سلطان العلماء وبائع الأمراء
العز بن عبد السلام




الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فهو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، ثم المصري داراً ووفاة، الشافعي مذهبا، يكنى بأبي محمد ولقـِّب بألقاب عديدة منها: سلطان العلماء لقـَّبه به تلميذه الإمام ابن دقيق العيد كما لقبه بشيخ الإسلام، ولقب أيضا بعز الدين، وشاع بين الناس الإمام العز.

ولد بدمشق. قيل: سنة 577هـ، عاش في أسرة فقيرة مغمورة لم يكن لها مجد أو سلطان أو علم، نشأ عفيفا شريفا، ذا نفس أبيـَّة؛ إذ لم يـُعرف أنه امتهن مهنة تزري بصاحبها أو تحط من شأنه.

وكان -رحمه الله- في شبابه متدينا متعبدا رغم فقره وكده على رزقه، ولا أدل على ذلك من مبيته في المسجد الليالي الطوال ينتظر الصلاة كي لا تفوته الجماعة أو يغيب عن الصلاة والعبادة فيه، وكان زاهدا ورعا نزها لا تأخذه في الله لومة لائم، اتفق أهل دمشق على أنه ما فاتته صلاة بجامع دمشق في جماعة إلا إذا كان مريضا.

من صفاته -رحمه الله-:
1- الشجاعة:

كان -رحمه الله- شجاعا جريئا لا يخاف في الله لومة لائم، لا يخشى سلطانا، ولا يهاب الموت في سبيل الله.

ومن المواقف التي تدل على شجاعته:

إنكاره التنازل عن ديار المسلمين وعقد الصلح مع الصليبيين المعتدين؛ فلما تحالف "الصالح إسماعيل" -حاكم دمشق- مع الصليبيين وأسلمهم قلعة صفد، وقلعة الشقيف، وصيدا، وبعض ديار المسلمين ليساعدوه على "الصالح نجم الدين أيوب" -حاكم مصر-، وكان نتيجة ذلك تسليم ديار المسلمين وتطبيع العلاقات، وفتح الحدود لهم، وأذِن الصالح إسماعيل لهم بدخول دمشق سنة 638هـ، وشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر، انتفض الشيخ عز الدين يغضب لله وينتصر لدينه، ويدافع عن أرض الإسلام وحقوق المسلمين، ويجاهر بالنهي عن المنكر؛ فأفتى بحرمة بيع السلاح للصليبيين، وصعد منبر المسجد الأموي الكبير وذم موالاة الأعداء، وقبـَّح الخيانة، وذم الأعمال المشينة التي حصلت، وشنـَّع على السلطان وقطع الدعاء له في الخطبة، وكان الصالح إسماعيل خارج دمشق فلما سمع بالخبر أحس بالخطر فعزل الشيخ عن الخطابة والإفتاء وأمر باعتقاله، ولما رجع أفرج عنه وجعله قيد الإقامة الجبرية في داره، ولكن الشيخ لم يسكت.

العز يرفض المساومة ولو قبـَّل السلطان يده:

توجه الصالح إسماعيل إلى مصر تحرسه الجيوش الصليبية الحاقدة ليحارب الصالح نجم الدين أيوب، وكأنه تأسف على إطلاق سراح الشيخ فأمر بإحضاره معه واعتقاله في خيمة بجوار خيمته، وأرسل من يسايسه ويداهنه ويعده بالمناصب وغيرها إن ترك ما هو عليه، ويتوعده إن استمر على ذلك؛ فكان مما قال له:
"بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير"!!

فقال الشيخ: "يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً أن أقبـِّل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به".

فقال له: "لقد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك أن أعتقلك".
فقال الشيخ: "افعلوا ما بدا لكم".

فأخذه واعتقله في خيمة بجوار خيمة السلطان، فكان الشيخ يقرأ القرآن والسلطان يسمع، فقال يوما لملوك الصليبيين:
"أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟
قالوا: نعم.
قال: هذا أكبر قسوس المسلمين! وقد حبسته لإنكاره عليَّ تسليمي لكم حصون المسلمين، وقد عزلته عن الخطابة وعن مناصبه، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم!!

فقال ملوك الفرنجة: والله لو كان قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها"!!!

ولله در القائل:

ومن يهن يسهل الهوان عليه
مـــا لــجــرح بـمـيـت إيــلام


نصحه للملوك:

دخل الشيخ على نجم الدين أيوب في القلعة يوم العيد وهو في كامل زينته، وجنوده بين يديه فناداه باسمه المجرد:
"يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوِّئ لك مصر فتبيح الخمور؟

فقال: هل جرى هذا؟!
فرفع الشيخ صوته، وقال: نعم الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة.

فقال: يا سيدي هذا ما عملته أنا، هذا من زمن أبي!

فأجاب الشيخ: أنت من الذين يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(الزخرف:23)".

فيأمر السلطان بإبطال الحانات، ويتساءل الناس عن سر هذه الجرأة والشجاعة، فيسأل الشيخَ تلميذه الباجي عن سر ذلك فيقول: "استحضرت هيبة الله فصار السلطان قدامي كالقط".

سلطان العلماء وبيع الأمراء في المزاد:

رأى الشيخ أن المماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين واستعملهم في خدمته، وفي جيشه وتصريف شؤون الدولة يمارسون البيع والشراء؛ وهو تصرف باطل؛ لأن المملوك لا ينفذ تصرفه، وهم أصلا ملكا للدولة.
فأخذ لا يمضي لهم بيعا ولا شراء، فتعطلت مصالحهم، فجرى بينهم وبينه كلام، فقال لهم:

"أنتم الآن أرقاء لا ينفذ لكم تصرف، وإنَّ حكم الرق مستصحب عليكم لبيت مال المسلمين، وقد عزمت على بيعكم فاحتدم الأمر، وحاول السلطان أن يثني الشيخ عن رأيه، ولكنه أصر على ما هو عليه، وكان من جملة هؤلاء المماليك نائب السلطان.

ولما وصل الأمر إلى السلطان وقد صدر من السلطان كلام فيه غلظة حاصله الإنكار على الشيخ، فأدرك الشيخ أن أعوان الباطل تمالئوا عليه فعزل نفسه عن القضاء، وقرر الرحيل عن مصر؛ فحمل أهله ومتاعه على حمار، وركب على حمار وخرج من القاهرة، وتحركت جموع المسلمين وراءه من الرجال والنساء والصبيان، والعلماء والصالحون، والتجار، فركب السلطان إليه بنفسه ولحقه واسترضاه وطيـَّب قلبه.

فرجع بشرط أن ينادي على ملوك مصر وأمرائها ويبيعهم فأرسل نائب السلطان إلى الشيخ بالملاطفة، والشيخ لم يتغير.

فعزم نائب السلطان على قتل الشيخ؛ فخرج ومعه بعض حاشيته إلى بيت الشيخ والسيف في يده صلتاً، فطرق الباب فخرج إليه ولد الشيخ فرأى أمرا جللاً، فعاد إلى الشيخ وأخبره؛ فقال لولده:
"يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله"!!

فخرج إليهم. فلما رآه نائب السلطان اهتزت يده، وارتعد وسقط على الأرض وبكى، وسأل الشيخ الدعاء، ثم عقد الشيخ لهم مزادا ونادى عليهم بالبيع، وغالى في أثمانهم ووضع ثمنهم في مصالح المسلمين.


العز يهدم قاعة المنكر ويسقط عدالة الوزير:

بعد عام من حادثة بيع الأمراء في المزاد كان معين الدين بن شيخ الشيوخ كبير أمناء الملك، وكان يجمع على منصبه هذا اختصاصات الوزير، وكان قائد الجيش في المعارك.
ولكنه كان عابثا متحللا معتدا بقوته ومنصبه؛ فبنى فوق أحد مساجد القاهرة طبلخانة -قاعة لسماع الغناء والموسيقى- وذلك سنة 640هـ.
وما إن ثبت ذلك عند الشيخ وهو يتولى منصب قاضي القضاة حتى أصدر أمرا بهدم البناء وقام بنفسه وجمع أولاده والموظفين عنده وأزال هذا البناء من فوق المسجد، وأسقط عدالة الوزير بمعنى عدم قبول روايته وشهادته.

معارضته لشجرة الدر سلطنتها على مصر:

وهذا رد على من زعم أن أحدا من علماء الدين لم يبد اعتراضا على توليها الحكم.


في حرب التتار وفتاويه الشجاعة:

لما داهم التتار بلاد المسلمين ودمروا بغداد، وعظم خطرهم على بلاد الإسلام؛ قام الشيخ ببث الهمة في نفوس الناس وذكرهم بضرورة الجهاد، وحثَّ السلطان على الجهاد، وبشره بالنصر.
ولما استشاره السلطان قطز -رحمه الله- في أخذ المال من الرعية لقلة المال في الخزانة وحاجته إلى ذلك في الاستعداد لقتال التتار وافق بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وأن يبيع الأمراء ما لهم من الحوائص الذهبية والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه، ويتساووا هم والعامة .
فنفذ الملك ذلك، وأمر العز العلماء والدعاة ببث روح الجهاد في الجند وفي العامة، والقيام بالدفاع عن الإسلام؛ فكانت المنابر وساحات المساجد تتلى فيها سورة الأنفال والتوبة وآيات الحث على الجهاد، وعلى البذل والتضحية في سبيل الله، فنهض الناس جميعا بين مجاهد ومساعد، وداع وخطيب، كلٌ يجاهد حسب موقعه واستطاعته.

من صفاته -رحمه الله-:
2- الزهد:

ضرب العز مثلا للزهد بسيرته ومواقفه فكان يعيش بين الناس رافضا دنياهم يذكرهم بأخراهم، غير متطلع لما في أيديهم مع مشاركته في أحداث الدنيا، مع انخراطه في حل مشكلاتها ومعضلاتها، وكان لا يرد سائلا.


3- حـُبـُّه للصدقة:

كان -رحمه الله- كثير الصدقات باسط اليد فيما يملك، يجود بماله -ولو كان قليلا-.
حكى القاضي بدر الدين بن جـُماعة أن الشيخ لما كان بدمشق وقع مرة غلاء كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل؛ فأعطته زوجته مصاغا لها وقالت: اشتر لنا به بستانا نصيف به، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه! فقالت له: يا سيدي اشتريت لنا؟
قال: نعم. بستانا في الجنة؛ إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه.
فقالت: جزاك الله خيرا .


4- تواضعه وعدم التكلف:

مرّ في قصة بيع الأمراء قوله لابنه: "أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله"، وكان لا يتكلف في لباسه فكان يلبس العمامة، ومرة قبعة من لـُبـَّاد بحسب ما تيسر له، ويحضر بها المناسبات والمواكب .

وفاته:

بعد عمر ناهز الثلاثة والثمانين عاما في الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام ونشر دعوته توفي العز بن عبد السلام في العاشر من جمادى الأولى سنة 660هـ، وصلى عليه "الظاهر بيبرس"، وحضر جنازته الخاص والعام.

ولما بلغ السلطان وفاته قال: "لم يستقر ملكي إلا الساعة؛ لأنه لو أمر الناس فيَّ ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره".




رحمه الله رحمة واسعة وحشرنا وإياه في زمرة الصالحين، وصلِ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وسلم.



منقول للتأمل