومفقهاً ومعلماً وحاكماً.

    (3) قوله (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب): قال الحافظ في الفتح: هي كالتوطئة للوصية، لتستجمع همته عليها لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان، وليس فيه أن جميع من يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم وإنما خصهم بالذكر تفضيلاً لهم على غيرهم.

    (4) قوله (فادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله)، وفي بعض الروايات (وأن محمداً رسول الله)، وفي بعضها (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عزوجل)، وفي بعضها (إلى أن يوحدوا الله): ولا تنافي بينها فإن المراد بعبادة الله توحيده، وبتوحيده الشهادة له بذلك ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وإنما بدئ بهما لأنهما أصل وأساس لغيرهما، فلا ينفع أي عمل بدونهما

    وجمع بينهما لتلازمهما وأنه لا تنفع واحدة منهما بدون الأخرى، فلابد للدخول في الإسلام من الإتيان بهما معاً. ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً واحداً وركناً أساسياً في أركان الإسلام الخمسة كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)). متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. فهما معاً الركن الأول والأساسي في هذه الأركان الخمسة.


    (5) قوله (فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة). عدى الفعل أطاع باللام، وهو يتعدى بنفسه لأنه ضمن معنى انقاد. واستدل بهذه الجملة على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دعوا إلى الإيمان فقط ثم دعوا إلى العمل، ورتب ذلك عليه بالفاء. وتعقب هذا الاستدلال بأن مفهوم الشرط مختلف في الاحتجاج به، وبأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب، كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث ورتبت الأخرى عليها بالفاء، فلا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة، وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال هذا أحدها، والثاني: أنهم مخاطبون بها، والثالث: أنهم مخاطبون من الفروع بالمنهي عنه دون المأمور به. وأرجحها أنهم مخاطبون بها مطلقاً وهم مطالبون بها، وبتقديم الشهادتين عليها لأنهما أصل بنفسهما وأساس لغيرهما، فيعذبون بسبب ترك الفروع علاوة على عذابهم بترك الأصول


    (6) قوله: بعد إعلامهم بفرضية الصلاة والزكاة (فإن هم أطاعوا لذلك) يحتمل أن المراد بالإطاعة: الإقرار والالتزام، ويحتمل الفعل. قال الحافظ في (الفتح): والذي يظهر أن المراد: القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار أو الفعل كفاه أو بهما فأولى، وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة (فإذا صلوا) وبعد ذكر الزكاة (فإذا أقروا فخذ منهم).

    (7) ذكر في الحديث الفقراء دون المساكين. وفي آية قسمة الصدقات ذكرا معاً، وهما من الألفاظ التي إذا جمع بينهما في الذكر فرّق بينهما في المعنى، وإذا أفرد أحدهما عن الآخر كما في هذا الحديث، شمل معناهما جميعاً، فإذا فسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئًا وفسر المسكين بأنه الذي يجد بعض الكفاية مثلاً عند الجمع بينهما، فإنه في حالة ذكر الفقير وحده كما في هذا الحديث أو ذكر المسكين وحده يكون المذكور شاملاً لمن لا يجد شيئاً أو يجد بعض الكفاية.

    (8) قوله (فإياك وكرائم أموالهم): (كرائم) منصوب بفعل مضمر وجوباً وهي جمع كريمة أي نفيسة، قيل: هي الجامعة للكمال الممكن في حقها من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف. وقيل: هي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمناً. وقيل: هي ما يؤثر صاحب المال نفسه بها. وهذه الأقوال هي من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، فلا تنافي بينها، وإنما حذّر صلى الله عليه وسلممن أخذ كرائم الأموال لأن الزكاة شرعت لمواساة الفقراء، فلا يناسب فيها الإجحاف بأموال الأغنياء بدون رضاهم.

    (9) في الحديث: النهي عن أخذ كرائم الأموال، ولا تعرض فيه لما سواها وهو صنفان: وسط ورديء، فتجب من أوساط المال دون رديئه لحديث عبد الله بن معاوية الغاضري مرفوعاً وفيه: ((ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره)) رواه أبو داود والطبراني.


    (10) قوله (واتق دعوة المظلوم). أي اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم. والسر في ذكرها بعد التحذير من أخذ كرائم الأموال، الإشارة إلى أن أخذ الكرائم ظلم. وإنما جاء على هذا السياق للتحذير والتنفير من مطلق الظلم الشامل لما ذكر وغيره.

    (11) قوله (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). أي ليس لها صارف يصرفها ولا مانع، والمراد: أنها مقبولة وإن كان عاصياً، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد مرفوعاً. دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً، ففجوره على نفسه. قال الحافظ في (الفتح): وإسناده حسن، وهو وإن كان مطلقاً فهو مقيد بالحديث الصحيح الدال على أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله. وهذه الجملة التي ختم بها الحديث تعليل للاتقاء المأمور به في الجملة قبلها.

    (12) لم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلمفي وصيته لمعاذ الصوم والحج، وهما من أركان الإسلام مع أن بعث معاذ رضي الله عنه إلى اليمن كان في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أجيب عن ذلك بأجوبة من أحسنها: ما ذكره الحافظ في (الفتح) عن شيخه شيخ الإسلام ـ والظاهر أنه أبو حفص عمر البلقيني ـ قال: إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منه شيء كحديث ابن عمر: ((بني الإسلام على خمس))، فإذا كان في الدعاء إلى الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة: الشهادة والصلاة والزكاة، ولو كان بعد وجود فرض الصوم والحج كقوله تعالى:
    في موضعين من براءة، مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعاً، وحديث ابن عمر أيضاً: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة))، وغير ذلك من الأحاديث. قال: والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة اعتقادي وهو الشهادة، وبدني وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة، فاقتصر في الدعاء إلى الإسلام عليها لتفرع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدني محض والحج بدني مالي أيضاً، فكلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقة على الكفار، والصلوات شاقة لتكررها، والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها، والله أعلم.


    (13) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

    (1) بعث الإمام الدعاة إلى دين الله سبحانه وتعالى.

    (2) دعوته صلى الله عليه وسلمإلى الدين بنفسه وبواسطة رسله.

    (3) رسم الخطة للدعاة إلى الإسلام.

    (4) تنبيه الداعي إلى أحوال المدعوين للاستعداد لهم وأخذ الحيطة قبل لقائهم.

    (5) أن أول شيء يدعى إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    (6) أنه يبدأ في الدعوة بالأهم فالأهم.

    (7) أنه لابد في الدخول في الإسلام من الإتيان بالشهادتين معاً فلا تكفي واحدة منهما بدون الأخرى.

    (8) أن الكفار يدعون إلى التوحيد قبل القتال.

    (9) أن أساس دين الإسلام الإقرار لله بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

    (10) أنه لا يشترط للدخول في الإسلام التلفظ بالتبرؤ من كل دين يخالف الإسلام لأن النطق بالشهادتين مستلزم لذلك.

    (11) تدرج الداعي والمعلم في الدعوة والتعليم.

    (12) قبول خبر الواحد العدل ووجوب العمل به.

    (13) بيان عظم شأن الصلاة وأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.

    (14) أن الصلوات الخمس تجب في كل يوم وليلة.

    (15) أن الوتر ليس بواجب.

    (16) بعث الإمام العمال لجباية الزكاة.

    (17) عظة الإمام عماله وأمرهم بتقوى الله وتحذيرهم من الظلم.

    (18) أن الزكاة أوجب أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة.

    (19) أن صرف الزكاة في مصارفها إلى الإمام أو من ينيبه.

    (20) التعبير بقوله (تؤخذ من أغنيائهم)، يفيد أنه إذا لم يقم بدفعها أُخذت منه قهراً.

    (21) أن الزكاة لا تدفع إلى كافر غير المؤلف قلبه.

    (22) جواز دفع الزكاة إلى صنف واحد.

    (23) الإشارة إلى الفرق بين الغني والفقير، وأن الغني من تؤخذ منه الزكاة والفقير من تدفع إليه الزكاة.

    (24) أنه لا زكاة على الفقير.

    (25) الاقتصار على ذكر الفقراء يفيد أن حقهم في الزكاة آكد من حق غيرهم من بقية الأصناف.

    (26) وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون.

    (27) إطلاق لفظ الصدقة على الزكاة المفروضة.

    (28) إضافة الأموال إلى الأغنياء والنهي عن أخذ الكرائم منها يفيد التمليك التام لهم وأنها حرام على غيرهم بدون رضاهم.

    (29) المنع من أخذ المصدق خيار المال في الصدقة من غير رضا صاحب المال.

    (30) أن أخذ المصدق خيار المال بدون رضا صاحبه ظلم.

    (31) التنبيه إلى المنع من جميع أنواع الظلم.

    (32) بيان عظم تحريم الظلم وأن عاقبته وخيمة.

    (33) أن للمظلوم أن يدعو على من ظلمه.

    (34) أن دعوة المظلوم مستجابة.

    (35) أن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة.

    (36) الإشارة إلى أن من تجاوز ما جاء به الشرع وصف بالظلم.

    (37) فضل معاذ بن جبل رضي الله عنه.

    (38) أن الزكاة تصرف في فقراء البلد الذي أخذت من أغنيائه لقوله (في فقرائهم) وتعقب بأن الضمير للمسلمين فلا مانع من نقلها إلى بلد آخر، ولا شك في أولوية فقراء بلد المال إذا كانوا أشد حاجة من غيرهم.

    (39) أن الكفار غير مخاطبين بالفروع، وقد تعقب هذا الاستدلال كما تقدم.

    (40) أن من ملك نصاباً لا يعطى من الزكاة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (22)




    حديث لما حضرت أبي طالب الوفاة



    قال الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في كتاب الإيمان من صحيحه:وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي أخبرنا عبد الله بن وهب، قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عمّ قل: لا إله إلاّ الله كلمة أشهد لك بها عند الله))، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملّة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلاّ الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك)). فأنزل الله عزوجل:(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) التوبة:113، وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: )yإِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ ) القصص:56.

    المبحث الأول: التخريج

    أورد مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من طرق هذه إحداها ثم قال عقبها: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر (ح)، وحدثنا حسن الحلواني وعبد بن حميد قالا حدثنا يعقوب وهو ابن إبراهيم بن سعد قال: حدثني أبي عن صالح كلاهما عن الزهري بهذا الإسناد مثله غير أن حديث صالح انتهى عند قوله: فأنزل الله عزوجل

    فيه ولم يذكر الآيتين وقال في حديثه: ويعودان في تلك المقالة وفي حديث معمر مكان هذه الكلمة فلم يزالا به.

    ـ حدثنا محمد بن عباد وابن أبي عمر قالا حدثنا مروان عن يزيد ـ وهو ابن كيسان ـ عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه عند الموت: ((قل: لا إله إلاّ الله، أشهد لك بها يوم القيامة))، فأبى، فأنزل الله ( yإِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) الآية.

    ـ حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم الأشجعي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: ((قل: لا إله إلاّ الله أشهد لك بها يوم القيامة))، قال: لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك. فأنزل الله (yإِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) .

    وأخرجه البخاري في خمسة مواضع من صحيحه، أولها في (كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلاّ الله). قال فيه: حدثنا إسحاق أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثني أبي عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق متنه بنحوه عند مسلم إلاّ أن فيه: ويعودان بتلك المقالة. وليس فيه ذكر الآية الثانية، وفيه التنصيص على أن الآية الأولى أنزلت في أبي طالب حيث قال: فأنزل الله تعالى فيه ) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ) الآية.

    والثاني: في باب قصة أبي طالب قال فيه: حدثنا محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال: ((أي عم قل: لا إله إلاّ الله كلمة أحاج لك بها عند الله))، قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرن لك ما لم أُنه عنه))، فنزلت: )مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( .ونزلت:( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (.

    والثالث: في تفسير سورة براءة، باب ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ (. قال فيه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أي عم قل: لا إله إلاّ الله أحاج لك بها عند الله))، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرن لك ما لم أنه عنك))، فنزلت ) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (.

    والرابع: في تفسير سورة القصص، باب ) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ (. قال فيه: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة...، وساق متنه بنحوه عند مسلم إلاّ أن فيه: ((أحاج لك بها عند الله)) بدل ((أشهد لك))، وفيه ((ويعيدانه بتلك المقالة))، وفيه ((على ملّة عبد المطلب)) بدون: هو.

    والخامس: في (كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ أو سبح أو كبر أو حمد أو هلل فهو على نيته). رواه عن شيخه أبي اليمان بإسناده في تفسير سورة القصص، ومتنه: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((قل: لا إله إلاّ الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)).

    وأخرجه النسائي في (كتاب الجنائز) من سننه في النهي عن الاستغفار للمشركين فقال: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا محمد ـ وهو ابن ثور ـ عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال: ((أي عم، قل: لا إله إلاّ الله، كلمة أحاج لك بها عند الله عزوجل))، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء كلمهم به: على ملّة عبد المطلب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك))، فنزلت )مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ (.

    وأخرجه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه، ومتنه مثل متن حديث معمر عن الزهري عند النسائي.

    وأخرجه الترمذي في تفسير سورة القصص من جامعه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال فيه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد عن يزيد بن كيسان حدثني أبو حازم الأشجعي ـ هو كوفي، اسمه سلمان مولى عزة الأشجعية ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: ((قل: لا إله إلاّ الله، أشهد لك بها يوم القيامة))، فقال: لولا أن تعيرني قريش أن ما يحمله عليه الجزع لأقررت بها عينك. فأنزل الله عزوجل: ) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ (. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من حديث يزيد بن كيسان. انتهى. وتقدمت رواية مسلم حديث أبي هريرة من طريقين إلى يزيد بن كيسان.

    وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان حدثني أبو حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره بنحوه.

    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

    الأول: شيخ مسلم حرملة بن يحيى: وهو حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران بن قراد التجيبي ـ بضم المثناة وكسر الجيم بعدها ياء ساكنة ثم موحدة ـ المصري أبو حفص صاحب الشافعي، صدوق من الحادية عشرة، مات سنة ثلاث أو أربع وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ وكان مولده سنة ستين ـ أي بعد المائة ـ، قاله الحافظ في التقريب، ورمز لكونه من رجال مسلم والنسائي وابن ماجه، وقال في تهذيب التهذيب: روى عن ابن وهب فأكثر، وعن الشافعي ولازمه وأيوب بن سويد الرملي وبشر بن بكر وأبي صالح عبد الغفار بن داود الحراني ويحيى بن عبد الله بن بكير وغيرهم. وعنه مسلم وابن ماجه، وروى له النسائي بواسطة أحمد بن الهيثم الطرسوسي وغيرهم سماهم، ونقل في تهذيب التهذيب شيئاً من كلام الأئمة فيه، ومن ذلك قول أبي حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الدوري عن يحيى: شيخ لمصر يقال له حرملة، كان أعلم الناس بابن وهب. وقال العقيلي: كان أعلم الناس بابن وهب وهو ثقة إن شاء الله. وذكره ابن حبان في الثقات وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال وقال: أحد الأئمة الثقات وراوية ابن وهب وصاحب الشافعي روى عنه مسلم وابن قتيبة العسقلاني والحسن بن سفيان وخلق، ولكثرة ما روى انفرد بغرائب. وقال: قال ابن عدي: قد تبحرت حديث حرملة وفتشته الكثير، فلم أجد في حديثه ما يجب أن يضعف من أجله. ثم قال الذهبي: قلت: يكفيه أن ابن معين قد أثنى عليه وهو أصغر من ابن معين. قال عياش عن ابن معين قال: شيخ بمصر يقال له حرملة، أعلم الناس بابن وهب. وقال أبو عمر الكندي: كان حرملة فقيهاً لم يكن أحد أكتب عن ابن وهب منه وذلك لأن ابن وهب قد استخفى في منزله سنة وأشهراً لما طلب ليتولى القضاء.

    الثاني: عبد الله بن وهب، وهو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد من التاسعة، مات سنة سبع وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله اثنتان وسبعون سنة. قاله في التقريب، ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه يونس بن يزيد وشيخ شيخه ابن شهاب الزهري في رجال إسناد الحديث الأول من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    الثالث: يونس وهو ابن يزيد بن أبي النجاد الأيلي ـ بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام ـ أبو يزيد مولى آل أبي سفيان، ثقة إلاّ أن في روايته عن الزهري وهماً قليلاً وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة تسع وخمسين ـ أي بعد المائة على الصحيح ـ قاله الحافظ في تقريب التهذيب، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    الرابع: ابن شهاب، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب الزهري، وكنيته أبو بكر الفقيه الحافظ، متفق على جلالته وإتقانه، وهو من رؤوس الطبقة الرابعة، مات سنة خمس وعشرين ـ أي بعد المائة وقيل: قبل ذلك بسنة أو سنتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    الخامس: سعيد بن المسيب، قال الحافظ في التقريب: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار من كبار الثانية، اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل، وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه. مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): المدني يكنى أبا محمد كان ختن أبي هريرة على ابنته وأعلم الناس بحديثه، سمع عثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وأباه المسيب، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمر، وحكيم بن حزام، وأبا سعيد الخدري، وعائشة رضي الله عنها عندهما ـ أي في الصحيحين ـ إلى أن قال: روى عنه الزهري محمد بن عبد الله، وعمرو بن مرّة، وقتادة عندهما.

    وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء العلماء عليه، من ذلك: قال نافع عن ابن عمر: هو والله أحد المتقنين. وقال قتادة: ما رأيت أحداً قط أعلم بالحلال والحرام منه. وقال محمد بن إسحاق عن مكحول: طفت الأرض كلها في طلب العلم فما لقيت أعلم منه. وقال سليمان بن موسى: كان أفقه التابعين. وقال عثمان الحارثي عن أحمد: أفضل التابعين سعيد بن المسيب. وقال عليّ بن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً من سعيد بن المسيب. قال: وإذا قال سعيد: مضت السنة فحسبك به، قال: هو عندي أجل التابعين. وقال أبو زرعة: مدني قرشي ثقة إمام. وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل منه، وهو أثبتهم في أبي هريرة. وقال ابن حبان في (الثقات): كان من سادات التابعين فقهاً وديناً وورعاً وعبادة وفضلاً، وكان أفقه أهل الحجاز وأعبر الناس لرؤيا، ما نودي بالصلاة من أربعين سنة إلاّ وسعيد في المسجد. انتهى.

    وسعيد هو أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين، وقد ذكرتهم في شرح الحديث الثاني من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    السادس: صحابي الحديث. المسيب بن حزن: بفتح المهملة وسكون الزاي، ابن أبي وهب المخزومي، أبو سعيد له ولأبيه صحبة، عاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، قاله الحافظ في التقريب، ورمز لكون حديثه في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي.

    وقال الخزرجي في (خلاصة تذهيب الكمال): المسيب بن حزن ـ بإسكان الزاي ـ بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ ـ بمعجمة ـ بن عمران بن مخزوم المخزومي، له سبعة أحاديث، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على حديثين، وانفرد البخاري بآخر وعنه ابنه سعيد. وذكر الحافظ في (مقدمة فتح الباري) أن له في صحيح البخاري ثلاثة أحاديث.

    المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث.

    (1) رجال الإسناد الستة حديثهم في الكتب الستة إلاّ الصحابي فليس له في جامع الترمذي وسنن ابن ماجه رواية، وإلاّ شيخ مسلم حرملة بن يحيى فلم يرو له البخاري وأبو داود والترمذي.

    (2) شيخ مسلم وشيخه في الإسناد مصريان والزهري وسعيد بن المسيب وأبوه مدنيون.

    (3) سعيد بن المسيب أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين.

    (4) المسيب بن حزن رضي الله عنهما، له في صحيح مسلم حديثان، هذا أحدهما والثاني عن ابنه سعيد قال: ((كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة، قال: فانطلقنا في قابل حاجين، فخفي علينا مكانها...)) الحديث.

    (5) الحديث من رواية سعيد بن المسيب عن أبيه فهو من رواية الأبناء عن الآباء.

    (6) المسيب بن حزن وأبوه حزن بن أبي وهب رضي الله عنهما صحابيان، وقد ألف الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل كتاباً خاصاً بهذا النوع سماه (بغية أهل الأثر في من اتفق له ولأبيه صحبة خير البشر)، وذكر في آخره أنه فرغ من تأليفه سنة 1226هـ.

    (7) المسيب بن حزن رضي الله عنه لم يرو عنه إلاّ ابنه سعيد. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب: وعدّه الأزدي وغيره في من لم يرو عنه إلا واحد. وقال النووي في شرحه هذا الحديث في صحيح مسلم: وهو حديث اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحيهما من رواية سعيد بن المسيب عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يروه عن المسيب إلاّ ابنه سعيد. كذا قاله الحافظ.

    وفي هذا رد على الحاكم أبي عبد الله بن الحافظ ـ رحمه الله ـ في قوله: لم يخرج البخاري ولا مسلم ـ رحمهما الله ـ عن أحد ممن لم يرو عنه إلاّ راو واحد. ولعلّه أراد من غير الصحابة، والله أعلم.

    (8) في الإسناد عبد الله بن وهب، وصفه ابن سعد بالتدليس كما في ترجمته في تهذيب التهذيب، وقد صرح في رواية هذا الحديث بالإخبار، وفي الإسناد أيضاً ابن شهاب الزهري، وقد وصفه الذهبي في (ميزان الاعتدال) بأنه يدلس نادراً، وقد صرح بالإخبار في رواية هذا الحديث عن سعيد بن المسيب.

    (9) حرملة بن يحيى ولد في السنة التي مات فيها جده حرملة بن عمران كما في تراجمهما في (تقريب التهذيب)، وكل منهما من رجال صحيح مسلم، وكنية كل منهما أبو حفص، وهما مصريان، وعبد الله بن وهب يروي عن حرملة الجد، ويروي عنه حرملة الحفيد.

    (10) قال الإمام أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه (علوم الحديث): يصح التحمل قبل وجود الأهلية فتقبل رواية من تحمل قبل الإسلام، وروى بعده. انتهى.

    ورواية المسيب هذا الحديث من شواهد ذلك، فإن المسيب قد تأخر إسلامه ووفاة أبي طالب كانت قبل الهجرة، وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح: يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة، فإن المذكورين ـ يعني أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية ـ من بني مخزوم وهو من بني مخزوم أيضاً، وكان الثلاثة يومئذ كفاراً، فمات أبو جهل على كفره وأسلم الآخران.

    المبحث الرابع: شرح الحديث:

    (1) قوله (لما حضرت أبا طالب الوفاة) اسم أبي طالب: عبد مناف، واشتهر بكنيته، وكان شقيق عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك أوصى به عبد المطلب عند موته إليه، فكفله إلى أن كبر واستمر على نصره بعد أن بعث إلى أن مات أبو طالب وذلك في السنة العاشرة من البعث، وكان يذُبُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرد عنه كل من يؤذيه وهو مقيم مع ذلك على دين قومه، وأخباره في حياطته والذَّبِّ عنه معروفة مشهورة.

    هذا ملخص ما ذكره عنه الحافظ ابن حجر في شرحه هذا الحديث في (كتاب الجنائز) من صحيح البخاري، وقال فيه: من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أربعة لم يسلم منهم اثنان وأسلم اثنان، وكان اسم من لم يسلم ينافي أسامي المسلمين وهما أبو طالب واسمه عبد مناف، وأبو لهب واسمه عبد العزّى بخلاف من أسلم وهما حمزة والعباس.

    (2) قوله (لما حضرت أبا طالب الوفاة) قال النووي في شرح صحيح مسلم: المراد قربت وفاته وحضرت دلائلها وذلك قبل المعاينة والنزع ولو كان في حال المعاينة والنزع لما نفعه الإيمان لقول الله تعالى: )وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ (، ويدل على أنه قبل المعاينة محاورته للنبي صلى الله عليه وسلم ومع كفار قريش. انتهى.

    وقال الحافظ في (الفتح): ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه وتسوغ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، قال: ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد وقال: هو على ملّة عبد المطلب ومات على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة له بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه. ذكره في شرح هذا الحديث في تفسير سورة القصص، وقال فيه أيضاً: وفي الحديث: أن من لم يعمل خيراً قط إذا ختم عمره بشهادة ألا إله إلاّ الله حكم بإسلامه وأجريت عليه أحكام المسلمين، فإن قارن نطق لسانه عقد قلبه نفعه ذلك عند الله تعالى بشرط أن لا يكون وصل إلى حد انقطاع الأمل من الحياة وعجز عن فهم الخطاب ورد الجواب وهو وقت المعاينة وإليه الإشارة بقوله تعالى: ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ (. والله أعلم.

    (3) قوله (جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية)، قال الحافظ في الفتح: وعبد الله بن أبي أمية، أي ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وهو أخو أم سلمة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وقد أسلم عبد الله هذا يوم الفتح واستشهد في تلك السنة في غزوة حنين. انتهى. أما أبو جهل، فاسمه عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي، وقد مات كافراً.

    (4) قوله (يا عم قل: لا إله إلاّ الله)، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد: أمره أن يقولها فأبى أبو طالب أن يقولها، لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، فإن من قالها عن علم ويقين فقد برىء من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام، لأنهم يعلمون ما دلت عليه، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلاّ مسلم أو كافر، فلا يقولها إلاّ من ترك الشرك وبرىء منه، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم، وهم يعرفون معناها لكن لا يعتقدونها لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن، وفيها اليهود وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر ووادعهم بأن لا يخونوه ولا يظاهروا عليه عدواً، كما هو مذكور في كتب الحديث والسير.

    (5) قوله (كلمة أشهد لك بها عند الله)، وفي بعض الروايات (أحاج لك بها عند الله)، قال الحافظ في الفتح: كلمة بالنصب على البدل من لا إله إلاّ الله أو الاختصاص، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف.

    وقال أيضاً: وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم من امتناع أبي طالب من الشهادة في تلك الحالة، أنه ظنّ أن ذلك لا ينفعه لوقوعه عند الموت، أو لكونه لم يتمكن من سائر الأعمال كالصلاة وغيرها فلذلك ذكر له المحاججة، وأما لفظ الشهادة فيحتمل أن يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذ لم يحضر حينئذ أحد من المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فطيب قلبه بأن يشهد له بها فينفعه.

    (6) قول أبي جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟.

    قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد: ذكراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين كقول فرعون لموسى: فما بال القرون الأولى. وقوله تعالى: )وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ(.

    (7) قول أبي طالب: هو على ملة عبد المطلب. قال الحافظ في الفتح: وأراد بذلك نفسه، ويحتمل أن يكون قال: أنا، فغيرها الراوي أنفة أن يحكي كلام أبي طالب استقباحا للفظ المذكور، وهي من التصرفات الحسنة. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه (تيسير العزيز الحميد) بعد أن ذكر كلام الحافظ وقال: إنه الظاهر، قال: وقد رواه الإمام أحمد بلفظ أنا فدل على ما ذكرناه.

    (8) قوله (أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) فأنزل الله عزوجل: ) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( الآية، الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة لعمه أبي طالب الشفاعة في السلامة من العذاب، أما تخفيف العذاب فقد حصلت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك كما جاء في أحاديث صحيحة، منها في صحيح البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر عنده عمه فقال: ((لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه)). ومنها حديث ابن عباس في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه)). وهذه الشفاعة من الشفاعات الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تخصيص لقوله تعالى: ) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (، ولقوله تعالى: )وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا (.

    (9) نفى الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم هداية العباد بقوله: ) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (، وأثبت له الهداية في قوله: ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(، ولا تنافي بين الآيتين، فإن الهداية المنفية هداية التوفيق والتسديد لأنها خاصة بالله وحده، أما المثبتة فهي هداية الدلالة والإرشاد.

    (10) ليس في الحديث قول: محمد رسول الله، مع قول: لا إله إلاّ الله. وقد قال الحافظ في الفتح في ذلك: وإنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه ـ يعني أبا طالب ـ أن يقول: لا إله إلاّ الله، ولم يقل فيها: محمد رسول الله، لأن الكلمتين صارتا كالكلمة الواحدة، ويحتمل أن يكون أبو طالب كان يتحقق أنه رسول الله ولكن لا يقر بتوحيد الله فاقتصر على أمره له بقول: لا إله إلاّ الله، فإذا أقرّ بالتوحيد لم يتوقف عن الشهادة بالرسالة.

    (11) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

    (1) جواز زيارة القريب المشرك وعيادته.

    (2) عرض الإسلام على الكافر عند الموت.

    (3) تكرار تلقين الكافر شهادة الحق رجاء هدايته.

    (4) أن التوبة مقبولة ولو في مرض الموت ما لم يصل إلى الغرغرة.

    (5) أن الكافر إذا شهد شهادة الحق نجا من العذاب لأن الإسلام يجبُّ ما قبله.

    (6) الحرص في الدعوة إلى الله عزوجل.

    (7) حرصه صلى الله عليه وسلم ورغبته الشديدة في إسلام عمه أبي طالب.

    (8) أن أبا طالب مات على الكفر ولم يدخل في الإسلام.

    (9) تأكيد الراوي عدم إسلام أبي طالب.

    (10) أن أبا جهل وأبا طالب وأمثالهم من الكفرة يعلمون معنى لا إله إلاّ الله.

    (11) ما كان عليه أهل الجاهلية من التعصب لملّة الآباء والأجداد.

    (12) أن أهل الجاهلية على نحل مختلفة، منها ملّة عبد المطلب وكلها تقابل الحق كما في قوله تعالى: ) وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ (.

    (13) معارضة دعاة الباطل الدعوة إلى الحق.

    (14) التلطف في خطاب القريب ونداؤه بوصف القرابة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يا عم)).

    (15) مضرّة جلساء السوء على الإنسان.

    (16) أنه لابد للدخول في الإسلام من التلفظ بكلمة التوحيد وهي (لا إله إلاّ الله).

    (17) أنه لا يلزم تقديم كلمة (أشهد) بين يدي كلمة التوحيد لقوله صلى الله عليه وسلم لعمه: ((قل: لا إله إلاّ الله)).

    (18) إطلاق الكلمة مراداً بها الكلام.

    (19) أن من حسن أدب المتكلم عند حكاية الكلام السيء الصادر من غيره بضمير التكلم الإتيان به بضمير الغيبة.

    (20) أن هداية التوفيق والتسديد لا تكون إلاّ لله وحده.

    (21) جواز الحلف من غير استحلاف.

    (22) أن حلف الحالف يكون بالله لا بغيره.

    (23) تحريم الاستغفار للمشركين.

    (24) امتثال الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ربه واجتنابه نهيه، وهو عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة لأمته.

    (25) أن صيغة (ما كان له كذا) لها حكم صيغة النهي، وهو خبر بمعنى الطلب.

    (26) أن قوله تعالى: ) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ( نزل في شأن أبي طالب وموته على غير ملّة الإسلام.

    (27) أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.

    (28) أن السنة تفسِّر القرآن وتدل عليه.

    (29) في عدم إسلام أبي طالب مع قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدّة حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلامه تنبيه على عدم التعويل على القرابة والنسب، وصَدَقَ الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم إذ يقول في الحديث الصحيح: ((ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه)).

    (30) في عدم إسلام أبي طالب الذي حصل منه الإحسان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصه على إسلامه دلالة واضحة على أنه لا يفزع في قضاء الحاجات وتفريج الكربات والنجاة من العذاب إلاّ إلى من بيده ملكوت كل شيء سبحانه وتعالى.
    فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل خلق الله من هداية القلوب وتفريج الكروب ونحو ذلك شيء، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (23)



    حديث لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ)



    قال الإمام مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

    المبحث الأول: التخريج:

    أخرج مسلم هذا الحديث بهذا اللفظ عن شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، وأخرجه عن أربعة من شيوخه فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم قالا أخبرنا عيسى - وهو ابن يونس - (ح) وحدثنا منجاب بن الحارث التميمي أخبرنا ابن مسهر (ح) وحدثنا أبو كريب أخبرنا ابن إدريس، كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد قال أبو كريب قال ابن إدريس حدثنيه أولاً أبي عن أبان بن تغلب عن الأعمش ثم سمعته منه.

    وأخرجه البخاري في ثمانية مواضع من صحيحه، أولها في (كتاب الإيمان، باب ظلم دون ظلم) قال فيه: حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة (ح) قال وحدثني بشر قال حدثنا محمد عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

    والثاني: في (كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: ( َواتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) قال فيه: حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) قلنا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ((ليس كما تقولون: (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

    والثالث والرابع: في (كتاب أحاديث الأنبياء) أيضاً في (باب قول الله تعالى:(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) )قال فيهما: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ). قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فنـزلت: (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

    حدثنا إسحاق حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ((ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه(يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

    والخامس: في (كتاب التفسير، باب (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) قال فيه: حدثني محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت: (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) قال أصحابه: وأينا لم يظلم؟ فنـزلت: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

    والسادس: في تفسير (سورة لقمان، باب: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) قال فيه: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان لابنه:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)).

    والسابع: في (كتاب استتابة المرتدين، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة). وهو أوّل حديث في هذا الكتاب، رواه عن شيخه قتيبة بمثل إسناده ومتنه في تفسير (سورة لقمان) المتقدم قبله.

    والثامن: في (كتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأوّلين). قال فيه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا وكيع (ح) حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

    وأخرجه الترمذي في (كتاب التفسير) من جامعه قال فيه: حدثنا عليّ بن خشرم أخبرنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله، وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: ((ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه:(يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.

    وأخرجه الإمام أحمد في مسنده فقال حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: ((إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). إنما هو الشرك)).

    وأخرجه ابن أبي حاتم من طريقين إلى الأعمش كما في تفسير ابن كثير لسورة الأنعام.

    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

    الأول: شيخ البخاري أبو بكر بن أبي شيبة: تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

    الثاني: عبد الله بن إدريس وهو عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي - بسكون الواو- أبو محمد الكوفي، ثقة فقيه عابد، من الثامنة مات سنة اثنتين وتسعين - أي بعد المائة - وله بضع وسبعون سنة. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكونه من رجال الجماعة. وذكر في (تهذيب التهذيب) أسماء جماعة روى عنهم منهم: أبوه وعمه داود والأعمش وغيرهم. وجماعة رووا عنه منهم: مالك بن أنس - وهو من شيوخه - وابن المبارك ومات قبله، ويحيى بن آدم وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وابنا أبي شيبة وغيرهم، ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قول أحمد: كان نسيج وحده. وقول يحيى بن معين: هو ثقة في كل شيء. وقول أبي حاتم: هو حجة يحتج به، وهو إمام من أئمة المسلمين ثقة. وقول النسائي: ثقة ثبت. ونقل توثيقه أيضاً عن ابن سعد وابن حبان وابن خراش والعجلي والخليلي وابن المديني.

    الثالث: أبو معاوية وهو محمد بن خازم - بمعجمتين - أبو معاوية الضرير الكوفي عمي وهو صغير، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش وقد يهم في حديث غيره، من كبار التاسعة، مات سنة خمس وتسعين - أي بعد المائة - وله اثنتان وثمانون سنة وقد رُمي بالإرجاء. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): محمد بن خازم - بمعجمتين - التميمي مولاهم، أبو معاوية الضرير أحد الأعلام، عن الأعمش وسهيل بن أبي صالح وعاصم الأحول وخلق. وعنه أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وأبو خيثمة وخلق. وروى عنه من شيوخه: الأعمش وابن جريج.

    قال أحمد كان في غير الأعمش مضطرباً. وقال العجلي: ثقة يرى الإرجاء. وقال يعقوب بن شيبة: ربما دلس. قال ابن معين: مات سنة خمس وتسعين ومائة. انتهى. ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن العجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان يدلس، وكان مرجئاً.

    الرابع: وكيع - وهو ابن الجراح - تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

    الخامس: الأعمش - وهو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي - أبو محمد الكوفي الأعمش، ثقة حافظ عارف بالقراءة ورع لكنه يدلس، من الخامسة، مات سنة سبع وأربعين أو ثمان - أي بعد المائة - وكان مولده أوّل إحدى وستين. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه إبراهيم النخعي في رجال إسناد الحديث الثامن من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    السادس: إبراهيم - وهو النخعي - قال الحافظ في (التقريب): إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه، ثقة إلا أنه يرسل كثيراً، من الخامسة، مات سنة ست وتسعين وهو ابن خمسين أو نحوها، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    السابع: علقمة، وهو علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ثقة ثبت فقيه عابد من الثانية، مات بعد الستين وقيل بعد السبعين. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): أبو شبل الكوفي أحد الأعلام مخضرم. عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وحذيفة وطائفة. وعنه: إبراهيم النخعي والشعبي وسلمة بن كهيل وخلق. وقال في (تهذيب التهذيب): وعنه: ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس، وابن أخته إبراهيم بن يزيد النخعي وإبراهيم بن سويد النخعي وغيرهم سماهم، وقال: قال مغيرة عن إبراهيم: كان علقمة عقيماً. وقال ابن المديني: أعلم الناس بعبد الله علقمة والأسود وعبيدة والحارث. وقال أبو المثنى رياح: إذا رأيت علقمة، فلا يضرك أن لا ترى عبد الله أشبه الناس به سمتاً وهدياً، وإذا رأيت إبراهيم، فلا يضرك أن لا ترى علقمة. ونقل توثيقه عن أحمد وابن معين وعثمان بن سعيد.

    الثامن: صحابي الحديث عبد الله - وهو عبد الله بن مسعود بن غافل بمعجمة وفاء - بن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين ومن كبار العلماء من الصحابة، مناقبه جمّة، وأمّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين أو في التي بعدها بالمدينة. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

    وقال الخزرجي في (الخلاصة): شهد بدراً والمشاهد، وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثاً اتفقا - أي البخاري ومسلم - على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري أن له في صحيح البخاري خمسة وثمانين حديثاً. وقال في الإصابة: أحد السابقين الأولين، أسلم قديماً وهاجر الهجرتين وشهد بدراً والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وكان صاحب نعليه، وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالكثير.

    المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

    (1) رجال الإسناد الثمانية كلهم كوفيون، فهو مسلسل بالرواة الكوفيين، وهو من سداسيات صحيح مسلم.

    (2) رجال الإسناد كلهم اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلاّ شيخ مسلم أبا بكر بن أبي شيبة فلم يخرج له الترمذي.

    (3) في الإسناد راويان اشتهرا بالكنية وهما: أبو بكر بن أبي شيبة - واسمه عبد الله بن محمد - وأبو معاوية - واسمه محمد خازم -.

    (4) في الإسناد راو اشتهر بلقبه وهو الأعمش واسمه سليمان بن مهران.

    (5) في الإسناد راويان وصفا بالتدليس وهما: أبو معاوية وشيخه الأعمش، وقد صرحا بالتحديث في رواية هذا الحديث، أما الأعمش ففي (صحيح البخاري) في (كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:( َواتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) وأما أبو معاوية ففي مسند الإمام أحمد وتقدم سياقهما في التخريج.

    (6) في الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: الأعمش وإبراهيم النخعي وعلقمة بن قيس. وقد قال النووي في شرحه لصحيح مسلم عند ذكر إسناده: هذا إسناد رجاله كوفيون، كلهم حفاظ متقنون في نهاية الجلالة، ومنهم ثلاثة أئمة جلة فقهاء تابعيون بعضهم عن بعض: سليمان الأعمش وإبراهيم النخعي وعلقمة بن قيس. وقل اجتماع مثل هذا الذي اجتمع في هذا الإسناد، والله أعلم.

    (7) هذا الحديث رواه البخاري في ثمانية مواضع من صحيحه، وقد اتفق موضعان منها سنداً ومتناً شيخه فيهما قتيبة بن سعيد، أحدهما في تفسير (سورة لقمان، باب(لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)). والثاني في (كتاب استتابة المرتدين، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة)، وهذا من المواضع القليلة في صحيح البخاري التي لا تبلغ ثلاثين موضعاً، وقد ذكرت بعض أمثلة منها عند الكلام على الحديث التاسع، والحديث السادس عشر، والحديث التاسع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    (8) من الطرق الأخرى التي خرَّج مسلم الحديث منها روايته إياه عن شيخه أبي كريب عن ابن إدريس عن الأعمش قال بعد ذكر هذه الطريق: قال أبو كريب: قال ابن إدريس: حدثنيه أوّلا أبي عن أبان بن تغلب عن الأعمش ثم سمعته منه انتهى. وهذا يفيد أن هذه الطريق عالية إذ نقص فيها رجلان بالنسبة لطريق أبيه وهما أبوه وأبان بن تغلب.

    (9) في الإسناد فقيهان نخعيان وهما: إبراهيم بن يزيد النخعي وخاله علقمة بن قيس النخعي.

    (10) في الإسناد رواية الأعمش عن شيخه إبراهيم النخعي عن شيخه علقمة بن قيس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد وصفت هذه السلسلة بأنها أصح الأسانيد، وصفها بذلك يحيى بن معين، قال أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه (علوم الحديث): وفيما نرويه عن يحيى بن معين أنه قال: أجودها - يعني الأسانيد - الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله.

    المبحث الرابع: شرح الحديث:

    (1) هذا الحديث فيه أن آية لقمان وهي قوله: (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).كانت معلومة عندهم ولذلك نبههم عليها، وفي بعض روايات هذا الحديث التي تقدمت في التخريج عند البخاري في (كتاب الإيمان) وغيره ما يفيد أن سؤالهم هذا هو سبب نزول آية لقمان، وقد أشار الحافظ ابن حجر في (الفتح) إلى الجمع بين هذه الروايات: بأنه يحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم، فتلتئم الروايتان.

    (2) الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ولا شك أن من جعل العبادة لغير الله فقد وضعها في غير موضعها وصرفها عمن لا يستحقها سواه سبحانه وتعالى، إلى من لا يستحقها بحال من الأحوال وهو المخلوق المربوب المدبر، الذي كان بعد أن لم يكن والذي ليس له من نفسه إلا العدم لولا إيجاد الله تعالى له.

    (3) قوله: شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: فالصحابة رضي الله عنهم حملوا الظلم على عمومه، والمتبادر إلى الأفهام منه وهو وضع الشيء في غير موضعه، وهو مخالفة الشرع فشق عليهم، إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمراد بهذا الظلم، قال الخطابي: ((إنما شق عليهم، لأن ظاهر الظلم الافتيات بحقوق الناس وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي، فظنوا أن المراد معناه الظاهر، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن جعل العبادة لغير الله فهو أظلم الظالمين)).

    (4) قال الحافظ في (الفتح): فإن قيل: فالعاصي قد يعذب، فما هو الأمن والاهتداء الذي حصل له؟ فالجواب: أنه آمن من التخليد في النار، ومهتد إلى طريق الجنة، والله أعلم. انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الإيمان) بعد أن ذكر أن الظلم ثلاثة أنواع: الشرك، وظلم العبد نفسه، وظلم العباد بعضهم بعضاً. قال: ((فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقاً، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه نفسه، وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إنما هو الشرك. أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام ولا الاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، من غير عذاب يحصل لهم، بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم، ولابد لهم من دخول الجنة)).

    (5) قوله: (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم) ، قال الحافظ في (الفتح): أي لم يخلطوا، تقول: لبَسْت الأمرَ بالتخفيف ألبسه بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل أي خلطته، وتقول: لبِست الثوبَ ألبَسه بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل.

    (6) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

    (1) بيان عظم الشرك بالله وأنه أظلم الظلم وأبطل الباطل.

    (2) تفسير القرآن بالقرآن.

    (3) أن السنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه.

    (4) ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الرغبة في الخير والحذر من الشر.

    (5) أن العام يحمل على عمومه حتى يرد دليل الخصوص.

    (6) أن النكرة في سياق النفي تعم.

    (7) حمل العام على الخاص.

    (8) أن الظلم درجات أعظمها وأشدها خطراً الشرك بالله.

    (9) أن من لم يشرك بالله مهتد وله الأمن.

    (10) أن من أشرك بالله فهو ضال وغير آمن.

    (11) أن المعاصي دون الشرك وتختلف في الحكم عنه.

    (12) تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.

    (13) تسمية الشرك ظلماً ووصفه بأنه عظيم.

    (14) أن الظلم في الآية من العام المراد به الخصوص.

    (15) تحذير المسلم من الوقوع في الشرك ليكون مهتدياً آمناً.
    (16) اعتبار مفهوم الصفة وبيان أنه حُجة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (24)




    حديث (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله....)

    قال الإمام مسلم رحمه الله في آخر (كتاب القدر) من صحيحه:
    حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير قالا حدثنا عبد الله بن إدريس عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان)).
    المبحث الأول: التخريج:
    أخرج الإمام مسلم هذا الحديث في هذا الموضع من صحيحه ولم يكرره لا في هذا الموضع ولا في غيره، وهو من الأحاديث التي انفرد بها عن البخاري.
    ورواه ابن ماجه في موضعين من سننه، أولهما في أوائل سننه في (باب في القدر) ولفظه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي قالا حدثنا عبد الله بن إدريس عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان)).
    والثاني: في (كتاب الزهد، باب التوكل واليقين) ولفظه: حدثنا محمد بن الصباح أنبأنا سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن غلبك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، وإياك واللو فإنَّ اللو تفتح عمل الشيطان)).
    وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن عثمان المكي قال فيه: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن عيينة عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وكلٌّ على خير، واحرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن فاتك شيء فقل كذا قدر، وكذا كان، وإياك ولو فإنها مفتاح عمل الشيطان)). غريب من حديث ابن عيينة عن ابن عجلان.
    وأخرجه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) في ترجمة عمرو بن عثمان المذكور ولفظه: أخبرني أبو سعد الماليني - قراءة - أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر ابن حيان قال: أملى علينا عمرو بن عثمان المكي الصوفي قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن عيينة عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة - أو غير أبي هريرة، الشك من أبي عبد الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن فاتك شيء فقل كذا قدر، وكذا كان، وإياك ولو فإنها مفتاح عمل الشيطان)). فهذا يدل على معنى التوكل بالتكسب، فإذا فاتهم الأمر بعد الكسب قالوا كذا أراد الله، وكذا قدر الله. ثم قال الخطيب: قلت: ما بعد ذكر الشيطان هو كلام عمرو المكي وليس بكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
    الأول: شيخ مسلم أبو بكر بن أبي شيبة تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.
    الثاني: شيخ مسلم ابن نمير: وهو محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني بسكون الميم، الكوفي أبو عبد الرحمن، ثقة حافظ فاضل من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين - أي بعد المائتين -. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أباه ومحمد بن بشر وعبد الله بن إدريس عندهما - أي في الصحيحين -. روى عنه البخاري ومسلم في مواضع كثيرة. وذكر في (تهذيب التهذيب) كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك: قال أبو إسماعيل الترمذي: كان أحمد بن حنبل يعظم محمد بن عبد الله بن نمير تعظيماً عجباً، ويقول: أي فتى هو؟. وعن أحمد أيضاً قال: هو درّة العراق. ونقل توثيقه عن العجلي وأبي حاتم والنسائي وابن وضاح وابن قانع.
    الثالث: عبد الله بن إدريس تقدم في رجال إسناد الحديث الثالث.
    الرابع: ربيعة بن عثمان: قال الخزرجي في (الخلاصة): ربيعة بن عثمان بن ربيعة بن عبد الله ابن الهدير التميمي حفيد الذي تقدم - يعني ربيعة بن عبد الله -، عن محمد بن يحيى بن حبان ونافع. وعنه ابن المبارك وابن إدريس. وثقه ابن معين، قال النسائي: ليس به بأس. قال أبو زرعة: ليس بذاك القوي، له عندهم فرد حديث. ورمز لكونه من رجال مسلم وابن ماجه والنسائي في (عمل اليوم والليلة)، وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): المدني، يكنى أبا عثمان، سمع محمد بن يحيى بن حبان في القدر، روى عنه عبد الله بن إدريس - يعني في صحيح مسلم -، وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): له عندهم حديث: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)). ونقل توثيقه عن الواقدي وابن نمير والحاكم، وقال في (التقريب): صدوق له أوهام، من السادسة، مات سنة أربع وخمسين - أي بعد المائة - وهو ابن سبع وسبعين سنة.
    الخامس: محمد بن يحيى بن حبان: وهو محمد بن يحيى بن حبان - بفتح المهملة وتشديد الموحدة - ابن منقذ الأنصاري المدني، ثقة فقيه، من الرابعة، مات سنة إحدى وعشرين - أي بعد المائة - وهو ابن أربع وسبعين سنة. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أنس بن مالك وعمه واسع بن حبان وعبد الله بن محيريز والأعرج عندهما، وقال: روى عنه يحيى الأنصاري وعبيد الله بن عمر ومالك وربيعة بن أبي عبد الرحمن عندهما - أي في الصحيحين - والليث بن سعد عند البخاري، ثم ذكر جماعة رووا عنه عند مسلم ومنهم: ربيعة بن عثمان. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): قال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الواقدي: كانت له حلقة في مسجد المدينة، وكان يفتي، ثقة كثير الحديث.
    السادس: الأعرج: وهو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، أبو داود المدني مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت عالم، من الثالثة، مات سنة سبع عشرة - أي بعد المائة -، قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أبا هريرة وغير واحد، روى عنه الزهري وصالح بن كيسان وأبو الزناد وجعفر بن ربيعة وزيد بن أسلم وسعد بن إبراهيم عندهما. ثم ذكر جماعة رووا عنه عند مسلم منهم: محمد بن يحيى بن حبان. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن سعد وابن المديني والعجلي وأبي زرعة وابن خراش.
    السابع: أبو هريرة رضي الله عنه: أكثر الصحابة حديثاً، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث العشرين من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
    (1) رجال الإسناد السبعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ مسلم أبا بكر بن أبي شيبة فلم يخرج له الترمذي، وإلا ربيعة بن عثمان فلم يخرج له منهم إلاّ مسلم وابن ماجه والنسائي في عمل اليوم والليلة.
    (2) ثلاثة من رجال الإسناد كوفيون وهم: أبو بكر بن أبي شيبة، وابن نمير، وعبد الله بن إدريس، وأربعة منهم مدنيون وهم الباقون.
    (3) اثنان من رجال الإسناد اشتهرا بالكنية وهما: أبو هريرة رضي الله عنه واسمه عبد الرحمن بن صخر على الراجح، وأبو بكر بن أبي شيبة واسمه عبد الله بن محمد.
    (4) في الإسناد رجل اشتهر بلقبه وهو: الأعرج واسمه عبد الرحمن بن هرمز.
    (5) ربيعة بن عثمان من رجال مسلم دون البخاري وليس له في صحيح مسلم وسنن ابن ماجه سوى هذا الحديث الواحد، وجده ربيعة بن عبد الله من رجال البخاري دون مسلم وليس له في صحيح البخاري إلا حديث واحد موقوف، رواه عنه عثمان بن عبد الرحمن التيمي في (كتاب سجود القرآن) كما ذكره المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين).
    المبحث الرابع: شرح الحديث:
    (1) قوله (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف). المراد: القوة في طاعة الله عز وجل، والرغبة في تحصيلها والعمل على ذلك ودعوة الغير إليها، والعناية في ذلك، فإن وجدت القوة البدنية التي يتمكن المؤمن بها من تحقيق هذه المطالب العالية واستعملت في ذلك، كانت القوة أتم ونتائجها أكمل وأجل.
    (2) قوله (وفي كل خير). أي في كل من المؤمن القوي والضعيف خير، وذلك لاتصافهما معاً بالإيمان مع ما يكون عند الضعيف من العمل أيضاً، وهذه الجملة ذكرت بعد الجملة قبلها احتراساً عند المفاضلة لئلا يستهان بالمفضول، ونظير ذلك قوله تعالى عن النبيين الكريمين داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ*َفَه َمْنَاهَا سُلَيْمَانَ )ثم قال: (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً). وكلمة (خير) تأتي أفعل تفضيل حذفت منه الهمزة، وتأتي اسماً في مقابل (الشر)، وقد جاء ذكرهما معاً في هذا الحديث. فهي في قوله: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) أفعل تفضيل، وفي قوله: ((وفي كل خير)) اسم في مقابل الشر.
    (3) قوله (احرص على ما ينفعك). عمم فيما يحرص عليه ليكون شاملاً لكل نافع في الدنيا والآخرة، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فيحرص المؤمن على كل ما فيه سعادته في العاجل والآجل.
    (4) قوله (واستعن بالله). بعد أن أمر المؤمن بالأخذ بالأسباب فيما ينفعه، أرشده الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يكون مستعيناً بالله معتمداً عليه، فإن كل خير إنما هو بتوفيقه وتسديده ومعونته، فالأسباب لا تنفع إن لم يجعلها نافعة، لأنه سبحانه خالق الأسباب والمسببات، فالمؤمن مأمور بأن يأخذ بالسبب المشروع دون تعويل عليه، وإنما يعول على مسبب الأسباب الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
    (5) قوله (ولا تعجز). وبعد أن أمر المؤمن بالحرص على ما ينفع والاستعانة بالله في تحصيله، نهى عن ضد ذلك وهو العجز والكسل الذي تضعف معه الهمم وتهن العزائم، والذي ينتج منه الفشل والعاقبة الوخيمة.
    (6) قوله (وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان). أي إذا فعلت ما أمكن من الأسباب وحصل مع ذلك فوات مطلوبك، فارض بقضاء الله وقدره، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تضف ذلك إلى أسباب فتقول: لو أني فعلت كان كذا وكذا، فإن الأسباب لا تنفع إن لم يجعلها مسبب الأسباب نافعة، إنما عليك أن تقول: قدر الله وما شاء فعل، فترضى وتسلم.
    (7) هذا الحديث فيه النهي عن استعمال (لو) وقد جاء استعمالها في أحاديث ولا تنافي بينها، لأن النهي محمول على التحسر من شيء فائت، واستعمالها في تمني الخير وإخبار عن شيء مستقبل.
    (8) هذا الحديث يشتمل على فوائد عظيمة منتظمة، وهو من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أوّلاً ذكر المفاضلة بين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، وبين أن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف، وفي ذلك حث على الأخذ بأسباب القوة والاستزادة من الخير، ثم ذكر أن كلا منهما لديه الخير، وفيه فضل مشترك بينهما وإن زاد القوي على الضعيف ما كان به خيراً وأحب إلى الله منه. ثم أكد ذلك بالأمر بالحرص على ما ينفع في العاجل والآجل، وأرشد مع الأخذ بالأسباب إلى التعويل على مسبب الأسباب بقوله (واستعن بالله)، ثم حذّر مما ينافي الحرص على النافع والاستعانة بالله في تحصيله وهو العجز والكسل، ثم أرشد إلى ما يجب فعله عند فوات المطلوب بأن لا يفتح الإنسان على نفسه باباً للشيطان بأن يقول: لو أني فعلت كان كذا وكذا. وأرشد إلى ما فيه الخير والتسليم لقدر الله والعمل على ما يرضيه سبحانه بقوله: ((ولكن قل قدر الله وما شاء فعل)) فصلوات الله وسلامه على البشير النذير الذي أرشد إلى كل خير وحذّر من كل شر.
    (9) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
    (1) إثبات صفة المحبة لله تعالى.
    (2) أن محبته تعالى تتفاضل، فهي للمؤمن القوي أعظم منها للمؤمن الضعيف.
    (3) تفاضل الناس في الإيمان.
    (4) أن الإيمان يزيد وينقص.
    (5) أن الإيمان سبب لمحبة الله تعالى.
    (6) الحث على تقوية العبد إيمانه.
    (7) أنه عند المفاضلة بين الفاضل والمفضول ينوه بالفضل المشترك بينهما لئلا يتوهم القدح في المفضول لقوله صلى الله عليه وسلم ((وفي كل خير)).
    (8) أمر المؤمن بالحرص على ما ينفعه في دنياه وأخراه بفعل أسبابه المشروعة النافعة.
    (9) تقييد الذي يحرص عليه المؤمن بكونه نافعاً.
    (10) أمر المؤمن بأن يستعين بالله في تحصيل مطلوبه.
    (11) أخذ المؤمن بالأسباب المؤدية إلى حصول المطلوب بدون تعويل عليها.
    (12) أن الاستعانة لا تكون إلا بالله وحده فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى.
    (13) افتقار العبد إلى توفيق الله ومعونته ولو بذل ما بذل من الأسباب.
    (14) النهي عن العجز والكسل في الأمور النافعة.
    (15) الإرشاد إلى أسباب تقوية الإيمان.
    (16) وجوب الإيمان بالقضاء والقدر والرضا والتسليم لما قدره الله وقضاه.
    (17) النهي عن استعمال (لو) تسخطاً ولوماً للقدر.

    (18) إرشاد المؤمن عند فوات مطلوبه أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل).
    (19) أن استعمال (لو) مفتاح لعمل الشيطان.
    (20) سد الذرائع التي تفضي إلى الشر وتوقع في المحذور.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (25)




    حديث ( من دعا إلى هدى )





    قال الإمام مسلم رحمه الله في آخر كتاب العلم من صحيحه: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل ـ يعنون ابن جعفر ـ عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ?صلى الله عليه وسلم قال: ((من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)).

    المبحث الأول: التخريج:

    انفرد مسلم عن البخاري بإخراج هذا الحديث، فأخرجه في هذا الموضع من صحيحه ولم يكرره، وأخرجه أبو داود في سننه في (كتاب السنة، باب لزوم السنة) فقال: حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا إسماعيل ـ يعني ابن جعفر ـ قال أخبرني العلاء ـ يعني ابن عبد الرحمن ـ عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فذكره بمثل لفظ مسلم، وأخرجه الترمذي في جامعه في (كتاب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو إلى ضلالة)، فقال: حدثنا عليّ بن حجر أخبرنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره بمثل لفظ مسلم إلا أن فيه (يتبعه) بدل (تبعه)، ورواه ابن ماجه في أوائل سننه (باب من سن سنة حسنة أو سيئة) قال فيه: حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكره بمثل لفظ مسلم إلا أن فيه (اتبعه) بدل (تبعه)، وفيه (من دعا إلى ضلالة فعليه من الإثم) بدل (كان عليه من الإثم).

    وله شواهد كثيرة منها حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه بلفظ: ((من سَنَّ في الإسلام سُنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء)) أخرجه مسلم في (صحيحه) من طرق متعددة عنه، وأخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه. ومنها حديث حذيفة رضي الله عنه بنحو حديث جرير، رواه أحمد والحاكم. ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه ابن ماجه. ومنها حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك، ومن سَنَّ سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك ومن مات مرابطاً جرى عليه عمل المرابط حتى يبعث يوم القيامة))، رواه الطبراني في (الكبير) بإسناد لا بأس به كما في (الترغيب والترهيب) للمنذري. ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أوّل من سَنَّ القتل))، رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((الدال على الخير كفاعله)) رواه البزار من حديث أنس. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله أو قال عامله)) رواه مسلم وغيره. وقد ذكر هذه الشواهد وغيرها الحافظ المنذري في كتابه (الترغيب والترهيب).

    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

    الأول: شيخ مسلم يحيى بن أيوب: قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): يحيى بن أيوب المقابري بفتح الميم والقاف ثم موحدة مكسورة البغدادي العابد، ثقة من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ وله سبع وسبعون سنة، ورمز لكونه من رجال مسلم وأبي داود ومن رجال البخاري في خلق أفعال العباد والنسائي في مسند عليّ. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): يحيى بن أيوب العابد أبو زكريا البغدادي سمع إسماعيل بن علية، وإسماعيل بن جعفر، ومروان بن معاوية، وعباد بن عباد، وهشيماً، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، وخلف بن خليفة. روى عنه مسلم في غير موضع، وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) شيئاً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن الحسين بن فهم وابن قانع.

    الثاني: شيخ مسلم قتيبة بن سعيد: وهو قتيبة بن سعيد بن جميل ـ بفتح الجيم ـ ابن طريف الثقفي أبو رجاء البغلاني ـ بفتح الموحدة وسكون المعجمة ـ يقال اسمه يحيى وقيل عليّ، ثقة ثبت من العاشرة، مات سنة أربعين ـ أي بعد المائتين ـ عن تسعين سنة. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): ابن طريف بن عبد الله الثقفي مولاهم البغلاني، بغلان بلخ، يكنى أبا رجاء. سمع الليث بن سعد، وإسماعيل بن جعفر، وسفيان بن عيينة، وغيرهم سماهم عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وقال: روى عنه البخاري ومسلم في غير موضع في الصحيحين. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) أسماء كثير ممن روى عنهم، وممن رووا عنه، وكثيراً من ثناء الأئمة عليه وتوثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، والحاكم، ومسلمة بن قاسم.

    الثالث: شيخ مسلم ابن حجر: وهو عليّ بن حجر ـ بضم أوله ـ ابن إياس السعدي أبو الحسن المروزي الحافظ، عن شريك، وإسماعيل بن جعفر، ومعقل بن زياد، وهشيم، وخلائق. وعنه البخاري ومسلم، والترمذي، والنسائي ووثقه، مات سنة أربع وأربعين ومائتين. قاله الخزرجي في (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال)، ورمز لكونه من رجال البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

    وقال الحافظ في (التقريب): المروزي نزيل بغداد ثم مرو، ثقة حافظ من صغار التاسعة، مات سنة أربع وأربعين ـ أي ومائتين ـ وقد قارب المائة أو جاوزها. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عليّ بن حجر بن إياس بن مقاتل بن مشمرخ أبو الحسن السعدي المروزي. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) شيئاً من ثناء الأئمة عليه وتوثيقه عن النسائي والحاكم.

    الرابع: شيخ شيوخ مسلم إسماعيل بن جعفر: قال الحافظ ابن حجر في (التقريب): إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي أبو إسحاق القارئ، ثقة ثبت من الثامنة، مات سنة ثمانين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): الزرقي مولاهم أبو إسحاق المدني القارئ أحد الكبار. عن عبد الله بن دينار، والعلاء بن عبد الرحمن، وحميد. وعنه قتيبة، وعليّ بن حجر، ويحيى بن يحيى. له نحو خمسمائة حديث، وثقه أحمد بن حنبل، توفي سنة ثمانين ومائة. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن أحمد وأبي زرعة، والنسائي، وابن معين، وابن سعد، وابن المديني، والخليلي، والحاكم.

    الخامس: العلاء: وهو ابن عبد الرحمن، قال الحافظ في (التقريب): العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي ـ بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف ـ أبو شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة، المدني صدوق ربما وهم من الخامسة، مات سنة بضع وثلاثين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال مسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبخاري في (جزء القراءة خلف الإمام).

    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): الحرقي مولى الحرقة المدني، وحرقة من جهينة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أبوه وابن عمر، وأنس، وجماعة رووا عنه منهم: ابن جريج، ومالك، والسفيانان، ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر بن أبي كثير، وغيرهم. ونقل بعض كلام الأئمة فيه وتوثيقه عن أحمد، وابن سعد، وقال في ختام ترجمته: وقد أخرج له مسلم من حديث المشاهير دون الشواذ. وقال الترمذي: هو ثقة عند أهل الحديث.

    السادس: أبو العلاء: وهو عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني، مولى الحرقة ـ بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف ـ ثقة من الثالثة. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكونه من رجال مسلم، والأربعة، والبخاري في (جزء القراءة خلف الإمام).

    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أبا هريرة، روى عنه ابنه العلاء في غير موضع ـ أي في صحيح مسلم ـ، وفي (تهذيب التهذيب): قال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في (الثقات). وذكره ابن المديني مع الأعرج وغيره من أصحاب أبي هريرة. وقال العجلي: تابعي ثقة انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

    السابع: صحابي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه وقد تكرر ذكره.

    المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

    (1) اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديث ثلاثة من رجال الإسناد وهم: أبو هريرة رضي الله عنه، وإسماعيل بن جعفر، وقتيبة بن سعيد.

    (2) رجال الإسناد مدنيون إلا شيوخ مسلم الثلاثة: فيحيى بغدادي، وقتيبة بغلاني بغلان بلخ، وعليّ بن حجر مروزي.

    (3) العلاء بن عبد الرحمن وأبوه تابعيان مدنيان، اتفقا في أنهما معاً من رجال مسلم والأربعة والبخاري في (جزء القراءة خلف الإمام).

    (4) قتيبة هو الرجل الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في الكتب الستة، ولهذا لا لبس في عدم نسبته لو لم ينسب لعدم المشارك له في هذا الاسم.

    (5) هذا الإسناد بهذا السياق من أوله إلى آخره يرد ذكره كثيراً في (صحيح مسلم)، ومن الأحاديث التي رواها مسلم بهذا الإسناد حديث: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)).

    (6) في الإسناد أربعة من الموالي وهم: قتيبة بن سعيد، وإسماعيل بن جعفر، والعلاء بن عبد الرحمن وأبوه.

    (7) القائل: (يعنون ابن جعفر) في الإسناد مسلم، وضمير الجمع يرجع إلى شيوخه الثلاثة، قال ذلك للإيضاح والبيان، ولم ينسبه دون أن يقول: (يعنون) لأن شيوخه عند التحديث لم ينسبوه، فلو نسبه كان ناسباً إليهم ما لم يقولوه، وهذا هو الغاية في الدقة والأمانة في النقل.

    المبحث الرابع: شرح الحديث:

    (1) هذا الحديث يدل دلالة واضحة على عظم مثوبة الدعاة إلى الله على بصيرة وهدى، كما يدل على عظم إثم من دعا إلى ضلالة، وأن على الإنسان أن يقوم بما يستطيعه من الدعوة إلى الحق ليحظى بهذا الثواب الجزيل الذي تفضل الله به لدعاة الهدى، كما أن عليه أن يكون على حذر من الضلالة والإضلال ليسلم من عواقبهما الوخيمة وأضرارهما العظيمة، ولما ذكر المنذري في (الترغيب والترهيب) جملة من الأحاديث في هذا المعنى ومن بينها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)). قال بعد ذلك: وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده ما بقي خطه والعمل به لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع مما يوجب الإثم عليه وزره ووزر من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده ما بقي خطه والعمل به لما تقدم من الأحاديث من سن سنة حسنة أو سيئة، والله أعلم)). انتهى.

    (2) قوله (من دعا إلى هدى، ومن دعا إلى ضلاله). عام يشمل الدعوة إليهما بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة، وتنكير المدعو إليه في الحديث يدل على شمول كل ما يطلق عليه أنه هدى وأنه ضلالة قلَّ أم كثر، كبر أم صغر.

    (3) المراد بالهدى: كل مأمور به في كتاب الله عزوجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالضلالة: ما لم يكن على هدي الكتاب والسنة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)).

    (4) قوله (كان له من الأجر مثل أجور من تبعه). هذا هو جزاء الدعاة إلى الله على بصيرة. وقوله (لا ينقص ذلك). اسم الإشارة يرجع إلى هذا الجزاء. وقوله (كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه). بيان لعقوبة الدعاة إلى الضلالة، واسم الإشارة بعده يرجع إلى هذه العقوبة.

    (5) قوله (لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً). وقوله (لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً). ضمير الجمع في أجورهم وآثامهم يعود إلى (من) الموصولة قبلهما باعتبار المعنى، وتنكير (شيئاً) في نهاية الجملتين في سياق النفي يفيد العموم والشمول للقليل والكثير، أي لا ينقص أي شيء قليلاً كان أو كثيراً، وإنما أتى بهذه الجملة بعد ذكر ثواب الدعاة إلى الهدى لدفع توهم أن أجر الدعاة يكون بالتنقيص من أجر أتباعهم، ففي ذلك إدخال السرور على الدعاة والمدعوين معاً. وأتى بالجملة الثانية بعد ذكر عقوبة الدعاة إلى الضلالة لئلا يتوهم أن عقوبة الدعاة، إنما هي بالتنقيص من عقوبة المستجيبين لدعوتهم، ففي ذلك حسرة على الدعاة والمدعوين معاً، لأن أوزار المدعوين ليست مقسومة بينهم وبين الذين أضلوهم، بل أوزارهم عليهم وعلى المضلين مثلها.

    (6) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

    (1) فضل الدعوة إلى الله عزوجل وعظم مثوبتها.

    (2) خطورة الدعوة إلى الضلال وشدة مضرتها.

    (3) الحث على طلب العلم النافع لتحصيل أهلية القيام بالدعوة على بصيرة وهدى.

    (4) الترغيب في الدعوة إلى الهدى.

    (5) الترهيب من الدعوة إلى الضلال.

    (6) انتفاع الداعي إلى الحق باستجابة المدعوين وفعلهم ما دعاهم إليه من الخير.

    (7) تضرر الداعي إلى الضلال باستجابة المدعوين وفعلهم ما دعاهم إليه من الشر.

    (8) استمرار وصول الثواب للداعي إلى الله في حياته وبعد مماته باستمرار الانتفاع بدعوته.

    (9) استمرار وصول الإثم للداعي إلى الضلال في حياته وبعد مماته باستمرار تضرر المدعوين بدعوته.

    (10) أن الحق له دعاة يدعون إليه وكذلك الباطل له دعاة.

    (11) الجمع بين الترغيب والترهيب فعند الترغيب في الخير يذكر معه الترهيب من الشر.

    (12) أن كل نوع من أنواع الهدى كبيراً كان أو صغيراً يثاب عليه الداعي إليه بمثل أجور المنتفعين بدعوته.

    (13) أن كل نوع من أنواع الضلال كبيراً كان أو صغيراً يعاقب عليه الداعي إليه بمثل آثام المتضررين بدعوته.

    (14) أن الأجر الذي يحصل عليه الداعي إلى الحق بانتفاع المدعوين بدعوته ليس منقوصاً من أجورهم.

    (15) أن الإثم الذي يحصل عليه الداعي إلى الضلال بتضرر المدعوين بدعوته ليس منقوصاً من آثامهم.

    (16) أن الداعي إلى الضلال لا يحمل أوزار الذين تسبب في إضلالهم بل هي عليهم لفعلهم وعليه مثلها لتسببه.

    (17) أن للرسول صلى الله عليه وسلم مثل أجور أمته من حين بعثه الله إلى قيام الساعة، لأن كل خير عرفته أمته إنما هو بدعوته وإرشاده صلوات الله وسلامه عليه، وإذاً فأي إنسان يحب أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة ثواب بسببه، عليه أن يكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان. وعليه أن يفعل ما أرشد إليه من أفعال الخير ويبتعد عما حذّر منه من الشر ويتخذه صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة فيما يأتي ويذر، فإن الله يثيب نبيه صلى الله عليه وسلم بمثل ثواب الذي وفقه الله للانتفاع بدعوته والسير على نهجه صلى الله عليه وسلم ، لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي دلَّ أمته على كل خير وحذّرها من كل شر، ومن دلَّ على هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً كما نطق بذلك الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى إخوانه النبيين، وعلى آله وصحابته الغرّ الميامين وعلى جميع من سار على نهجه القويم إلى يوم الدين.

    (18) بيان فضل السلف على الخلف، لأنَّ كل خير عند الخلف إنما وصل إليهم بواسطة السلف.

    (19) تنبيه المدعوين إلى اتباع دعاة الهدى والحذر من دعاة الضلالة.

    (20) أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، لأن حياتهم التي نوه الله بذكرها في القرآن من جملة أجورهم، وهم إنما جاهدوا في سبيل الله حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه بدعوته وإرشاده صلى الله عليه وسلم ، فله صلى الله عليه وسلم في قبره حياة أكمل من حياتهم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (26)



    حديث ((خير صفوف الرجال أولها.......))


    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة من صحيحه: حدثنا زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)).
    المبحث الأول، التخريج:
    انفرد مسلم عن البخاري بإخراج هذا الحديث فرواه عن سهيل من طريقين هذه أحدهما ثم قال في الثانية: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز يعني الدراوردي عن سهيل بهذا الإسناد.
    وأخرجه أبو داود في (كتاب الصلاة) من سننه (باب صف النساء وكراهية التأخر عن الصف الأول) فقال: حدثنا محمد بن الصباح البزّاز حدثنا خالد وإسماعيل بن زكريا عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)).
    وأخرجه الترمذي في (كتاب الصلاة) من جامعه (باب ما جاء في فضل الصف الأول) فقال: حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل بمثل إسناده ومتنه عند مسلم، ثم قال: وفي الباب عن جابر، وابن عباس، وأبي سعيد، وأبي، وعائشة، والعرباض بن سارية، وأنس، ثم قال: قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
    وأخرجه النسائي في (كتاب الصلاة) من سننه (باب ذكر خير صفوف النساء وشر صفوف الرجال)، فقال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا جرير عن سهيل بمثل إسناده ومتنه عند مسلم.
    وأخرجه ابن ماجه في (كتاب الصلاة) من سننه (باب صفوف النساء) فقال: حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، وعن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها، وخير صفوف الرجال أوّلها وشرها آخرها)). وأخرجه من حديث جابر رضي الله عنه فقال: حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرجال مقدمها وشرّها مؤخرها، وخير صفوف النساء مؤخرها وشرّها مقدمها)).
    وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة سفيان الثوري فقال: حدثنا أبو بكر بن خلاد حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها))، ثم قال: مشهور من حديث الثوري.
    وقال الحافظ المنذري في (الترغيب والترهيب) بعد أن ساق حديث أبي هريرة هذا، وعزاه لمسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، قال: وروي عن جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وأبو سعيد، وأبو أمامة، وجابر بن عبد الله، وغيرهم.
    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
    الأول: شيخ مسلم زهير بن حرب: قال الحافظ في (التقريب): زهير بن حرب بن شداد، أبو خيثمة النسائي، نزيل بغداد ثقة ثبت، روى عنه مسلم أكثر من ألف حديث، من العاشرة مات سنة أربع وثلاثين - أي بعد المائتين - وهو ابن أربع وسبعين، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي.
    وقال الخزرجي في (الخلاصة): زهير بن حرب بن شداد الحرشي - بفتح المهملتين بعدهما معجمة - مولاهم أبو خيثمة النسائي الحافظ. عن جرير بن عبد الحميد، وهشيم، وابن عيينة، وحفص بن غياث، وخلق. وعنه البخاري ومسلم أكثر من ألف حديث، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي بواسطة وقال: ثقة مأمون. وقال يعقوب بن شيبة: زهير أثبت من أبي بكر بن أبي شيبة. قال ابنه أحمد: ولد سنة ستين ومائة، ومات سنة أربع وثلاثين ومائتين. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): مولى بني الحريش بن كعب، وكان اسم جده اشتال فعرب شدّاداً، ثم ذكر جماعة روى عنهم، وجماعة رووا عنه، وذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن معين، والنسائي، والحسين بن فهم، والخطيب البغدادي، وابن قانع، وأبي حاتم الرازي، وابن وضاح.
    الثاني: جرير: وهو ابن عبد الحميد، قال الحافظ في (التقريب): جرير بن عبد الحميد بن قُرط - بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة - الضبي الكوفي نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه. مات سنة ثمان وثمانين - أي بعد المائة - وله إحدى وسبعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): أبو عبد الله الرازي القاضي، ولد بقرية من قرى أصبهان، ونشأ بالكوفة ونزل الري. ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: عبد الملك بن عمير، والأعمش، وسهيل بن أبي صالح، وغيرهم سماهم. وجماعة رووا عنه منهم: إسحاق، وابنا أبي شيبة، وقتيبة، وعبدان، وأبو خيثمة، وغيرهم سماهم. وذكر شيئاً من كلام الأئمة فيه، ونقل توثيقه عن أبي حاتم الرازي، والنسائي، وأبي أحمد الحاكم، والخليلي. وقال: قال أبو القاسم اللالكائي: مجمع على ثقته. وذكر المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) بعض من روى عنهم ورووا عنه في الصحيحين معاً وفي أحدهما، وذكر أنه روى عن سهيل، وروى عنه أبو خيثمة في (صحيح مسلم) ثم قال: ولد في السنة التي مات فيها الحسن سنة عشر ومائة، ومات سنة سبع وثمانين ومائة بالري.
    الثالث: سهيل: وهو ابن أبي صالح، قال الحافظ في (التقريب): سهيل بن أبي صالح، ذكوان السمان أبو يزيد المدني، صدوق تغير حفظه بأخرة، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً، من السادسة، مات في خلافة المنصور، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في مقدمة الفتح: سهيل بن أبي صالح السمان، أحد الأئمة المشهورين المكثرين، وثقه النسائي والدار قطني وغيرهما. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن معين: صويلح. وقال البخاري: كان له أخ فوجد عليه، فساء حفظه. ثم قال الحافظ: قلت: له في البخاري حديث واحد في الجهاد، مقرون بيحيى بن سعيد الأنصاري، كلاهما عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد، وذكر له حديثين آخرين متابعة في (الدعوات)، واحتج به الباقون. انتهى.
    والحديث الذي في الجهاد عن سهيل، متنه: ((من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)). وقد قال الحافظ في شرحه في الفتح: وسهيل بن أبي صالح لم يخرج له البخاري موصولاً إلا هذا، ولم يحتج به لأنه قرنه بيحيى بن سعيد. انتهى.
    وذكر المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) إخراج البخاري له هذا الحديث وقال: وليس لسهيل في كتابه غير هذا الحديث الواحد، وذكر جماعة روى عنهم، وجماعة رووا عنه عند مسلم، ومن المروى عنهم: أبوه، وعبد الله بن دينار، وعطاء بن يزيد الليثي، وغيرهم. ومن الذين رووا عنه: جرير بن عبد الحميد، والثوري، وابن عيينة، وغيرهم.
    الرابع: أبو صالح ذكوان: قال في (التقريب): ذكوان أبو صالح السمان الزيات، المدني، ثقة ثبت، وكان يجلب الزيت إلى الكوفة، من الثالثة، مات سنة إحدى ومائة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): المدني مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني، ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: أبو هريرة، وأبو الدرداء، وأبو سعيد، وغيرهم سماهم. وجماعة رووا عنه منهم: أولاده: سهيل وصالح وعبد الله، وغيرهم سماهم. ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، وأبي حاتم، وأبي زرعة، وابن سعد، والساجي، والحربي، والعجلي. وقال الإمام أحمد في توثيقه فيما حكاه عنه ابنه عبد الله: ثقة ثقة من أجلِّ الناس وأوثقهم.
    الخامس: أبو هريرة رضي الله عنه، وقد تكرر ذكره.
    المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
    (1) رجال الإسناد الخمسة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ مسلم زهير بن حرب فلم يخرج له الترمذي.
    (2) شيخ مسلم زهير بن حرب نسائي ثم بغدادي وشيخ شيخه جرير بن عبد الحميد كوفي ثم رازي نسبة إلى الري، وبقية رجال الإسناد الثلاثة مدنيون.
    (3) شيخ مسلم في هذا الإسناد زهير بن حرب أكثر من الرواية عنه في صحيحه وهو يلي أبا بكر بن أبي شيبة في الإكثار عنه، وقد اتفق هذان الشيخان لمسلم وهما أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب في أن أحاديثهما في صحيح مسلم زادت على ألف حديث، وكل منهما خرج حديثه الجماعة سوى الترمذي، وكل منهما شيخ البخاري ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه، وكل منهما روى عنه النسائي بواسطة، وتقاربا في زمن الوفاة، إذ كانت وفاة أبي بكر سنة خمس وثلاثين ومائتين، ووفاة زهير سنة أربع وثلاثين بعد المائتين.
    (4) ثلاثة من رجال الإسناد من الموالي وهم: زهير بن حرب، وسهيل بن أبي صالح وأبوه.
    (5) في الإسناد راويان تغير حفظهما في آخر حياتهما وهما: جرير بن عبد الحميد وشيخه سهيل بن أبي صالح، وقد ذكر النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم أن ما كان من هذا القبيل في الصحيحين محتجاً به فهو مما أُخذ عنه قبل الاختلاط.
    (6) جرير - هو ابن عبد الحميد - وهو أحد الجريرين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما روى عنه الجريران، وفي ترجمة من دونهما روى عن الجريرين، والثاني منهما جرير بن حازم.
    (7) سهيل بن أبي صالح روى عنه البخاري حديثاً واحداً موصولاً قرنه بيحيى بن سعيد الأنصاري في (كتاب الجهاد، باب فضل الصوم في سبيل الله) ولفظه: ((من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)).وليس له في صحيح البخاري سوى هذا الحديث الواحد.
    (8) سهيل بن أبي صالح روى هذا الحديث عن أبيه، فهو من رواية الأبناء عن الآباء.
    المبحث الرابع، شرح الحديث:
    (1) هذا الحديث يدل على أفضلية الصف الأوّل للرجال ويقابله الصف المؤخر، وهذا الحكم ثابت لهم سواء صلوا وحدهم أو معهم نساء، ويدل على أن النساء إذا صلين مع الرجال، فالصف الأفضل في حقهن آخر الصفوف ويقابله الصف المقدم على العكس من الرجال، والظاهر أن هذا خاص في صلاتهن مع الرجال، أما لو صلين وحدهن وإمامتهن امرأة فأفضل صفوفهن أولها.
    (2) خير وشر أفعلا تفضيل، حذفت منهما الهمزة ويأتيان اسمين متقابلين كقوله تعالى(فمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)
    (3) قوله (خير صفوف الرجال أولها). وجه خيريته على غيره، أن فيه خصالاً لا توجد في غيره من الصفوف منها: كونه الأقرب إلى الإمام للتمكن من سماع قراءته، والتبكير إلى الصلاة للتمكن من تحصيله على الوجه المشروع ولاستغفاره صلى الله عليه وسلم لأهله ثلاثاً. رواه ابن ماجه، والنسائي، وابن خزيمة في (صحيحه)، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجا للعرباض كما في (الترغيب والترهيب) للحافظ المنذري، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) رواه أحمد بإسناد لا بأس به، والطبراني، وغيره من حديث أبي أُمامة كما في (الترغيب والترهيب) أيضاً، ولما فيه من البعد عن النساء والافتتان بهن.
    (4) قوله (وشر صفوف الرجال آخرها)، أي لما فيه من البعد عن الإمام والقرب من النساء الذي هو سبب في تعلق القلب بهن وحصول الافتتان بهن.
    (5) قوله (وخير صفوف النساء آخرها). قال الشوكاني في (نيل الأوطار): إنما كان خيرها لما في الوقوف فيه من البعد عن مخالطة الرجال، بخلاف الوقوف بالصف الأول من صفوفهن فإنه مظنة المخالطة لهم وتعلق القلب بهم، المتسبب عن رؤيتهم وسماع كلامهم ولهذا كان شرها.
    (6) وإذا كان شر صفوف الرجال هو القريب من شر صفوف النساء لما في ذلك من مظنة الفتنة على الجانبين، مع أن الغالب في الذين يأتون إلى المساجد أنهم أكثر سلامة من الذين يتكاسلون عن إتيانها، فإن اختلاط الرجال بالنساء في المدارس والجامعات والمؤسسات وغيرها، ولاسيما مع قيام النساء بما يدعو إلى الفتنة، يتنافى تمام المنافاة مع هدي الإسلام بل هو محادة لتعاليمه البناءة وأهدافه السامية، نسأل الله السلامة والعافية، وصدق الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم إذ يقول: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)). أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
    (7) من فقه الحديث وما يستنبط منه.
    (1) مشروعية الصفوف للصلاة للرجال والنساء.
    (2) الترغيب في الصف الأول للرجال.
    (3) بيان فضل الصف الأول للرجال وأنه خير صفوفهم.
    (4) أن آخر صفوف الرجال هو شر صفوفهم.
    (5) جواز إتيان النساء المساجد وصلاتهن مع الرجال.
    (6) ترغيب النساء في الصف المؤخر من صفوفهن إذا صلين مع الرجال.
    (7) أن الصف الأول من صفوف النساء مع الرجال هو شر صفوفهن.
    (8) مشروعية صلاة الجماعة.
    (9) عدم جواز اصطفاف النساء مع الرجال.
    (10) تأخر صفوف النساء عن صفوف الرجال.
    (11) الإشارة إلى أن تباعد صفوف النساء عن صفوف الرجال أولى من تقاربها.
    (12) تفاضل أعمال الخير وكون بعضها أفضل من بعض.
    (13) اختلاف النساء عن الرجال في بعض الأحكام.
    (14) الإشارة إلى أن صلاة النساء في البيوت أفضل من صلاتهن في المساجد.
    (15) أن الشيء الواحد يكون محبوباً باعتبار ومكروهاً باعتبار آخر، فالصف المؤخر للرجال يحب لما فيه من الإتيان بالصلاة جماعة، ويكره لتأخر أهله وقربهم من النساء.
    (16) الإشارة إلى أن النساء فتنة للرجال يخشى عليهم من الافتتان بهن.
    (17) التنبيه إلى سد الذرائع التي تفضي إلى الفتنة وتوقع في المحذور.
    (18) كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، ومدى حرصه على تحصيلها لأسباب الفلاح وابتعادها عن الشر ووسائله.
    (19) الجمع بين الترغيب والترهيب، فعند الترغيب فيما فيه الخير يحذر مما فيه الشر.

    (20) أنه عند ذكر الأحكام الخاصة بالرجال والأحكام الخاصة بالنساء يقدم ذكر ما يتعلق بالرجال على ما يتعلق بالنساء.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (27)


    (إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها.....)




    قال الإمام مسلم رحمه الله في آخر كتاب الإيمان من صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد ومحمد بن عبيد الغبري ـ واللفظ لسعيد ـ قالوا حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)).
    المبحث الأول: التخريج:
    أخرج مسلم هذا الحديث من هذه الطريق ثم قال عقبه: حدثنا عمرو الناقد وزهير بن حرب قالا حدثنا إسماعيل بن إبراهيم (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عليّ بن مسهر وعبدة بن سليمان (ح) وحدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا ابن أبي عدي كلهم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به)). وحدثني زهير بن حرب حدثنا وكيع حدثنا مسعر وهشام (ح) وحدثني إسحاق بن منصور أخبرنا الحسين بن عليّ عن زائدة عن شيبان جميعاً عن قتادة بهذا الإسناد مثله.
    وأخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه، أولها: في (كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه) فقال: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا مسعر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلّم)).
    والثاني: في (كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق، والكره، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق، والشرك وغيره) فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)). وقال قتادة: إذا طلق في نفسه فليس بشيء.
    والثالث: في (كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسياً في الأيمان) فقال: حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا مسعر حدثنا زرارة بن أوفى عن أبي هريرة يرفعه قال: ((إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم)) ورواه أبو داود في (كتاب الطلاق) من سننه (باب في الوسوسة بالطلاق) فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز لأمتي عما لم تتكلم به أو تعمل به وبما حدثت به أنفسها)).
    ورواه الترمذي في (كتاب الطلاق) من جامعه (باب ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته) فقال: حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجاوز الله لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به)) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الرجل إذا حدّث نفسه بالطلاق لم يكن شيء حتى يتكلم به.
    ورواه النسائي في (كتاب الطلاق) من سننه (باب من طلق في نفسه) فقال: أخبرنا إبراهيم بن الحسن وعبد الرحمن بن محمد بن سلام قالا حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الرحمن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى تجاوز عن أمتي كل شيء حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل)).
    أخبرنا عبيد الله بن سعيد قال حدثنا ابن إدريس عن مسعر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل تجاوز لأمتي ما وسوست به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به))، أخبرني موسى بن عبد الرحمن قال حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن شيبان عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به)).
    وأخرجه ابن ماجه في (كتاب الطلاق) من سننه (باب من طلق في نفسه ولم يتكلم به) فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عليّ بن مسهر وعبدة بن سليمان (ح) وحدثنا حميد بن مسعدة حدثنا خالد بن الحارث جميعاً عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم به)). وأخرجه في (باب طلاق المكره والناسي) فقال: حدثنا هشام بن عمار حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي عما توسوس به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم به وما استكرهوا عليه)).

    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
    الأول: شيخ مسلم سعيد بن منصور، وهو سعيد بن منصور بن شعبة أبو عثمان الخراساني نزيل مكة، ثقة مصنف، وكان لا يرجع عما في كتابه لشدّة وثوقه به، مات سنة سبع وعشرين ـ أي بعد المائتين وقيل بعدها ـ من العاشرة. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع فليح بن سليمان عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وأبا عوانة وغيره سماهم عند مسلم، ثم قال: روى عنه مسلم وأكثر، وروى البخاري عن يحيى بن موسى حدث عنه حديثاً واحداً في آخر (كتاب الصلاة). وقال الخزرجي في (الخلاصة): له في البخاري فرد حديث. انتهى. وهذا الحديث أخرجه قبيل (كتاب الجمعة، باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد). وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن نمير، وابن خراش، وأبي حاتم، وابن حبان، وابن قانع، والخليلي، ومسلمة بن قاسم.
    الثاني: شيخ مسلم قتيبة بن سعيد تقدم في رجال إسناد الحديث الخامس.
    الثالث: شيخ مسلم محمد بن عبيد الغبري، قال الحافظ في التقريب: محمد بن عبيد بن حساب ـ بكسر الحاء وتخفيف السين المهملة ـ الغبري ـ بضم المعجمة وتخفيف الموحدة المفتوحة ـ البصري، ثقة من العاشرة، مات سنة ثمان وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ ورمز لكونه من رجال مسلم، وأبي داود، والنسائي. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن حماد بن زيد، وأبي عوانة، وجعفر بن سليمان الضبعي، وغيرهم سماهم، ثم قال: روى عنه مسلم، وأبو داود، وروى النسائي عن زكريا بن يحيى السجزي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن النسائي، ومسلمة، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم عشرين حديثاً.
    الرابع: أبو عوانة، قال الحافظ في التقريب: وضاح ـ بتشديد المعجمة ثم مهملة ـ ابن عبد الله اليشكري ـ بالمعجمة ـ الواسطى البزاز، أبو عوانة مشهور بكنيته، ثقة ثبت من السابعة، مات سنة خمس أو ست وسبعين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): اليشكري مولى يزيد بن عطاء، أبو عوانة الواسطي البزاز، كان من سبي جرجان، ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: قتادة، والأعمش، والأسود بن قيس، وغيرهم سماهم. وجماعة رووا عنه منهم: عبد الرحمن بن مهدي، وسعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن عبيد بن حساب، وحجاج بن منهال، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من كلام الأئمة فيه وثنائهم عليه في كتابه، وختم ترجمته بقول ابن عبد البر فيه: أجمعوا على أنه ثقة ثبت فيما حدّث من كتابه. وقال: إذا حدّث من حفظه ربما غلط. انتهى. وقال الذهبي في (الميزان): مجمع على ثقته وكتابه متقن بالمرة.
    الخامس: قتادة، وهو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، يقال: ولد أكمه، وهو رأس الطبقة الرابعة، مات سنة بضع عشرة ـ أي بعد المائة ـ، قاله في (التقريب) ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت رجال إسناد الحديث الثالث عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    والسادس: زرارة بن أوفى، قال الحافظ في (التقريب): زرارة ـ بضم أوله ـ ابن أوفى العامري الحرشي ـ بمهملة وراء مفتوحتين ثم معجمة ـ أبو حاجب البصري قاضيها، ثقة عابد من الثالثة، مات فجأة في الصلاة سنة ثلاث وتسعين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أبا هريرة، وعمران بن حصين، وسعد بن هشام عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وأسيد بن جابر عند مسلم، روى عنه قتادة عندهما، ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن النسائي، وابن سعد، والعجلي، وقال: قال أبو حبان القصاب: صلى بنا زرارة الفجر، ولما بلغ ) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، َفذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ( شهق شهقة فمات.
    السابع: أبو هريرة t وقد تكرر ذكره.

    المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
    (1) رجال الإسناد السبعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ مسلم محمد بن عبيد الغبري فلم يرو له منهم مع مسلم سوى أبي داود والنسائي.
    (2) في الإسناد ثلاثة بصريون وهم: محمد بن عبيد الغبري، وقتادة، وزرارة بن أوفى.
    (3) في الإسناد راويان اشتهرا بالكنية وهما: أبو هريرة رضي الله عنه، وأبو عوانة.
    (4) في الإسناد تابعيان وهما: قتادة، وزرارة، فهو من رواية تابعي عن تابعي.
    (5) قتادة وصف بالتدليس، وقد صرّح بالتحديث في رواية هذا الحديث عن زرارة كما في صحيح البخاري في (كتاب الأيمان والنذور) وتقدم في التخريج.
    (6) سعيد بن منصور شيخ مسلم ليس له في صحيح البخاري سوى حديث واحد أخرجه عنه في (كتاب الصلاة) قبيل (كتاب الجمعة) في (باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد)، رواه عنه بواسطة يحيى بن موسى.
    (7) أبو عوانة، كنية اشتهر بها وضاح بن عبد الله اليشكري المتوفى سنة خمس أو ست وسبعين ومائة، وقد اشتهر بهذه الكنية أيضاً شخص آخر من المحدثين إلاّ أنه متأخر عن هذا وهو: أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني المتوفى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وهو صاحب المستخرج على صحيح مسلم.
    (8) زرارة بن أوفى من الثقات العبّاد وقد مات فجأة في الصلاة، قال ابن كثير في تفسيره في سورة المدثر: وقد روينا عن زرارة بن أوفى قاضي البصرة أنه صلى بهم الصبح فقرأ هذه السورة فلما وصل إلى قوله تعالى: ) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، َفذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ). شهق شهقة ثم خرَّ ميتاً رحمه الله تعالى.
    (9) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر) أن من المهم في علم المصطلح معرفة الأنساب وهي تقع إلى القبائل، وإلى الأوطان، وإلى الصنائع والحرف. انتهى.
    وقد اجتمعت هذه النسب الثلاث في ترجمة أبي عوانة في (تقريب التهذيب) فاليشكري نسبة إلى قبيلة، والواسطي نسبة إلى وطن، والبزاز نسبة إلى حرفة.
    (10) خرج مسلم الحديث عن ثلاثة من شيوخه ثم قال: واللفظ لسعيد: أي إن المتن الذي ساقه من راوية سعيد بن منصور لفظاً، أما الآخران فبالمعنى، وهذه طريقة مسلم ـ رحمه الله ـ عندما يروي الحديث عن جماعة من شيوخه في إسناد واحد يبين من له اللفظ منهم.

    المبحث الرابع: شرح الحديث:
    (1) قوله (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها). قال النووي في شرح صحيح مسلم: ضبط العلماء (أنفسها) بالنصب والرفع وهما ظاهران إلا أن النصب أظهر وأشهر. قال القاضي عياض: أنفسها بالنصب ويدل عليه قوله: إن أحدنا يحدث نفسه. قال: قال الطحاوي: ((وأهل اللغة يقولون (أنفسها) بالرفع يريدون بغير اختيارها كما قال الله تعالى: ) وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (، والله أعلم)).
    (2) قوله (تجاوز) أي عفا وغفر، والمراد بالأمة: أمة الإجابة وهم الذين استجابوا للدعوة فدخلوا في الإسلام. قال الحافظ في (الفتح): والمراد نفي الحرج عما يقع في النفس، حتى يقع العمل بالجوارح أو القول باللسان على وفق ذلك. وقال أيضاً: وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح لأن المفهوم من لفظ (ما لم يعمل) يشعر بأن كل شيء في الصدر لا يؤاخذ به سواء توطن به أو لم يتوطن.
    وقال النووي في شرح صحيح مسلم: ((قال المازري: مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه، ووطّن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه، ويحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها، على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما مرّ ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى هذا هماً، ويفرق بين الهم والعزم. هذا مذهب القاضي أبي بكر، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الحديث)). قال القاضي عياض: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي همَّ بها، لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية فتكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية لله كتبت حسنة، كما في الحديث: ((إنما تركها من جرائي))، فصار تركه لها لخوف الله تعالى ومجاهدة نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة، فأما الهم الذي لا يكتب، فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم. ثم قال النووي في نهاية كلام القاضي عياض: وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر ومن ذلك قوله تعالى: ) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ...( الآية. وقوله: ) اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (، والآيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها، والله أعلم. انتهى.

    (3) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
    (1) سعة فضل الله وإحسانه إلى عباده.
    (2) الإشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية.
    (3) أن التجاوز عما يقع في النفس من خصائص هذه الأمة.
    (4) أن حديث النفس لا يسمى كلاماً.
    (5) التنبيه إلى حفظ اللسان إلا في الخير، والجوارح إلا فيما هو معروف.
    (6) أن الإنسان إذا حدث نفسه بالطلاق لم يقع بمجرد ذلك.
    (7) أن الإنسان إذا كتب طلاق امرأته وقع الطلاق لأنه عزم بقلبه وعمل بكتابته.
    (8) أن الكلام هو ما يسمع من المتكلم.
    (9) الرد على من قال إن كلام الله معنى قائم في نفسه لم يسمع منه، بل هو سبحانه يتكلم إذا شاء كيف شاء بكلام يسمعه من شاء، سمعه جبريل عليه السلام، وسمعه موسى عليه السلام، وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به إلى السماء، وكلامه صفة من صفاته يجب إثباتها على الوجه اللائق به سبحانه، بدون تكييف أو تشبيه، وبدون تأويل أو تعطيل.

    (10) أن الإنسان يؤاخذ في أقواله وأعماله.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (28)

    شرح حديث ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه)).






    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتابه البر والصلة والآداب من صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس (ح) وحدثنا قتيبة ومحمد بن رمح عن الليث بن سعد (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدة ويزيد بن هارون كلهم عن يحيى بن سعيد (ح) وحدثنا محمد بن المثنى (واللفظ له) حدثنا عبد الوهاب ـ يعني الثقفي ـ سمعت يحيى بن سعيد أخبرني أبو بكر ـ وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم ـ أن عمرة حدثته أنها سمعت عائشة تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه)).

    المبحث الأول: التخريج:

    هذا الحديث رواه مسلم من هذه الطرق عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها، ورواه من طريق أخرى إليها فقال: حدثني عمرو الناقد حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.

    ورواه البخاري في (كتاب الأدب) من صحيحه (باب الوصاة بالجار) فقال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرني أبو بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).

    ورواه أبو داود في (كتاب الأدب) من سننه (باب في حق الجوار) فقال: حدثنا مسدد حدثنا حماد عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى قلت ليورثنه)).

    ورواه الترمذي في (كتاب البر والصلة) من جامعه (باب ما جاء في حق الجوار) فقال: حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر ـ هو ابن محمد بن عمرو بن حزم ـ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

    ورواه ابن ماجه في (كتاب الأدب) من سننه (باب حق الجوار) فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون وعبدة بن سليمان (ح) وحدثنا محمد بن رمح أنبأنا الليث بن سعد جميعاً عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).

    وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ولفظه عندهما: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).

    وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفيهما: أن عبد الله بن عمرو ذبح شاة فقال: أهديتم لجاري اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)). وهذا لفظ أبي داود ونحوه لفظ الترمذي وقال عقبه: وفي الباب عن عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، والمقداد بن الأسود، وعقبة بن عامر، وأبي شريح، وأبي أمامة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.

    وأخرجه الترمذي في جامعه، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومتنه عندهما مثل متن حديث عائشة في (صحيح البخاري).

    وقال المنذري في (الترغيب والترهيب): وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول: ((أوصيكم بالجار)) حتى أكثر، فقلت: إنه يورثه. رواه الطبراني بإسناد جيد. انتهى. وفيه أنه حصل لأبي أمامة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام.

    وقال المنذري أيضاً: وعن رجل من الأنصار قال: خرجت مع أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا به قائم وإذا رجل مقبل عليه، فظننت أنه له حاجة فجلست، فوالله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جعلت أرثى له من طول القيام ثم انصرف، فقمت إليه فقلت: يا رسول الله، لقد قام هذا الرجل حتى جعلت أرثى لك من طول القيام. قال: ((أتدري من هذا ؟ قلت: لا، قال: جبريل صلى الله عليه وسلم مازال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام)). رواه أحمد بإسناد جيد ورواته رواة الصحيح، وقال المنذري بعد سياق جملة من الأحاديث المشتملة على هذا المتن: وقد روي هذا المتن من طرق كثيرة وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنه.

    المبحث الثاني: التعريف بالرواة في الإسناد:

    الأول: شيخ مسلم قتيبة بن سعيد وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الخامس.

    الثاني: شيخ مسلم محمد بن رمح، وهو محمد بن رمح بن المهاجر التجيبي مولاهم المصري، ثقة ثبت من العاشرة، مات سنة اثنتين وأربعين ـ أي بعد المائتين ـ، قاله الحافظ في (تقريب التهذيب) ورمز لكونه من رجال مسلم وابن ماجه. وقال في (تهذيب التهذيب): محمد بن رمح بن المهاجر بن المحرر بن سالم التجيبي، مولاهم أبو عبد الله المصري الحافظ حكى عن مالك، وروى عن مسلمة بن عليّ الخشني، وابن لهيعة، والليث، ومفضل بن فضالة، ونعيم بن حماد، وجماعة. وعنه مسلم، وابن ماجه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه وتوثيقه عن ابن الجنيد، وأبي داود، وابن ماكولا، وابن يونس، ومسلمة، وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال فيه النسائي: ما أخطأ في حديث واحد. وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم مائة حديث وواحد وستين حديثاً.

    الثالث: شيخ مسلم أبو بكر بن أبي شيبة تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

    الرابع: شيخ مسلم محمد بن المثنى، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن المثنى بن عبيد العنـزي - بفتح النون والزاي - أبو موسى البصري المعروف بالزمن، مشهور بكنيته وباسمه، ثقة ثبت من العاشرة، وكان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): محمد بن المثنى بن عبيد بن قيس بن دينار العنزي، أبو موسى البصري الحافظ، المعروف بالزمن، روى عن عبد الله بن إدريس، وأبي معاوية، وخالد بن الحارث، ويزيد بن زريع، وعبد الوهاب الثقفي، وغيرهم سماهم. وروى عنه الجماعة، وغيرهم سماهم، وذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قال الخطيب: كان ثقة ثبتاً احتج سائر الأئمة بحديثه. وقال الذهبي: حجّة. وقال السلمي عن الدار قطني: كان أحد الثقات. وقدمه على بندار، قال: وقد سئل عمرو بن عليّ عنهما فقال: ثقتان يقبل منهما كل شيء إلا ما تكلم به أحدهما في الآخر، قال: وكان في أبي موسى سلامة، وقال: مسلمة ثقة مشهور من الحفاظ. انتهى. وكانت وفاته سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وولادته سنة سبع وستين بعد المائة.

    الخامس: مالك بن أنس، قال في (التقريب): مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر ابن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر. من السابعة، مات سنة تسع وسبعين ـ أي بعد المائة ـ وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث السابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    السادس: الليث بن سعد، قال في (التقريب): الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه، إمام مشهور، من السابعة، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الحادي عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    السابع: عبدة ـ وهو ابن سليمان ـ قال في (التقريب): عبدة بن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي، يقال اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت من صغار الثامنة، مات سنة سبع وثمانين ـ أي بعد المائة وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعاصم الأحول، وغيرهم. وجماعة رووا عنه منهم: أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وغيرهم. وذكر توثيقه عن أحمد، وابن معين، والعجلي، وابن سعد، وعثمان بن أبي شيبة، والدار قطني.

    الثامن: يزيد بن هارون، قال في (التقريب): يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم، أو خالد الواسطي، ثقة متقن عابد، من التاسعة، مات سنة ست ومائتين، وقد قارب التسعين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الخامس من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    التاسع: عبد الوهاب الثقفي، قال في (التقريب): عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمد البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة، مات سنة أربع وتسعين ـ أي بعد المائة، عن نحو من ثمانين سنة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الرابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    العاشر: يحيى بن سعيد ـ وهو الأنصاري ـ قال الحافظ في التقريب: يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني، من الخامسة، مات سنة أربع وأربعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري النجاري، قاضي المدينة. عن أنس، وابن المسيب، والقاسم، وعراك بن مالك، وخلق. وعنه الزهري، والأوزاعي، ومالك، والسفيانان، والحمادان، والجريران، وأمم.

    قال المديني: له نحو ثلاثمائة حديث. وقال ابن سعد: ثقة حجة كثير الحديث. وقال أبو حاتم: يوازي الزهري في الكثرة. وقال أحمد: يحيى بن سعيد أثبت الناس. وذكر المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين)، والحافظ في (تهذيب التهذيب) أنه يكنى أبا سعيد. وذكر في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن سعد، والعجلي، والنسائي، وأحمد، ويحيى بن معين، وأبي حاتم، وأبي زرعة. وذكر عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان يدلس قال: لما سئل عنه وعن محمد بن عمرو بن علقمة: أما محمد بن عمرو فرجل صالح ليس بأحفظ للحديث، وأما يحيى بن سعيد فكان يحفظ ويدلس.

    الحادي عشر: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال في (التقريب): أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري النجاري ـ بالنون والجيم ـ المدني القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: إنه يكنى أبا محمد، ثقة عابد من الخامسة، مات سنة عشرين ومائة، وقيل غير ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): قاضي أهل المدينة زمن سليمان وعمر بن عبد العزيز، يقال: اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمد، سمع عمرو بن سليم، وعمرة بنت عبد الرحمن، وعباد بن تميم، وعمر بن عبد العزيز عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وقال: روى عنه يحيى الأنصاري، وابنه عبد الله بن أبي بكر عندهما. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) أسماء جماعة روى عنهم، وجماعة رووا عنه وقال: وروى عن خالته عمرة بنت عبد الرحمن، وقال: قال ابن سعد: فولد محمد بن عمرو بن حزم عثمان وأبا بكر الفقيه، وأم كلثوم، وأمهم كبشة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، وذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن معين، وابن خراش، والواقدي.

    الثاني عشر: عمرة وهي بنت عبد الرحمن، قال الحافظ في (التقريب): عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، أكثرت عن عائشة، ثقة، ماتت قبل المائة ويقال بعدها، ورمز لكون حديثها في الكتب الستة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة رووا عنها منهم: ابنها أبو الرجال، وابن أختها أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابنه عبد الله بن أبي بكر، ويحيى وسعد وعبد ربه أولاد سعيد بن قيس الأنصاري، وغيرهم سماهم، وذكر أنها روت عن عائشة، وأختها لأمها أم هشام بن حارثة بن النعمان، وحبيبة بنت سهل، وأم حبيبة حمنة بنت جحش. وذكر ثناء الأئمة عليها، ونقل توثيقها عن ابن معين، والعجلي، وابن المديني.

    الثالث عشر: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قال الحافظ في (التقريب): عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقاً، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ خديجة ففيها خلاف شهير، ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح، ورمز لكون حديثها في الكتب الستة.

    وقال الخزرجي في (الخلاصة): عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، التيمية أم عبد الله الفقيهة، أم المؤمنين الربانية، حبيبة النبي صلى الله عليه وسلم ، لها ألفان ومئتان وعشرة أحاديث، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على مائة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وستين.

    وعنها: مسروق، والأسود، وابن المسيب، وعروة، والقاسم، وخلق. قال عليه الصلاة والسلام: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). وقال عروة: ما رأيت أعلم بالشعر من عائشة، وقال القاسم: كانت تصوم الدهر. وقال هشام بن عروة: توفيت سنة سبع وخمسين، ودفنت بالبقيع. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن لها في صحيح البخاري مائتين واثنين وأربعين حديثاً.

    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، المبرأة من قول أهل الإفك من فوق سبع سموات، تكنى بابن أختها عبد الله بن الزبير، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، روت عن أبيها أبي بكر الصديق، وجدامة بنت وهب عند مسلم. روى عنها مسروق، وعروة، وغير واحد عندهما، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وغير واحد عند مسلم. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً، ولم يتزوج بكراً غيرها، وهي بنت ست، قبل الهجرة بسنتين، وبنى بها وهي بنت تسع، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة سنة، بين سحرها ونحرها، وكانت أحب أزواجه إليه وأكثرهن علماً وأفصحهن لساناً، توفيت سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة تسع وخمسين رضي الله عنها. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) جماعة روت عنهم، وكثيرين رووا عنها. وقال: قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله تعالى، المبرأة من فوق سبع سموات، ثم ذكر الكثير من الثناء عليها رضي الله عنها وأرضاها.

    وقال الحافظ ابن حجر في ترجمتها في (الإصابة): وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، وذكر كثيراً من مناقبها رضي الله عنها.




    المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلممصطلح الحديث:

    (1) أحد عشر راوياً من الرواة في الإسناد اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم، أما الاثنان الباقيان فهما: شيخ مسلم (أبو بكر بن أبي شيبة) ولم يخرج حديثه الترمذي، وشيخ مسلم (محمد بن رمح) ولم يخرج له منهم سوى مسلم وابن ماجه.

    (2) قتيبة بغلاني من بغلان بلخ، ومحمد بن رمح والليث بن سعد مصريان، ويزيد بن هارون واسطي، وأبو بكر بن أبي شيبة وعبدة بن سليمان كوفيان، وعبد الوهاب الثقفي ومحمد بن المثنى بصريان، وباقي الإسناد وهم: مالك بن أنس، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعمرة بنت عبد الرحمن، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها مدنيون.

    (3) قتيبة بن سعيد ذكره مسلم منسوباً في الطريق الأولى، وغير منسوب في الطريق الثانية، ولا لبس في عدم نسبته لأنه الرجل الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الكتب الستة.

    (4) محمد بن المثنى مشهور باسمه، وكنيته أبو موسى، وقد اشتهر بها أيضاً، ومعرفة ذلك من الأمور المهمة في علم مصطلح الحديث، لئلا يظن الواحد اثنين إذا ذكر في موضع بالاسم وفي آخر بالكنية.

    (5) محمد بن المثنى شيخ لأصحاب الكتب الستة، كل منهم روى عنه مباشرة، ولقبه الزمن، ومثله في ذلك أيضاً: محمد بن بشار الملقب بنداراً، وقد اتفق معه في سنة الولادة وسنة الوفاة، حيث ولدا معاً في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة، وهي سنة سبع وستين ومائة، وماتا في سنة اثنتين وخمسين ومائتين، ولهذا قال الحافظ في ترجمته في (التقريب): كان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة.

    (6) في الإسناد راويان اشتهرا بالكنية بأبي بكر وهما: ابن أبي شيبة، وابن محمد بن عمرو بن حزم، وقيل: إنها اسم لابن محمد بن عمرو بن حزم وكنيته أبو محمد.

    وقال النووي في ترجمته في (تهذيب الأسماء): فكان للكنية كنية. ونقل عن الخطيب البغدادي أنه قال: لا نظير له في هذا إلاّ أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ـ أي أنه اسمه أبو بكر ـ وكنيته أبو عبد الرحمن.

    (7) عبدة ذكر في الإسناد غير منسوب وهو ابن سليمان، وقد نسب في الإسناد عند ابن ماجه، وتقدم في التخريج، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال مسلم من يسمى عبدة سواه.

    (8) الطرق التي روى مسلم الحديث منها: عن يحيى بن سعيد الأنصاري أربع، وقد استعمل فيها التحويل مراراً، وتقدم أن مسلماً يستعمل التحويل بكثرة بخلاف البخاري، لأن مسلماً يجمع طرق الحديث في موضع واحد غالباً، أما البخاري فيفرق الحديث على الأبواب لغرض الاستدلال.

    (9) الضمير في كلهم في الإسناد يرجع إلى شيوخ شيوخ مسلم الأربعة وهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وعبدة بن سليمان، ويزيد بن هارون، ولم يذكر طريق عبد الوهاب الثقفي معهم بل أخرها، ولعل السر في ذلك أن الأربعة المذكورين روايتهم عن يحيى بن سعيد بصيغة عن. أما رواية عبد الوهاب عن يحيى فهي بصيغة: سمعت.

    (10) طريقة مسلم التي سلكها في كتابه: أنه إذا روى الحديث عن عدد من شيوخه نص على من له اللفظ منهم، فإنه رواه من طرق أربع وعند ذكر الطريق الرابعة وهي طريق محمد بن المثنى قال: واللفظ له. أي أن لفظ المتن الذي ساقه من رواية محمد بن المثنى. أما الباقون فبالمعنى، أما البخاري فقد ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنه عُرف بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا ذكر أكثر من طريق فاللفظ للأخير منها.

    (11) لما ذكر في الإسناد عبد الوهاب قال: يعنى الثقفي، ولما ذكر أبا بكر قال: وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم، ومثل هذا يرد كثيراً في الصحيحين، والغرض من ذلك الإيضاح والبيان، لأن الذين رووا عنهم ذكروهم بدون هذه النسبة، فحصلت الزيادة الموضحة المبينة وجاءت على هذه الصيغة دون أن يقال: عبد الوهاب الثقفي أو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، لأن الذين رووا عنهم لم ينسبوهم، فلو ذكرت نسبتهم بهذه الصيغة لكان مضافاً إليهم ما لم يقولوه، ولو اقتصر على ما ذكروه دون إيضاح احتمل أن يلتبس الأمر على بعض الناس، وبسلوك هذه الطريق الموضحة يزول كل من المحذورين المذكورين.

    (12) محمد بن رمح شيخ مسلم، ذكر الحافظ في (التقريب) والخزرجي في (الخلاصة) أن نسبته التجيبي مولاهم، ومن شيوخ مسلم حرملة بن يحيى التجيبي، وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الثاني. وهذه النسبة بضم التاء المعجمة باثنتين من فوقها وكسر الجيم وتسكين الياء تحتها نقطتان، وفي آخرها باء موحدة كما في (اللباب) لابن الأثير، وذكر أن هذه النسبة إلى تجيب وهو اسم أم عدي وسعد بني أشرس بن شبيب بن السكون نسب ولدهما إليها، وإلى محلة بمصر، ثم مثل لمن ينسب إلى القبيلة بحرملة بن يحيى، ولمن ينسب إلى المحلة بمحمد بن رمح بن المهاجر، ويشكل على الأخير أن الحافظ في (التقريب) والخزرجي في (الخلاصة) قالا عنه: التجيبي مولاهم، وهو يفيد أن نسبته إلى القبيلة، لكن ذكر النووي في ترجمة حرملة في (تهذيب الأسماء) نقلاً عن أحمد بن الحباب النسابة أنه قال: وهذه القبيلة نزلت مصر وبها محلة تنسب إليها. انتهى، وعلى هذا فإن النسبة إلى المحلة لا تنافي النسبة إلى القبيلة.

    (13) يحيى بن سعيد الأنصاري وصفه يحيى بن سعيد القطان بأنه يدلس. وقد صرّح بالإخبار في روايته هذا الحديث عند مسلم، وعند البخاري أيضاً كما في التخريج.

    (14) هذا الإسناد فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: يحيى بن سعيد، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعمرة بنت عبد الرحمن.

    (15) في الإسناد يحيى بن سعيد وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهما تابعيان، مدنيان، أنصاريان، نجاريان، كل منهما تولى قضاء المدينة.

    (16) يحيى بن سعيد الأنصاري سمع من عمرة بنت عبد الرحمن مباشرة، وروى عنها بواسطة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كما هنا، فروايته عن أبي بكر هذه من رواية الأقران المعروف في علم المصطلح، وهو أن يشترك تلميذان في الرواية عن شيخ ويكون أحد التلميذين روى عن زميله، فلو كان كل منهما قد روى عن الآخر سمي مدبجا.

    (17) عمرة هي بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة خالة الراوي عنها في هذا الإسناد وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ولم ينسبها في الإسناد، ولا لبس في عدم نسبتها لأنه ليس في النساء اللاتي خرج حديثهن في صحيح مسلم من يسمى بهذا الاسم غيرها، وقد ذكر الحافظ في (تقريب التهذيب) ممن يسمى عمرة ستاً كلهن يروين عن عائشة رضي الله عنها، أربع منهن ليس لهن رواية في الكتب الستة، وواحدة منهن خرّج لها أبو داود في سننه، وهي في الطبقة الرابعة، أما عمرة بنت عبد الرحمن فحديثها في الكتب الستة.

    (18) يحيى بن سعيد الأنصاري وصفه أحمد بن حنبل بصفة تعتبر أعلى مراتب التعديل حيث قال فيه: يحيى بن سعيد أثبت الناس. قال الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): وأرفعها ـ يعني مراتب التعديل ـ الوصف بأفعل كأوثق الناس أو أثبت الناس.

    (19) عبد الوهاب الثقفي تغير قبل موته بثلاث سنين، وتقدم أن ما كان في الصحيحين من الرواية عن المختلطين محمول على أن الرواية عنهم كانت قبل الاختلاط، على أن عبد الوهاب الثقفي لم يحدث بعد اختلاطه لأن الناس حجبوا عنه، كما ذكر ذلك الذهبي في ترجمته في (ميزان الاعتدال).

    (20) الصحابية في هذا الحديث عائشة رضي الله عنها، الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وجدها وأمها وإخوتها وسائر الصحابة أجمعين، وهي الصحابية الوحيدة التي زاد حديثها في الكتب الستة على ألف حديث، إذ بلغ جملة مالها في هذه الكتب ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، كما في (الخلاصة) للخزرجي، و(تدريب الراوي) للسيوطي.

    المبحث الرابع: شرح الحديث:

    (1) قوله (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه). قال في (الفتح): أي يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره، واختلف في المراد بهذا التوريث فقيل: يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب، وقيل: المراد أن ينـزل منـزلة من يرث بالبر والصلة، والأوّل أظهر، فإن الثاني استمر والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع، ويؤيده ما أخرجه البخاري من حديث جابر نحو حديث الباب بلفظ: ((حتى ظننت أنه يجعل له ميراثاً)). وقال أيضاً: واسم الجار يشمل المسلم، والكافر، والعابد، والفاسق، والصديق، والعدو، والغريب، والبلدي، والنافع، والضار، والقريب، والأجنبي، والأقرب داراً والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها، وهلم جراً إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى، كذلك فيعطى كل حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوى، وقد حمله عبد الله بن عمرو أحد من روى الحديث على العموم، فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدى منها لجاره اليهودي، أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) والترمذي وحسنه.

    (2) قال الحافظ في الفتح: وليس في شيء من طرقه ـ يعنى الحديث ـ بيان لفظ وصية جبريل إلاّ أن الحديث يشعر بأنه بالغ في تأكيد حق الجار وقال: قال الشيخ محمد بن أبي جمرة: حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهدية والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية، وقد نفى صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه، وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار، وأن إضراره من الكبائر، قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح وهو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، وتبيين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضاً، ويستر عليه زلـله عن غيره، وينهاه برفق فإن أفاد فيه وإلا فيهجره قاصداً تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف. انتهى.

    (3) قال الحافظ في (الفتح): وقال ابن أبي جمرة: إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه، وأمر بحفظه وإيصال الخير إليه، وكف أسباب الضرر عنه، فينبغي له أن يراعي حق الحافظين الذين ليس بينه وبينهم جدار ولا حائل، فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران. انتهى.

    (4) قال البخاري في صحيحه: (باب حق الجوار في قرب الأبواب) وساق بسنده إلى عائشة رضي الله عنها، قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربهما منك باباً)).

    فالأقرب باباً أولى بالهدية فيما إذا لم يكن الإهداء إلى الجميع، قال الحافظ في شرحه: قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف لها بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات ولاسيما في أوقات الغفلة.

    (5) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

    (1) الوصية في البر والصلة.

    (2) التأكيد في وصية الجار بجاره والمبالغة في شأنها.

    (3) تكرار الوصية في الجار لإظهار العناية به.

    (4) الإيمان بالملائكة.

    (5) التنبيه إلى أولوية أقارب الإنسان ولاسيما الوارثين ببره وإحسانه.

    (6) أن من أكثر من شيء من أعمال البر يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلى منه.

    (7) أن الظن إذا كان في طريق الخير جاز ولو لم يقع المظنون، بخلاف ما إذا كان في طريق الشر.

    (8) جواز الطمع في الفضل إذا توالت النعم.


    (9) التحدث بما يقع في النفس من أمور الخير.

    (10) تنبيه الإنسان إلى رعاية حق الملائكة الموَكلين بحفظه، بأن يدخل عليهم السرور بفعله الطاعات ولا يسيء إليهم وإلى نفسه بفعل المعاصي.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة


    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (29)



    حديث ((عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت....))

    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب البر والصلة والآداب من صحيحه:حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد الضبعي حدثنا جويرية ـ يعني ابن أسماء ـ عن نافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)).
    المبحث الأول، التخريج:
    أخرج مسلم هذا الحديث عن ابن عمر من طرق هذه إحداها ثم قال عقبها: حدثني هارون بن عبد الله وعبد الله بن جعفر بن يحيى بن خالد جميعاً عن معن بن عيسى عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمعنى حديث جويرية، وحدثنيه نصر بن عليّ الجهضمي حدثنا عبد الأعلى عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((عذبت امرأة في هرة أوثقتها فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض))، وأخرجه من هذه الطرق الثلاث في (كتاب قتل الحيات وغيرها).
    وأخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه أولها في (كتاب الشرب والمساقاة، باب فضل سقي الماء) فقال: حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً، فدخلت فيها النار، قال: فقالوا ـ والله أعلم ـ: لا أنت أطعمتها ولا سقيتها حين حبستها، ولا أنت أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض)).
    والثاني: في (كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم) فقال: حدثنا نصر بن عليّ أخبرنا عبد الأعلى حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت النار امرأة في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خَشاش الأرض))، قال: وحدثنا عبيد الله عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
    والثالث: في (كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل) فقال: حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء حدثنا جويرية بن أسماء عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)). وأخرجه الدارمي في سننه في (كتاب الرقاق، باب دخلت امرأة النار في هرة) فقال: أخبرنا الحكم بن مبارك أنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دخلت امرأة في النار في هرة فقيل: لا أنت أطعمتها وسقيتها، ولا أنت أرسلتها فتأكل من خشاش الأرض)). وأخرجه البخاري وابن ماجه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه ضمن حديث الكسوف عن جابر رضي الله عنه ولفظه: ((وعرضت عليَّ النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرّة لها، ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)). وفي رواية أخرى عنه قال: ((رأيت في النار امرأة حميرية سوداء طويلة)) ولم يقل من بني إسرائيل، وفي رواية أخرى عنه: ((وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً)). ورواه ابن ماجه في (سننه)، والإمام أحمد في (المسند) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
    الأول: شيخ مسلم عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد الضبعي ـ بضم المعجمة وفتح الموحدة ـ أبو عبد الرحمن البصري، ثقة جليل من العاشرة، مات سنة إحدى وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عمِّه جويرية بن أسماء، ومهدي بن ميمون، وحفص بن غياث، وابن المبارك، وغيرهم. وعنه البخاري ومسلم، وأبو داود، وروى له أبو داود أيضاً والنسائي بواسطة الذهلي، وأبي بكر محمد بن إسماعيل الطبراني، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن أبي حاتم، وابن قانع، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه البخاري اثنين وعشرين حديثاً، ومسلم سبعة عشر حديثاً.
    الثاني: جويرية بن أسماء، قال الحافظ في (التقريب): جويرية: تصغير جارية بن أسماء بن عبيد الضبعي ـ بضم المعجمة وفتح الموحدة ـ البصري صدوق من السابعة، مات سنة ثلاث وسبعين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، ونافع، والزهري، وبديح مولى عبد الله بن جعفر، ومالك بن أنس وهو من أقرانه، وغيرهم. وعنه حبان بن هلال، وحجاج بن منهال، وابن أخته سعيد بن عامر الضبعي، وابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء، وغيرهم سماهم. وقال: قال ابن معين: ليس به بأس. وقال أحمد: ثقة ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح.
    الثالث: نافع وهو مولى ابن عمر، قال الحافظ في (التقريب): نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه مشهور من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة مولاه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في رجال إسناد الحديث السابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    الرابع: عبد الله بن عمر، قال في (التقريب): عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير، واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو أول التي تليها، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.


    المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
    (1) رجال الإسناد الأربعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ مسلم فإنه لم يرو له الترمذي وابن ماجه، وإلا شيخ شيخه جويرية فلم يرو له الترمذي.
    (2) نصف الإسناد الأعلى من أهل المدينة ونصفه الأدنى من أهل البصرة.
    (3) نافع مولى ابن عمر من أسفل، وابن عمر مولى نافع من أعلى، فالحديث من رواية مولى من أسفل عن مولى من أعلى. وعبد الله بن محمد شيخ مسلم هو ابن أخي جويرية، وقد روى هذا الحديث عن عمه جويرية.
    (4) نصف الإسناد الأدنى الرواية فيه بالتحديث ونصفه الأعلى بالعنعنة.
    (5) صيغة تحمل مسلم عن شيخه (حدثني) وصيغة تحمل شيخه عن شيخ شيخه (حدثنا)، ووجه الإفراد في الاصطلاح أن الراوي سمع وحده، ووجه الجمع أنه سمع ومعه غيره.
    (6) هذا الإسناد رباعي، والإسناد الرباعي هو أعلى أسانيد صحيح مسلم، بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه أربعة، وليس في صحيحه أعلى من الرباعيات.
    (7) هذا الحديث رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما من ثلاث طرق رواه عالياً من هذه الطريق، ورواه نازلاً من الطريقين الأخريين بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في كل منهما خمسة، وتقدم سياقهما في التخريج.
    (8) نصف الإسناد الأعلى نافع عن ابن عمر، وفي إحدى الطريقين النازلتين مالك عن نافع عن ابن عمر وهذه السلسلة هي أصح الأسانيد عند البخاري.
    (9) المرأة التي ذكرت في الحديث ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنه لم يقف على تسميتها، وهذا من أمثلة المبهم في المتن.
    (10) هذا الحديث أورده مسلم في (كتاب البر والصلة والآداب) وأورده في (كتاب قتل الحيات ونحوها)، وهو من الأحاديث القليلة في (صحيح مسلم) التي أوردها في أكثر من موضع، وقد أحصاها الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي وبلغت عنده مائة وسبعة وثلاثين حديثاً كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
    (11) الصحابي في الحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ولم ينسبه في الإسناد، ولا لبس في عدم نسبته هنا لاشتهار نافع مولاه بالرواية عنه.
    (12) الصحابي في الحديث هو أحد العبادلة الأربعة في الصحابة، وهو أحد المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    المبحث الرابع: شرح الحديث:
    (1) قوله (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار). المعنى أن عذاب المرأة ودخولها النار سببه سجنها الهرة دون أن تطعمها حتى ماتت وحرف (في) في الموضعين للسببية ومثله قوله تعالى:( لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
    (2) قوله (عذبت امرأة). ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنه لم يقف على اسمها ووقع في رواية أنها حميرية، وفي أخرى أنها من بني إسرائيل قال: ولا تضاد بينهما، لأن طائفة من حمير كانوا قد دخلوا في اليهودية فنسبت إلى دينها تارة، وإلى قبيلتها أخرى.
    (3) وهل هذه المرأة مسلمة أو كافرة؟ قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: ظاهر الحديث أنها كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بسبب الهرة. وذكر القاضي: أنه يجوز أنها كافرة عذبت بكفرها، وزيد في عذابها بسبب الهرة، واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب الكبائر. قال النووي: هذا كلام القاضي. وصوب ما قدم من أنها مسلمة وتعقب كلام القاضي بقوله: وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت بإصرارها كبيرة، وليس في الحديث أنها تخلد في النار. انتهى.
    قال الحافظ في (الفتح): ويؤيد كونها كافرة ما أخرجه البيهقي في (البعث والنشور) وأبو نعيم في (تاريخ أصبهان) من حديث عائشة، وفيه قصة لها مع أبي هريرة، وهو بتمامه عند أحمد. انتهى.
    (4) قوله (في هرة). أي بسببها كما تقدم، والهرة أنثى السنور، والهر الذكر، ويجمع الهر على هررة كقرد وقردة، وتجمع الهرّة على هرر كقربة وقرب. قاله في (الفتح).
    (5) قوله (سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لاهي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض). هذا هو سبب دخول المرأة النار، و(خشاش الأرض): المراد به هوام الأرض وحشراتها كالفأرة ونحوها.
    (6) قوله (عذبت امرأة في هرة). التنكير في المرأة والهرة لإرادة الوحدة، أي عذبت امرأة واحدة بسبب هرة واحدة، وهذا الحكم لا يخص هذه المرأة بل من عمل عملها استحق مثل عقوبتها، وإنما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحذر أمته مثل هذا العمل.
    (7) جاء في حديث أسماء بنت أبي بكر عند البخاري وابن ماجه ذكر كيفية تعذيب المرأة في النار وأن الهرة تخدشها فهي تعذب بها.
    (8) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
    (1) التحذير من أسباب دخول النار.
    (2) جواز اتخاذ الهرة في البيت.
    (3) تحريم تعذيب الهرة وغيرها من الحيوان الذي لا يؤذي.
    (4) أن تعذيب الإنسان بغير حق يحرم من باب أولى.
    (5) أنه لا مانع من حبس الهرة في البيت بشرط سقيها وإطعامها.
    (6) أن الجزاء من جنس العمل فكما عذبت المرأة الهرة بحبسها وإهمالها عذبت بدخولها النار.
    (7) أنه لا يجب إطعام الهر إلا عند حبسه.
    (8) تفخيم شأن الذنب ولو كان صغيراً، وأن الإصرار على الصغائر يلحقها بالكبائر.
    (9) الإيمان بالغيب.
    (10) إثبات عذاب البرزخ.
    (11) إثبات وصول عذاب النار إلى مستحقه قبل يوم القيامة.

    (12) التنبيه على العناية بالسجناء والإحسان إليهم.

    (13) أن النار موجودة الآن.
    (14) وجوب سقي وإطعام السجين على من سجنه.
    (15) أن الإنسان إذا لم يحصل منه الإحسان فلا أقل من الابتعاد عن الإساءة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (30)


    شرح حديث(( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة...))

    قال الإمام مسلم رحمه الله في أوائل كتاب الفضائل من صحيحه: حدثني الحكم بن موسى أبو صالح حدثنا هقل ـ يعني ابن زياد ـ عن الأوزاعي حدثني أبو عمار حدثني عبد الله بن فروخ حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشق عنه القبر، وأوّل شافع وأوّل مشفع)).
    المبحث الأول: التخريج:
    هذا الحديث انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه وقد أخرجه في هذا الموضع، ولم يكرره في هذا الموضع، ولا في غيره، وقد رواه أبو داود في سننه في (كتاب السنة، باب في التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) فقال: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن أبي عمار عن عبد الله بن فروخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم، وأوّل من تنشق عنه الأرض، وأوّل شافع وأوّل مشفع)). ورواه الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا محمد بن مصعب حدثنا الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فذكره ومتنه مثل لفظه عند أبي داود تماماً.
    وللحديث شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض)) رواه الترمذي في جامعه، وقال: حديث حسن صحيح. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع، وأوّل مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر)) رواه ابن ماجه في سننه، ورواه الإمام أحمد في (المسند) عن أبي سعيد، ولفظه: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع يوم القيامة ولا فخر)). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنه لم يكن نبي إلا له دعوة قد تنجزها في الدنيا، وإني قد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر)). ثم ذكر شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف، رواه الإمام أحمد في (المسند). وأخرجه الدارمي في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: ((إني لأوّل الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من يدخل الجنة يوم القيامة ولا فخر)). وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) عن أنس بهذا اللفظ.
    وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه في ترجمة أحمد بن محمد بن القربيطي عن أنس بلفظ: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)).
    وقد وردت الجملة الأولى من الحديث في الصحيحين وغيرهما في صدر حديث الشفاعة العظمى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((أنا سيد الناس يوم القيامة)).
    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
    الأول: شيخ مسلم الحكم بن موسى، قال الحافظ في (التقريب): الحكم بن موسى بن أبي زهير البغدادي أبو صالح القنطري، صدوق من العاشرة، مات سنة اثنتين وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال مسلم، والنسائي، وابن ماجه، ولكونه روى عنه البخاري تعليقاً، وأبو داود في (المراسيل). وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم: إسماعيل بن عياش، وابن المبارك، وهقل بن زياد وغيرهم سماهم، ثم قال: روى عنه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأبو داود في (المراسيل)، وروى له النسائي، وابن ماجه بواسطة عمرو بن منصور، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن سعد، وصالح جزرة، وابن قانع.
    الثاني: هقل بن زياد، وهو هقل ـ بكسر أوله وسكون القاف ثم لام ـ ابن زياد السكسكي ـ بمهملتين مفتوحتين بينهما كاف ساكنة ـ الدمشقي نزيل بيروت، قيل: هو لقب واسمه محمد أو عبد الله، وكان كاتب الأوزاعي، ثقة من التاسعة، مات سنة تسع وسبعين ـ أي بعد المائة أو بعدها. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى البخاري.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): هقل بن زياد بن عبيد السكسكي الشامي قبيلة من اليمن، يكنى أبا عبد الله، سمع الأوزاعي في الصلاة والبيوع، وشرف النبي صلى الله عليه وسلم ، روى عنه الحكم بن موسى. انتهى. ويعني بذلك الذي له في صحيح مسلم.
    وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): السكسكي مولاهم، وقال: روى عن الأوزاعي، وحريز بن عثمان، وخالد بن دريك، وغيرهم سماهم. وعنه ابنه محمد، والليث بن سعد وهو أكبر منه، وأبو مسهر، والحكم بن موسى، وهشام بن عمار، وغيرهم سماهم. وذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول أحمد بن حنبل: لا يكتب حديث الأوزاعي عن أوثق من هقل. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي زرعة الرازي، والعجلي، والنسائي.
    الثالث: الأوزاعي، قال في (التقريب): عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو، الفقيه ثقة جليل من السابعة، مات سنة سبع وخمسين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال ابن الأثير في (اللباب) بعد أن ذكر قول السمعاني (أن هذه النسبة إلى قرى متفرقة بالشام جمعت وقيل لها الأوزاع): ((والصواب أن الأوزاع بطن من ذي الكلاع من اليمن، وقيل الأوزاع بطن من همدان، وقيل اسم الأوزاع مرسد بن زيد بن شدد بن زرعة بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع بن خمير، منهم أبو عمرو الأوزاعي، وعدادهم في همدان نزلوا الشام فنسبت القرى التي سكنوها إليهم، والله أعلم)).
    وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): نزل بيروت في آخر عمره فمات بها مرابطاً. ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: شداد أبو عمار، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، وغيرهم سماهم. وجماعة رووا عنه منهم: مالك، وشعبة، والثوري، وابن المبارك، وهقل بن زياد، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه من ذلك قول ابن مهدي: الأئمة في الحديث أربعة: الأوزاعي، ومالك، والثوري، وحماد بن زيد. وقول ابن حبان في (الثقات): كان من فقهاء أهل الشام وقرائهم وزهادهم، وكان السبب في موته: أنه كان مرابطا ببيروت فدخل الحمام فزلق فسقط وغشي عليه، ولم يعلم به حتى مات. ونقل توثيقه عن ابن معين، وابن سعد، والعجلي.
    الرابع: أبو عمار، قال الحافظ في (التقريب): شداد بن عبد الله القرشي أبو عمار، الدمشقي ثقة يرسل من الرابعة. ورمز لكونه من رجال البخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): شداد بن عبد الله القرشي الأموي الدمشقي أبو عمار، مولى معاوية بن أبي سفيان، سمع أبا أسماء عمرو بن مرثد، وأبا أمامة الباهلي، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن فروخ. روى عنه الأوزاعي، وعكرمة بن عمار. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن العجلي، وأبي حاتم، والدار قطني، ويعقوب بن سفيان، ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
    الخامس: عبد الله بن فروخ، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن فروخ التيمي مولى عائشة، المدني، نزل الشام، ثقة من الثالثة. ورمز لكونه من رجال مسلم وأبي داود.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع عائشة في الزكاة، وأبا هريرة في شرف النبي صلى الله عليه وسلم ، روى عنه أبو سلام ممطور، وشداد أبو عمار. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن العجلي، وختم ترجمته بقوله: روى له مسلم حديثين، أخرج أبو داود أحدهما وهو: ((أنا سيد ولد آدم))، والآخر في (الذكر بعدد المفاصل)، وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال) راداً على من قال: إنه مجهول، قال: بل صدوق مشهور، حدّث عنه جماعة، وثقه العجلي. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
    السادس: أبو هريرة رضي الله عنه. وقد تكرر ذكره.

    المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
    (1) اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديث اثنين من رجال الإسناد وهما: أبو هريرة رضي الله عنه، والأوزاعي، ولم يخرج البخاري في صحيحه للأربعة الباقين في الأصول، وقد احتج ببعضهم في غيرها.
    (2) أبو هريرة رضي الله عنه مدني، وعبد الله بن فروخ مدني نزل الشام، وشيخ مسلم بغدادي، والبقية دمشقيون.
    (3) نسبة الأوزاعي قيل إنها إلى وطن، وذكر ابن الأثير في (اللباب) أن الصواب أنها نسبة إلى قبيلة من اليمن، واسمه عبد الرحمن بن عمرو واشتهر بهذه النسبة.
    (4) هقل هو الشخص الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الكتب الستة، ولهذا لا لبس في عدم نسبته لو لم ينسب، وكانت وفاته في السنة التي توفي فيها الإمام مالك رحمه الله.
    (5) عبد الله بن فروخ ليس له في (صحيح مسلم) سوى حديثين، هذا أحدهما، والثاني في (كتاب الزكاة) في الذكر بعدد المفاصل، كما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته في (تهذيب التهذيب).
    (6) في الإسناد راويان اشتهرا بالكنية وهما: أبو هريرة رضي الله عنه، وأبو عمار.
    (7) في الإسناد تابعيان وهما: أبو عمار، وعبد الله بن فروخ، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
    (8) صيغة الأداء في الإسناد التحديث في خمسة مواضع، وكلها بصيغة الإفراد إلا في رواية شيخ مسلم فهي بالجمع، ورواية شيخ شيخه بالعنعنة.
    (9) الإمام الأوزاعي توفي مرابطاً في بيروت، وسبب وفاته أنه دخل الحمام فزلق فسقط وغشي عليه ولم يعلم به حتى مات.


    المبحث الرابع: شرح الحديث:
    (1) هذا الحديث يدل على أربعة من الأمور التي امتاز بها صلى الله عليه وسلم على غيره، وقد ألف في خصائصه وميزاته صلى الله عليه وسلم مؤلفات منها: كتاب (شرف المصطفى) لأبي سعيد النيسابوري، ذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)، والسيوطي في شرحه لسنن النسائي، ومنها (أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب) للسيوطي.
    (2) هذه الخصائص التي اختص بها صلى الله عليه وسلم ذكرها تحدثا بنعمة الله عليه، وإعلاماً لأمته بمنـزلته ليعتقدوا ذلك ولينـزلوه صلى الله عليه وسلم المنـزلة اللائقة به من الإجلال والتعظيم والمحبة والمتابعة، وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أمته بمنـزلته عند الله لأنه لا سبيل للأمة إلى معرفة ذلك إلا بواسطته صلى الله عليه وسلم والتلقي عنه، إذ لا نبي بعده يخبر عن عظيم منـزلته عند ربه، كما أخبر أمته بفضائل الأنبياء قبله.
    (3) هذا الحديث يدل على تفضيله صلى الله عليه وسلم على غيره من البشر، ويدل للمفاضلة بين الأنبياء والمرسلين قوله تعالى: )تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ(، وقوله تعالى: )وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً( وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على المنع من تفضيل بعضهم على بعض في قصة تخاصم اليهودي مع المسلم وترافعهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)). وفي لفظ: ((لا تفضلوني على موسى)). وقد أجيب عن ذلك بأجوبة ذكرها النووي وغيره.
    منها: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التفضيل قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما علم أخبر به.
    ومنها: أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول.
    ومنها: أن النهي عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة كما هو سبب الحديث.
    (4) قوله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) فيه التقييد بيوم القيامة، ورواية أبي داود مطلقة بدون تقييد، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وإنما قيد ذلك بيوم القيامة لأن سؤدده يظهر يوم القيامة لكل أحد دون منازعة أو معاندة، وقد أوضح صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث الشفاعة العظمى حيث قال في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه، ألا ترون إلى ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم...)) وهو حديث طويل فيه: أنهم يأتون إلى أولى العزم من الرسل، فكل منهم يعتذر عن التقدم لهذه الشفاعة حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم ، فيتقدم لها فيشفعه الله صلوات الله وسلامه عليه.
    (5) قوله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة))، فيه إطلاق لفظ السيد على المخلوق، وقد جاء إطلاق ذلك أيضاً في أحاديث صحيحة كثيرة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما قد يفيد خلاف ذلك، قال أبو داود في (كتاب الأدب) من سننه في (باب في كراهية التمادح): حدثنا مسدد حدثنا بشر ـ يعني ابن المفضل ـ حدثنا أبو سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن مطرف قال: قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: ((السيد الله تبارك وتعالى))، قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا. فقال: ((قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان)). ورجال إسناده بعضهم من رجال الصحيحين معاً، والبعض الآخر من رجال أحدهما. وقال عنه صاحب (عون المعبود): وحديث عبد الله بن الشخير إسناده صحيح، وأخرجه أيضاً أحمد في (مسنده). وقال في شرح هذا الحديث: قال السيوطي: قال الخطابي: قوله صلى الله عليه وسلم : ((السيد الله)) أي السؤدد كله حقيقة لله عزوجل، وأن الخلق كلهم عبيد الله، وإنما منعهم أن يدعوه سيداً مع قوله: ((أنا سيد ولد آدم)) لأنهم قوم حديث عهدهم بالإسلام، وكانوا يحسبون أن السيادة بالنبوة كهي بأسباب الدنيا، وكان لهم رؤساء يعظمونهم وينقادون لأمرهم.
    وقوله: ((قولوا بقولكم)) أي قولوا بقول أهل دينكم وملتكم، وادعوني نبياً ورسولاً كما سماني الله تعالى في كتابه، ولا تسموني سيداً كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم ولا تجعلوني مثلهم، فإني لست كأحدهم إذ كانوا يسودونكم في أسباب الدنيا، وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة فسموني نبياً ورسولاً.
    وقوله: ((أو بعض قولكم)) فيه حذف واختصار ومعناه: دعوا بعض قولكم واتركوه واقتصدوا فيه بلا إفراط، أو دعوا سيداً وقولوا نبياً ورسولاً.
    وقوله: ((لا يستجرينكم الشيطان)) معناه: لا يتخذنكم جرياً والجري الوكيل، ويقال الأجير. انتهى كلام السيوطي. وقال السندي: أي لا يستعملنكم الشيطان فيما يريد من التعظيم للمخلوق بمقدار لا يجوز. انتهى.
    هذا من أوجه الجمع بين هذه الأحاديث، ويجمع بينها أيضاً: بأن السيادة الحقيقية التي هي الغاية في الكمال، لا تليق إلا بالله وحده كما يدل عليه حديث عبد الله بن الشخير، وأنه لا مانع من إطلاق لفظ السيد على المخلوق كما يدل عليه حديث أبي هريرة وغيره من الأحاديث الكثيرة، لكن مع الحذر من الاسترسال في وصف المخلوق إلى ما يفضي إلى الغلو ومجاوزة الحد، والوقوع في المحذور الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يرضاه رسوله صلى الله عليه وسلم ، كالذي حصل لصاحب البردة، فإنه أثنى على الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كثيراً بما هو حق، إلا أنه تجاوز الحد في بعض ثنائه عليه حيث أضاف إليه مالا يصلح أن يضاف إلا إلى الله وحده، كدعواه بأنه لا يلاذ عند حدوث المصائب إلاّ به صلى الله عليه وسلم ، وأن الدنيا والآخرة من جوده صلى الله عليه وسلم ، وأن علم اللوح والقلم من علمه صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن هذه الأوصاف لا تليق إلا بالله وحده، فهو الذي لا يلاذ إلاّ به سبحانه في دفع البلاء، وهو القائل عن نفسه ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ)، وهو القائل لنبيه صلى الله عليه وسلم : (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً)، وهو سبحانه وحده الذي من جوده الدنيا والآخرة، وهو وحده الذي من علمه علم اللوح والقلم. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقدر إلاّ على ما أقدره الله عليه، ولا يعلم من الغيب إلاّ ما أطلعه الله عليه. وقد قال الله تعالى له: ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ)، وقال تعالى( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ{187} قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{188})، وقد بشّر وأنذّر على أكمل وجه صلى الله عليه وسلم ، وهذا الذي اشتمل عليه حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه من أمثلة حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك.
    (6) قوله ((وأول من ينشق عنه القبر)). فيه دلالة على أنه أوّل من يبعث، ويشكل على هذا ما أخرجه البخاري في أول (كتاب الخصومات) من صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقة الأولى))، فإنه صلى الله عليه وسلم حين يبعث يجد موسى آخذاً بقائمة من قوائم العرش، مع أن موسى ممن قُبر في الحياة الدنيا. وقد قال صلى الله عليه وسلم يعني نفسه: ((وأول من ينشق عنه القبر)). وقد أجيب عن ذلك: بأن هذا اللفظ في حديث أبي سعيد وَهْمٌ من راويه، وأن الصواب ما وقع عند أبي سعيد وغيره بلفظ: ((فأكون أول من يفيق))، وهذه الصعقة تكون بعد البعث إذا جاء الله لفصل القضاء، ويكون صلى الله عليه وسلم أوّل الناس أفاق من هذه الصعقة قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يكون لم يصعق معهم لأنه صعق في الدنيا لما تجلى ربه للجبل فجعله دكاً. وتكون تلك الرواية المشكلة دخل على الراوي فيها حديث قصة موسى في حديث: ((وأول من ينشق عنه القبر)). فجاء الإشكال، وقد جزم بهذا شارح الطحاوية وعزاه لأبي الحجاج المزي، وابن القيم، وابن كثير.
    وعلى هذا تكون أولية النبي صلى الله عليه وسلم في انشقاق القبر عنه على بابها لم يتقدمه موسى ولا غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويكون التردد في شأن موسى عند الإفاقة من الصعقة التي تكون للناس يوم القيامة، والله أعلم.
    (7) قوله: ((وأول شافع وأول مشفع)). ذكر صلى الله عليه وسلم أوليته في التقدم للشفاعة وأوليته في إجابة الشفاعة، قال النووي في شرح صحيح مسلم: إنما ذكر الثاني لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني منهما قبل الأوّل، والله أعلم انتهى. فهو صلى الله عليه وسلم أول الشافعين، وأوّل المشفعين، وهو سيد الشفعاء عند الله، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم له ثلاث حالات: الحالة الأولى: لما كان صلى الله عليه وسلم حياً الحياة الدنيوية، فإن أصحابه رضي الله عنه يطلبون منه الدعاء فيدعو الله تعالى لهم، كما كان صلى الله عليه وسلم يشفع لبعضهم عند بعض، ويوصي أصحابه بذلك فيقول: ((اشفعوا تؤجروا)).
    الحالة الثانية: في حياته البرزخية في قبره، وفي هذه الحالة لا يجوز أن يطلب منه دعاء أو شفاعة، بل لا تطلب شفاعته صلى الله عليه وسلم إلاّ من الله وحده، فيقول الإنسان في دعائه: اللهم شفِّع فيَّ نبيك، أو اللهم اجعلني في زمرة الفائزين بشفاعته، ونحو ذلك. وقد أشار صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في (كتاب المرضى) من صحيحه عن عائشة رضي الله عنها إلى أن طلب الدعاء والشفاعة منه في حال حياته الدنيوية دون البرزخية، وفيه قالت عائشة: وا رأساه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك)).
    الحالة الثالثة: يوم القيامة بعد البعث، وفي هذه الحالة تطلب منه الشفاعة لكنها لا تكون إلا لمن رضي الله قوله وعمله بعد أن يأذن للشافع في الشفاعة فيكرمه بذلك كما قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى )، وقوله تعالى: ( لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعا ) وقوله: )َمن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ( وقوله: )يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً(، وغير ذلك من الآيات الدالة على أن الشفاعة ملك الله، وأنه لا يشفع الشافعون لديه إلاّ بعد الإذن لهم في التقدم للشفاعة، ولا يشفعون إلاّ لمن رضي الله قوله وعمله.
    (8) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
    (1) تفضل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بخصائص خصّه بها.
    (2) تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على البشر.
    (3) إثبات التفاضل بين الأنبياء.
    (4) تحدث الإنسان بنعم الله عليه.
    (5) جواز إطلاق السيد على المخلوق.
    (6) أن يوم القيامة هو الوقت الذي يظهر سؤدده صلى الله عليه وسلم لكل من الأولين والآخرين دون منازعة أو معاندة.
    (7) إثبات البعث.
    (8) أن القبور تنشق عن المقبورين عند البعث.
    (9) الإيمان بالغيب.
    (10) أن المقبورين باقون في القبور حتى يبعثوا سواء في ذلك من لا تأكله الأرض كالأنبياء وغيرهم ممن شاء الله أن لا تأكله ومن تأكله.
    (11) إثبات أنه صلى الله عليه وسلم أول الناس بعثاً وخروجاً من القبر.
    (12) الرد على المتقولين أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المقبورين يخرجون من قبورهم فيراهم البعض يقظة ويصافحونهم ويكلمونهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء التي نوه الله بشأنها في القرآن، ويخرج منه عند البعث إذا انشق عنه وقبره صلى الله عليه وسلم أوّل القبور انشقاقاً عن صاحبه.
    (13) إثبات شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم .
    (14) أنه صلى الله عليه وسلم أوّل من يشفع فلا يتقدمه أحد.

    (15) إثبات أن غيره صلى الله عليه وسلم يشفع عند الله.
    (16) أن الله تعالى يقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم .

    (17) أنه صلى الله عليه وسلم أوّل المشفعين.
    (18) إثبات أن غيره من الشفعاء يشفعه الله سبحانه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (31)




    شرح حديث: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا....)

    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الفضائل من صحيحه: حدثني محمد بن حاتم حدثنا ابن مهدي حدثنا سليم عن سعيد بن ميناء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي)).

    المبحث الأول: التخريج:
    هذا الحديث انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه من حديث جابر رضي الله عنه ولم يكرره، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا عفان حدثنا سليم بن حيان حدثنا سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره بمثل متنه عند مسلم إلاّ أن فيه تقديم الفراش على الجنادب.
    وأخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه من طريقين إليه، من طريق أبي الزناد عن الأعرج عنه، ومن طريق معمر عن همام عنه. وأخرجه البخاري عن أبي هريرة في (كتاب الرقاق)، وأخرج طرفاً منه في (كتاب أحاديث الأنبياء) كلاهما من طريق أبي الزناد عن الأعرج عنه. وأخرجه الترمذي في آخر (كتاب الأمثال) من جامعه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه من ثلاث طرق إليه: من طريق معمر عن همام عنه، ومن طريق أبي الزناد عن الأعرج عنه، ومن طريق جعفر عن يزيد بن الأصم عنه.
    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
    الأول: محمد بن حاتم، وهو محمد بن حاتم بن ميمون البغدادي السمين، صدوق ربما وهم، وكان فاضلاً من العاشرة، مات سنة خمس أو ست وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال مسلم وأبي داود. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن وكيع، وابن عيينة، وابن علية، وابن مهدي، وغيرهم سماهم. وروى عنه مسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن عدي، والدار قطني، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم ثلاثمائة حديث.
    الثاني: ابن مهدي قال الحافظ في (التقريب): عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري، ثقة، ثبت، حافظ، عارف بالرجال والحديث. قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه. من التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): العنبري وقيل الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصري اللؤلؤي الحافظ الإمام العلم. ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: جرير بن حازم، ومالك، وشعبة، والسفيانان، والحمادان، وسليم بن حيان. وجماعة رووا عنه منهم: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعليّ بن المديني، ويحيى بن معين. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول علي بن المديني: إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدث عنه، فإذا اختلفا، أخذت بقول عبد الرحمن، لأنه أقصدهما وكان في يحيى تشدد. وقول أحمد بن سنان: سمعت عليّ بن المديني يقول: كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس، قالها مراراً. وقول ابن حبان في (الثقات): كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين، ممن حفظ، وجمع، وتفقه، وصنف، وحدّث، وأبى الرواية إلاّ عن الثقات. وقول الشافعي: لا أعلم له نظيراً في الدنيا. انتهى. وقال الذهبي في (العبر): الحافظ، أحد أركان الحديث بالعراق.
    الثالث: سليم، وهو ابن حيان كما قال النووي. قال الحافظ في (التقريب): ابن حيان ـ بمهملة وتحتانية ـ الهذلي البصري، ثقة من السابعة، ورمز لكونه من رجال البخاري، وأبي داود، والترمذي، وكذا رمز في (تهذيب التهذيب)، وسقط منهما الرمز لمسلم، ولعله من النساخ أو الطابعين. وقال في (تهذيب التهذيب): سليم ـ بالفتح ـ ابن حيان بن بسطام الهذلي البصري، روى عن أبيه، وسعيد بن ميناء، وعمرو بن دينار، وقتادة، ومروان الأصغر، وغيرهم. وعنه: ابنه عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والنسائي.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سليم بن حيان الهذلي من أهل البصرة، سمع سعيد بن ميناء، ومروان الأصغر عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، وعمرو بن دينار عند البخاري. روى عنه يزيد بن هارون، وعبد الصمد بن عبد الوارث عندهما، ومحمد بن سنان العَوَقي، ويحيى القطان عند البخاري، وعبد الرحمن بن مهدي، وبهز بن أسد، وعبيد الله بن عبد المجيد، وعفان بن مسلم أي عند مسلم. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
    الرابع: سعيد بن ميناء، قال في (تهذيب التهذيب): سعيد بن ميناء المكي ويقال المدني، أبو الوليد مولى البختري بن أبي ذياب. ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى النسائي، وقال: روى عن عبد الله بن الزبير، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، والأصبغ بن نباتة، والقاسم بن محمد. وعنه: حنظلة بن أبي سفيان، وسليم بن حيان، وأيوب السختياني، وابن جريج، وابن إسحاق، وعدة. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، والنسائي. وقال في (التقريب): ثقة من الثالثة. انتهى.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع جابر بن عبد الله عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير عند مسلم. روى عنه سليم بن حيان، وحنظلة بن أبي سفيان عندهما، وزيد بن أبي أنيسة، ويعقوب عند مسلم. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
    الخامس: الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال الحافظ في (التقريب): جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ـ بمهملة وراء ـ الأنصاري ثم السلمي ـ بفتحتين ـ صحابي ابن صحابي، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين وهو ابن أربع وتسعين سنة. ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الثالث من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

    (1) اثنان من رجال الإسناد اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهما: جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، وعبد الرحمن بن مهدي، وقد خرج البخاري في صحيحه لرجال الخمسة إلاّ شيخ مسلم محمد بن حاتم فلم يخرج له شيئاً.
    (2) شيخ مسلم محمد بن حاتم بغدادي، وعبد الرحمن بن مهدي وسليم بن حيان بصريان، وسعيد بن ميناء حجازي مكي أو مدني، وجابر رضي الله عنه مدني.
    (3) شيخ مسلم محمد بن حاتم لا يشاركه أحد من المحمدين في رجال مسلم في اسم الأب، فهو الوحيد في المحمدين الذي يسمى أبوه حاتماً في رجال صحيح مسلم، وقد خرج عنه مسلم في صحيحه ثلاثمائة حديث، ويوافقه في الاسم واسم الأب شيخ البخاري محمد بن حاتم بن بزيع، وقد روى عنه البخاري في (الصلاة) و(مناقب عثمان) و(عمرة الحديبية)، مات سنة تسع وأربعين ومائتين كما في (الجمع بين رجال الصحيحين) للمقدسي، وذلك من أمثلة النوع المعروف (بالمتفق والمفترق)، قال الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): ثم الرواة إن اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم فصاعداً، واختلف أشخاصهم فهو (المتفق والمفترق)، وقال في شرح النخبة: وفائدة معرفته خشية أن يظن الشخصان شخصاً واحداً.
    (4) شيخ مسلم محمد بن حاتم من ذوي الألقاب في المحدثين ولقبه السمين.
    (5) شيخ شيخ مسلم عبد الرحمن بن مهدي وصف بصفات هي من أرفع مراتب التعديل، منها قول ابن المديني: كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس. وقول الشافعي: لا أعلم له نظيراً في الدنيا. وقول الذهبي: هو أحد أركان الحديث في العراق.
    (6) قال الحافظ في ترجمة ابن مهدي في (تهذيب التهذيب): العنبري وقيل الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصري اللؤلؤي. انتهى. فالنسبة في الأول إلى قبيلة وفي الثاني إلى وطن وفي الثالث إلى حرفة وهي بيع اللؤلؤ. قال ابن الأثير في (اللباب في تهذيب الأنساب): اللؤلؤي ـ بضم اللامين بينهما واو ساكنة وفي آخرها واو ثانية ـ هذه النسبة لجماعة يبيعون اللؤلؤ منهم: الإمام أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن اللؤلؤي البصري، ثم ذكر جماعة ينسبون هذه النسبة.
    (7) سليم ـ بفتح السين ـ بن حيان هو الشخص الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الصحيحين، أما من يسمى سليم ـ بضم السين ـ فهم كثيرون، قال الحافظ ابن حجر في كتابه (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه): سليم ـ بالضم ـ كثير، وبالفتح سليم بن حيان وهو في الصحيحين، لم يوجد فيهما بفتح السين وكسر اللام غيره. انتهى. وهذا النوع يسمى في علم المصطلح (المؤتلف والمختلف) وهو: أن تتفق الأسماء خطاً وتخلتف نطقاً سواء كان مرجع الاختلاف النقط أو الشكل.
    (8) الصحابي في الحديث هو أحد الصحابة السبعة المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم الذين زاد حديثهم على ألف حديث وقد نظمهم السيوطي في ألفيته فقال:
    والمكثرون في رواية الأثر

    أبو هريرة يليه ابن عمر

    وأنس والبحر كالخدري

    وجابر وزوجة النبي

    المبحث الرابع: شرح الحديث:
    (1) هذا الحديث اشتمل على تمثيل ما يقوم به صلى الله عليه وسلم من التحذير من النار والتنفير من أسباب الوقوع فيها، وإيضاح أسباب السلامة منها، برجل أوقد ناراً فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وجعل يذبُّهن عنها، وهو تشبيه مركب، ولهذا قال الحافظ في (الفتح): والمراد تمثيل الجملة بالجملة لا تمثيل فرد بفرد. وقال أبو بكر بن العربي في شرح جامع الترمذي: المعنى في هذا الحديث بديع، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فيه المثل لثلاثة بثلاثة (أحدها) تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم برجل، (الثاني) تمثيل الأمة بالفراش وشبهها بما يتهافت بالنار، (الثالث) ضرب النار في الدنيا مثلاً لنار الآخرة التي نار الدنيا جزء منها. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: ومقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك، مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه ساع في ذلك بجهله. وقال الغزالي كما في (فتح الباري): التمثيل وقع على صورة الإكباب على الشهوات من الإنسان بإكباب الفراش على التهافت في النار، ولكن جهل الآدمي أشد من جهل الفراش، لأنها باغترارها بظواهر الضوء إذا احترقت انتهى عذابها في الحال، والآدمي يبقى في النار مدة طويلة أو أبدا، والله المستعان. وقال الحافظ: وحاصل التمثيل: أنه شبه تهافت أصحاب الشهوات في المعاصي التي تكون سبباً في الوقوع في النار، بتهافت الفراش بالوقوع في النار اتباعاً لشهواتها، وشبه ذَبَّه العصاة عن المعاصي بما حذرهم به وأنذرهم بذَبِّ صاحب النار الفراش عنها.
    (2) قال النووي في شرح صحيح مسلم: أما الفَراش فقال الخليل: هو الذي يطير كالبعوض. وقال غيره: ما تراه كصغار البق يتهافت في النار. وأما الجنادب فجمع جندب وفيها ثلاث لغات: جندب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما، والثالثة حكاها القاضي بكسر الجيم وفتح الدال. والجنادب هذا الصرار الذي يشبه الجراد. وقال أبو حاتم: الجندب على خلقة الجراد له أربعة أجنحة كالجرادة وأصغر منها يطير ويصر بالليل صراً شديداً، وقيل غيره. وقال: والحجز جمع حجزة وهي معقد الإزار والسراويل، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ((وأنا آخذ بحجزكم)) فروي بوجهين: (أحدهما) اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال، و(الثاني) فعل مضارع بضم الذال بلا تنوين، والأول أشهر وهما صحيحان، وأما تفلتون فروي بوجهين: (أحدهما) فتح التاء والفاء واللام المشددة، و(الثاني) ضم التاء وإسكان الفاء وكسر اللام المخففة، وكلاهما صحيح، يقال أفلت مني وتفلت إذا نازعك الغلبة والهرب ثم غلب وهرب. انتهى.
    (3) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
    (1) ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من الشفقة والرحمة والحرص على نجاة أمته.
    (2) كمال نصحه صلى الله عليه وسلم لأمته وإيضاحه وبيانه أسباب سعادتها ونجاتها.
    (3) ضرب الأمثلة في إيضاح ما يراد بيانه.
    (4) تنبيه المعلمين والمرشدين إلى الخير إلى سلوك مثل هذه الطريق الناجحة في التعليم والإرشاد.
    (5) التحذير من ارتكاب أسباب الوقوع في النار.
    (6) تشبيه العصاة بالفراش والجنادب في الجهل وعدم التمييز وتعاطي أسباب هلاك النفس.
    (7) الإشارة إلى أن النار محفوفة بالشهوات.
    (8) الحث على اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتمسك بما جاء به من الحق والهدى.

    (9) التنبيه إلى عدم جواز التعذيب في نار الدنيا.
    (10) تنبيه المسلم إلى السعي في خلاص نفسه وغيره من الهلاك.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (32)


    حديث (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل......)





    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من صحيحه:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم ـ واللفظ لأبي بكر ـ قال إسحاق: أخبرنا، وقال أبو بكر: حدثنا زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مُرة عن عبد الله بن الحارث النجراني قال: حدثني جندب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)).
    المبحث الأول: التخريج:
    هذا الحديث انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه، فأخرجه في هذا الموضع من صحيحه عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه ولم يكرره، وقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم فقال: حدثنا أبو داود الحراني قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن غيلان (ح) وحدثنا أبو أمية قال حدثنا زكريا بن عدي قالا حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث قال حدثني جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، وإن الله عزوجل قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك))، وهذا الحديث يشتمل على أمرين:
    (أحدهما) إثبات منقبة عظيمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، و(الثاني) النهي عن اتخاذ القبور مساجد.
    أما منقبة الصديق رضي الله عنه فقد عدها السيوطي في كتابه (الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة) عدّها من قبيل المتواتر فقال: حديث ((لو كنت متخذاً خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا)) أخرجه الشيخان عن أبي سعيد، وابن عباس، والبخاري عن ابن الزبير، ومسلم عن ابن مسعود وجندب البجلي، والترمذي عن أبي المعلى وأبي هريرة، والبزار عن أنس، والطبراني عن ابن عمر وابن عباس وأبي واقد وعائشة. انتهى. وأما النهي عن اتخاذ القبور مساجد فقد ورد فيه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وحديث جندب بن عبد الله البجلي هذا، أورده المجد بن تيمية في المنتقى، وقال الشوكاني في تخريجه: وفي الباب عن عائشة عند الشيخين، والنسائي وعن أبي هريرة عند الشيخين، وأبي داود والنسائي وعن ابن عباس عند أبي داود والترمذي وحسنه، وله حديث آخر عند الشيخين والنسائي، وعن أسامة بن زيد عند أحمد والطبراني بإسناد جيد، وعن زيد بن ثابت عند الطبراني بإسناد جيد أيضاً، وعن ابن مسعود عند الطبراني بإسناد جيد أيضاً، وعن أبي عبيدة بن الجراح عند البزار، وعن عليّ عند البزار أيضاً، وعن أبي سعيد عند البزار أيضاً وفي إسناده عمر بن صهبان وهو ضعيف، وعن جابر عند ابن عدي.
    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
    الأول والثاني: شيخا مسلم أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وقد مر ذكرهما في رجال إسناد الحديث الأول.
    الثالث: زكريا بن عدي، قال الحافظ في (التقريب): زكريا بن عدي بن الصلت التيمي مولاهم، أبو يحيى نزيل بغداد ـ وهو أخو يوسف ـ ثقة جليل يحفظ، من كبار العاشرة، مات سنة إحدى عشرة أو اثنتى عشرة ومائتين. ورمز لكونه من رجال البخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم، وأبي داود في (المراسيل)، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وكذا في (تهذيب التهذيب) و(خلاصة تذهيب تهذيب الكمال)، لكن ذكره المقدسي فيمن اتفق البخاري ومسلم على الإخراج له، وذكر أنه سمع ابن المبارك في الصحيحين، ومروان بن معاوية عند البخاري، وعبيد الله بن عمرو الرقي ويزيد بن زريع عند مسلم، وقال: روى عنه محمد بن عبد الرحيم في (الوصايا)، و(غزوة أحد) عند البخاري، وإسحاق الحنظلي، وأحمد الدارمي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم سماهم عند مسلم. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): الكوفي نزيل بغداد، ثم ذكر جماعة روى عنهم، وجماعة رووا عنه، ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن العجلي وابن خراش وابن سعد.
    الرابع: عبيد الله بن عمرو، قال في (التقريب): عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي أبو وهب الأسدي، ثقة فقيه ربما وهم، من الثامنة، مات سنة ثمانين ـ أي بعد المائة ـ عن ثمانين إلا سنة. ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): الأسدي مولاهم، أبو وهب الجزري الرقي، روى عن عبد الملك بن عمير، وعبد الله بن محمد بن عقيل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، وابن أبي أنيسة، وغيرهم سماهم.
    وعنه بقية، وعبد الله بن جعفر الرقي، وزكريا بن عدي، ويوسف بن عدي، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين والنسائي، وأبي حاتم، وابن سعد، والعجلي، وابن نمير، وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال: كان راوياً لزيد بن أبي أنيسة.
    الخامس: زيد بن أبي أنيسة، قال في (التقريب): زيد بن أبي أنيسة الجزري أبو أسامة، أصله من الكوفة ثم سكن الرُّها، ثقة له أفراد، من السادسة، مات سنة تسع عشرة وقيل سنة أربع وعشرين ـ أي بعد المائة ـ وله ست وثلاثون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): زيد بن أبي أنيسة واسمه زيد الجزري، أبو أسامة الرهاوي، كوفي الأصل الغنوي مولاهم، روى عن أبي إسحاق السبيعي، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن مرة، والمنهال بن عمرو، وغيرهم سماهم. وعنه: مالك، ومسعر، ومعقل بن عبيد الله، وأبو عبد الرحيم الحراني، وعبيد الله بن عمرو الرقي وهو راويته، وغيرهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، وعمرو بن عبد الله الأودي، والعجلي، وأبي داود، ويعقوب بن سفيان، والذهلي، وابن نمير، والبرقي. وقال ابن سعد: كان يسكن الرها، مات بها، وكان ثقة كثير الحديث فقيهاً، راوية للعلم. وحكى العقيلي عن أحمد: أن حديثه حسن مقارب، وأن فيه لبعض النكرة وهو على ذلك حسن الحديث. وعده المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) ممن خرج له مسلم دون البخاري، وقال: الغنوي مولى لغني بن عمر الجزري، سكن الرها. انتهى.
    وذكره الحافظ في مقدمة (الفتح) وقال: متفق على الاحتجاج به وتوثيقه. ثم ذكر ما نقل عن الإمام أحمد في تليينه، ثم قال: قلت: في صحيح البخاري حديثه عن المنهال بن عمرو. انتهى.
    السادس: عمرو بن مرة، قال في (التقريب): عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي ـ بفتح الجيم والميم ـ المرادي أبو عبد الله الكوفي الأعمى، ثقة عابد، كان لا يدلس ورُمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة ثمان عشرة ومائة وقيل قبلها، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الثاني عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    السابع: عبد الله بن الحارث النجراني، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن الحارث الزبيدي ـ بضم الزاي ـ النجراني ـ بنون وجيم ـ الكوفي، المعروف بالمكتب، ثقة من الثالثة، ورمز لكونه من رجال مسلم، والأربعة، والبخاري في (الأدب المفرد)، وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن ابن مسعود، وجندب بن عبد الله البجلي، وطليق بن قيس، وأبي كثير الزبيدي، وغيرهم.
    وعنه: عمرو بن مرة، وحميد بن عطاء الأعرج، وأبو سنان ضرار بن مرة، والمغيرة بن عبد الله اليشكري. قال الدوري عن ابن معين: ثبت. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في (الثقات). انتهى.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عبد الله بن الحارث قال بعضهم: النجراني، وقال بعضهم: الزبيدي المكتب، الكوفي، سمع جندباً في (الصلاة)، روى عنه عمرو بن مرة ـ أي في صحيح مسلم ـ. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
    الثامن: الصحابي جندب، وهو ابن عبد الله رضي الله عنه ، قال الحافظ في (التقريب): جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي ثم العلقي ـ بفتحتين ثم قاف ـ أبو عبد الله وربما نسب إلى جده، له صحبة، ومات بعد الستين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): له ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة. روى عنه الحسن، وابن سيرين، وأبو مجلز، مات بعد الستين. انتهى. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن له في (صحيح البخاري) ثمانية أحاديث. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): كان بالكوفة ثم انتقل إلى البصرة ثم خرج منها، وحديثه عند أهل المصرين، يعنى أهل الكوفة وأهل البصرة.
    المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
    (1) روى مسلم الحديث عن شيخيه أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، ثم بيَّن من له اللفظ منهما وهو أبو بكر، ثم بيَّن صيغة الأداء عند كل منهما وهي الإخبار في رواية إسحاق، والتحديث في رواية أبي بكر، وهذه طريقة مسلم رحمه الله التي سلكها في صحيحه وأكثر من استعمالها فيه.
    (2) صيغة الأداء في رواية إسحاق بن إبراهيم بن راهويه هي الإخبار، وهذه هي الطريقة التي سلكها إسحاق، يستعمل (أخبرنا) دون (حدثنا)، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) ـ في شرح حديث نزول عيسى بن مريم عليه السلام في (كتاب الأنبياء) من صحيح البخاري، وقد رواه البخاري عن إسحاق غير منسوب ـ: قوله (حدثنا إسحاق) هو ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه، وإنما جزمت بذلك مع تجويز أبي عليّ الجياني أن يكون هو أو إسحاق بن منصور لتعبيره بقوله (أخبرنا يعقوب بن إبراهيم)، لأن هذه العبارة يعتمدها إسحاق بن راهويه، كما عرف بالاستقراء من عادته أنه لا يقول إلاّ (أخبرنا) ولا يقول (حدثنا)، وقال: وقد أخرج أبو نعيم في (المستخرج) هذا الحديث من مسند إسحاق بن راهويه وقال: أخرجه البخاري عن إسحاق. انتهى.
    (3) في الإسناد راو وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث وهو: إسحاق بن راهويه كما تقدم في الحديث الأول.
    (4) زكريا بن عدي، رمز الحافظ في (التقريب) و(تهذيب التهذيب) لكونه من رجال البخاري في (الأدب المفرد)، وكذا رمز الخزرجي في (الخلاصة)، وقال الحافظ في ترجمته في (تهذيب التهذيب): وروى عنه البخاري في غير (الجامع). انتهى.
    وليس الأمر كذلك بل قد خرج له البخاري في (الصحيح) حديثين رواهما عنه بواسطة محمد بن عبد الرحيم صاعقة: أحدهما في (كتاب الوصايا) والثاني في (غزوة أحد). كما ذكر ذلك المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين)، والحديث الذي في (الوصايا) يرويه عن مروان بن معاوية وهو في وصية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وفيه: ((الثلث والثلث كثير)). أما الحديث الذي في غزوة أحد، فيرويه عن عبد الله بن المبارك وهو في صلاته صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد.
    (5) زكريا بن عدي هو أخو يوسف بن عدي كما في (التقريب)، ويوسف من رجال البخاري دون مسلم، وليس له في صحيح البخاري إلاّ حديث واحد أخرجه عنه في تفسير سورة (حم السجدة).
    (6) عبيد الله بن عمرو الرقي شيخ زكريا بن عدي، ليس له إلاّ حديث واحد في صحيح البخاري في تفسير سورة (حم السجدة) يرويه عنه يوسف بن عدي أخو زكريا.
    (7) زيد بن أبي أنيسة، عده المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) من رجال مسلم دون البخاري، وليس الأمر كذلك فهو من رجال البخاري أيضاً، وليس له في (صحيح البخاري) سوى حديث واحد في تفسير (سورة حم السجدة)، وهو الحديث الذي رواه عنه عبيد الله بن عمرو، ورواه عن عبيد الله يوسف بن عدي، فهم ثلاثة أشخاص يروى بعضهم عن بعض، وليس لهم في (صحيح البخاري) سوى ذلك الموضع، وزيد بن أبي أنيسة يرويه عن المنهال بن عمرو وليس في (صحيح البخاري) غيره أيضاً سوى حديث واحد وهو حديث تعويذ النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين، وهو في (كتاب الأنبياء).
    (8) عبد الله بن الحارث النجراني يلقب المكتب، وليس له في (صحيح مسلم) سوى هذا الحديث الواحد كما أشار إليه المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين).
    (9) رجال الإسناد الثمانية خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ أنَّ أبا بكر بن أبي شيبة لم يخرج له الترمذي، وإسحاق بن إبراهيم لم يخرج له ابن ماجه، وزكريا بن عدي لم يخرج له أبو داود في السنن وروى له في (المراسيل)، وعبد الله بن الحارث النجراني لم يخرج له البخاري.
    (10) زيد بن أبي أنيسة قال فيه ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث فقيهاً، راوية للعلم. انتهى. توفي وعمره ست وثلاثون سنة. قال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): مات شاباً لم يكتهل.
    (11) هذا الحديث انتقده الدار قطني على مسلم فقال: وأخرج مسلم أيضاً حديث زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو عن زيد عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث حدثني جندب سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل))، قال خالفه أبو عبد الرحيم قال فيه: عن حميد النجراني عن حريث، رجل مجهول، والحديث صحيح من رواية أبي سعيد وابن مسعود. انتهى.
    ولم يتعرض النووي في شرحه هذا الحديث في (صحيح مسلم) لذكر هذا الانتقاد، ولعل ذلك لكون الدار قطني نفسه حكم بصحة الحديث عن أبي سعيد وابن مسعود، والحديث كما لا يخفى متواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، رواه عنه كثيرون من أصحابه رضي الله عنه ، وتقدم في التخريج ذكر السيوطي له في المتواتر، وذكر من روى عنه من الصحابة رضي الله عنه ، والذي اشتهر بالكنية بأبي عبد الرحيم من رجال الكتب الستة خالد بن أبي يزيد الحراني، قال عنه الحافظ في (التقريب): ثقة من السادسة، مات سنة أربع وأربعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال مسلم والبخاري في (الأدب المفرد)، وأبي داود، والنسائي، أخرج مسلم في صحيحه له حديثاً في (رمي جمرة العقبة) رواه عن أحمد بن حنبل عن محمد بن سلمة عنه عن زيد بن أبي أنيسة، كما ذكره المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين).
    ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين، وأبي القاسم البغوي، وقال: قال أحمد وأبو حاتم: لا بأس به. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: حسن الحديث متقن فيه. هذا هو كل ما ذكره في (تهذيب التهذيب) في توثيقه والثناء عليه. أما زكريا بن عدي، فقد قال عنه الحافظ في (التقريب): ثقة جليل يحفظ. ونقل توثيقه في (تهذيب التهذيب) عن العجلي، وابن خراش، وابن سعد. وقال عنه ابن معين: لا بأس به. وقال المنذر بن شاذان: ما رأيت أحفظ منه، جاءه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فقالا له: أخرج إلينا كتاب عبيد الله بن عمرو. فقال: ما تصنعون بالكتاب، خذوا حتى أملي عليكم كله. وكان يحدث عن أصحاب الأعمش فيميز ألفاظهم. وقال عباس الدوري: حدثنا زكريا بن عدي وكان من خيار خلق الله، وإذا قارنا بين زكريا بن عدي وأبي عبد الرحيم الحراني وجدنا أن زكريا بن عدي من رجال الجماعة، خرج له البخاري حديثين، وخرج له مسلم كثيراً، ووجدنا الثناء عليه أكثر منه على أبي عبد الرحيم، على أن أبا عبد الرحيم لم يخرج له البخاري شيئاً ولم يخرج له مسلم سوى حديث واحد، فمخالفته لزكريا بن عدي لا تؤثر شيئاً على روايته كما يبدو، ومما لا يخفى أن زكريا بن عدي متأخر عن أبي عبد الرحيم، وعبيد الله بن عمرو الرقي شيخه شارك أبا عبد الرحيم في الرواية عن زيد بن أبي أنيسة.
    المبحث الرابع: شرح الحديث:
    (1) هذا الحديث اشتمل على عنصرين أساسيين: (أحدهما) بيان منـزلة أبي بكر الصديق وفضله رضي الله عنه ، و(الثاني) التحذير من اتخاذ القبور مساجد، ولما كان من عادة مسلم ـ رحمه الله ـ أنه لا يكرر الحديث في أكثر من موضع غالباً، أورد هذا الحديث في مواضع الصلاة مستدلاً به وبغيره من الأحاديث في معناه على تحريم اتخاذ القبور مساجد، لأن العنصر الثاني من العنصرين اللذين اشتمل عليهما الحديث خطره عظيم، والمعصية فيه كبيرة، لأن الوقوع فيه وسيلة من وسائل الشرك، وذريعة من ذرائع صرف حق الخالق إلى المخلوق، وهذا مثال من أمثلة دقة الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه واختياره للحديث المشتمل على عدة مسائل الموضع الأولى والأليق.
    (2) لما كان اتخاذ القبور مساجد من أسباب الوقوع في الشرك، كانت العناية في التحذير منه كبيرة، فجاء المنع منه على صيغ مختلفة وطرق شتى، بل وكان ذلك في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم ، بل وفي أواخر لحظاته صلوات الله وسلامه عليه، فثبت في الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال ـ وهو كذلك ـ: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، يحذر ما صنعوا.
    وقولهما رضي الله عنهما في الحديث (لما نزل) يعنيان الموت، وقد اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أمور:
    الأمر الأول: الدعاء على اليهود والنصارى باللعن.
    والأمر الثاني: بيان سبب اللعن وهو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
    والأمر الثالث: بيان الغرض من ذكر ذلك وهو تحذير هذه الأمة من الوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى، فيستحقوا اللعنة. وقد صرح بالنهى عن ذلك في حديث جندب المذكور وغيره. وثبت في الصحيحين أيضاً أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، قالت: فلولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. وثبت في الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). وثبت في الصحيحين أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها، وصف الذين يبنون المساجد على القبور بأنهم شرار الخلق عند الله، لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة كنيسة رأتاها في الحبشة وما فيها من الصور، قال صلى الله عليه وسلم : ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور))، ثم قال: ((أولئك شرار الخلق عند الله)).
    وهذه الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتملت على التحذير من اتخاذ القبور مساجد مطلقاً، وبعضها يفيد حصول ذلك منه قبل أن يموت بخمس، وبعضها يفيد حصوله في مرضه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم ، والتحذير من ذلك جاء على صيغ متعددة، فجاء بصيغة الدعاء باللعنة على اليهود والنصارى، وجاء بصيغة الدعاء بمقاتلة الله لليهود، وجاء بوصف المتصفين بذلك بأنهم شرار الخلق عند الله، وجاء بصيغة (لا) الناهية في قوله: ((ألا فلا تتخذوا القبور مساجد))، وبصيغة لفظ النهي بقوله: ((إني أنهاكم عن ذلك)). وهذا من كمال نصحه لأمته صلى الله عليه وسلم ، وحرصه على نجاتها، وشفقته عليها صلى الله وبارك عليه، وجزاه أوفى جزاء وأثابه أتم مثوبة.
    (3) واتخاذ القبور مساجد يشمل بناء المسجد على القبر، كما قال صلى الله عليه وسلم في النصارى: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)). وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، ويشمل قصدها واستقبالها في الصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم : ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) أخرجه مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه ، ويشمل السجود على القبر من باب أولى، إذ هو أخص من الصلاة إليه.
    (4) وهذا الحكم الثابت في هذه الأحاديث المتواترة من تحريم اتخاذ القبور مساجد أجمع عليه العلماء كما حكاه ابن تيمية رحمه الله، وقد ألّف في هذه المسألة العلامة الشوكاني المتوفى سنة (1250هـ) رسالة سماها (شرح الصدور بتحريم رفع القبور) أجاد فيها وأفاد، قال فيها: ((اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم، من لدن الصحابة إلى هذا الوقت، أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحيى مقالة تدل على أنه يرى أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه، ومن ذكرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جري على قوله واقتداء به، ولم نجد القول بذلك ممن عاصره أو تقدم عصره عليه، لا من أهل البيت، ولا من غيرهم، ثم ذكر أن صاحب (البحر) الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذهبهم، ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، لم ينسب القول بجواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء إلاّ إلى الإمام يحيى وحده، فقال ما نصه: مسألة الإمام يحيى، لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، والملوك لاستعمال المسلمين ولم ينكر)). انتهى.
    إلى أن قال الشوكاني رحمه الله: ((فإذا عرفت هذا تقرّر لك أن هذا الخلاف واقع بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء من الصحابة والتابعين ومن المتقدمين من أهل البيت، والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم، ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلفه ممن جاء بعده من المؤلفين، فإن مجرد حكاية القول لا يدل على أن الحاكي يختاره ويذهب إليه....)).
    إلى أن قال رحمه الله: ((فإذا أردت أن تعرف هل الحق ما قاله الإمام يحيى أو ما قاله غيره من أهل العلم؟ فالواجب عليك ردّ هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالرد إليه وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...، ثم ذكر بعض الآيات المقتضية ذلك وبين وجه دلالتها على المطلوب، ثم ذكر جملة من الأحاديث الكثيرة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تحريم اتخاذ القبور مساجد، والتي مر ذكر بعضها، وبين أن ذلك يفضي بفاعله إلى الشرك بالله.
    ثم قال: ((فلاشك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات، هو ما يزينه الشيطان للناس من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بُنيت عليه قبة، فدخلها ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنـزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد، مما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر مالا يقدر عليه إلاّ الله سبحانه، فيصير في عداد المشركين، وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أوّل زورة له، إذ لابد أن يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت، لا تكون إلاّ لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية، أو أخروية، فيستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر، وعاكفاً عليه، ومتمسحاً بأركانه، وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أموراً من أنفسهم وينسبونها إلى الميت، على وجه لا يفطن له من كان من المغفلين، وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس ويكررون ذكرها في مجالسهم، وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي، وينذرون على ذلك للميت بكرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً، وأجراً كبيراً، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة نافعة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر، فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل، وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك الأكاذيب، لينالوا جانباً من الحطام من أموال الطغام الأغتام، وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية، تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغاً عظيماً، حتى بلغت غلاَّت ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لبلغ ما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة كبيرة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا نذر في معصية الله))، وهي أيضاً من النذر الذي لا يبتغي به وجه الله، بل كلها من النذور التي يستحق بها فاعلها غضب الله وسخطه، لأنها تفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقاد الإلهية في الأموات، من تزلزل قدم الدين، إذ لا يسمح بأحب أمواله وألصقها بقلبه إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة وتعظيم وتقديس ذلك القبر وصاحبه، والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالماً، نعوذ بالله من الخذلان...)).
    إلى أن قال: ((وأما ما استدل به الإمام يحيى حيث قال: لاستعمال المسلمين ذلك ولم ينكروه فقول مردود، لأن علماء المسلمين ما زالوا في كل عصر يروون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن من فعل ذلك، ويقررون شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك في مدارسهم، ومجالس حفاظهم، يرويها الآخر عن الأوّل، والصغير عن الكبير، والمتعلم عن العالم، من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدثون في كتبهم المشهورة من الأمهات، والمسندات، والمصنفات، وأوردها المفسرون في تفاسيرهم، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية، وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير، فكيف يقال إن المسلمين لم ينكروا على من فعل ذلك، وهم يروون أدلة النهي عنه واللعن لفاعله خلفاً عن سلف في كل عصر، ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه، وقد حكى ابن القيم عن شيخه تقي الدين ـ رحمهما الله ـ وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفها، أنه قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: وصرّح أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة، لكن ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم إحساناً للظن بهم، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه)). انتهى.
    هذا تلخيص لما اشتملت عليه رسالة هذا الإمام من الإيضاح والتحقيق في هذه المسألة التي تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وأجمع العلماء على حكمها، ومع ذلك فقد تحقق للشيطان مراده في كثير من البلاد الإسلامية من مخالفة كثير من الناس ما تواتر وانعقد عليه الإجماع من تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد. وكأن الإجماع في نظرهم انعقد على جواز واستحباب ذلك فالله المستعان ونعوذ بالله من الخذلان.
    (5) قول (جندب رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس). يدل على ضبط جندب رضي الله عنه في روايته هذا الحديث، حيث علم مع الحديث الزمن الذي قيل فيه هذا الحديث، ويدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا القول، وبيَّن هذا الحكم في أواخر أيامه، ويدل على أن هذا الحكم محكم غير منسوخ، ويدل على مزيد عنايته صلى الله عليه وسلم في بيان هذا الحكم، حيث قال ذلك قبل أن يموت بخمس ليال، بل لقد حذّر من ذلك في اللحظات التي نزل به الموت فيها، وهذا من كمال نصحه لأمته صلى الله عليه وسلم ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله رحمة للعالمين صار يقول: ((يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) لأنها كلمة التوحيد التي تثبت العبادة لله وحده، وتنفيها عن كل ما سواه، ولما كان في اللحظات الأخيرة حذّر من الوسائل التي تفضي إلى الإخلال بما تضمنته هذه الكلمة، من إخلاص العبادة لله وحده، فإخلاص العبادة لله وحده به بدأ صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته، وبالتحذير من الإخلال بذلك ختم حياته الدنيوية صلوات الله وسلامه عليه.
    (6) قوله (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل). قال النووي: معنى أبرأ: أي أمتنع من هذا وأنكره، والخليل هو المنقطع إليه، وقيل: المختص بشيء دون غيره، قيل: هو مشتق من الخلة ـ بفتح الخاء ـ وهي الحاجة، وقيل: من الخلة ـ بضم الخاء ـ وهي تخلل المودة في القلب، فنفى صلى الله عليه وسلم أن تكون حاجته وانقطاعه إلى غير الله تعالى، وقيل: الخليل من لا يتسع القلب لغيره. انتهى.
    (7) قوله (فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا): فيه إثبات الخلة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، كما أنها ثابتة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: (واتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً(، والخلة هي نهاية المحبة، والفرق بينها وبين المحبة العموم والخصوص، فكل خلة محبة، وليست كل محبة خلة، فالخلة ثبتت لإبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والمحبة ثبتت لهما ولغيرهما، فهما عليهما الصلاة والسلام خليلا الله وحبيباه، وغيرهم من أنبياء الله والصالحين من عباده أحباؤه. والخلة أكمل من المحبة ولهذا لم تثبت خلة الله لأحد سواهما، بخلاف المحبة كما في قوله: (واللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )، (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ )، وفي ذلك رد على من يخص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والحق أن الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة، ومما يدل أيضاً على أن الخلة أكمل من المحبة، أنه صلى الله عليه وسلم نفى أن يكون له خليل غير ربه، مع أنه أخبر بأنه يحب عائشة وأباها وغيرهم من الصحابة رضي الله عنه .
    (8) قوله (ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا). فيه إثبات هذه المنقبة العظيمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو دليل واضح غاية الوضوح على أفضليته وتفوقه على جميع الصحابة الكرام رضي الله عنه في الفضل، وأنه لا يساويه أحد بل ولا يدانيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قبل أن يموت بخمس تنبيه على أنه الأولى من غيره في النيابة عنه بعد وفاته، لاسيما وقد قدمه لإمامة الناس في الصلاة في مرضه، ولم يرض بأن يقوم مقامه أحد في الصلاة بهم، وقد تم ذلك، فاتفق المسلمون على تولية أمرهم خيرهم وأفضلهم رضي الله عنه وعن سائر الصحابة أجمعين.
    (9) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
    (1) كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته وحرصه على سلامتها ونجاتها.
    (2) ضبط جندب رضي الله عنه وإتقانه في رواية الحديث حيث ضبط مع الحديث الزمن الذي قيل فيه هذا الحديث.
    (3) أن الأحكام التي اشتمل عليها هذا الحديث محكمة غير منسوخة لصدورها في أواخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم .
    (4) براءته صلى الله عليه وسلم مما لا يسوغ فعله.
    (5) ثبوت خلة الله لمحمد صلى الله عليه وسلم كما أنها ثابتة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
    (6) أن خلة الله خاصة بالخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
    (7) أن الخلة أكمل من المحبة.
    (8) بيان عظم منـزلته صلى الله عليه وسلم عند ربه.
    (9) أن خلته صلى الله عليه وسلم خاصة بالله تعالى.
    (10) أنه لا يصلح له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ من المخلوقين خليلاً.
    (11) أنه لو أمكن حصول خلته صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلق لكان أحق الناس بذلك أبو بكر رضي الله عنه .
    (12) بيان فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتفوقه على غيره في الفضل.
    (13) الإشارة إلى أنه أولى الصحابة بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
    (14) الرد على من يخص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد عليهما الصلاة والسلام، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة لهما ولغيرهما من أولياء الله.
    (15) الإخبار عما لا يكون أن لو كان كيف يكون، فإن حصول خلته صلى الله عليه وسلم لا يكون لأحد سوى الله ولو حصل ذلك لكان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه .
    (16) تحذيره صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد.
    (17) أن فتنة اتخاذ القبور مساجد أصيب بها من كان قبلنا وتحذيرنا من سلوك سبيلهم في ذلك.
    (18) إخباره صلى الله عليه وسلم عن أحوال الماضين وهو من الغيب الذي أطلعه الله عليه.
    (19) التحذير من الغلو في الصالحين لإفضائه إلى الشرك.
    (20) المبالغة في التحذير من اتخاذ القبور مساجد في الجمع بين صيغتي النهي في قوله: ((ألا فلا تتخذوا القبور مساجد)). وقوله: ((إني أنهاكم عن ذلك)).
    (21) إثبات صفة الخلة لله تعالى.
    (22) أن أحباء الله متفاوتون في محبته إياهم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (33)



    الحلقة (33) حديث (لا تسبوا أصحابي.....)



    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)).

    حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)).

    المبحث الأول، التخريج:

    هذا الحديث أورده مسلم ـ رحمه الله ـ من هذين الطريقين ثم قال: حدثنا أبو سعيد الأشج وأبو كريب قالا: حدثنا وكيع عن الأعمش (ح) وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي (ح) وحدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا ابن أبي عدي جميعاً عن شعبة عن الأعمش بإسناد جرير، وأبي معاوية بمثل حديثهما، وليس في حديث شعبة و وكيع ذكر عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد.

    وأخرجه البخاري في (كتاب فضائل الصحابة) من صحيحه فقال: حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن الأعمش قال: سمعت ذكوان يحدث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))، تابعه جرير، وعبد الله بن داود، وأبو معاوية، ومحاضر عن الأعمش.

    وأخرجه أبو داود في سننه في (كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم )، فقال: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)). وأخرجه الترمذي في (كتاب المناقب) من جامعه فقال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود قال أنبأنا شعبة عن الأعمش قال: سمعت ذكوان أبا صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه)). قال هذا حديث حسن صحيح، ومعنى قوله (نصيفه): يعني نصف المد. حدثنا الحسن بن عليّ الخلال ـ وكان حافظاً ـ حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

    وأخرجه ابن ماجه في أوائل سننه فقال: حدثنا محمد بن الصباح حدثنا جرير (ح) وحدثنا عليّ بن محمد حدثنا وكيع (ح) وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية جميعاً عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه)).

    وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)).

    وأخرجه عن أبي سعيد الخدري من طريق وكيع وشعبة عن الأعمش بمثل لفظه عند الترمذي، وأخرجه من حديث شعبة عن الأعمش بمثل لفظه عند البخاري.

    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

    الأول: شيخ مسلم يحيى بن يحيى التميمي، قال الحافظ في (التقريب): يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن التميمي أبو زكريا النيسابوري، ثقة ثبت إمام، من العاشرة، مات سنة ست وعشرين ـ أي بعد المائتين على الصحيح ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن مالك، وسليمان بن بلال، والحمادين، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه البخاري، ومسلم، وروى الترمذي عن مسلم عنه، وروى النسائي عن عبيد الله بن فضالة ومحمد بن يحيى الذهلي عنه، وأبو الأزهر أحمد بن الأزهر، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك: قال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ما أخرجت خراسان بعد ابن المبارك مثله. وقال إسحاق بن راهويه: ما رأيت مثله وما رأى مثل نفسه. قال: وهو أثبت من عبد الرحمن بن مهدي. قال: ومات يوم مات وهو إمام لأهل الدنيا. وقال بشر بن الحكم النيسابوري: حزرنا في جنازة يحيى بن يحيى مائة ألف إنسان.

    الثاني والثالث: شيخا مسلم أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء، وقد مر ذكرهما في رجال إسناد الحديث الأول.

    الرابع والخامس: أبو معاوية وشيخه الأعمش وقد مر ذكرهما في رجال إسناد الحديث الثالث.

    السادس: أبو صالح السمان تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

    السابع: أبو هريرة رضي الله عنه وقد تكرر ذكره.

    أما بقية رجال الإسناد الثاني فأولهم: شيخ مسلم عثمان بن أبي شيبة، قال الحافظ في (التقريب): عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي، ثقة، حافظ شهير، وله أوهام، وقيل: كان لا يحفظ القرآن، من العاشرة، مات سنة تسع وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ وله ثلاث وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي. وكذا رمز في (تهذيب التهذيب)، والخزرجي في (الخلاصة)، لكن ذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) أنه روى عنه الجماعة سوى الترمذي، وسوى النسائي فروى في (اليوم والليلة) عن زكريا بن يحيى السجزي عنه، وفي مسند عليّ عن أبي بكر المروزي عنه. وقال في (تهذيب التهذيب): العبسي مولاهم أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي، صاحب المسند والتفسير.

    ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: هشيم، وحميد بن عبد الرحمن الرواسي، وعبدة بن سليمان، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم سماهم. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، وقال: ذكره ابن حبان في (الثقات)، وختم ترجمته بقوله: وفي (الزهرة) روى عنه البخاري ثلاثة وخمسين حديثاً، ومسلم مائة وخمسة وثلاثين حديثاً. وقال الحافظ في مقدمة (فتح الباري): وثقه يحيى بن معين، وابن نمير، والعجلي، وجماعة.

    الثاني: جرير، وهو ابن عبد الحميد، تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

    الثالث: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال الحافظ في (التقريب): سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري، أبو سعيد الخدري، له ولأبيه صحبة، اُستصغر بأُحد ثم شهد ما بعدها، وروى الكثير، ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين، وقيل سنة أربع وسبعين، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

    وقال الخزرجي في (الخلاصة): بايع تحت الشجرة، وشهد ما بعد أُحد، وكان من علماء الصحابة، له ألف ومائة حديث وسبعون حديثاً، اتفقا على ثلاثة وأربعين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم باثنين وخمسين. وذكر الحافظ في مقدمة فتح الباري أن له في (صحيح البخاري) ستة وستين حديثاً. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أبيه، وأخيه لأمه قتادة بن النعمان، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وزيد بن ثابت، وأبي قتادة الأنصاري، وعبد الله بن سلام، وأسيد بن حضير، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، ومعاوية، وجابر بن عبد الله. وعنه ابنه عبد الرحمن، وزوجته زينب بنت كعب بن عجرة، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم سماهم.

    المبحث الثالث: لطائف الإسنادين وما فيهما من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث.

    (1) يحيى بن يحيى التميمي ذكره الدهلوي في (بستان المحدثين) من رواة الموطأ عن مالك، وصيغة الأداء التي يستعملها في الرواية عنه (قرأت على مالك) وهي كثيرة في صحيح مسلم، وهو غير يحيى بن يحيى الليثي صاحب الرواية المشهورة للموطأ، فإن يحيى الليثي لم يخرج له أصحاب الكتب الستة شيئاً، وقد شارك يحيى التميمي في الاسم واسم الأب، والرواية عن مالك، وذلك من أمثلة النوع المسمى في علم مصطلح الحديث (بالمتفق والمفترق).

    (2) عثمان بن أبي شيبة شيخ مسلم في الإسناد الثاني هو أخو أبي بكر بن أبي شيبة في الإسناد الأول، وعثمان أكبر من أبي بكر، وتوفى عثمان بعد أبي بكر بأربع سنوات، وأبو بكر أحفظ وأكثر رواية من عثمان، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر: أن من المهم في علم المصطلح معرفة الإخوة والأخوات، وقال: وقد صنف فيه القدماء كعلي بن المديني. انتهى. وهذا من أمثلة ذلك.

    (3) ستة من رجال الإسنادين كوفيون وهم: أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، ومحمد بن العلاء، وأبو معاوية، وجرير بن عبد الحميد، والأعمش، وثلاثة مدنيون وهم: الصحابيان والراوي عنهما أبو صالح السمان، أما العاشر وهو يحيى بن يحيى فهو نيسابوري.

    (4) أبو معاوية وشيخه الأعمش مدلسان، وقد صرح الأعمش بالسماع من أبي صالح في (صحيح البخاري) و(جامع الترمذي) كما في التخريج، وصرح أبو معاوية بالتحديث في روايته عن الأعمش كما في مسند الإمام أحمد، وتقدم في التخريج.

    (5) في رجال الإسنادين تابعيان وهما: الأعمش، وأبو صالح السمان، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

    (6) الصحابيان في الإسنادين من السبعة المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين زادت رواية كل منهم عن ألف حديث، وأبو هريرة رضي الله عنه أكثر السبعة حديثاً، وأبو سعيد رضي الله عنه أقل السبعة حديثاً.

    (7) خمسة من رجال الإسنادين ذكروا بالكنية، وقد اشتهروا بها وهم: أبو هريرة رضي الله عنه واسمه عبد الرحمن بن صخر، وأبو سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وأبو صالح واسمه ذكوان، وأبو معاوية واسمه محمد بن خازم، وأبو بكر بن أبي شيبة واسمه عبد الله بن محمد، وفي الإسناد الأول محمد بن العلاء وكنيته أبو كريب، وقد اشتهر بها أيضاً، وفيهما الأعمش هو لقب اشتهر به واسمه سليمان بن مهران.

    (8) سبعة من رجال الإسنادين خرّج حديثهم في الكتب الستة، ولم يخرّج الترمذي لأبي بكر بن أبي شيبة، وأخوه عثمان لم يخرّج له الترمذي والنسائي، ويحيى بن يحيى التميمي لم يخرّج له أبو داود وابن ماجه.

    (9) قال الحافظ ابن حجر في ترجمة يحيى بن يحيى في (تهذيب التهذيب): وروى الترمذي عن مسلم عنه، أي روى عنه الترمذي بواسطة مسلم ولم يرو الترمذي عن مسلم سوى حديث واحد، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في ترجمة الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ، فإن كان لم يرو عنه إلا بواسطة مسلم فقط فليس له في جامع الترمذي سوى حديث واحد وهو حديث: ((احصوا هلال شعبان لرمضان)).

    (10) حديث أبي هريرة رضي الله عنه مما انتقد على مسلم، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) في شرحه حديث أبي سعيد عند البخاري من رواية شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد ومتابعة جرير بن عبد الحميد وعبد الله بن داود وأبي معاوية ومحاضر لشعبة في الرواية عن الأعمش: وقد خرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، ويحيى بن يحيى ثلاثتهم عن أبي معاوية، لكن قال فيه: عن أبي هريرة بدل أبي سعيد، وهو وهم كما جزم به خلف، وأبو مسعود، وأبو عليّ الجياني وغيرهم، وحاصل ما ذكره الحافظ ابن حجر في الاستدلال على الوهم ثلاثة أمور:

    الأول: أن الرواة مطبقون على رواية هذا الحديث عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد لا عن أبي هريرة ومنهم شيوخ مسلم في هذا الحديث.

    الثاني: قال الحافظ في (الفتح): قال المزي: كأن مسلماً وهم في حال كتابته، فإنه بدأ بطريق أبي معاوية، ثم ثنى بحديث جرير فساقه بإسناده ومتنه، ثم ثلث بحديث وكيع، وربَّع بحديث شعبة ولم يسق إسنادهما بل قال: بإسناد جرير وأبي معاوية. فلولا أن إسناد جرير وأبي معاوية عنده واحد لما أحال عليهما معاً، فإن طريق وكيع وشعبة جميعاً تنتهي إلى أبي سعيد دون أبي هريرة اتفاقاً. انتهى كلامه يعني المزي.

    الثالث: قال الحافظ في (الفتح): وأخرج أبو نعيم أيضاً من رواية أحمد ويحيى بن عبد الحميد وأبي خيثمة وأحمد بن جواس كلهم عن أبي معاوية فقال: عن أبي سعيد، وقال بعده: أخرجه مسلم عن أبي بكر، وأبي كريب، ويحيى بن يحيى، فدل على أن الوهم وقع فيه ممن دون مسلم، إذ لو كان عنده عن أبي هريرة لبينه أبو نعيم، ويقوي ذلك أن الدار قطني مع جزمه في (العلل) بأن الصواب أنه من حديث أبي سعيد لم يتعرض في تتبعه أوهام الشيخين إلى رواية أبي معاوية هذه. انتهى.

    وقد أوضح الحافظ في (الفتح) طرق هذا الحديث، وأن الصواب فيها عن أبي سعيد لا عن أبي هريرة، وقال في ختام كلامه: وقد أمليت على هذا الموضع جزءاً مفرداً لخصت مقاصده هنا بعون الله تعالى. انتهى.

    المبحث الرابع: شرح الحديث:

    (1) هذا الحديث هو مسك الختام للأحاديث التي أوردها الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه في (كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنه ) فإنه أورد في هذا الكتاب الفضائل الخاصة بكل صحابي، ثم الفضائل العامة للصحابة، وختمها بهذا الحديث المشتمل على بيان منـزلتهم العظيمة عند الله، وما أعده من الثواب الجزيل لهم، والدال على أن العمل الكثير والكثير من غيرهم لا يساوي العمل القليل منهم رضي الله عنه وأرضاهم، وأن الواجب على كل مسلم ناصح لنفسه أن لا يذكرهم إلا بخير، وأن يصون لسانه عن ذكرهم بسوء، وجعلُ الإمام مسلم هذا الحديث خاتمة الأحاديث الدالة على فضلهم رضي الله عنه من حسن ترتيبه وبديع تنظيمه في صحيحه، فكأن لسان حاله يقول بعد أن ذكر فضائلهم الخاصة وفضائلهم العامة رضي الله عنه : من ذا الذي تحدثه نفسه بالنطق بكلمة واحدة فيها غمز لهؤلاء الصفوة المختارة من البشر لصحبة خير البشر صلى الله عليه وسلم ، الذين يفوق قليلهم كثير غيرهم، والذين متعهم الله في هذه الحياة الدنيا برؤيته صلى الله عليه وسلم ، وسماع كلامه، ونصرته وتأييده، وحمل سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأجيال اللاحقة، والذين حصل لهم شرف صحبته ونسبتهم إليه ـ وأكرم بها من نسبة ـ في قوله (أصحابي)، أفمثل هؤلاء يسبون أو مثل هؤلاء يفكر في القدح فيهم، إلا مخذول مرذول قد استحوذ عليه الشيطان، نعوذ بالله من الخذلان.

    (2) هذا الحديث أورده مسلم في صحيحه من طريق أبي معاوية، وعقبها بطريق جرير بن عبد الحميد، وقد اشتملت طريق جرير على بيان سبب الحديث وهو ما جرى بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، فإذا كان سيف الله خالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية لا يساوي العمل الكثير منهم القليل من عبد الرحمن بن عوف وغيره ممن تقدم إسلامه، مع أن الكل تشرف بصحبته صلى الله عليه وسلم ، فكيف بمن لم يحصل له شرف الصحبة بالنسبة إلى أولئك الأخيار، إن البون لشاسع وإن الشقة لبعيدة، فما أبعد الثرى عن الثريا، بل وما أبعد الأرض السابعة عن السماء السابعة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    (3) هذا الحديث في فضل الصحابة رضي الله عنه ، وهو قطرة من بحور الكتاب والسنة الزاخرة بفضائلهم رضي الله عنه وأرضاهم، فإن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مملوءان من ذكرهم بالخير والثناء عليهم بالجميل، فقد قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُخَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )وقال تعالى: ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ).

    وقال الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(.

    وقال تعالى في بيان مصارف الفيء:( ِللْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{9 } وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).

    هذه ثلاث آيات من سورة الحشر، الأولى منها في المهاجرين، والثانية في الأنصار، والثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار مستغفرين لهم، سائلين الله أن لا يجعل في قلوبهم غِلاًّ لهم، وليس وراء هذه الأصناف الثلاثة إلاَّ الخذلان والوقوع في حبائل الشيطان، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير بشأن بعض هؤلاء المخذولين: ((يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم))، أخرجه مسلم في أواخر صحيحه، وقال النووي في شرحه بعد ذكر آية الحشر، وبهذا احتج مالك في أنه لاحق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله عنه ، لأن الله تعالى إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر لهم.

    وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية: وما أحسن ما استنبط الإمام مالك ـ رحمه الله ـ من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: )رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(.

    وقال صلى الله عليه وسلم : ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)). أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمران بن حصين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))، والله أعلم ذكر الثالث أم لا. وأخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: ((القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث)). وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناسفيقال: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم)). وروى ابن بطة بإسناد صحيح كما في (منهاج السنة) لابن تيمية عن ابن عباس أنه قال: ((لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فلمقام أحدهم ساعة ـ يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم ـ خير من عمل أحدكم أربعين سنة))، وفي رواية وكيع: ((خير من عمل أحدكم عمره)).

    ولما ذكر سعيد بن زيد رضي الله عنه العشرة المبشرين بالجنة قال: ((والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه، خير من عمل أحدكم ولو عمِّر عمر نوح))، أخرجه أبو داود والترمذي.

    وعن جابر رضي الله عنه قال: قيل لعائشة: إن ناساً يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر. فقالت: ((وما تعجبون من هذا، انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر)). أخرجه رزين كما في (جامع الأصول) ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).

    (4) الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، والصحابة عدول بتعديل الله تعالى لهم، وثنائه عليهم، وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم . قال النووي في (التقريب) الذي شرحه السيوطي في (تدريب الراوي): ((الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتن وغيرهم، بإجماع من يعتد به)). انتهى.

    وقال الحافظ ابن حجر في (الإصابة): ((اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة)). انتهى. ولهذا لا تضر جهالة الصحابي فإذا قال التابعي: عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم . لم يؤثر ذلك في المروي لأن الجهالة في الصحابة لا تضر لأنهم كلهم عدول. قال الخطيب البغدادي في كتاب (الكفاية): ((كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يلزم العمل به إلاّ بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم، سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن))، ثم ساق بعض الآيات والأحاديث في فضلهم رضي الله عنه ، ثم قال: ((على أنه لو لم يرد من الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليه من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنـزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين)). وروى بإسناده عن أبي زرعة قال: ((إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة)).

    (5) مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط بين المفرطين الغالين، الذين يرفعون من يعظمون منهم إلى مالا يليق إلا بالله، وبين المفرِّطين الجافين، الذين ينتقصونهم ويسبونهم، فهم وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، يحبونهم جميعاً، وينـزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف، فلا يرفعونهم إلى مالا يستحقون، ولا يقصرون بهم عما يليق بهم، فألسنتهم رطبة بذكرهم بالجميل اللائق بهم، وقلوبهم عامرة بحبهم، وما صح فيما جرى بينهم من خلاف فهم فيه مجتهدون، إما مصيبون ولهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، وليسوا معصومين بل هم بشر يصيبون ويخطئون، ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم، ولهم من الله المغفرة والرضوان، وكتب أهل السنة مملوءة من بيان هذه العقيدة الصافية النقية في حق أولئك الأخيار الذين ما كانوا ولا يكونون رضي الله عنه وأرضاهم، ومن ذلك قول الطحاوي في (عقيدة أهل السنة): ((ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان)).

    وقال ابن أبي زيد القيرواني المالكي في مقدمة رسالته المشهورة: ((وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ رضي الله عنه أجمعين، وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلاّ بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب)).

    وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب (السنة): ((ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن الذي جرى بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحداً منهم، فهو مبتدع رافضي، حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة)). وقال: ((لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه، ثم يستتيبه فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يتوب ويراجع)).

    وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني في كتاب (عقيدة السلف وأصحاب الحديث): ((ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم أو نقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم)).

    هذه أربعة نماذج من أقوال السلف الصالح فيما يجب اعتقاده في حق خيار الخلق بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم ورضي الله عن الصحابة أجمعين. ومما ينبغي التفطن له أن القدح في هؤلاء الصفوة المختارة رضي الله عنه قدح في الدين، لأنه لم يصل إلى من بعدهم إلا بواسطتهم، وأن القدح فيهم لا يضرهم شيئاً بل يفيدهم كما في حديث المفلس ولا يضير القادح إلا نفسه، فمن وجد في قلبه محبة لهم وسلامة من الغلّ لهم، وصان لسانه من التعرض لهم بسوء، فليحمد الله على هذه النعمة، وليسأل الله الثبات على هذا الهدى، ومن كان في قلبه غلّ لهم، وأطلق لسانه بذكرهم بما لا يليق بهم، فليتق الله في نفسه، ويقلع عن هذه الجرائم، وليتب إلى الله، مازال باب التوبة مفتوحاً قبل أن يندم حيث لا ينفع الندم.

    (6) قوله (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). المعنى: لو تصدق أحدكم بصدقة تشبه جبل أحد في كثرتها وضخامتها، فإن هذه الصدقة لا يساوي ثوابها ثواب مدّ أو نصف مدّ يتصدق به صحابي، والمد مكيال يقدر بربع الصاع، ومعنى نصيفه أي: نصف المدّ. قال الحافظ في (الفتح): النصيف بوزن رغيف هو النصف، كما يقال عشر وعشير وثمن وثمين، وقيل النصيف مكيال دون المدّ.

    وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة وضيق الحال بخلاف غيرهم، لأن إنفاقهم كان في نصرته وحمايته صلى الله عليه وسلم ، وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم وسائر طاعتهم، وقد قال الله تعالى: ( لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً) الآية، هذا كله مع ما كان في أنفسهم من الشفقة، والتودد، والخشوع، والتواضع، والإيثار، والجهاد في الله حق جهاده، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تنال درجتها بشيء.

    (7) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

    (1) بيان فضل الصحابة وعظم منـزلتهم رضي الله عنه .

    (2) تحريم سب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك.

    (3) أن النهي عن سب الصحابة عام في جميعهم لقوله: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي)).

    (4) جواز الحلف من غير استحلاف.

    (5) تعظيم الله والثناء عليه في القسم.

    (6) في الحديث دلالة على أن قوله صلى الله عليه وسلم : ((من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت))، ليس المقصود منه قصر الحلف على أن يكون بلفظ الجلالة.

    (7) أن العمل الكثير من غير الصحابة لا يساوي العمل القليل منهم.

    (8) بيان ما أعدّه الله للصحابة من جزيل الثواب.

    (9) التنبيه إلى أن التشبيه والتمثيل يكون في ما هو جلي واضح.


    (10) التنبيه إلى أن اللائق في حق الصحابة الثناء عليهم وذكرهم بالجميل.

    (11) أن الصحابة أفضل ممن بعدهم، وأن كل فرد منهم أفضل من أي فرد سواهم.

    (12) أن ثواب المطيعين بفضل الله يتفضل على من شاء بما شاء.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (34)




    حديث (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)

    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها من صحيحه:حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وحدثني زهير بن حرب حدثنا شبابة حدثني ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
    المبحث الأول: التخريج:
    انفرد مسلم عن البخاري بإخراج هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه ، ووافقه في إخراجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، فأخرجه في (كتاب الرقاق) من صحيحه (باب حجبت النار بالشهوات) فقال: حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره))، وأخرجه الترمذي في جامعه عن أنس رضي الله عنه ، فقال في (كتاب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات): حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا حماد بن سلمة عن حميد وثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه.
    ورواه الدارمي في سننه عن أنس رضي الله عنه ، فقال في (كتاب الرقاق، باب حفت الجنة بالمكاره): أخبرنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، وأخرج حديث أنس الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا حسن حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وقال: حدثنا غسان بن الربيع حدثنا حماد عن ثابت وحميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، وقال: حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وأخرج الترمذي عقب حديث أنس المذكور حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فجاءها فنظر إليها وإلى ما أعدّ الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: فوعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. فإذا هي يركب بعضها بعضاً فرجع إليه فقال: فوعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات فقال: ارجع إليها. فرجع إليها فقال: فوعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)). هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
    وأخرج هذا الحديث أبو داود في (كتاب السنة) من سننه، وأخرجه النسائي في أوائل (كتاب الأيمان والنذور) من سننه، وأخرجه الإمام أحمد في مواضع عن أبي هريرة رضي الله عنه في (المسند)، وذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) أن هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم.
    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسنادين
    الأول: شيخ مسلم في الإسناد الأول: عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي أبو عبد الرحمن البصري، أصله من المدينة وسكنها مدة، ثقة عابد، كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحداً، من صغار التاسعة، مات في أول سنة إحدى وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ بمكة، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث السابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    الثاني: حماد بن سلمة، قال في (التقريب): حماد بن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأخره، من كبار الثامنة، مات سنة سبع وستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى البخاري، وروى له تعليقاً.
    وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال): حماد بن سلمة بن دينار، الإمام، العلم، أبو سلمة البصري، عن ابن عمران الجوني، وثابت، وابن أبي مليكة، وعبد الله بن كثير الداري، وخلق. وعنه مالك، وشعبة، وسفيان، وابن مهدي، وعارم، وعفان، وأمم، وكان ثقة له أوهام. قال أحمد: هو أعلم الناس بحديث خاله حميد الطويل وأثبتهم فيه. وقال ابن معين: هو أعلم الناس بثابت. وقال آخر: إذا رأيت الرجل يقع في حماد فاتهمه على الإسلام.
    وذكر الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قال ابن المبارك: دخلت البصرة فما رأيت فيها أحداً أشبه بمسالك الأول من حماد بن سلمة. وقال ابن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والساجي، وابن سعد، والعجلي، والنسائي. وقال الذهبي في (الميزان): قال يونس المؤدب: مات حماد في المسجد وهو يصلي.
    الثالث: حميد وهو الطويل، قال الحافظ في (التقريب): حميد بن أبي حميد الطويل أبو عبيدة البصري، اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقة مدلس، وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الأمراء، من الخامسة، مات سنة اثنتين ويقال ثلاث وأربعين ـ أي بعد المائة ـ وهو قائم يصلي، وله خمس وسبعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أنس بن مالك، وثابت البناني، وموسى بن أنس، وغيرهم سماهم، ثم قال: وعنه ابن أخته حماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو من أقرانه، وحماد بن زيد، والسفيانان، وشعبة، ومالك، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، والعجلي، وأبي حاتم، وابن خراش، والنسائي، وابن سعد.
    وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): وكان قائماً يصلي فمات فجأة ـ رحمه الله ـ في آخر سنة اثنتين وأربعين ومائة. وقال: قال الأصمعي: رأيته ولم يكن بطويل ولكن طويل اليدين، وقيل: بل كان في جيرانه رجل قصير اسمه حميد فقالوا: حميد الطويل ليتميز من القصير.
    الرابع: ثابت وهو البناني، قال في (التقريب): ثابت بن أسلم البناني ـ بضم الموحدة ونونين مخففتين ـ أبو محمد البصري، ثقة عابد من الرابعة، مات سنة بضع وعشرين ـ أي بعد المائة ـ وله ست وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه أنس بن مالك رضي الله عنه في رجال إسناد الحديث السادس من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    الخامس: أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال في (التقريب): أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خدمه عشر سنين صحابي مشهور، مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
    أما رجال الإسناد الثاني فأولهم: زهير بن حرب شيخ مسلم تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.
    الثاني: شبابة، قال الحافظ في (التقريب): شبابة بن سوار المدائني أصله من خراسان، يقال كان اسمه مروان مولى بني فزارة، ثقة حافظ رمي بالإرجاء، من التاسعة، مات سنة أربع أو خمس أو ست ومائتين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: شبابة بن سوار أبو عمرو المدائني وثقه ابن معين، وابن المديني، وابن سعد، وأبو زرعة، وعثمان بن أبي شيبة، وغيرهم. ثم ذكر أقوالاً لبعض الأئمة يعيبونه بالإرجاء، ونقل عن أبي زرعة أنه رجع عنه.
    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع شعبة وورقاء عندهما، وإسرائيل عند البخاري، ثم ذكر جماعة روى عنهم عند مسلم، ثم ذكر جماعة رووا عنه عند البخاري، وجماعة رووا عنه عند مسلم منهم: أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير وإسحاق، وغيرهم.
    الثالث: ورقاء، قال الحافظ في (التقريب): ورقاء بن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور لين، من السابعة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أبو إسحاق السبيعي، وزيد بن أسلم، وأبو الزناد. وجماعة رووا عنه منهم: ابن المبارك، ومعاذ بن معاذ، وشبابة بن سوار. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، ووكيع. وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): توفي ورقاء سنة نيف وستين ومائة.
    الرابع: أبو الزناد، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن ذكوان القرشي أبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد، ثقة فقيه، من الخامسة، مات سنة ثلاثين ـ أي بعد المائة وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أنس، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن الأعرج وهو راويته، وغيرهم. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: الأعمش، ومالك، وورقاء بن عمر، والسفيانان. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قال حرب عن أحمد: كان سفيان يسميه أمير المؤمنين. وقال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة، أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والعجلي، وأبي حاتم، وابن سعد، والنسائي، والساجي، وأبو جعفر الطبري.
    الخامس: أبو هريرة رضي الله عنه وقد تكرر ذكره.
    المبحث الثالث: لطائف الإسنادين وما فيهما من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
    (1) رجال الإسناد الأول بصريون فهو مسلسل بالرواة البصريين.
    (2) الإسناد الأول رباعي، والإسناد الرباعي أعلى أسانيد صحيح مسلم، ورجال الإسناد خمسة إلا أن اثنين منهم وهما: ثابت وحميد في درجة واحدة من حيث الرواية عن أنس.
    (3) حماد بن سلمة يروي عن خاله حميد الطويل وكل منهما مات فجأة وهو يصلي.
    (4) حميد هو الطويل وهو لقَب لقِّب به، وقيل: إنه لم يكن طويلاً وإنما هو طويل اليدين، وقيل: إن له جاراً قصيراً اسمه حميد فقيل له حميد الطويل ليتميز عنه.
    (5) حماد بن سلمة يروي هذا الحديث عن ثابت وحميد وهو أعلم الناس بحديثهما كما ذكره الذهبي في الميزان.
    (6) حميد وصف بالتدليس وقد روى هذا الحديث عن أنس بالعنعنة إلاّ أنه قرن في الإسناد بثابت البناني.
    (7) حماد بن سلمة هو أحد الحمادين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما روى عنه الحمادان وفي ترجمة من دونهما روى عن الحمادين، وهما بصريان والثاني حماد بن زيد. قال الخزرجي في (الخلاصة) عقيب ترجمتهما: فصل، إذا روى عفان عن حماد غير منسوب فهو ابن سلمة، وكذا حجاج بن منهال وهدبة وسليمان بن حرب، وعارم إذا روى عنه ينسبه، وانفرد عن ابن سلمة بهز بن أسد وموسى بن إسماعيل. قاله الحافظ أبو الحجاج.
    (8) في الإسناد الأول تابعيان رويا عن أنس رضي الله عنه وهما: حميد الطويل وثابت البناني، وحميد يروي عن ثابت أيضاً.
    (9) في الإسناد الثاني راويان اشتهرا باللقب وهما: الأعرج واسمه عبد الرحمن بن هرمز، وأبو الزناد واسمه عبد الله بن ذكوان، وكنيته أبو عبد الرحمن، لقبه أبو الزناد هو لقب على صيغة الكنية.
    (10) أبو الزناد وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وصفه بذلك سفيان الثوري.
    (11) الإسناد الثاني اشتمل على السلسلة التي وصفت بأنها أصح أسانيد أبي هريرة، قال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.
    (12) أبو الزناد تابعي والأعرج تابعي فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
    (13) ثمانية من رجال الإسنادين اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهم: الصحابيان، والتابعيون الأربعة، وشبابة، وورقاء، أما الباقون فلم يرو البخاري لحماد بن سلمة احتجاجاً بل تعليقاً، ولم يرو ابن ماجه لعبد الله بن مسلمة القعنبي، ولم يرو الترمذي لزهير بن حرب.
    (14) ساق مسلم الإسناد إلى أنس رضي الله عنه وذكر متن الحديث، ثم ساق الإسناد الثاني إلى أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال بمثله، والمعنى: أن لفظ المتن عند أبي هريرة مثل لفظه عند أنس، وهذا بخلاف التعبير بنحوه، لأنها تطلق على الاتفاق في المعنى دون اللفظ، ونقل أبو عمرو بن الصلاح في (علوم الحديث) عن الحاكم أنه قال: إن مما يلزم الحديثي من الضبط والإتقان أن يفرق بين أن يقول (مثله) أو يقول (نحوه)، فلا يحل له أن يقول (مثله) إلاّ بعد أن يعلم أنهما على لفظ واحد، ويحل له أن يقول (نحوه) إذا كان على مثل معانيه، والله أعلم. انتهى.
    المبحث الرابع: شرح الحديث:
    (1) قوله (حفت): من الحفاف، وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلاّ بتخطيه، والمكاره التي حفت بها الجنة، ما أمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلاً وتركاً، وأطلق عليهما المكاره لمشقتها على العامل وصعوبتها عليه، والشهوات التي حفت بها النار ما يستلذ من أمور الدنيا مما منع الشرع من تعاطيه.
    قال النووي في شرح صحيح مسلم: ((قال العلماء: هذا من بديع الكلام، وفصيحه، وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، ومعناه: لا يوصل إلى الجنة إلاّ بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر على الشهوات، ونحو ذلك.
    وأما الشهوات التي النار محفوفة بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية، والغيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك. وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه، لكن يكره الإكثار منها مخافة أن يجر إلى المحرمة، أو أن يقسي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للصرف فيها، ونحو ذلك. انتهى.
    وقال الحافظ في (الفتح) في شرح حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه الذي اتفق مع مسلم في إخراجه قال: وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشقت عليها، وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر عن أبي هريرة، ثم ساق حديث إرسال جبريل إلى الجنة المتقدم، ثم قال: فهذا يفسر رواية الأعرج يعني الحديث الذي أخرجه البخاري.
    (2) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
    (1) أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن.
    (2) الحديث مثال لجوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم .
    (3) أن الجنة محفوفة بما يشق على النفوس من التكاليف، فلابد لسالك طريقها من الصبر على المكاره.
    (4) أن الشهوات قد حفت بها النار، فعلى المسلم أن يصبر عنها ويحذر من الوقوع فيها.
    (5) الحث على الطاعة وإن كرهتها النفوس.
    (6) ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس.
    (7) أن الصبر على المكاره عاقبته حسنة.
    (8) أن تعاطي الشهوات عاقبته وخيمة.

    (9) الإيمان بالغيب.
    (10) التنبيه إلى الحكمة في حف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ليتميز المؤمنون بالغيب وغيرهم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (35)



    حديث (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)





    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها من صحيحه:حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وحدثني زهير بن حرب حدثنا شبابة حدثني ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.

    المبحث الأول: التخريج:

    انفرد مسلم عن البخاري بإخراج هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه ، ووافقه في إخراجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، فأخرجه في (كتاب الرقاق) من صحيحه (باب حجبت النار بالشهوات) فقال: حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره))، وأخرجه الترمذي في جامعه عن أنس رضي الله عنه ، فقال في (كتاب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات): حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا حماد بن سلمة عن حميد وثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه.

    ورواه الدارمي في سننه عن أنس رضي الله عنه ، فقال في (كتاب الرقاق، باب حفت الجنة بالمكاره): أخبرنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، وأخرج حديث أنس الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا حسن حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وقال: حدثنا غسان بن الربيع حدثنا حماد عن ثابت وحميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، وقال: حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وأخرج الترمذي عقب حديث أنس المذكور حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فجاءها فنظر إليها وإلى ما أعدّ الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: فوعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. فإذا هي يركب بعضها بعضاً فرجع إليه فقال: فوعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات فقال: ارجع إليها. فرجع إليها فقال: فوعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)). هذا حديث حسن صحيح. انتهى.

    وأخرج هذا الحديث أبو داود في (كتاب السنة) من سننه، وأخرجه النسائي في أوائل (كتاب الأيمان والنذور) من سننه، وأخرجه الإمام أحمد في مواضع عن أبي هريرة رضي الله عنه في (المسند)، وذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) أن هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم.

    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسنادين

    الأول: شيخ مسلم في الإسناد الأول: عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي أبو عبد الرحمن البصري، أصله من المدينة وسكنها مدة، ثقة عابد، كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحداً، من صغار التاسعة، مات في أول سنة إحدى وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ بمكة، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث السابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    الثاني: حماد بن سلمة، قال في (التقريب): حماد بن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأخره، من كبار الثامنة، مات سنة سبع وستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى البخاري، وروى له تعليقاً.

    وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال): حماد بن سلمة بن دينار، الإمام، العلم، أبو سلمة البصري، عن ابن عمران الجوني، وثابت، وابن أبي مليكة، وعبد الله بن كثير الداري، وخلق. وعنه مالك، وشعبة، وسفيان، وابن مهدي، وعارم، وعفان، وأمم، وكان ثقة له أوهام. قال أحمد: هو أعلم الناس بحديث خاله حميد الطويل وأثبتهم فيه. وقال ابن معين: هو أعلم الناس بثابت. وقال آخر: إذا رأيت الرجل يقع في حماد فاتهمه على الإسلام.

    وذكر الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قال ابن المبارك: دخلت البصرة فما رأيت فيها أحداً أشبه بمسالك الأول من حماد بن سلمة. وقال ابن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والساجي، وابن سعد، والعجلي، والنسائي. وقال الذهبي في (الميزان): قال يونس المؤدب: مات حماد في المسجد وهو يصلي.

    الثالث: حميد وهو الطويل، قال الحافظ في (التقريب): حميد بن أبي حميد الطويل أبو عبيدة البصري، اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقة مدلس، وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الأمراء، من الخامسة، مات سنة اثنتين ويقال ثلاث وأربعين ـ أي بعد المائة ـ وهو قائم يصلي، وله خمس وسبعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أنس بن مالك، وثابت البناني، وموسى بن أنس، وغيرهم سماهم، ثم قال: وعنه ابن أخته حماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو من أقرانه، وحماد بن زيد، والسفيانان، وشعبة، ومالك، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، والعجلي، وأبي حاتم، وابن خراش، والنسائي، وابن سعد.

    وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): وكان قائماً يصلي فمات فجأة ـ رحمه الله ـ في آخر سنة اثنتين وأربعين ومائة. وقال: قال الأصمعي: رأيته ولم يكن بطويل ولكن طويل اليدين، وقيل: بل كان في جيرانه رجل قصير اسمه حميد فقالوا: حميد الطويل ليتميز من القصير.

    الرابع: ثابت وهو البناني، قال في (التقريب): ثابت بن أسلم البناني ـ بضم الموحدة ونونين مخففتين ـ أبو محمد البصري، ثقة عابد من الرابعة، مات سنة بضع وعشرين ـ أي بعد المائة ـ وله ست وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه أنس بن مالك رضي الله عنه في رجال إسناد الحديث السادس من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

    الخامس: أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال في (التقريب): أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خدمه عشر سنين صحابي مشهور، مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

    أما رجال الإسناد الثاني فأولهم: زهير بن حرب شيخ مسلم تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

    الثاني: شبابة، قال الحافظ في (التقريب): شبابة بن سوار المدائني أصله من خراسان، يقال كان اسمه مروان مولى بني فزارة، ثقة حافظ رمي بالإرجاء، من التاسعة، مات سنة أربع أو خمس أو ست ومائتين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: شبابة بن سوار أبو عمرو المدائني وثقه ابن معين، وابن المديني، وابن سعد، وأبو زرعة، وعثمان بن أبي شيبة، وغيرهم. ثم ذكر أقوالاً لبعض الأئمة يعيبونه بالإرجاء، ونقل عن أبي زرعة أنه رجع عنه.

    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع شعبة وورقاء عندهما، وإسرائيل عند البخاري، ثم ذكر جماعة روى عنهم عند مسلم، ثم ذكر جماعة رووا عنه عند البخاري، وجماعة رووا عنه عند مسلم منهم: أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير وإسحاق، وغيرهم.

    الثالث: ورقاء، قال الحافظ في (التقريب): ورقاء بن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور لين، من السابعة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أبو إسحاق السبيعي، وزيد بن أسلم، وأبو الزناد. وجماعة رووا عنه منهم: ابن المبارك، ومعاذ بن معاذ، وشبابة بن سوار. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، ووكيع. وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): توفي ورقاء سنة نيف وستين ومائة.

    الرابع: أبو الزناد، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن ذكوان القرشي أبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد، ثقة فقيه، من الخامسة، مات سنة ثلاثين ـ أي بعد المائة وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أنس، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن الأعرج وهو راويته، وغيرهم. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: الأعمش، ومالك، وورقاء بن عمر، والسفيانان. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قال حرب عن أحمد: كان سفيان يسميه أمير المؤمنين. وقال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة، أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والعجلي، وأبي حاتم، وابن سعد، والنسائي، والساجي، وأبو جعفر الطبري.

    الخامس: أبو هريرة رضي الله عنه وقد تكرر ذكره.

    المبحث الثالث: لطائف الإسنادين وما فيهما من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

    (1) رجال الإسناد الأول بصريون فهو مسلسل بالرواة البصريين.

    (2) الإسناد الأول رباعي، والإسناد الرباعي أعلى أسانيد صحيح مسلم، ورجال الإسناد خمسة إلا أن اثنين منهم وهما: ثابت وحميد في درجة واحدة من حيث الرواية عن أنس.

    (3) حماد بن سلمة يروي عن خاله حميد الطويل وكل منهما مات فجأة وهو يصلي.

    (4) حميد هو الطويل وهو لقَب لقِّب به، وقيل: إنه لم يكن طويلاً وإنما هو طويل اليدين، وقيل: إن له جاراً قصيراً اسمه حميد فقيل له حميد الطويل ليتميز عنه.

    (5) حماد بن سلمة يروي هذا الحديث عن ثابت وحميد وهو أعلم الناس بحديثهما كما ذكره الذهبي في الميزان.

    (6) حميد وصف بالتدليس وقد روى هذا الحديث عن أنس بالعنعنة إلاّ أنه قرن في الإسناد بثابت البناني.

    (7) حماد بن سلمة هو أحد الحمادين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما روى عنه الحمادان وفي ترجمة من دونهما روى عن الحمادين، وهما بصريان والثاني حماد بن زيد. قال الخزرجي في (الخلاصة) عقيب ترجمتهما: فصل، إذا روى عفان عن حماد غير منسوب فهو ابن سلمة، وكذا حجاج بن منهال وهدبة وسليمان بن حرب، وعارم إذا روى عنه ينسبه، وانفرد عن ابن سلمة بهز بن أسد وموسى بن إسماعيل. قاله الحافظ أبو الحجاج.

    (8) في الإسناد الأول تابعيان رويا عن أنس رضي الله عنه وهما: حميد الطويل وثابت البناني، وحميد يروي عن ثابت أيضاً.

    (9) في الإسناد الثاني راويان اشتهرا باللقب وهما: الأعرج واسمه عبد الرحمن بن هرمز، وأبو الزناد واسمه عبد الله بن ذكوان، وكنيته أبو عبد الرحمن، لقبه أبو الزناد هو لقب على صيغة الكنية.


    (10) أبو الزناد وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وصفه بذلك سفيان الثوري.

    (11) الإسناد الثاني اشتمل على السلسلة التي وصفت بأنها أصح أسانيد أبي هريرة، قال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.

    (12) أبو الزناد تابعي والأعرج تابعي فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

    (13) ثمانية من رجال الإسنادين اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهم: الصحابيان، والتابعيون الأربعة، وشبابة، وورقاء، أما الباقون فلم يرو البخاري لحماد بن سلمة احتجاجاً بل تعليقاً، ولم يرو ابن ماجه لعبد الله بن مسلمة القعنبي، ولم يرو الترمذي لزهير بن حرب.

    (14) ساق مسلم الإسناد إلى أنس رضي الله عنه وذكر متن الحديث، ثم ساق الإسناد الثاني إلى أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال بمثله، والمعنى: أن لفظ المتن عند أبي هريرة مثل لفظه عند أنس، وهذا بخلاف التعبير بنحوه، لأنها تطلق على الاتفاق في المعنى دون اللفظ، ونقل أبو عمرو بن الصلاح في (علوم الحديث) عن الحاكم أنه قال: إن مما يلزم الحديثي من الضبط والإتقان أن يفرق بين أن يقول (مثله) أو يقول (نحوه)، فلا يحل له أن يقول (مثله) إلاّ بعد أن يعلم أنهما على لفظ واحد، ويحل له أن يقول (نحوه) إذا كان على مثل معانيه، والله أعلم. انتهى.

    المبحث الرابع: شرح الحديث:

    (1) قوله (حفت): من الحفاف، وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلاّ بتخطيه، والمكاره التي حفت بها الجنة، ما أمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلاً وتركاً، وأطلق عليهما المكاره لمشقتها على العامل وصعوبتها عليه، والشهوات التي حفت بها النار ما يستلذ من أمور الدنيا مما منع الشرع من تعاطيه.

    قال النووي في شرح صحيح مسلم: ((قال العلماء: هذا من بديع الكلام، وفصيحه، وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، ومعناه: لا يوصل إلى الجنة إلاّ بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر على الشهوات، ونحو ذلك.

    وأما الشهوات التي النار محفوفة بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية، والغيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك. وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه، لكن يكره الإكثار منها مخافة أن يجر إلى المحرمة، أو أن يقسي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للصرف فيها، ونحو ذلك. انتهى.

    وقال الحافظ في (الفتح) في شرح حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه الذي اتفق مع مسلم في إخراجه قال: وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشقت عليها، وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر عن أبي هريرة، ثم ساق حديث إرسال جبريل إلى الجنة المتقدم، ثم قال: فهذا يفسر رواية الأعرج يعني الحديث الذي أخرجه البخاري.

    (2) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

    (1) أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن.

    (2) الحديث مثال لجوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم .

    (3) أن الجنة محفوفة بما يشق على النفوس من التكاليف، فلابد لسالك طريقها من الصبر على المكاره.

    (4) أن الشهوات قد حفت بها النار، فعلى المسلم أن يصبر عنها ويحذر من الوقوع فيها.

    (5) الحث على الطاعة وإن كرهتها النفوس.

    (6) ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس.

    (7) أن الصبر على المكاره عاقبته حسنة.

    (8) أن تعاطي الشهوات عاقبته وخيمة.

    (9) الإيمان بالغيب.
    (10) التنبيه إلى الحكمة في حف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ليتميز المؤمنون بالغيب وغيرهم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (36)


    حديث إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء


    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب البر والصلة والآداب من صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن بريد بن عبد الله عن جده عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم (ح) وحدثنا محمد بن العلاء الهمداني ـ واللفظ له ـ حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة)).
    المبحث الأول: التخريج:
    هذا الحديث رواه مسلم من هذين الطريقين، وقد رواه البخاري في موضعين من صحيحه، أولهما في (كتاب البيوع، باب في العطار وبيع المسك)، فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا أبو بردة بن عبد الله قال: سمعت أبا بردة بن أبي موسى عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة)). والثاني في (كتاب الذبائح والصيد، باب المسك)، فقال: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)).
    وأخرجه أبو داود في (كتاب الأدب) من سننه عن أنس رضي الله عنه فقال: (باب من يؤمر أن يجالس): حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكر: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن، والفاجر الذي يقرأ القرآن والفاجر الذي لا يقرأ القرآن، ثم قال: ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه)). وهو عنده أيضاً من طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه .
    وأخرج حديث أبي موسى الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا سفيان عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى رواية قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ومثل الجليس الصالح مثل العطار إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه، ومثل الجليس السوء مثل الكير إن لم يحرقك نالك من شرره، والخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به مؤتجراً أحد المتصدقين)). وقال في موضع آخر: حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عاصم الأحول عن أبي كبشة قال: سمعت أبا موسى يقول على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثل الجليس الصالح كمثل العطار إن لا يحذك يعبق بك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير)).
    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
    الأول والثاني: شيخا مسلم أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء الهمداني أبو كريب، تقدم ذكرهما في رجال إسناد الحديث الأول.
    الثالث: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الأوّل سفيان بن عيينة، قال في (التقريب): سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي أبو محمد، الكوفي ثم المكي، ثقة، حافظ، فقيه، إمام، حجة، إلاّ أنه تغير حفظه بأخرة، وكان ربما دلس لكن عن الثقات، من رؤوس الطبقة الثامنة، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار، مات في سنة ثمان وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله إحدى وتسعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الخامس عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    الرابع: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثاني أبو أسامة، قال الحافظ في (التقريب): حماد بن أسامة القرشي مولاهم الكوفي، أبو أسامة مشهور بكنيته، ثقة، ثبت ربما دلس، وكان بأخرة يحدث من كتب غيره، من كبار التاسعة، مات سنة إحدى ومائتين وهو ابن ثمانين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن هشام بن عروة، وبريد بن عبد الله بن أبي بردة، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه الشافعي، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وإسحاق بن راهويه، وأبو خيثمة، وقتيبة، وابنا أبي شيبة، وغيرهم وسماهم. ثم ذكر بعض ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول أحمد: كان ثبتاً ما كان أثبته لا يكاد يخطئ. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، وابن سعد، والعجلي. وقال في مقدمة فتح الباري: اتفقوا على توثيقه وشذّّ الأزدي فذكره في الضعفاء.
    الخامس: بريد بن عبد الله، قال الحافظ في (التقريب): بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري الكوفي، ثقة يخطئ قليلاً، من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال الخزرجي في (الخلاصة): بريد بن عبد الله بن أبي بردة الأشعري، أبو بردة الكوفي، عن جده، والحسن، وعطاء. وعنه السفيانان، وحفص بن غياث، وأبو نعيم، وأبو أسامة.
    وقال الحافظ في مقدمة فتح الباري: وثقه ابن معين، والعجلي، والترمذي، وأبو داود. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين يكتب حديثه. انتهى.
    وقال الذهبي في (الميزان): قال ابن عدي: روى عنه الأئمة، ولم يرو عنه أحد أكثر من أبي أسامة، وأحاديثه عنه مستقيمة وهو صدوق، وأرجو أن لا يكون به بأس. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
    السادس: أبو بردة، قال الحافظ في (التقريب): أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة من الثالثة، مات سنة أربع ومائة وقيل: غير ذلك، وقد جاوز الثمانين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في رجال إسناد الحديث الخامس من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    السابع: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار ـ بفتح المهملة وتشديد الضاد المعجمة ـ أبو موسى الأشعري، صحابي مشهور، أمره عمر ثم عثمان، وهو أحد الحكمين بصفين، مات سنة خمسين وقيل: بعدها، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
    المبحث الثالث: لطائف الإسنادين وما فيهما من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
    (1) رجال الإسنادين السبعة كوفيون، فهما مسلسلان بالرواة الكوفيين، وابن عيينة كوفي ثم مكي.
    (2) رجال الإسنادين السبعة خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ مسلم أبا بكر بن أبي شيبة فلم يخرّج له الترمذي.
    (3) الإسنادان كما اتفقا في أن رجالهما كوفيون، اتفقا في صيغ الأداء من أولهما إلى آخرهما فاتفقا في التحديث في موضعين وفي باقي الإسنادين بالعنعنة.
    (4) أبو أسامة ممن وافقت كنيته اسم أبيه، فهو أبو أسامة واسم أبيه أسامة، وبريد ممن وافقت كنيته كنية جدّه فكل منهما يكنى أبا بردة.
    (5) أربعة من رجال الإسنادين ذكروا بكناهم وقد اشتهروا بها وهم: أبو بكر بن أبي شيبة واسمه عبد الله بن محمد، وأبو أسامة واسمه حماد بن أسامة، وأبو بردة واسمه عامر أو الحارث، وأبو موسى رضي الله عنه واسمه عبد الله بن قيس، وفي الإسناد الثاني محمد بن العلاء الهمداني وكنيته أبو كريب وقد اشتهر بكنيته كما اشتهر باسمه.
    (6) أبو بكر بن أبي شيبة شيخ مسلم يذكره مسلم بكنيته، قال الحافظ في (الفتح) في (باب فضل الفقر) في (كتاب الرقاق) قال: وقد أكثر عنه المصنف ـ يعني البخاري ـ وكذا مسلم لكن مسلم يكنيه دائماً والبخاري يسميه وقلّ أن كناه.
    (7) في الإسناد رواية الأبناء عن الآباء، فبريد يرويه عن جده أبي بردة وأبو بردة يرويه عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه .
    (8) بريد بن عبد الله اشتهر باسمه دون كنيته، وجده أبو بردة اشتهر بكنيته دون اسمه، بل قد اختلف في اسمه فقيل: عامر وقيل الحارث.
    (9) في الإسناد الأول سفيان بن عيينة وهو مدلس لكنه لا يدلس إلا عن ثقة، وذكر أبو حاتم بن حبان في مقدمة صحيحه أنه الشخص الوحيد الذي لا يدلس إلا عن الثقات. وقد روى هذا الحديث عن بريد بالعنعنة وكذا أبو أسامة مدلس وقد روى الحديث عن بريد بالعنعنة. ولم أقف لهما على تصريح بالسماع لكن قد قال النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم: واعلم أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى.
    (10) سفيان بن عيينة اختلط قبل وفاته بسنة واحدة، وقد تقدم أن ما كان في الصحيحين عن المختلطين فهو مما علم أنه روي عنهم قبل الاختلاط.
    (11) سفيان بن عيينة هو أحد السفيانين فيما إذا قيل عن شخص: روى عن السفيانين وعن آخر روى عنه السفيانان، والثاني منهما سفيان الثوري.
    (12) في نهاية الإسناد الأول حرف (ح) الدال على التحويل في الإسناد، وملتقى الإسنادين بريد بن عبد الله فعنده يتحد الإسنادان، ولم يضع مسلم حرف التحويل عند الوصول إليه لاختلاف الإسنادين في ذكره وذكر جده، فإن بريداً ذكر في الإسناد الأول منسوباً ولم ينسب في الإسناد الثاني، وشيخه قيل فيه في الإسناد الأول (عن جده) أما في الإسناد الثاني فقيل (عن أبي بردة).
    (13) بريد هو الرجل الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الصحيحين.
    المبحث الرابع: شرح الحديث:
    (1) ضرب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المثل للجليس الصالح، وما يستفيده جليسه من فوائد كبيرة في أمور دينه ودنياه، بحامل المسك الذي لا يعدم جليسه منه فائدة إما كبيرة أو صغيرة، فمن يجالس حامل المسك، إما أن يستفيد منه مسكاً عن طريق الهبة أو عن طريق الابتياع، وأقل أحواله أن يشم ريحاً طيبة، وكذا من يجالس أهل التقى والصلاح، يستفيد منهم الإرشاد إلى الخير والدلالة على ما ينفع، ليسلك سبيله كما يستفيد منهم معرفة الضار، ليجتنبه ويكون على حذر منه، فيألف بمجالستهم الخير ويعود نفسه عليه حتى يكون له خلقاً، ويبغض الشر والأشرار ويربأ بنفسه عن فعله والميل إلى أهله.
    وكما ضرب صلى الله عليه وسلم المثل للجليس الصالح بحامل المسك، ضرب المثل للجليس السوء بنافخ الكير، الذي لا يعدم من يجلس عنده مضرة ما في بدنه أو ثيابه، وأقل أحواله ما يشمه من ريح خبيثة، وكذا جليس السوء ضرره على جليسه كبير، والمصيبة عليه عظيمة، يحبب إليه الشر ويرغبه فيه، ويزهده في الخير ويثنيه عنه، يأمر جليسه بالمنكر وينهاه عن المعروف، ومن أوضح الأمثلة لأضرار جلساء السوء ما ثبت في الصحيحين في قصة وفاة أبي طالب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رغبه في الإسلام، ودعاه إليه عند الموت، عارض هذه الدعوة الخيرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وقالا: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب. وكلما أعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الحق أعادا عليه الدعوة إلى الإبقاء على الباطل، والاستمرار عليه حتى كان آخر ما كلمهم به أنه على ملة عبد المطلب، والعياذ بالله.
    (2) قال النووي في شرح صحيح مسلم: وفيه طهارة المسك واستحبابه، وجواز بيعه، وقد أجمع العلماء على جميع هذا، ولم يخالف فيه من يعتد به، ونقل عن الشيعة نجاسته، والشيعة لا يعتد بهم في الإجماع. ومن الدلائل على طهارته الإجماع وهذا الحديث وهو قوله: ((وإما أن تبتاع منه)) والنجس لا يصح بيعه، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يستعمله في بدنه، ورأسه، ويصلي به، ويخبر بأنه أطيب الطيب، ولم يزل المسلمون على استعماله وجواز بيعه.
    (3) في الحديث شاهد لما يعرف في البلاغة باللف والنشر المرتب، فإنه ذكر المشبه وهو الجليس الصالح والجليس السوء، والمشبه به وهو حامل المسك ونافخ الكير، ثم وضح ذلك بادئاً بالجليس الصالح ثم الجليس السوء، ومن أمثلته في الكتاب العزيز قوله تعالى: ( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً).
    (4) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
    (1) ضرب الأمثلة لإيضاح ما يراد بيانه.
    (2) الترغيب في مجالسة أهل التقى والصلاح.
    (3) الترهيب من مخالطة جلساء السوء.
    (4) التنبيه إلى أن المنفعة من الجليس الصالح محققة.
    (5) التنبيه إلى أن المضرة من جليس السوء حاصلة.
    (6) تنبيه المرشدين والمعلمين إلى الجمع بين الترغيب والترهيب.
    (7) الاستدلال على القرين بقرينه وإلحاق الشيء بشبيهه ونظيره.
    (8) طهارة المسك واستعماله.
    (9) جواز بيع المسك.
    (10) التنبيه إلى أولوية احتراف بيع الطيب.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (37)



    حديث (سددوا وقاربوا وأبشروا...)







    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب صفة القيامة من الجنة والنار من صحيحه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد العزيز بن محمد أخبرنا موسى بن عقبة (ح) وحدثني محمد بن حاتم ـ واللفظ له ـ حدثنا بهز حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحداً عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ)).

    وحدثناه حسن الحلواني حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا عبد العزيز بن المطلب عن موسى بن عقبة بهذا الإسناد ولم يذكر (وأبشروا).

    المبحث الأول: التخريج:

    أخرج مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذه الطرق الثلاث عن موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة رضي الله عنها.

    وأخرجه من حديث جابر من طريقين عن الأعمش عن أبي سفيان عنه مرفوعاً بلفظ: ((قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل))، وهذا اللفظ ساقه مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، ثم عقبه بطريق جابر المذكورة ولم يسق لفظه بل قال مثله.

    وأخرجه عن جابر من حديث معقل عن أبي الزبير عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله))، وأخرج مسلم وسط الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه من تسع طرق بألفاظ متقاربة، وليس في جميعها ذكر آخره وفي بعضها ذكر أوله.

    وأخرج البخاري حديث عائشة من طريقين في (كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل) قال في أولهما: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان عن موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قلّ)). وقال في ثانيهما: حدثنا عليّ بن عبد الله حدثنا محمد بن الزبرقان حدثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة))، قال أظنه عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة، وقال عفان: حدثنا وهيب عن موسى بن عبقة قال سمعت أبا سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((سددوا وأبشروا)).

    وأخرج البخاري آخره عن عائشة من ثلاث طرق: إحداها عن مسروق سألت عائشة رضي الله عنها: أي العمل كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: ((الدائم)). والثانية عن هشام بن عروة عن أبيه عنها أنها قالت: ((كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه)). والثالثة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عنها رضي الله عنها أنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((أدومها وإن قلّ)). وقال: ((أكلفوا من العمل ما تطيقون)).

    وأخرجه البخاري في (كتاب الرقاق) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: ((لن ينجي أحداً منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)).

    وأخرجه عن أبي هريرة في (كتاب المرضى) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لن يدخل أحداً عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب)).

    وأخرجه ابن ماجه في (كتاب الزهد) من سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قاربوا وسددوا، فإنه ليس أحد منكم بمنجيه عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل.

    وأخرجه الدارمي في (كتاب الرقاق) من سننه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قاربوا وسددوا، واعلموا أن أحداً منكم لن ينجيه عمله. قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)).

    وأخرج أحمد في المسند حديث عائشة رضي الله عنها فقال: حدثنا عفان قال حدثنا وهيب قال حدثنا موسى بن عقبة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكره ومتنه مثل متنه في صحيح مسلم، إلاّ أن فيه (ويسروا) بدل (وبشروا)، وقال أيضاً: حدثنا يعقوب قال حدثنا عبد العزيز بن المطلب عن موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ)).

    وأخرجه في المسند أيضاً في موضعين من حديث جابر رضي الله عنه دون ذكر آخره وليس في أوله (وبشروا)، وأخرج وسطه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . وأخرج وسطه في (المسند) أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في واحد وعشرين موضعاً وفي بعضها ذكر أوله.

    المبحث الثاني: التعريف بالرواة في الأسانيد الثلاثة.

    الأول: شيخ مسلم في الإسناد الأول إسحاق بن إبراهيم تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

    الثاني: شيخ مسلم في الإسناد الثاني محمد بن حاتم تقدم في رجال إسناد الحديث الحادي عشر.

    الثالث: شيخ مسلم في الإسناد الثالث حسن الحلواني، قال الحافظ في (التقريب): الحسن بن عليّ بن محمد الهذلي، أبو عليّ الخلال الحلواني ـ بضم المهملة ـ نزيل مكة، ثقة حافظ، له تصانيف، من الحادية عشرة، مات سنة اثنتين وأربعين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى النسائي.

    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عبد الله بن نمير، وأبي أسامة، ويحيى بن آدم، ويعقوب بن إبراهيم، وغيرهم سماهم. ثم قال: روى عنه الجماعة سوى النسائي، وإبراهيم الحربي، وجعفر الطيالسي، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن يعقوب بن شيبة، والنسائي، والخطيب البغدادي.

    الرابع: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الأول: عبد العزيز بن محمد، قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي أبو محمد الجهني مولاهم، المدني، صدوق، كان يحدث من كتب غيره فيخطئ. قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العمري منكر. من الثامنة، مات سنة ست أو سبع وثمانين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    وقال في (تهذيب التهذيب): أبو محمد المدني مولى جهينة. وقال ابن سعد: دراورد قرية بخراسان، وذكر جماعة روى عنهم منهم: زيد بن أسلم، وشريك بن عبد الله بن أبي نمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد. وذكر جماعة رووا عنه منهم: الشافعي، وابن مهدي، وابن وهب، ووكيع، وإسحاق بن إبراهيم.

    وذكر بعض كلام الأئمة فيه ومن ذلك قول أحمد: كان معروفاً بالطلب، وإذا حدث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس وهِمَ، وكان يقرأ من كتبهم ويخطئ، وربما قلب حديث عبد الله بن عمر يرويها عن عبيد الله بن عمر. ونقل توثيقه عن مالك، وابن معين، والعجلي.

    وقال في مقدمة فتح الباري: أبو محمد المدني، أحد مشاهير المحدثين، وثقه يحيى بن معين، وابن المديني. وقال: قلت: روى له في (البخاري) حديثين، قرنه فيهما بعبد العزيز بن أبي حازم وغيره، وأحاديث يسيرة أفرده، لكنه أوردها بصيغة التعليق في المتابعات، واحتج به الباقون. وقال الذهبي في (الميزان): وقال معن بن عيسى: يصلح الدراوردي أن يكون أمير المؤمنين.

    الخامس: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثاني: بهز وهو ابن أسد، قال الحافظ في (التقريب): بهز بن أسد العمي، أبو الأسود البصري، ثقة ثبت من التاسعة، مات بعد المائتين وقيل قبلها، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن شعبة، وحماد بن سلمة، ووهيب بن خالد، وسليم بن حيان، وسليمان بن المغيرة، وهارون بن موسى النحوي، ويزيد بن إبراهيم التستري، وجرير بن حازم، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وبندار، ويعقوب الدورقي، ومحمد بن حاتم السمين، وعبد الله بن هاشم الطوسي، وأبو بكر بن خلاد، وعدة.

    قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت. وذكر غير ذلك من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، وابن سعد، ويحيى بن سعيد، والعجلي. وقال في ختام ترجمته: وقال أحمد: هؤلاء الثلاثة أصحاب الشكل والنقط، يعني بهزا وحبان وعفان.

    السادس: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثالث: يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال الحافظ في (التقريب): يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو يوسف المدني، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار التاسعة، مات سنة ثمان ومائتين. ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أبوه، وشعبة، وابن أخي الزهري، والليث، وعبد العزيز بن المطلب. وجماعة رووا عنه منهم: أحمد، وعليّ، وإسحاق، وابن معين، والمسندي، والحلواني. ونقل توثيقه عن ابن معين، والعجلي، وابن سعد.

    السابع: شيخ شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثاني: وهيب وهو ابن خالد، قال الحافظ في (التقريب): وهيب بالتصغير، ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلاً بأخرة، من السابعة، مات سنة خمس وستين ـ أي بعد المائة وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: حميد الطويل، وأيوب، وخالد الحذاء، وموسى بن عقبة. وجماعة رووا عنه منهم: إسماعيل بن علية، وابن المبارك، وابن مهدي، والقطان، ويحيى بن آدم، وبهز بن أسد، وحبان بن هلال، وعفان، وعارم، وهدبة بن خالد. وذكر بعض كلام الأئمة في الثناء عليه، ونقل توثيقه عن أبي داود، والعجلي، وأبي حاتم، وابن سعد.

    الثامن: شيخ شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثالث: عبد العزيز بن المطلب، قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي، أبو طالب، المدني، صدوق، من السابعة، مات في خلافة المنصور. ورمز لكون البخاري روى له تعليقاً، ولكونه من رجال مسلم، والترمذي، وابن ماجه.

    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، وأخيه الحكم، وموسى بن عقبة، وغيرهم سماهم. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وأبو عامر العقدي، وإسماعيل بن أبي أويس. ثم قال: قال ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال محمد بن المثنى: ما سمعت ابن مهدي يحدث عنه. وقال الذهبي في (الميزان): قال أبو عبد الله الحاكم: هو صدوق، استشهد به مسلم في مواضع. ثم قال الذهبي. قلت: منها عن سهيل، وعن صفوان بن سليم، وموسى بن عقبة، وعنه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ومعن، وإسماعيل بن أبي أويس، وابن أبي فديك. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

    التاسع: ملتقى الأسانيد الثلاثة موسى بن عقبة، قال الحافظ في (التقريب): موسى بن عقبة بن أبي عياش ـ بتحتانية معجمة ـ الأسدي مولى آل الزبير، ثقة فقيه، إمام في المغازي، من الخامسة، لم يصح أن ابن معين لينه، مات سنة إحدى وأربعين ـ أي بعد المائة وقيل بعد ذلك ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة

    وقال في مقدمة فتح الباري: موسى بن عقبة المدني، مشهور، من صغار التابعين، صنف المغازي وهو من أصح المصنفات في ذلك، ووثقه الجمهور. وقال ابن معين: كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح الكتب. وقال مرة: في روايته عن نافع شيء، ليس هو فيه كمالك وعبيد الله بن عمر. ثم قال الحافظ: قلت: فظهر أن تليين ابن معين له، إنما هو بالنسبة إلى رواية مالك وغيره لا فيما انفرد به، وقد اعتمده الأئمة كلهم. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أم خالد بنت سعيد بن العاص زوج الزبير رضي الله عنهما، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ونافع مولى ابن عمر. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، ومحمد وإسماعيل بنا جعفر، ووهيب بن خالد، والسفيانان، وسليمان بن بلال، وابن جريج، والدراوردي. وذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن سعد، ومالك، وأحمد، وابن معين، والعجلي، والنسائي.

    العاشر: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال الحافظ في (التقريب): أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني، قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، ثقة مكثر، من الثالثة، مات سنة أربع وتسعين، وكان مولده سنة بضع وعشرين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

    وقال النووي في (تهذيب الأسماء واللغات): وهو مدني من كبار التابعين، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال، وقال: واتفقوا على جلالة أبي سلمة وإمامته، وعظيم قدره، وارتفاع منـزلته، روينا عن محمد بن سعد قال: كان ثقة فقيهاً كثير الحديث. وقال أبو زرعة: هو ثقة إمام.

    الحادي عشر: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقدم ذكرها في إسناد الحديث الثامن.

    المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

    (1) ستة من الرواة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهم: عائشة رضي الله عنها، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وموسى بن عقبة، ووهيب، وبهز، وعبد العزيز الدراوردي.

    (2) ستة من الرواة مدنيون وهم: عائشة رضي الله عنها، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وموسى بن عقبة، والدراوردي، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وعبد العزيز بن المطلب.

    (3) اثنان من الرواة تابعيان وهما: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وموسى بن عقبة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

    (4) ملتقى الأسانيد الثلاثة موسى بن عقبة، والإسناد الأول عال بالنسبة إلى الإسنادين الآخرين، لأنه بين مسلم وموسى بن عقبة في الإسناد الأول واسطتان، وبينه وبينه في كل من الإسنادين الآخرين ثلاثة.

    (5) الواسطتان بين مسلم وموسى بن عقبة في الإسناد الأول إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وقد وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث ـ كما تقدم في رجال إسناد الحديث الأول ـ، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وقد قال فيه معن بن عيسى: يصلح أن يكون أمير المؤمنين.

    (6) شيخ مسلم في الإسناد الأول هو أيضاً شيخ للبخاري، وأبي داود، والترمذي، والنسائي. وشيخه في الإسناد الثالث حسن الحلواني شيخ للباقين سوى النسائي، فكل من إسحاق بن راهويه وحسن الحلواني شيخ للبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي رووا عنهما مباشرة وبدون واسطة، وإسحاق شيخ للنسائي أيضاً، والحلواني شيخ لابن ماجه أيضاً، أما شيخ مسلم في الإسناد الثاني محمد بن حاتم بن ميمون فهو شيخ لأبي داود أيضاً، ولم يرو له الأربعة الباقون.

    (7) بهز بن أسد وصفه أحمد بن حنبل بصفة هي من أرفع صيغ التعديل حيث قال فيه: إليه المنتهى في التثبت.

    (8) اثنان من الرواة وافقت كنية كل منهما اسم أبيه وهما: شيخ شيخه في الإسناد الأول الدراوردي اسم أبيه محمد وكنيته أبو محمد، وشيخه في الإسناد الثالث حسن الحلواني اسم أبيه عليّ وكنيته أبو عليّ.

    (9) قال مسلم ـ رحمه الله ـ في روايته عن شيخيه إسحاق بن راهويه وحسن الحلواني: (حدثنا) وقال في روايته عن شيخه محمد بن حاتم (حدثني)، فالصيغة الأولى لكونه سمع منه هو وغيره، والصيغة الثانية لكونه سمع منه وحده، وصيغة التحديث مع إفراد الضمير يستعملها مسلم كثيراً في الرواية عن شيخه محمد بن حاتم بن ميمون.

    (10) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف اشتهر بكنيته، واختلف في اسمه فقيل: عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: إن اسمه كنيته.

    (11) أبو سلمة بن عبد الرحمن هو سابع الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة، على ما قاله الحاكم أبو عبد الله. وقال ابن المبارك: سابعهم سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وقال أبو الزناد: السابع أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

    (12) أبو سلمة بن عبد الرحمن سابع الفقهاء السبعة على ما قاله الحاكم، وقد توفي سنة أربع وتسعين، وفي هذه السنة توفي أيضاً أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، سابع الفقهاء السبعة على ما قاله أبو الزناد، وفيها توفي من الفقهاء السبعة، سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.

    (13) في الإسناد راويان تغير حفظهما في آخر حياتهما وهما: إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، ووهيب بن خالد، وقد تقدم كلام النووي أن ما كان في الصحيحين عن المختلطين محمول على أنه أخذ عنهم قبل الاختلاط.

    المبحث الرابع: شرح الحديث:

    (1) قوله (سددوا وقاربوا وأبشروا)، قال النووي في شرح صحيح مسلم: ومعنى (سددوا وقاربوا): اطلبوا السداد واعملوا به، وإن عجزتم عنه فقاربوه أي: اقربوا منه، والسداد الصواب، وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تغلوا ولا تقصروا. انتهى.

    وقال الحافظ في (فتح الباري) في بيان معنى السداد: ومعناه: اقصدوا السداد أي الصواب، وقال: اعملوا واقصدوا بعملكم الصواب، أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره، ليقبل عملكم فتنـزل عليكم الرحمة. وقال في معنى (وقاربوا): أي لا تُفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة، لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرِّطوا. انتهى. والسداد الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هو الحق والصواب، ولابد فيه من أمرين: (أحدهما) أن يكون العمل لله خالصاً، لا شركة لغيره فيه. و(الثاني) أن يكون على النهج الذي جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم . وهذان هما الركنان الأساسيان للعمل الصالح، إخلاص واتباع، إخلاص العبادة لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا إشراك بغير الله، ولا إبتداع في الدين ما لم يأذن به الله.

    وقوله صلى الله عليه وسلم : (وأبشروا) أي إذا قمتم بما أمرتم به من سلوك سبيل السداد فأبشروا بالثواب الجزيل، الذي يتفضل الله به على من أخلص له العبادة، وسار على الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.

    (2) قوله (فإنه لن يدخل الجنة أحدًا عمله): وردت هذه الجملة بألفاظ متعددة متقاربة، ومعناها: أن دخول الجنة والتمتع بنعيمها لا يحصل للعبد بمجرد العمل، بل بتفضل الله وإحسانه، فهو الذي وفق العبد للعمل الصالح وأعانه على فعله، وامتن عليه بقبوله، وتفضل بالمثوبة عليه، فله الفضل والمنة قبل العمل وعنده وبعده،(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)، ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا).

    قال النووي في شرح هذا الحديث ونحوه من الأحاديث في (صحيح مسلم): ((وفي ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحداً الثواب والجنة بطاعته، وأما قوله تعالى: ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ([الأحقاف:14]،)وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ([الزخرف:72]. ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة فلا يعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها، وقبولها، برحمة الله تعالى وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة، والله أعلم)). انتهى.

    (3) قوله (قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله منه برحمة): قال الحافظ في (الفتح): قال الكرماني: إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلاّ برحمة الله، فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر، أنه إذا كان مقطوعاً له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله، فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى.

    ثم قال الحافظ: قلت: وسبق إلى تقرير هذا المعنى الرافعي في أماليه فقال: لما كان أجر النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعة أعظم، وعمله في العبادة أقوم، قيل له: ولا أنت؟ أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره، فقال: لا، إلا برحمة الله. وقد ورد جواب هذا السؤال بعينه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم من حديث جابر بلفظ: ((لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله تعالى)). انتهى.

    وقال النووي في شرح صحيح مسلم: ومعنى يتغمدني برحمته: يلبسنيها ويغمدني بها، ومنه أغمدت السيف وغمدته إذا جعلته في غمده وسترته به. انتهى.

    (4) قوله (واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل): دال على أن العمل الذي يدوم عليه فاعله ولو كان قليلاً، هو أحب العمل إلى الله، وذلك أن العبد إذا داوم على الأعمال الصالحة، فهو حري أن يختم الله له بخير، فإنه إذا وافاه الأجل يوافيه على حالة حسنة، بخلاف الذي لا يداوم على العمل الصالح وينقطع عنه، فقد يوافيه أجله في حالة الترك.

    وقال الحافظ في (الفتح): والحكمة في ذلك: أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت، ليجازى بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلاً ثم انقطع، وأيضاً فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل، فيتعرض للذم والجفاء، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه، والمراد بالعمل هنا الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات. انتهى.

    (5) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

    (1) الأمر بسلوك طريق السداد.

    (2) تنبيه سالكي طريق السداد إلى الحذر من الإفراط والتفريط.

    (3) بشارة من سلك طريق السداد بالتفضل عليه والإحسان إليه من الرب سبحانه وتعالى.

    (4) أن العامل لا يعول على عمله في دخول الجنة والنجاة من النار.

    (5) تفضل الله على عباده وإحسانه إليهم.

    (6) أن دخول الجنة ليس عوضاً عن العمل بل برحمة الله وفضله.

    (7) الرد على المعتزلة القائلين أن الجنة عوض عن العمل وأن دخولها بمحض الأعمال.

    (8) حرص الصحابة رضي الله عنه على معرفة الحق وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما يخفى عليهم.

    (9) مراجعة المتعلم العالم في إيضاح المجمل وتفسير المشكل.

    (10) أن قوله صلى الله عليه وسلم : ((لن يدخل الجنة أحداً عمله)). من العام الباقي على عمومه.

    (11) دخول النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه للأمة ما لم يدل دليل على عدم الدخول.

    (12) حث المسلم على أن يعمل الصالحات وأن يكون راجياً ثواب الله ورحمته خائفاً من عذابه وعقوبته.

    (13) الإشارة إلى الحث على المداومة على العمل.

    (14) أن العمل الدائم ولو قل هو أحب العمل إلى الله.

    (15) التنبيه إلى أنه إذا جمع في العمل بين الدوام والكثرة بدون إفراط كان أفضل.

    (16) أن الأعمال الصالحة محبوبة لله.

    (17) إثبات صفة المحبة لله على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى.

    (18) أن الأعمال الصالحة متفاوتة في محبة الله إياها.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (38)



    حديث ((ليس أحد يحاسب إلا هلك....))

    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها من صحيحه وحدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي حدثنا يحيى ـ يعني ابن سعيد القطان ـ حدثنا أبو يونس القشيري حدثنا ابن أبي ملكية عن القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس أحد يحاسب إلا هلك، قلت، يا رسول الله أليس الله يقول: حساباً يسيراً؟ قال: ذاك العرض، ولكن من نوقش الحساب هلك)).
    وحدثني عبد الرحمن بن بشر حدثني يحيى ـ وهو القطان ـ عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نوقش الحساب هلك))، ثم ذكر بمثل حديث أبي يونس.
    المبحث الأول: التخريج:
    روى مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذين الطريقين، ورواه أيضاً من طريقين غيرهما، فقال قبل هذين الطريقين: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعليّ بن حجر جميعاً عن إسماعيل، قال أبو بكر: حدثنا ابن علية عن أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من حوسب يوم القيامة عذب. فقلت: أليس قد قال الله عزوجل: ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً)؟ فقال: ليس ذاك الحساب، إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب)).
    حدثني أبو الربيع العتكي وأبو كامل قالا: حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب بهذا الإسناد نحوه.
    وأخرجه البخاري في أربعة مواضع من صحيحه، أولها في (كتاب العلم، باب من سمع شيئاً فراجع حتى يعرفه). والثاني في (كتاب التفسير، باب ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً). والثالث والرابع في (كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب).
    وأخرجه أبو داود في (كتاب الجنائز) من سننه. وأخرجه الترمذي في (كتاب صفة القيامة)، وفي (كتاب التفسير) من جامعه.
    وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق بكار بن عبد الله بن وهب الصنعاني عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق عبد الجبار بن ورد عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها.
    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
    الأول: شيخ مسلم عبد الرحمن بن بشر، قال الحافظ في (التقريب): عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي، أبو محمد النيسابوري، ثقة، من صغار العاشرة، مات سنة ستين ـ أي بعد المائتين وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه.
    وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: سفيان بن عيينة، وعبد الرزاق بن همام، وبهز بن أسد، ويحيى بن سعيد القطان. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: البخاري، وإبراهيم الحربي، وابن خزيمة. ثم ذكر بعض الثناء عليه، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه البخاري ثلاثة أو أربعة، ومسلم ثلاثة وعشرين.
    الثاني: يحيى بن سعيد القطان، قال في (التقريب): يحيى بن سعيد بن فروخ ـ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وسكون الواو ثم معجمة ـ التميمي، أبو سعيد القطان البصري، ثقة متقن، حافظ، إمام قدوة، من كبار التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله ثمان وسبعون، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث التاسع من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    الثالث: أبو يونس القشيري، قال الحافظ في (التقريب): حاتم بن أبي صغيرة ـ بكسر الغين المعجمة ـ أبو يونس البصري، وأبو صغيرة اسمه مسلم وهو جده لأمه، وقيل زوج أمه، ثقة من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): القشيري أو الباهلي مولاهم، البصري، وأبو صغيرة أبو أمه أو زوج أمه. روى عن عطاء، وعمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، وسماك بن حرب، والنعمان بن سالم، وأبي قزعة، وغيرهم. وعنه شعبة، وابن المبارك، وابن أبي عدي، والقطان، وروح بن عبادة، وعبد الله بن بكر السهمي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، وأحمد. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
    الرابع: عثمان بن الأسود، قال في (التقريب): عثمان بن الأسود بن موسى المكي مولى بني جمح، ثقة ثبت، من كبار السابعة، مات سنة ستين ـ أي بعد المائة أو قبلها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: سليمان الأحول، وابن أبي مليكة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسعيد بن جبير. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: الثوري، وعبد الله بن إدريس، وابن المبارك، والقطان. ونقل توثيقه عن يحيى القطان، وأحمد، وابن معين، وأبي حاتم، وابن سعد، والعجلي، وابن نمير.
    الخامس: ابن أبي مليكة، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بالتصغير، ابن عبد الله بن جدعان، اسم أبي مليكة زهير التيمي، المدني، أدرك ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وفي (تهذيب التهذيب) و(الخلاصة) و(الجمع بين الصحيحين): المكي، وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم من الصحابة والتابعين منهم: العبادلة الأربعة، وأسماء، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنه ، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: حميد الطويل، وأيوب، وجرير بن حازم، وعثمان بن الأسود، وأبو يونس حاتم بن أبي صغيرة، ونافع بن عمر الجمحي، والليث. ونقل توثيقه عن أبي زرعة، وأبي حاتم، وابن سعد، وقال: قال العجلي: مكي تابعي ثقة. وقال ابن حبان في (الثقات): رأى ثمانين من الصحابة.
    السادس: القاسم بن محمد، قال الحافظ في (التقريب): القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه. من كبار الثالثة، مات سنة ست ومائة على الصحيح، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، وعمته عائشة، وعن العبادلة، وعبد الله بن جعفر، وأبي هريرة، وغيرهم سماهم. ثم قال: روى عنه ابنه عبد الرحمن، والشعبي وسالم بن عبد الله بن عمر وهما من أقرانه، ويحيى وسعد بنا سعيد الأنصاري، وابن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه رحمه الله.
    السابع: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقد مرَّ ذكرها في إسناد الحديث الثامن.
    المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
    (1) الرواة السبعة في الإسنادين خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ مسلم عبد الرحمن بن بشر فلم يخرج له الترمذي والنسائي.
    (2) في الإسناد مدنيان وهما: عائشة وابن أخيها القاسم بن محمد، ومكيان وهما: ابن أبي مليكة وعثمان بن الأسود، وبصريان وهما: أبو يونس القشيري ويحيى بن سعيد القطان، والسابع نيسابوري وهو عبد الرحمن بن بشر شيخ مسلم.
    (3) في الإسناد راو اشتهر باسمه وبكنيته وهو: أبو يونس القشيري واسمه حاتم بن أبي صغيرة، ولهذا يأتي ذكره بالكنية أحياناً وأحياناً بالاسم.
    (4) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): أن من المهم في علم المصطلح معرفة من نسب إلى غير أبيه، وفي هذا الإسناد شاهد لذلك: فأبو يونس القشيري اسمه حاتم بن أبي صغيرة وأبو صغيرة أبو أمه أو زوج أمه.
    (5) في الإسناد راو اشتهر بالنسبة إلى جده وهو: ابن أبي مليكة فهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة.
    (6) في الإسناد راو هو أحد الفقهاء السبعة في المدينة وهو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
    (7) في الإسناد تابعيان وهما: القاسم بن محمد، وابن أبي مليكة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
    (8) ابن أبي مليكة يروي عن القاسم عن عائشة في الإسناد الأول، ويروى عن عائشة كما في الإسناد الثاني، وروايته عن القاسم من رواية الأقران.
    (9) يحيى بن سعيد القطان قال فيه الإمام أحمد: كان إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وهي من أرفع مراتب التعديل.
    (10) هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على البخاري ومسلم في الصحيحين. قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: هذا مما استدركه الدار قطني على البخاري ومسلم، وقال: اختلف العلماء عن ابن أبي مليكة، فروي عنه عن عائشة، وروى عنه عن القاسم عنها، وهذا استدراك ضعيف لأنه محمول على أنه سمع من القاسم عن عائشة وسمعه أيضاً منها بلا واسطة فرواه بالوجهين، وقد سبقت نظائر هذا. انتهى.
    وقال الحافظ في مقدمة الفتح: قال الدار قطني: وأخرجا جميعاً حديث أيوب وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة: ((من حوسب عذب)). وأخرجه البخاري من حديث نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة كذلك. وأخرجاه من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة على الاختلاف. ثم قال الحافظ: قلت: في رواية البخاري من حديث عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة: سمعت عائشة، فالظاهر أنه أخرجه على الاحتمال بأن يكون ابن أبي مليكة سمعه من القاسم عن عائشة، ثم سمعه من عائشة فحدث به على الوجهين كما في نظائره.


    المبحث الرابع: شرح الحديث:
    (1) بين صلى الله عليه وسلم أن الحساب الذي يكون صاحبه هالكاً هو الحساب مع المناقشة، وذلك بعد أن استشكلته عائشة مع قوله تعالى: )فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه ِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ) حيث أن الآية أثبتت الحساب مع النجاة، وبهذا البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين أنه لا منافاة بين الآية والحديث، فالهلاك الذي يكون لمن حوسب فيما إذا نوقش الحساب، والنجاة التي تكون لمن حوسب حساباً يسيراً فيمن لم يناقش الحساب، وهذا هو وجه الجمع بين الآية والحديث.
    (2) قوله صلى الله عليه وسلم : ((ذاك العرض)): الإشارة إلى الحساب الذي تضمنته الآية. وقوله: (نوقش) من المناقشة، وأصلها الاستخراج ومنه نقش الشوكة إذا استخرجها.
    (3) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
    (1) فقه عائشة ودقة فهمها رضي الله عنها.
    (2) ما كانت عليه أم المؤمنين رضي الله عنها من الحرص على تفهم معاني الحديث.
    (3) أن الصحابة رضي الله عنه جمعوا بين العلم والعمل.
    (4) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتضجر من المراجعة في العلم.
    (5) مراجعة المتعلم للعالم وسؤاله عما يشكل.
    (6) مقابلة السنة بالكتاب والكتاب بالسنة.
    (7) إثبات الحساب.
    (8) تفاوت الناس في الحساب.
    (9) جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
    (10) أن السنة مفسرة ومبينة للكتاب.
    (11) إثبات العرض.
    (12) إثبات البعث لأن ما ذكر في الحديث دال عليه وتابع له.
    (13) الإيمان بالغيب.

    (14) أن مثل سؤال عائشة رضي الله عنها ليس داخلاً فيما نهي عنه في قوله: ( اَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء) الآية.
    (15) أن من حصلت له المناقشة في الحساب هلك.
    (16) أن كل ناج من الهلاك لم يناقش الحساب.
    (17) تفضل الله وامتنانه على العباد وإحسانه إليهم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (39)


    الحلقة ( 39) حديث (قولوا: اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد.....)



    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة من صحيحه:حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ـ واللفظ لابن المثنى ـ قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
    حدثنا زهير بن حرب وأبو كريب قالا حدثنا وكيع عن شعبة ومسعر عن الحكم بهذا الإسناد مثله، وليس في حديث مسعر: ألا أهدي لك هدية؟.
    حدثنا محمد بن بكار حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الأعمش وعن مسعر وعن مالك بن مغول كلهم عن الحكم بهذا الإسناد مثله غير أنه قال: وبارك على محمد، ولم يقل: اللهم.
    المبحث الأول: التخريج:
    أخرج مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذه الطرق الثلاث عن الحكم ـ وهو ابن عتيبة ـ عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه . وأخرجه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه ولفظه: قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم)).
    وأخرجه من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه ولفظه: قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)).
    وأخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة في (كتاب الأنبياء) من صحيحه فقال: حدثنا قيس بن حفص وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا أبو قرة مسلم بن سالم الهمداني قال:حدثني عبد الله بن عيسى سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم . فقلت: بلى فاهدها إليّ. فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإن الله علمنا كيف نسلم. قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
    وأخرجه في تفسير سورة الأحزاب فقال: حدثني سعيد بن يحيى حدثنا أبي حدثنا مسعر عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه ، قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد، فذكره بمثل لفظه في صحيح مسلم. وأخرجه في (كتاب الدعوات) فقال: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا الحكم قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد)). ولفظه كلفظ مسلم أيضاً. وأخرجه من حديث أبي حميد الساعدي في موضعين، ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في موضعين أيضاً.
    وأخرجه أبو داود في (كتاب الصلاة) من سننه (باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد)، فقال: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: قلنا أو قالوا: يا رسول الله أمرتنا أن نصلي عليك وأن نسلم عليك، فأما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد))، حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا شعبة بهذا الحديث قال: ((صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم))، حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن بشر عن مسعر عن الحكم بإسناده بهذا قال: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). قال أبو داود: رواه الزبير بن عدي عن ابن أبي ليلى كما رواه مسعر إلا أنه قال: ((كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد)) وساق مثله. وأخرجه أيضاً من حديث أبي حميد الساعدي، ومن حديث أبي مسعود الأنصاري، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
    وأخرجه الترمذي في (كتاب الصلاة، باب ما جاء في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم )، فقال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو أسامة عن مسعر والأجلح ومالك بن مغول عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك قد علمنا، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد)). قال محمود: قال أبو أسامة: وزادني زائدة عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ونحن نقول: وعلينا معهم. قال: وفي الباب عن عليّ، وأبي حميد، وأبي مسعود، وأبي سعيد، وطلحة، وبريدة، وزيد بن خارجة ويقال ابن حارثة، وأبي هريرة. قال أبو عيسى: حديث كعب بن عجرة حديث حسن صحيح، وعبد الرحمن بن أبي ليلى كنيته أبو عيسى، وأبو ليلى اسمه يسار.
    وأخرج النسائي في (كتاب الصلاة) من سننه حديث كعب بن عجرة من ثلاث طرق، وأخرجه أيضاً من حديث أبي مسعود الأنصاري، ومن حديث طلحة بن عبيد الله، ومن حديث زيد بن خارجة، ومن حديث أبي سعيد الخدري، ومن حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه .
    وأخرج حديث كعب بن عجرة، ابن ماجه في سننه فقال في (كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها): حدثنا عليّ بن محمد حدثنا وكيع حدثنا شعبة (ح) وحدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا: قد عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد)). وأخرجه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري، ومن حديث أبي حميد الساعدي، ومن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
    وأخرجه الدارمي في سننه من حديث كعب بن عجرة، ومن حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنهما. وأخرج حديث كعب بن عجرة الإمام أحمد في (المسند) في أكثر من موضع.
    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
    الأول: شيخ مسلم محمد بن المثنى، تقدم في رجال إسناد الحديث الثامن.
    الثاني: شيخ مسلم محمد بن بشار، قال في (التقريب): محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري، أبو بكر بندار، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ـ أي بعد المائتين ـ وله بضع وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه محمد بن جعفر في رجال إسناد الحديث الثاني عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    الثالث: شيخ مسلم زهير بن حرب، تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.
    الرابع: شيخ مسلم أبو كريب، تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.
    الخامس: شيخ مسلم محمد بن بكار، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن بكار بن الريان الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله البغدادي الرصافي، ثقة، من العاشرة، مات سنة ثمان وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، وله ثلاث وتسعون سنة، ورمز لكونه من رجال مسلم، وأبي داود.
    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن إسماعيل بن جعفر، وابن المبارك، وفليح بن سليمان، وإسماعيل بن زكريا، وغيرهم سماهم. ثم قال: روى عنه مسلم، وأبو داود، وابنه إبراهيم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، والدار قطني، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم تسعة أحاديث.
    السادس: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الأول: محمد بن جعفر، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن جعفر الهذلي البصري، المعروف بغندر، ثقة، صحيح الكتاب، إلاّ أن فيه غفلة، من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    السابع: شيخ شيخي مسلم في الإسناد الثاني: وكيع بن الجراح، تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.
    الثامن: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثالث: إسماعيل بن زكريا، قال الحافظ في (التقريب): إسماعيل بن زكريا بن مرة الخلقاني ـ بضم المعجمة وسكون اللام بعدها قاف ـ أبو زياد الكوفي، لقبه شقوصاً ـ بفتح المعجمة وضم القاف الخفيفة وبالمهملة ـ صدوق يخطئ قليلاً، من الثامنة، مات سنة أربع وسبعين ـ أي بعد المائة وقيل قبلها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبي بردة بن أبي موسى، وعاصم الأحول، والأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبي إسحاق الشيباني، وطلحة بن يحيى، ومالك بن مغول، ومسعر، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه سعيد بن منصور، وأبو الربيع الزهراني، ومحمد بن الصباح الدولابي، ومحمد بن بكار بن الريان، ولُوَين، وعدة.
    وقال في مقدمة فتح الباري: اختلف فيه قول أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال النسائي: أرجو أن لا بأس به، ووثقه أبو داود. وقال أبو حاتم: صالح. وقال ابن عدي : هو حسن الحديث، يكتب حديثه. ثم ذكر أن له في البخاري أربعة أحاديث، ثلاثة ذكرها من رواية غيره بمتابعته، والرابع أخرجه عن محمد بن الصباح عنه عن أبي بردة عن جده أبي موسى عن أبي موسى في قصة الرجل الذي أثنى عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((قطعتم ظهر الرجل))، ثم قال: ولهذا شاهد من حديث أبي بكرة وغيره، والله أعلم. انتهى.
    التاسع: شعبة وهو ابن الحجاج، قال الحافظ في (التقريب): شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي ثم البصري، ثقة، حافظ، متقن. كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث. وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذبَّ عن السنة، وكان عابداً، من السابعة، مات سنة ستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث العاشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
    العاشر: مسعر وهو ابن كدام، قال الحافظ في (التقريب): مسعر بن كدام ـ بكسر أوله وتخفيف ثانيه ـ ابن ظهير الهلالي، أبو سلمة الكوفي، ثقة، ثبت، فاضل، من السابعة، مات سنة ثلاث أو خمس وخمسين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: سعيد بن أبي بردة، وعبد الملك بن عمير، والحكم بن عتيبة. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: ابن عيينة، وابن المبارك، وإسماعيل بن زكريا، وابن نمير، ووكيع. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قول شعبة: كنا نسمي مسعر المصحف. وقول إبراهيم بن سعيد الجوهري: كان يسمى الميزان. وقول عبد الله بن داود: كان مسعر يسمى المصحف، لقلة خطئه وحفظه. وقول ابن أبي حاتم: سألت أبي عن مسعر إذا خالفه الثوري فقال: الحكم لمسعر، فإنه المصحف. وقول وكيع: شكُّ مسعر كيقين غيره. وقول ابن أبي حاتم: سئل أبي عن مسعر وسفيان، فقال: مسعر أعلى إسناداً، وأجود حديثاً، وأتقن، ومسعر أتقن من حماد بن زيد. ونقل توثيقه عن أحمد، والعجلي، وابن معين، وأبي زرعة.
    وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): قال يحيى القطان: ما رأيت أثبت من مسعر. وقال أحمد بن حنبل: الثقة مثل شعبة ومسعر. انتهى.
    وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب) في ترجمة حماد بن زيد: وقال وكيع: وقيل له أيهما أحفظ ـ أي الحمادين، حماد بن زيد وحماد بن سلمة ـ؟ فقال: حماد بن زيد ما كنا نشبهه إلاّ بمسعر.
    الحادي عشر: الأعمش. تقدم في رجال إسناد الحديث الثالث.
    الثاني عشر: مالك بن مغول، قال الحافظ في (التقريب): مالك بن مغول ـ بكسر أوله وسكون المعجمة وفتح الواو ـ الكوفي، أبو عبد الله، ثقة ثبت، من كبار السابعة، مات سنة تسع وخمسين ـ أي بعد المائة على الصحيح ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال في (تهذيب التهذيب): البجلي أبو عبد الله الكوفي، ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: أبو إسحاق السبيعي، ونافع مولى ابن عمر، والحكم بن عتيبة، وعبد الله بن بريدة، وطلحة بن مصرف. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: شعبة، ومسعر، والثوري، و زائدة، وابن عيينة، وإسماعيل بن زكريا، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع، وابن المبارك أبو معاوية، وابن نمير، وأبو أسامة. ثم ذكر كثيرا من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، وأبي نعيم، وابن سعد. وقال: وقال ابن حبان في (الثقات): كان من عبّاد أهل الكوفة ومتقنيهم.
    الثالث عشر: الحكم وهو ابن عتيبة، قال الحافظ في (التقريب): الحكم بن عتيبة ـ بالمثناة ثم الموحدة مصغراً ـ أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة، ثبت، فقيه، إلاّ أنه ربما دلّس، من الخامسة، مات سنة ثلاث عشرة ـ أي بعد المائة أو بعدها ـ وله نيف وستون، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال في (تهذيب التهذيب): الكندي مولاهم، أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو عمر الكوفي، وقال: روى عن أبي جحيفة، وزيد بن أرقم وقيل لم يسمع منه، وعبد الله بن أبي أوفى، هؤلاء صحابة، وشريح القاضي، وقيس بن أبي حازم، وابن أبي ليلى، وغيرهم من التابعين سماهم. ثم قال: وعنه الأعمش، ومنصور، ومحمد بن جحادة، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، وقتادة، وغيرهم من التابعين، وأبان بن صالح، وحجاج بن دينار، وسفيان بن حسين، والأوزاعي، ومسعر، وشعبة، وأبو عوانة، وعدة. ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن مهدي، وابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، والعجلي، وابن سعد، ويعقوب بن سفيان.
    الرابع عشر: ابن أبي ليلى، قال الحافظ في (التقريب): عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، المدني ثم الكوفي، ثقة، من الثانية، اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم سنة ست وثمانين، وقيل غرق، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
    وقال في (تهذيب التهذيب): الأنصاري الأوسي، أبو عيسى الكوفي، والد محمد، ولد لست بقين من خلافة عمر، روى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وعليّ، وسعد، وحذيفة، وكعب بن عجرة، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه ابنه عيسى، وابن ابنه عبد الله بن عيسى، والشعبي، وثابت البناني، والحكم بن عتيبة، وغيرهم سماهم.
    وقال النووي في (تهذيب الأسماء): واتفقوا على توثيقه وجلالته. وقال في شرحه لأول حديث في مقدمة صحيح مسلم وهو من رجال إسناده: وأما عبد الرحمن بن أبي ليلى فإنه من أجلِّ التابعين. وقال: وأما ابن أبي ليلى الفقيه، المتكرر في كتب الفقه، والذي له مذهب معروف، فاسمه محمد وهو ابن عبد الرحمن هذا، وهو ضعيف عند المحدثين، والله أعلم. انتهى.
    الخامس عشر: كعب بن عجرة، قال الحافظ في (التقريب): كعب بن عجرة الأنصاري، المدني، أبو محمد، صحابي مشهور، مات بعد الخمسين وله نيف وسبعون، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
    وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى سبعة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بمثلهما. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: أن له في صحيح البخاري حديثين. وقال في (تهذيب التهذيب): أبو محمد، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو إسحاق. وقال في (الإصابة): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وعن عمر، وشهد عمرة الحديبية، ونزلت فيه قصة الفدية. وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب): فيه نزلت (فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ )، نزل الكوفة ومات بالمدينة سنة ثلاث أو إحدى وخمسين، وقيل سنة اثنتين وخمسين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، روى عنه أهل المدينة وأهل الكوفة.
    المبحث الثالث: لطائف الأسانيد الثلاثة وما فيها من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
    (1) رجال الأسانيد الخمسة عشر خرَّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ مسلم محمد بن بكار، فلم يرو له مع مسلم سوى أبي داود، وشيخه زهير بن حرب لم يرو له الترمذي.
    (2) تسعة من الرواة كوفيون وهم: كعب بن عجرة، وابن أبي ليلى، والحكم بن عتيبة، وأبو كريب، ووكيع، ومسعر، وإسماعيل بن زكريا، والأعمش، ومالك بن مغول، وكعب وابن أبي ليلى هما أيضاً مدنيان. وفيهم أربعة بصريون وهم: محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، ومحمد بن جعفر، وشعبة، وشعبة واسطي أيضاً، أما الراويان الباقيان فهما: محمد بن بكار وهو بغدادي، وزهير بن حرب نسائي ثم بغدادي.
    (3) خمسة من الرواة من ذوي الألقاب في المحدثين وهم: محمد بن المثنى ولقبه الزمن، ومحمد بن بشار ولقبه بندار، ومحمد بن جعفر ولقبه غندر، وإسماعيل بن زكريا ولقبه شقوصاً، والخامس الأعمش واسمه سليمان بن مهران.
    (4) شيخا مسلم في الإسناد الأوّل محمد بن المثنى ومحمد بن بشار اتفقا في الاسم، وفي أنهما بصريان، وفي سنة الولادة، وسنة الوفاة، وكل منهما شيخ لأصحاب الكتب الستة.
    (5) ابن أبي ليلى والحكم بن عتيبة تابعيان، وفي الإسناد الثالث الأعمش وهو من صغار التابعين، ففي الإسناد الثالث ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن أبي ليلى، والحكم، والأعمش.
    (6) الحكم بن عتيبة وصف بالتدليس، وقد صرّح بالسماع في روايته هذا الحديث عن ابن أبي ليلى.
    (7) شعبة بن الحجاج وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وصفه بذلك سفيان الثوري.
    (8) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): أن من المهم في علم المصطلح معرفة من اختلف في كنيته، وفي الإسناد كعب بن عجرة رضي الله عنه كنيته أبو محمد، وقيل أبو عبد الله وقيل أبو إسحاق كما في (تهذيب التهذيب).
    (9) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر) أيضاً: أن من المهم معرفة من تعددت كناه، وفي الإسناد الحكم بن عتيبة كنيته أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو عمر، كما في (تهذيب التهذيب).
    (10) كعب بن عجرة رضي الله عنه له في صحيح مسلم أربعة أحاديث، وافقه البخاري على إخراج اثنين منها، (أحدهما) هذا الحديث في بيان كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، و(الثاني) في نزول آية الفدية فيه. أما الحديثان اللذان انفرد بهما عن البخاري فأحدهما حديث: ((معقبات لا يخيب قائلهن)) أخرجه في (كتاب المساجد)، و(مواضع الصلاة)، والثاني حديثه في خطبة الجمعة قائماً، أخرجه في (كتاب الجمعة)، فليس له في صحيح مسلم سوى هذه الأحاديث الأربعة، وليس له في صحيح البخاري سوى هذين الحديثين.
    (11) محمد بن بكار بن الريان يوافقه في الاسم واسم الأب محمد بن بكار بن الزبير من شيوخ مسلم أيضاً، وذلك من أمثلة (المتفق والمفترق)، وهو أن تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم وتختلف أشخاصهم، وفائدة معرفة ذلك خشية أن يظن الشخصان شخصاً واحداً.
    (12) ابن أبي ليلى المشهور عند المحدثين هو عبد الرحمن الراوي عن كعب بن عجرة، وابن أبي ليلى المشهور عند الفقهاء هو محمد بن عبد الرحمن ينسب إلى جده أبي ليلى.
    (13) إسماعيل بن زكريا ليس له في صحيح البخاري سوى أربعة أحاديث كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري.
    (14) مسعر هو الرجل الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الصحيحين.
    (15) في الإسناد راويان يضرب بهما المثل في الحفظ وهما: مسعر بن كدام، وشعبة بن الحجاج.
    المبحث الرابع: شرح الحديث:
    (1) قوله (اللهم): قال ابن القيم في (جلاء الأفهام): لا خلاف أن لفظة (اللهم) معناها: يا الله، ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب، فلا يقال: اللهم غفور رحيم، بل يقال: اغفر لي وارحمني. واختلف النحاة في الميم المشددة من آخر الاسم، فقال سيبويه: زيدت عوضاً من حرف النداء، ولهذا لا يجوز عنده الجمع بينهما في اختيار الكلام، فلا يقال: يا اللهم إلاّ فيما ندر كقول الشاعر:
    إني إذا ما حدث ألمّا

    أقول يا اللهم يا اللهم

    كان في محله سمي بدلاً كالألف في: قام وباع، فإنها بدل من الواو والياء، ولا يجوز عنده أن يوصف هذا الاسم أيضاً، فلا يقال: اللهم الرحيم ارحمني، ولا يبدل منه، والضمة التي على الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد، وفتحت الميم لسكونها وسكون الميم التي قبلها، وهذا من خصائص هذا الاسم، كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف وبقطع همزة وصله في النداء وتفخيم لامه وجوباً غير مسبوقة بحرف إطباق. هذا ملخص ما ذكره الخليل وسيبويه، وقيل: الميم عوض عن جملة محذوفة والتقدير: يا الله أمنا بخير، أي اقصدنا، ثم حذف الجار والمجرور وحذف المفعول، فبقي في التقدير: يا الله أم، ثم حذفت الهمزة لكثرة دوران هذا الاسم في الدعاء على ألسنتهم فبقي يا اللهم. وهذا قول الفراء.
    وقال: وردَّ هذا البصريون بوجوه، فذكرها وعدتها عشرة. ثم قال: وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم كزيادتها في (زرقم) لشديد الزرقة و(ابنم) في الابن، وهذا القول صحيح ممكن يحتاج إلى تتمة، وقائله لحظ معنى صحيحاً لابد من بيانه: وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه ومخرجها يقتضي ذلك، وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى، كما هو مذهب أساطين العربية. ثم أفاض في إيضاح ذلك وقال: وهذا القول الذي اخترناه قد جاء عن غير واحد من السلف، قال الحسن البصري: اللهم مجمع الدعاء. وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قول (اللهم) فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى. وقال النضر بن شميل: من قال: اللهم، فقد دعا الله بجميع أسمائه.
    (2) قوله (اللهم صل على محمد): قال ابن القيم في (جلاء الأفهام): وأصل هذه اللفظة ـ يعني الصلاة ـ في اللغة يرجع إلى معنيين: أحدهما الدعاء والتبريك. والثاني: العبادة. وقال: والدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة. والعابد داع كما أن السائل داع، وبهما فسر قوله تعالى: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قيل: أطيعوني أثبكم، وقيل: سلوني أعطكم، وفسر بهما قوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) . وقال: وأما صلاة الله سبحانه على عباده فنوعان: عامة وخاصة، أما العامة: فهي صلاته على عباده المؤمنين، وأما الخاصة فصلاته على أنبيائه ورسله خصوصاً على خاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم .
    فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال، فذكر قول من قال: إنها رحمته. وقول من قال: إنها مغفرته. وضعفهما من وجوه عديدة، واختار أن الصلاة ثناء من المصلي على من يصلي عليه، وتنويه به وإشادة بمحاسنه. وقال: ذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية: صلاة الله على رسوله، ثناؤه عليه عند الملائكة. وقال في معرض الكلام على صلاة الله وملائكته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر عباده المؤمنين بأن يصلوا عليه، بعد أن رد أن يكون المعنى الرحمة والاستغفار: بل الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه، وإظهار لفضله وشرفه، وإرادة تكريمه وتقريبه، فهي تتضمن الخبر والطلب، وسمي هذا السؤال والدعاء منا نحن صلاة عليه لوجهين: أحدهما: أنه يتضمن ثناء المصلي عليه، والإشادة بذكر شرفه وفضله، والإرادة والمحبة لذلك من الله، فقد تضمنت الخبر والطلب. والوجه الثاني: أن ذلك سمي صلاة منا، لسؤالنا من الله أن يصلي عليه، فصلاة الله ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به. انتهى.
    وقال الحافظ في (الفتح): وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية: أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه، طلب ذلك له من الله تعالى. والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة.
    (3) قوله (وعلى آل محمد): آل النبي صلى الله عليه وسلم ، اختلف فيهم على أربعة أقوال، ذكرها ابن القيم في (جلاء الأفهام). الأول: هم الذين حرمت عليهم الصدقة. قال ابن القيم: هو منصوص الشافعي ـ رحمه الله ـ وأحمد والأكثرين، وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشافعي.
    الثاني: آله أزواجه وذريته خاصة، حكاه ابن عبد البر في التمهيد عن قوم.
    الثالث: أن آله صلى الله عليه وسلم ، أتباعه إلى يوم القيامة. قال ابن القيم: حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم. ثم قال: وأقدم من روي عنه هذا القول جابر بن عبد الله، ذكره البيهقي عنه، ورواه عن سفيان الثوري وغيره بعض أصحاب الشافعي، حكاه عنه أبو الطيب الطبري في تعليقه، ورجحه محيي الدين النووي في شرح مسلم، واختاره الأزهري.
    الرابع: أن آله صلى الله عليه وسلم : هم الأتقياء من أمته. قال ابن القيم: حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة. ثم ذكر ابن القيم أدلة كل من هذه الأقوال الأربعة وقال بعد ذلك: والصحيح هو القول الأول ويليه القول الثاني، وأما الثالث والرابع فضعيفان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع الشبهة بقوله: ((إن الصدقة لا تحل لآل محمد)). وقوله: ((إنما يأكل آل محمد من هذا المال)). وقوله: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً))، وهذا لا يجوز أن يراد به عموم الأمة قطعاً. فأولى ما حمل عليه الآل في الصلاة الآل المذكورون في سائر ألفاظه، ولا يجوز العدول عن ذلك، وأما تنصيصه على الأزواج والذرية فلا يدل على اختصاص الآل بهم، لما روى أبو داود من حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : ((اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم))، فجمع بين الأزواج والذرية والأهل، وإنما نص عليهم بتعيينهم ليبين أنهم حقيقون بالدخول في الآل، وأنهم ليسوا بخارجين منهم بل هم أحق من دخل فيهم، وهذا كنظائره من عطف الخاص على العام وعكسه تنبيهاً على شرفه وتخصيصاً له بالذكر من بين النوع لأنه من أحق أفراد النوع بالدخول فيه.
    (4) وفي هذه الصلاة سؤال مشهور، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم فكيف طلب له من الصلاة ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ فكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟ وقد ذكر ابن القيم في (جلاء الأفهام) أقوالاً عديدة في ذلك ضعفها وقال في آخرها: ((وقالت طائفة أخرى: آل إبراهيم منهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء، حصل لآل محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يليق بهم، فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيحصل له بذلك من المزية ما لم يحصل لغيره، وتقرير ذلك أن يجعل الصلاة الحاصلة لإبراهيم ولآله وفيهم الأنبياء، جملة مقسومة على محمد صلى الله عليه وسلم وآله، ولا ريب أنه لا يحصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل لآل إبراهيم وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم، فيبقى قسم النبي صلى الله عليه وسلم والزيادة المتوفرة التي لم يستحقها آله مختصة به صلى الله عليه وسلم ، فيصير الحاصل له من مجموع ذلك أعظم وأفضل من الحاصل لإبراهيم، وهذا أحسن من كل ما تقدمه، وأحسن منه أن يقال: محمد صلى الله عليه وسلم هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم. كما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ )، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (محمد من آل إبراهيم) ، وهذا نص إذا دخل غيره من الأنبياء الذين هم من ذرية إبراهيم في آل، فدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى فيكون قولنا: (كما صليت على آل إبراهيم) متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، ثم قد أمرنا الله أن نصلي عليه وعلى آله خصوصاً بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموماً وهو فيهم، ويحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له صلى الله عليه وسلم .
    وتقرير ذلك أن يكون قد صلى عليه خصوصاً، أو طلب له من الصلاة ما لآل إبراهيم وهو داخل معهم، ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم ورسوله صلى الله عليه وسلم معهم أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه وجريه على أصله وأن المطلوب له من الصلاة بهذا اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره، فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به وله أوفر نصيب منه صار له المشبه المطلوب أكثر مما لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى ذلك مما له من المشبه به من الحصة التي لم تحصل لغيره، فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم وعلى كل من آله وفيهم النبيون ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
    (5) ورد في أحاديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، الجمع بين النبي صلى الله عليه وسلم وآله في أغلبها، وورد الجمع بين ذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله، كما ورد إفراد إبراهيم دون ذكر الآل، وورد ذكر الآل دون إبراهيم، وقد قال ابن القيم في (جلاء الأفهام): ((إنه لم يجيء حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم)). وهو وَهْم، فقد جاء الجمع بينهما في (صحيح البخاري) وغيره، وقد نبه على هذا الوهم الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)، وفي حالة الجمع بينهما حصل التنصيص في الصلاة على كل منهما، وفي حالة ذكر إبراهيم فقط، فلأنه الأصل في الصلاة المخبر بها، وآله تبع له فيها، وفي حالة ذكر آل إبراهيم فقط، فلأنه داخل في آله. نبه على ذلك ابن القيم في حالتي إفراد كل من إبراهيم وآله في المشبه به وقال: ((بقي أن يقال: فلم جاء ذكر محمد وآل محمد بالاقتران دون الاقتصار على أحدهما في عامة الأحاديث، وجاء الاقتصار على إبراهيم وآله في عامتها؟.
    وجواب ذلك: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء، وأما الصلاة على إبراهيم فإنما جاءت في مقام الخبر وذكر الواقع لأن قوله: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) جملة طلبية، وقوله: (كما صليت على إبراهيم) جملة خبرية، والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها، ولهذا يشرع تكرارها وإبداؤها وإعادتها فإنها دعاء. والله يحب الملحين في الدعاء.
    وقال: وأما الخبر فهو خبر عن أمر قد وقع وانقضى، لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلم يكن في زيادة اللفظ فيه كبير فائدة لاسيما المقام مقام إيضاح وتفهيم للمخاطب ليحصل معه البسط والإطناب. فكان الإيجاز فيه والاختصار أكمل وأحسن، فلهذا جاء فيه بلفظ إبراهيم تارة وبلفظ آله أخرى، لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر من الوجه الذي قدمناه، فكان المراد باللفظين واحداً مع الإيجاز والاختصار، وأما في الطلب فلو قيل: صل على محمد: لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آله، إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ ليس خبراً عن أمر قد وقع واستقر، ولو قيل: صل على آل محمد، لكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما يصلى عليه في العموم، فقيل: على محمد وعلى آل محمد، فإنه يحصل له بذلك الصلاة عليه بخصوصه والصلاة عليه بدخوله في آله)). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
    (6) قوله (اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم). قال ابن القيم: ((وحقيقتها الثبوت واللزوم والاستقرار، فمنه برك البعير إذا استقر على الأرض، ومنه المبرك لموضع البروك)). وقال: ((والبركة النماء والزيادة، والتبريك الدعاء بذلك، ويقال باركه الله وبارك فيه وبارك عليه وبارك له)). وقال في معنى البركة في هذا الحديث: ((فهذا الدعاء يتضمن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم وإدامته وثبوته له ومضاعفته له وزيادته)).
    (7) ختم الدعاء في هذه الصلاة باسمي الله (الحميد والمجيد): والحميد فعيل من الحمد، وهو بمعنى محمود وهو أبلغ من المحمود. والحميد هو الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محموداً وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه. والمحمود من تعلق به حمد الحامدين، وهكذا المجيد والممجد والكبير والمكبر والعظيم والمعظم، والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله، فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود فمن أحببته ولم تثن عليه لم تكن حامداً له، وكذا من أثنيت عليه لغرض ما ولم تحبه لم تكن حامداً له حتى تكون مثنياً عليه محباً له. والمجيد من المجد، وهو مستلزم للعظمة والجلال كما يدل عليه موضوعه في اللغة، فهو دال على صفات العظمة والجلال، والحمد يدل على صفات الإكرام، والله سبحانه ذو الجلال والإكرام، ولهذا يقرن الله بين هذين النوعين في القرآن كثيراً، ولما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثناء الله تعالى عليه وتكريمه، والتنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبه وتقريبه، كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإن الصلاة عليه هو نوع حمد له وتمجيد هذا حقيقتها فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له وهما اسماه الحميد والمجيد، وهذا من ختم الدعاء بما يناسب المطلوب من أسماء الله تعالى كما هو كثير في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمداً ومجداً بصلاة الله عليه، ختم هذا السؤال باسمي الحميد والمجيد، وأيضاً فإنه لما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمداً ومجداً، وكان ذلك حاصلاً له ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت ذينك الوصفين للرب بطريق الأولى، وكل كمال في العبد غير مستلزم للنقص فالرب أحق به، وأيضاً فإنه لما طلب للرسول صلى الله عليه وسلم حمد ومجد بالصلاة عليه، وذلك يستلزم الثناء على مرسله بالحمد والمجد ختم باسمي الله الحميد المجيد ليكون هذا الدعاء متضمناً لطلب الحمد والمجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإخبار عن ثبوته للرب سبحانه وتعالى. انتهى ملخصاً من كلام ابن القيم رحمه الله.
    (8) قوله (قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟): يشير إلى ما أمروا به في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )، والسلام الذي عرفوه هو ما جاء في التشهد من قوله: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)).
    (9) قول كعب بن عجرة رضي الله عنه لابن أبي ليلى: ألا أهدي لك هدية: يدل على أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة سنته صلى الله عليه وسلم ، وتطبيقها، أنفس الأشياء عندهم، وأحبها إلى نفوسهم، ولهذا قال كعب ما قال منبهاً إلى أهمية ما سيلقيه على ابن أبي ليلى ليستعد لفهمه، ويهيئ نفسه لتلقيه والإحاطة به، ولما كان السلف معنيين بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، حريصين عليها، وهي أنفس هداياهم، لما قام في قلوبهم من محبتها والحرص على تطبيقها كانوا سادة الأمم ومحط أنظار العالم، وكان النصر على الأعداء حليفهم، وكانت الشوكة والغلبة للإسلام وأهله، كما قال الله تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وعلى العكس من ذلك ما نشاهده اليوم من واقع المسلمين المؤلم، من التخاذل والتفكك، والزهد في تعاليم الشريعة، والبعد عنها، إلاّ من رحم الله وقليل ما هم. لما كانوا كذلك، لم يحسب أعداؤهم لهم أي حساب، ولم يقيموا لهم أدنى وزن، وكانوا هائبين بعد أن كان أسلافهم مهيبين، وغزوا في عقر دارهم من عدوهم، وممن تربى على أيديه من أبنائهم. وإذا تأمل العاقل ما تضمنه هذا الحديث الشريف من بيان قيمة السنة النبوية في نفوس السلف الصالح، وعظيم منـزلتها في نفوسهم، وأنها أنفس هداياهم، ثم نظر إلى حالة الكثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم، وما ابتلوا به من الزهد في الشريعة، والتحاكم إلى غيرها، أقول إذا تأمل العاقل أحوال أولئك، وأحوال هؤلاء، عرف السر الذي من أجله كان أولئك ينتصرون على أعدائهم مع قلة عددهم وعُددهم، وكان هؤلاء ينهزمون وهم كثيرون أمام الأعداء، ولن يقوم للمسلمين قائمة إلاّ إذا رجعوا إلى الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، ولفظوا القوانين الوضعية الوضيعة، وغيرها من البضائع الرديئة المستوردة مما وراء البحار، ونظّفوا نفوسهم وأوطانهم منها.
    (10) هذا الحديث أورده مسلم في (كتاب الصلاة) من صحيحه، وقد قال النووي في شرحه: قال القاضي: ويحتمل أن يكون سؤالهم عن كيفية الصلاة في غير الصلاة، ويحتمل أن يكون في الصلاة، قال: وهو الأظهر. قلت: وهو ظاهر اختيار مسلم، ولهذا ذكر الحديث في هذا الموضع. انتهى.
    وقال أيضاً: اعلم أن العلماء اختلفوا في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب التشهد الأخير في الصلاة، فذهب أبو حنيفة ومالك ـ رحمهما الله تعالى ـ والجماهير إلى أنها سنة، لو تركت صحت الصلاة. وذهب الشافعي وأحمد ـ رحمهما الله ـ إلى أنها واجبة، لو تركت لم تصح الصلاة. وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وهو قول الشعبي. وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر جملة من أحاديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن أبي مسعود البدري أنهم قالوا: يا رسول الله، أما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد))، وذكره. ورواه الشافعي ـ رحمه الله ـ في مسنده عن أبي هريرة بمثله، ومن هاهنا ذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فإن تركه لم تصح صلاته. ثم ذكر عن بعض المتأخرين أن الشافعي تفرد في ذلك، وحكى الإجماع على خلافه، وأنكر ذلك عليه، ثم قال: فإنا قد روينا وجوب ذلك الأمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما هو ظاهر الآية، ومفسر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة منهم: ابن مسعود، وأبو مسعود البدري، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: الشعبي، وأبو جعفر الباقر، ومقاتل بن حيان، وإليه ذهب الشافعي لا خلاف عنه في ذلك ولا بين أصحابه أيضاً، وإليه ذهب الإمام أحمد أخيراً فيما حكاه عنه أبو زرعة الدمشقي، وبه قال إسحاق بن راهويه، والفقيه الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن المواز المالكي، رحمهم الله.
    (1) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
    (2) ما كان عليه سلف هذه الأمة من الحرص على تلقي السنة وفهمها.
    (3) مشروعية التهادي.
    (4) أن مثل هذه الهدية أنفس أنواع الهدايا، ومن أردأ أنواع الهدايا ما نشاهده في هذا الزمن من تهادي الأغنيات بواسطة الإذاعات وغيرها.
    (5) ذكر المعلم ما يستدعي انتباه المتعلم لقول كعب بن عجرة رضي الله عنه لابن أبي ليلى: (ألا أهدي لك هدية) بين يدي ذكر حديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
    (6) بيان كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
    (7) أن السنة تبين القرآن وتفسره، فإن هذا الحديث بيان لقوله تعالى: :( الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ).
    (8) جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
    (9) أن من أمر بشيء لا يفهم المراد به عليه أن يسأل عنه ليعلم ما يأتي به.
    (10) أن للسائل إذا سأل عن شيء خفي عليه أن يبين ما ظهر له مما يماثله.
    (11) مشروعية الصلاة على آل النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم .
    (12) أنه يجمع إلى طلب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم طلب البركة.
    (13) الثناء على الله في الدعاء لقوله: ((إنك حميد مجيد)).
    (14) أن البسط والتكرار في الدعاء أولى من الاختصار.
    (15) بيان عظم منـزلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند الله.
    (16) أن الصلاة من الله قد حصلت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله وكذا البركة.
    (17) الرد على من قال: إن صلاة الله على نبيه رحمته لأن الصحابة رضي الله عنه قالوا: قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ ولو كان المراد بالصلاة الرحمة لقال لهم: قد علمتم ذلك في السلام، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم علّمهم السلام عليه وهو مشتمل على الرحمة.
    (18) أن الواو لا تقتضي الترتيب، لأن صيغة الأمر وردت بالصلاة والتسليم بالواو في قوله تعالى: :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وقدّم تعليم السلام قبل الصلاة.
    (19) أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره وكذا العكس، لأن تعليم التسليم تقدم قبل تعليم الصلاة.

    (20) فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الأمر بها واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها.

    (21) دخول الرجل في مسمى آله، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام داخل في قوله: ((كما صليت على آل إبراهيم)).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: دراسة تحليلية للحديث **متجددة

    دراسة تحليلية للحديث
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
    الحلقة (40)




    حديث (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري...)



    قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار من صحيحه: حدثنا إبراهيم بن دينار حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم القطعي عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن قدامة بن موسى عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه يقول: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)).

    المبحث الأول: التخريج:

    هذا الحديث انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري، فأخرجه في هذا الموضع من صحيحه، ولم يروه من غير هذه الطريق ولم يكرره، وروى النسائي أوله قبيل (كتاب الجمعة) من سننه فقال: أخبرنا عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو وقال حدثنا ابن وهب قال أخبرني حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه: أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى إنا لنجد في التوراة أن داود نبي الله صلى الله عليه كان إذا انصرف من صلاته قال: ((اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد))، قال: وحدثني كعب أن صهيباً حدثه أن محمداً صلى الله عليه كان يقولهن عند انصرافه من صلاته. وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة كعب الأحبار بمثله.

    المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

    الأول: شيخ مسلم إبراهيم بن دينار، قال الحافظ ابن حجر في (التقريب): إبراهيم بن دينار البغدادي، أبو إسحاق التمار، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال مسلم وحده.

    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع يحيى بن حماد، وحجاج بن محمد، وعمرو بن الهيثم، وأبا عاصم، ورجاء، وابن علية، وابن عيينة، وعبيد الله بن موسى روى عنه مسلم.

    وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): وعنه مسلم، وأبو زرعة، وموسى بن حماد، وأبو يعلى، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وعدة. ونقل توثيقه عن أبي زرعة، ومحمد بن إبراهيم بن جنادة، وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات).

    الثاني: أبو قطن عمرو بن الهيثم، قال الحافظ في (التقريب): عمرو بن الهيثم بن قطن ـ بفتح القاف والمهملة ـ القطعي ـ بضم القاف وفتح المهملة ـ أبو قطن البصري، ثقة، من صغار التاسعة، مات على رأس المائتين، ورمز لكون البخاري روى عنه في الأدب المفرد، ولكونه من رجال الجماعة سوى البخاري.

    وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): من أهل بغداد، سمع شعبة، وعبد العزيز بن أبي سلمة. روى عنه إبراهيم بن دينار، ومحمد بن حرب الواسطي. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن الشافعي، وابن المديني، وابن معين، وصالح بن محمد البغدادي. وقال الحافظ: وذكره مسلم بن الحجاج في الطبقة الثالثة من ثقات أصحاب شعبة مع وكيع، ويزيد بن هارون، وغيرهما.

    الثالث: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ـ بكسر الجيم بعدها معجمة مضمومة ـ المدني، نزيل بغداد، مولى آل الهدير، ثقة، فقيه، مصنف، من السابعة، مات سنة أربع وستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): الفقيه أحد الأعلام، مولى آل الهدير التميمي، نزيل بغداد، روى عن أبيه، وعمه يعقوب، ومحمد بن المنكدر، والزهري، وقدامة بن موسى، وغيرهم سماهم. وقال: وعنه ابنه عبد الملك، وزهير بن معاوية، وابن وهب، وابن مهدي، ووكيع، وأبو قطن، وشبابة، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن أبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، والنسائي، وابن سعد، وأحمد بن صالح، وأبو بكر البزار.

    الرابع: قدامة بن موسى، قال الحافظ في (التقريب): قدامة بن موسى بن عمر بن قدامة بن مظعون الجمحي، المدني، إمام المسجد النبوي، ثقة عمَّر، من الخامسة، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، ورمز لكون البخاري روى له تعليقاً، ولكونه من رجال مسلم، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه.

    وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن ابن عمر، وأنس، وأبيه موسى، وأيوب ويقال: محمد بن الحصين، وأبي صالح السمان، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعمرو بن ميمون بن مهران، وأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين. وعنه أخوه عمر، وابنه إبراهيم، وابن جريج، وسليمان بن بلال، ووهيب، وغيرهم سماهم.

    وقال الحافظ: قلت: في صحة سماعه من ابن عمر نظر، فقد أخرج له الترمذي حديثاً، فأدخل بينه وبين ابن عمر ثلاثة أنفس. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي زرعة. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال: كان إمام مسجد رسول الله صلى الله عليه .

    وقال: وقال الزبير بن بكار: عمِّر قدامة بن موسى، وكان ثبتاً. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) بعد أن ذكره ممن انفرد به مسلم: سمع أبا صالح السمان في الدعاء، روى عنه عبد العزيز بن الماجشون.

    الخامس: أبو صالح السمان، تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

    السادس: أبو هريرة رضي الله عنه وقد تكرر ذكره.

    المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

    (1) ثلاثة من رجال الإسناد اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهم: أبو هريرة رضي الله عنه ، وأبو صالح السمان، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون. والثلاثة الباقون انفرد مسلم عن البخاري في الإخراج لهم.

    (2) أربعة من رجال الإسناد مدنيون وهم: أبو هريرة، وأبو صالح السمان، وقدامة بن موسى، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون. وعبد العزيز مدني نزل بغداد، وعمرو بن الهيثم بصري سكن بغداد، وإبراهيم بن دينار بغدادي.

    (3) عمرو بن الهيثم له في صحيح مسلم حديثان، أحدهما هذا، والثاني في فضل الصف الأول، كما ذكر ذلك ابن حجر في ترجمته في (تهذيب التهذيب).

    (4) في الإسناد ثلاثة اشتهروا بكناهم وهم: أبو هريرة رضي الله عنه ، وأبو صالح السمان، وأبو قطن عمرو بن الهيثم.

    (5) قدامة بن موسى إمام المسجد النبوي وهو من المعمرين. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في (التقريب): ثقة عمِّر. وقال في (تهذيب التهذيب): وقال الزبير بن بكار: عمّر قدامة بن موسى وكان ثبتاً. انتهى. وقد ألف الذهبي في المعمرين مصنفاً خاصاً.

    (6) في الإسناد تابعيان وهما: أبو صالح السمان، وقدامة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

    (7) في الإسناد صيغتان هما: التحديث في موضعين، والعنعنة في أربعة مواضع.

    (8) قدامة بن موسى له في صحيح مسلم هذا الحديث الواحد، قال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) بعد أن ذكره فيمن انفرد به مسلم: سمع أبا صالح السمان في الدعاء، روى عنه عبد العزيز بن الماجشون.

    المبحث الرابع: شرح الحديث:

    (1) اشتمل هذا الحديث على خمس جمل طلبية: الجملة الأولى: فيها سؤال العبد ربه أن يصلح له دينه الذي فيه عصمة أمره. والجملة الثانية: فيها سؤاله ربه إصلاح دنياه. والثالثة: فيها سؤاله ربه أن يصلح له آخرته. والرابعة: سؤاله أن تكون حياته الدنيوية مباركة معمورة بالأعمال الصالحة. والخامسة: سؤال العبد ربه أن يريحه عند الموت من كل شر، ليكون كل ما يحصل له خيراً.

    والجملة الأولى جامعة مشتملة على ما تتضمنه الجمل الأربع بعدها، لأن من وفق لصلاح الدين حصلت له سعادة الدنيا والآخرة، وكانت حياته مباركة وعاقبته حميدة كما قال تعالى:( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(، وإنما ذكرت الجمل الأربع مع أن الجملة الأولى شاملة لها، لأن المقام مقام دعاء وتضرع إلى الله. والله يحب من عباده أن يدعوه وأن يلحوا في دعائهم.

    قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام) في معرض كلامه على حديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه : والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال، كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها، ولهذا يشرع تكرارها وإبداؤها وإعادتها، فإنها دعاء، والله يحب الملحين في الدعاء، ولهذا تجد كثيراً من أدعية النبي صلى الله عليه فيها من بسط الألفاظ، وذكر كل معنى بصريح لفظه، دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه ما يشهد لذلك كقوله صلى الله عليه في حديث عليّ الذي رواه مسلم في صحيحه: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت...))، ومعلوم أنه لو قيل: اغفر لي كل ما صنعت كان أوجز، ولكن ذكر ألفاظ الحديث في مقام الدعاء، والتضرع، وإظهار العبودية والافتقار، واستحضار الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلاً، أحسن وأبلغ من الإيجاز والاختصار.

    وكذلك قوله في الحديث الآخر: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، سره وعلانيته، أوله وآخره))، وفي الحديث: ((اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي، وهزلي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي)). وهذا كثير في الأدعية المأثورة، فإن الدعاء عبودية لله وافتقار إليه، وتذلل بين يديه، فكلما كثّره العبد وطوّله، وأعاده وأبداه، ونوّع جمله، كان ذلك أبلغ في عبوديته، وإظهار فقره وتذلـله، وكان ذلك أقرب له من ربه وأعظم لثوابه، وهذا بخلاف المخلوق، فإنك كلما أكثرت سؤاله وكرّرت حوائجك عليه، أبرمته وأثقلت عليه، وهنت عليه، وكلما تركت سؤاله كان أعظم عنده وأحب إليه. والله سبحانه كلما سألته كنت أقرب إليه، وأحب إليه، وكلما ألححت عليه في الدعاء أحبك، ومن لم يسأله يغضب عليه.





    فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب




    فالمطلوب يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.

    (2) هذا الحديث لا يدل على جواز الدعاء بالموت، وإنما يدل على الدعاء بحسن الخاتمة، وصلاح العاقبة.

    قال الصنعاني في (سبل السلام): وليس فيه دلالة على جواز الدعاء بالموت، بل إنما دل على سؤال أن يجعل الموت في قضائه عليه، ونزوله به، راحة من شرور الدنيا وشرور القبر، لعموم (كل شر) أي من كل شر قبله وبعده.

    (3) في الحديث شاهد لما يعرف في علم البلاغة باللف والنشر المرتب، وذلك أنه حصل ذكر الدنيا ثم الآخرة ثم ذكرت الحياة الدنيوية وبعدها الموت الذي هو بدء الحياة الأخروية، فالترتيب في الجملتين الآخيرتين على وفق ترتيب الجملتين قبلهما.

    (أ) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

    (1) مشروعية الدعاء.

    (2) دعاء العبد ربه أن يصلح له دينه.

    (3) الدعاء بإصلاح دنيا العبد وآخرته.

    (4) أن صلاح دين العبد فيه عصمته ونجاته.

    (5) اهتمام العبد بما فيه سعادته الدنيوية والأخروية.

    (6) أن البسط والتكرار في الدعاء أولى من الإيجاز والاختصار.

    (7) الإيمان بالبعث.

    (8) تنبيه العبد إلى التزود من الأعمال الصالحة في الحياة.

    (9) أنه في الدعاء يبدأ بالأهم.

    (10) الدعاء بحسن الخاتمة.

    وإلى هنا انتهى ما يسر الله جمعه وتحريره من الكلام على عشرين حديثاً من صحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ـ رحمه الله ـ بعد التمهيد لها بترجمة مختصرة له وتعريف موجز بصححيه.
    وكان الفراغ من ذلك في مساء يوم الجمعة الموافق السابع والعشرين من شهر صفر سنة إحدى وتسعين بعد الثلاثمائة والألف في دار الهجرة. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •