مستجدات الحج الفقهية ( النوازل في الحج ) (15من16)
الدكتور محمد بن هائل المدحجي

ما زال الحديث متصلاً عن نوازل الحج المتعلقة بأركان الحج وواجباته ، ومن ذلك :
المستجدات المتعلقة بمنى
فمن النوازل المتعلقة بمنى : بناء أبراج في منى : فمن المتقرر أن منى لا يجوز لأي أحد أن يبني فيها بناء يتملكه ؛ لأنها تعد نسكاً ومكاناً للتعبد لعموم المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " (رواه الترمذي وابن ماجه) ، ومن ثَمّ منع أهل العلم البناء فيها . لكن قرر أهل العلم المعاصرون جواز البناء في الأماكن التي لا يمكن للحجاج أن يستفيدوا منها لكونها جبلية وعرة ، ومن ذلك ما جاء في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ذي الرقم (35) وتاريخ 14/ 2/ 1395هـ : " ثانيا: بالنسبة إلى البناء في منى فلا يخفى أن منى مشعر من المشاعر المقدسة، وأنها مُنَاخُ من سبق، وأن أهل العلم رحمهم الله قد منعوا البناء فيها؛ لكون ذلك يفضي إلى التضييق على عباد الله حجاج بيته الشريف. ونظرا إلى أن سفوح جبالها غير صالحة في الغالب لسكنى الحجاج فيها أيام منى، وأنه يمكن أن تستغل هذه السفوح بطريقة تحقق المصلحة العامة، ولا تتعارض مع العلة في منع البناء في منى ، فإن المجلس يقرر بالأكثرية: جواز البناء على أعمدة في سفوح الجبال المطلة على منى على وجه يضمن المصلحة للحجاج، ولا يعود عليهم بالضرر، ويكون هذا البناء مرفقا عاما، وما تحته لمن سبق إليه من الحجاج كبقية أراضي منى، على أن يكون الإشراف على هذا البناء للدولة"اهـ[ أبحاث هيئة كبار العلماء 3/398].
والذي يظهر والله أعلم هو جواز التوسع في بناء هذه الأبراج ولو في غير المناطق الجبلية ، إذا كان في ذلك تيسيرٌ وتوسعة على المسلمين ؛ بشرط أن يكون هذا البناء وقفاً عاماً للمسلمين ، تطبق عليه القاعدة النبوية " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " ، والله أعلم .
ومن النوازل المتعلقة بمن يقوم على خدمة الحجيج : ترخّص من يقوم على خدمة الحجيج في ترك المبيت الواجب في منى: فمن المعلوم أنه يرخص في ترك المبيت بمنى للسقاة والرعاة باتفاق الفقهاء رحمهم الله _ مع مراعاة أن الحنفية لا يقولون أصلاً بوجوب المبيت في منى _؛ لحديث ابن عمر قال: " استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ، فأذن له " (متفق عليه ) ، كما رخص النبي –صلى الله عليه وسلم- لِرِعَاءِ الإبل في البيتوتة ، أن يرموا يوم النحر ، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر ، فيرمونه في أحدهما " ( رواه الترمذي).
لكن السؤال المهم هنا : هل يلحق بهؤلاء من يماثلهم ممن يشتغلون بمصالح الحجيج العامة : كرجال المرور، وصيانة أنابيب المياه، ورجال الإطفاء، والأمن ، والأطباء المباشرين في المراكز الصحية خارج منى ، إن اضطرتهم طبيعة أعمالهم للمبيت خارج منى ، أو لا؟ أجاب على ذلك فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله فقال : " نعم يلحقون بهؤلاء لتمام أركان القياس، فإن القياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، وهذا موجود تماماً فيمن يشتغلون بمصالح الحجيج، وعليه فيقاس على الرعاة والسقاة من يشتغلون بمصالح الناس في هذه الأيام، فيرخص لهم أن يبيتوا خارج منى." اهـ [ الشرح الممتع 7/391 ] .
وهذا الذي ذكره الشيخ رحمه الله يتفق تماماً مع قواعد الشافعية والحنابلة الذين توسعوا في هذه الرخصة حتى أدخلوا فيها مجموعة من أصحاب الأعذار : كالمريض ، ومن يخاف على ماله من الضياع. أما المالكية فقد قصروا الرخصة على مورد النص فلم يستثنوا سوى السقاة والرعاة ، على أنه لا يبعد أن يقول المالكية بالإلحاق أيضاً في مسألتنا ، فلا بد من تحرير مذهبهم ، فإن كانوا يرون أن علة الترخيص قاصرة فلا قياس ، وإن رأوها متعدية ولكن العلة لا تنطبق على أصحاب الأعذار الفردية كالمريض ، فقد يقولون بإلحاق غير السقاة والرعاة بهم إذا تحققت العلة فيهم _ وهي القيام على خدمة الحجيج _ ، والتي لم تكن متصورة سابقاً في غير السقاة والرعاة ، وإذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- رخص للرعاة في البيتوتة خارج منى مراعاة لأمور البهائم ، فكيف بحال من يراعي أمن الحجاج أنفسهم ، أو ما يتعلق بحالتهم الصحية ؟ لا شك أنه من باب أولى ، والله أعلم .
ويقوى أيضاً عدم اختصاص هذا الحكم بمن يقوم على مصالح عموم الحجيج _ كمن تقدم ذكرهم _ ، بل يدخل في ذلك من يقوم على مصالح مجموعة من الحجيج : كالقائمين على الحملات ومؤسسات الطوافة ونحوهم ، فإنهم قد يضطرون للمبيت خارج منى معالجة لظروف بعض حجّاجهم من مفقود ، أو مريض ، أوفاقد لأوراقه الثبوتية ، أو غيرهم ، فهؤلاء لا شيء عليهم أيضاً في ترك المبيت بمنى ؛ إذ الظاهر أن الرعاة في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- ما كانوا يرعون إبل المسلمين كلهم بشكل جماعي ، وإنما كان الرجل يرعى إبل رفاقه ومن كان معه في الحج ، وكانت الرخصة شاملة لهم ، والله أعلم .
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.