اسم الله القاهر ( القهار تأصيلا وفقها )
بقلم/ محمد ويلالي.
اسم الله "القاهر/ القهار" تأصيلاً وفقهاً:
نعيش زمانًا كثرت فيه القلاقل، واختلت فيه كثير من موازين الرحمة والرأفة، حتى أوشك أن يصبح الشعور بتملك القوة والقهر هو الغالب، مما يسلمنا إلى الحديث عن أحد أسماء الله الحسنى، الذي - ربما - لا يعيره كثير من دعاة القوة والسيطرة ما يستحقه من التقدير، ولا يولونه من الاهتمام ما هو به جدير. إنه اسم الله: "القَاهِر"، و "القَهَّار".
ويأتي اختيار هذا الاسم البديع، في سياق ضعف التدين الذي تميز به بعض من يزعمون أنهم من أهل الثقافة والتنوير والانفتاح، وعدم معرفتهم بالله - عز وجل - الذي عرفنا ذاته بأسمائه وصفاته، ومنها أنه فوق عباده قاهر، وأنه صاحب العظمة الحقيقي، الذي يجب أن يخاف فلا تقتحم حدوده، وأن يطاع فلا تتجاوز شرائعه، إذ لو آمنوا به حق الإيمان، لما طعنوا في دينه بعدم صلاحيته لزماننا، ولما طالبوا بتغيير بعض أحكامه، اعتقاداً منهم في عدم عدله بيننا، ولما طعنوا في أنبيائه بأقذع الألفاظ، وأبشع الصفات، ولما لمزوا الصحابة الكرام بألوان التهكم والازدراء، ولما تناولوا شرائع ديننا بالزراية، كإظهار الانزعاج من الأذان، والدعوة إلى منع الصلاة في المؤسسات العمومية، واعتبار شعائر عيد الأضحى تتنافى والسلوك المدني، والطعن في ستر المرء وحجابها.. ولما استنقصوا من حرمة الذات الإلهية ورسله، حتى طالبوا بإسقاط عقوبة الاستهزاء بالله ـ تعالى ـ والرسل، ولما دعوا إلى تحليل ما حرم الله من خمر، وربا، وميسر، وزنا، وشذوذ.. مما كان له عاقبة السوء في مجتمعاتنا، حتى صرنا نرى الخمر يباع في بعض الأزقة، ويشرب في بعض قوارع الطرق، وصرنا نرى الزوجة يعتدى عليها أمام الملأ ضرباً، وجرحاً، وتنكيلاً، وصرنا نرى الفتاة تغتصب أمام المارة، وتحت عين آلة التصوير، وغير ذلك من المشاهد المؤلمة، التي كانت نتاج هذا الفكر المتسيب، الذي يريد فتح أبواب الحرية الشخصية على مصاريعها، وأن يمد المعتدين بأنواع من الحماية الفكرية، والحصانة الحقوقية، مما لم تزد الوضع إلا تفاقماً واتساعاً، ولا التجاوزات إلا طفوحاً وتمييعاً.
إن غياب معرفة الله بأسمائه وصفاته، أدى إلى استفحال أقاويل بعض من أظلم عندهم ليل قلوبهم، فتلاطمت فيه أمواج المعتقدات، وادلهم فيه نهار عقولهم، فتعددت فيه المناهج والأفكار والمرجعيات، حتى نبت من بيننا من لا يَقدُر قدر العزيز القهار، ولا يأبه لبطش القوي الجبار، الذي أصبح ـ سبحانه ـ مادة رخيصة على مائدة النقاشات السخيفة، وطرفا من الجدالات العقيمة، استبيحت فيها حرمته، وانتهكت فيها محارمه، حتى تجرأوا على كتابه، رمياً له بالقصور عن المستجدات، ووسما له بالنكوص عن التطورات، وما علموا أنه ـ عز وجل ـ هو القاهر فوق عباده، الكبير المتعال. ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرِطُونَ﴾.
القهر لغة: هو السيطرة، والغلبة، والعلو على الغير، مع تمام القوة والسلطان.
والقاهر ـ سبحانه ـ هو الذي أخضع كل شيء، وسيطر عليه، لا يخرج شيء عن ملكه وسلطانه. والقهار ـ سبحانه ـ هو المذلِّل المستعبِد لخلقه.
قال الأَزهري: "الله القاهرُ القَهّار، قَهَرَ خَلْقَه بسلطانه وقدرته، وصَرَّفهم على ما أَراد طوعاً وكرهاً".
وقال ابن الأَثير: "القاهر هو الغالب جميع الخلق".
وقال الحَليمي: "الذي يَقهر ولا يُقهر بحال".
وقال الخطابي: "هو الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلهم بالموت".
قال ابن القيم في نونيته:
وَكذلِكَ القّهَّارُ مِنْ أوْصَافِهِ * فَالخَلْقُ مَقْهُورُونَ بِالسُّلْطَانِ
لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيّاً عَزِيزاً قـَادِراً * مَا كَانَ مِنْ قَهْرٍ وَمِنْ سُلْطانِ
والقاهر مستعل على من يقهره. ولذلك قال ـ تعالى ـ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾.قال ابن جرير رحمه الله: "ويعني بقوله: (الْقَاهِرُ)، المذلِّل المستعبِد خلقَه، العالي عليهم.. ومن صفة كلّ قاهر شيئًا أن يكون مستعليًا عليه".
ولم ترد القهار في القرآن إلا مسبوقة بالواحد. قال ـ تعالى ـ: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾. وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "القهار لا يكون إلا واحدا، ويستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان".
ولذلك الذين ظنوا أنهم كانوا على الناس قادرين، ولرقابهم قاهرين، وعلى مصائرهم مستعلين، بعد ما ملكوا الدنيا، واستقووا بالجند والعتاد، كلهم فَنَوا وبادوا، لأن فوقهم القهار الحقيقي، المتفرد في علوه وقهره، فلا يغلبه أحد، ولا ينادده أحد، ولا يساميه في قدرته وقوته أحد، فكان القهر والتوحيد متلازمين.
وقال السعدي ـ رحمه الله ـ: "كل مخلوق فوقه مخلوق يقهره، ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه، حتى ينتهي القهر للواحد القهار. فالقهر والتوحيد متلازمان متعينان لله وحده".
وقوة العبد مقهورة بقهر الجبار الذي لا يغلبه شيء، مهما ملك من الدنيا. ولذلك لما أدركت هارون الرشيدَ ـ رحمه الله ـ الوفاةُ، نظر إلى جيوشه التي لا يكاد يحصي عددهم إلا الله، مع ما عليهم من مظاهر القوة والبأس، فقال: "يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه".
ولقد ورد هذا الاسم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن.
ـ فقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله ـ عز وجل ـ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾، فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ الله؟ فَقَالَ: "عَلَى الصِّرَاطِ" مسلم.
ـ وقالت ـ رضي الله عنها ـ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تَضَوَّرَ (تقلب) منَ الليلِ قال: "لا إلهَ إلَّا اللهُ الواحدُ القهارُ، ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما، العزيزُ الغَفَّارُ" صحيح الجامع.
ـ وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء الجميل، الذي يتضمن مقتضيات اسم الله "القاهر" و"القهار"، حيث قال للبراء بن عازب رضي الله عنه: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ. آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، مُتَّ وَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ. وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ" متفق عليه.
فكل شيء تفر منه، إلا الله، فإن فرارك إليه، لا ملجأ لك من دونه، ولا منجى لك منه إلا إليه. قال ـ تعالى ـ: ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
سُبحانَ مَن يُعطي المُنى بِخَواطِرٍ * في النَفسِ لَم يَنطِق بِهِنَّ لِسانُ
سُبحانَ مَن لا شَيءَ يَحجُبُ عِلمَه * فَالسِرُّ أَجمَعُ عِندَهُ إِعلانُ
سُبحانَ مَن هُوَ لا يَزالُ مُسَبَّحًا * أَبَداً وَلَيسَ لِغَيرِهِ السُبحانُ
وللقاهر والقهار مشاهد كثيرة، بثها الله في كونه للعبرة والاتعاظ، منها:
- القهار الذي أسلم وخضع له كل ما في الكون. قال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.
- والقهار الذي أذل كل ما في هذه الأرض لابن آدم. قال ـ تعالى ـ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾. فترى الجمل الضخم يقوده الغلام الصغير، ويسير به في حاجته، وهو منقاد له طيع. قال ـ تعالى ـ: ﴿وَذَلَّلْنَاه ا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾.
- والقاهر الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة الدنيوية والأخروية، حتى إذا أفنى الخلائق كلهم، وقهرهم بالموت، بعثهم الله يوم القيامة ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾، ثم سألهم: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾، فَلاَ يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَيَقُولُ: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾.
فكيف يغتر بعضنا بقوة بعض الأمم ـ اليوم ـ وجبروتها، إلى درجة الظن بأنهم لا يغلبون من قوة، ولا يقهرون من عتاد وعدد؟ ونسي أن الله ـ عز وجل ـ هو صاحب الكبرياء الحقيقي، والجبروت الحقيقي. قال ـ تعالى ـ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾. وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾.
لقد زعم فرعون أنه على كل شيء قادر، وأنه لجميع الخلائق قاهر، حتى قال: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾. فرد عليه موسى قائلا لقومه: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . فكانت النتيجة أن جعله الله وقومه نكال الآخرة والأولى. ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ﴾.
سُبْحَانَ مَن تَجْرِي قَضَايَاهُ عَلَى * مَا شَاءَ منها غَائبٌ وعِيَانُ
يَبْلَى لِكُلِّ مُسَلَّطٍ سُلْطَانُهُ * واللهُ لا يَبْلَى لُهُ سُلْطَانُ
ومن أعظم الدروس المستفادة من فقه اسم الله "القهار"، أن لا يتجبر الإنسان على غيره، وأن لا يجعل القوة مطية للكبرياء والاستعلاء في الأرض. فإن التاريخ يشهد أن كل جبار يقصمُه الله، وكل متكبر يهينُه الله، وهو القائل ـ سبحانه ـ: "الكبرياءُ رِدائِي، فمَنْ نازعَنِي في رِدائِي قَصَمْتُهُ" صحيح الجامع.
وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثنا بوقائع كثيرة، كفيلة برجوع المعتدين عن اعتدائهم، ووقوف المتجبرين عند ضعفهم وهوانهم أمام الجبار ـ سبحانه ـ، الذي لا يعجزه شيء، ولا يغلبه شيء.
ولنتأمل في غزوة بدر، كيف جعلها الله ـ عز وجل ـ نكالا بالمشركين، وعبرة لمن بعد من المعاندين، الذين استخفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين، فازدروهم، وعيروهم، واستهزأوا بهم.
روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَلاَ تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي؟ أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلاَنٍ، فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا، وَدَمِهَا، وَسَلاَهَا، فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ، وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ (وهو عقبة بن أبي معيط). فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ، فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَهِيَ جُوَيْرِيَةُ، حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ. فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ، رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ.. قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ـ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ـ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ". قال ابن مسعود: فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ". ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.
وكانت قريش قد خرجوا في جيش قوامه أزيد من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، في أجواء من الزهو والفخر والكبرياء، (بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، متلبسين بأنواع المنكرات، ومُتَحَدِّين رسالة رب الأرض والسماوات، حتى قال كبيرهم أبو جهل: "والله لا نرجع حتَّى نردَ بَدْراً، فننحرَ الجزور، ونَطعمَ الطَّعام، ونُسقَى الخمر، وتَعزفَ علينا القيانُ، وتسمعَ بنا العربُ، فلا يزالُونَ يهابوننا أبَداً"، استضعافا للمسلمين، وإيقانا منهم بالسطوة على عباده المؤمنين. وفي هذه اللحظة الحاسمة، لحظة استعراض القوة والسيطرة، نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يتوكل على الحي الذي لا يموت، فينظم جيشه أحسن تنظيم، ويمكث الليل في قبته يدعو ربه أن ينجز له وعده، وأن يريه قونه في أعدائه ويقول: "أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ". ثم خرج صلى الله عليه وسلم معه سلاحه، يلهج بما نزل عليه من القرآن: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ البخاري. فقهر الله ـ عز وجل ـ بقدرته الكاندين المعاندين، وردهم على أعقابهم خائبين. ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.
زَعَمَتْ سَخِينَةُ أَن سَتَغْلِبُ رَبَّها * ولَيُغْـلَبَــن َّ مُغـالِـبُ الغَــلاَّبِ
ومن أعظم الأمثلة على قهر الله ـ عز وجل ـ للمستكبرين المتجبرين، دحره ـ جل وعلا ـ للأحزاب الحلفاء، الذين تكالبوا على المسلمين في معركة الخندق، حيث تقضي كل المؤشرات المادية بأن المسلمين سينهزمون لا محالة، وأن الأعداء المتكتلين سيغلبون لا محالة. لكن القادر القاهر، يُصرف الأحداث بما يثبت ضعف المتجبر، وعجز المتكبر.
فقد خان يهود بني النضير العهد المضروب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدرجوه بالحيلة ليغتالوه، فنجاه الله ـ تعالى ـ من مكرهم، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فخرجوا ذليلين، بعد أن ﴿ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ .
خرجوا ومعهم أحقادهم ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فحركوا وفدا يهوديا رفيع المستوى، يجوب الجزيرة العربية لتجهيز أكبر جيش وثني لاستئصال الإسلام والمسلمين، واحتلال المدينة، ونهب خيراتها. واستطاعوا ـ بدهائهم ومكرهم ـ أن يستميلوا قريشا، الذين خرجوا في 4000 رجل، ثم أقنعوا غطفان، وَفَزارة، ومرة، وأشجع، حتى صاروا 10000 رجل، يقودهم أبو سفيان الذي أصبح مع باقي زعماء العرب بيادق تحركها سلطة دهاء اليهود، الذين خانوا رسالتهم السماوية، ليقروا الوثنيين على باطلهم وفساد عقيدتهم، تدليسا للأمانة التي حملوها، وشهادة بالكذب والزور بصحة دين الأصنام، وأحقيته على دين خير الأنام. فقد فقالت قريش: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إنّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الأول، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمّدٌ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟". فقال علماء بني إسرائيل: "بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ".
وأَرَّخ القرآن الكريم لهذا الموقف المخزي لليهود، فقال ـ تعالى ـ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا﴾.
وهكذا استعانت اليهودية بالوثنية لضرب الإسلام والمسلمين، تماما كما تستعين اليوم بالملاحدة واللادينيين لطعن المسلمين من الداخل والخارج.
شَهيدٌ عَلى قَوْمٍ بما كانَ مِنْهُمُ * فَيا حَقُّ خُـذْ بالثّأرِ مِنْهُمْ وَعَجِلا
وَأَنْتَ وَكيلي يا وَكيلُ عَلَيْهمُ * وَحَسْبي إِذا كَانَ الْقَوِيُّ مُوَكَّلا
يتبع