حتى تخرج دعوتك من نطاق الفردية


د. أسماء الرويشد

من المسلمات التي نعيشها في هذا العصر أن الإسلام يحارب والمحن تتوالى وأن العقبات تكبر والتحديات تزداد، فتضاعفت بذلك أعباء الموجهة على المسلمين، ومن المؤكد أن أهم وأقوى جبهات المواجهة والصد في الوقت الراهن، هي جبهة الدعوة إلى دين الله الصحيح، وتعزيز الأصول والمبادئ والقناعات لدى المسلمين.
فأصبح لا بد من مراجعة أساليب العمل الدعوي اليوم، وقد تبين من خلال رصد الواقع والتجارب أن أنجح وأقوى أسلوب للعمل الدعوي يتمثل في تحقيق منهجية العمل المؤسسي في تفعيل قضايا الدعوة العامة والخاصة، وذلك بتنمية المبدأ الجماعي في التفكير والعمل والإنتاج بأسلوب العمل المؤسسي الذي صار أسلوب القوة والتحدي في هذا العصر، ويكفي برهاناً من الواقع أن الدول الكبرى في الوقت الحالي دول مؤسسية، فالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً هي بجملتها مؤسسة ضخمة بنيت على استراتيجيات وخطط جارية التنفيذ لا تتغير إلا من منطلق جماعي، ولا تتأثر بسقوط فرد فيها أو أكثر مهما كانت منزلة ذلك الفرد وأهمية موقعـه.
ومما تشتد الحاجة إليه الآن مقابل تيار التأثير المعادي الذي يعمل على صد المرأة عن دينها وتأصيل التمرد على شرع الله في نفوس الأجيال: إقامة مؤسسات دعوية نسائية متخصصة تعتني بكل الجوانب المهمة في حياة المرأة المسلمة وتعالج قضايا المعاصرة بجهود جماعية منظمة ومتخصصة علمياً وتربوياً وثقافياً وإدارياً، تساهم مساهمة فاعلة في توفير الحصانة الفكرية والعقدية في البناء التربوي الإيماني للمرأة، وتوجد المحاضن التربوية التي تخرج المرأة الصالحة الواعية لمهامها والمتفاعلة مع مسؤولياتها.
لا ننكر أن هناك جهوداً دعوية مبذولة على صعيد الساحة، ولكنها في الغالب لا تزال تتسم بطابع الفردية، بما يترتب عليه من ضعف ونقص وإخفاقات في مقابل ضخامة المهمة واتساع رقعتها مع قوة تحدي أنظمة العدو.
فمن هذا المنطلق نشأت فكرة طرح هذا الموضوع لضرورة إيجاد وتعزيز القناعة بأهمية أسلوب العمل المؤسسي في الدعوة النسائية في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بالأمة.
مع محاولة لتأصيل مبدأ العمل الجماعي الذي هو غاية مقصودة شرعاً، والإشارة إلى سلبيات العمل الفردي، من خلال عرض الموضوع، مع لفت الانتباه إلى أهمية تحقيق التوازن بين الجهد الفردي والمبدأ الجماعي، فلا يفهم من ذلك أننا نلغي الجهد الفردي ونهضم إنتاجه ونهمش دوره. حيث إننا نجد عناصر منتجة في المستوى الفردي أكثر مما نجدها ضمن أولئك الذي يجيدون العمل المؤسسي، وكثير من الأعمال التي توصف بأنها ناجحة في الميدان وراءها أفراد، ولكننا نريد صياغة القدرات الفردية في إطار العمل الجماعي المنظم الذي يثمر التعاون بين أفراده فيزداد التفاعل ويحسن الأداء وتتكامل الجهود، ولكننا يجب أن نتذكر أننا أمام تحديات كبيرة تواجهنا من خلال عمل مؤسس منظم، بالإضافة إلى أن فرص نجاح واستمرارية العمل المؤسسي أكبر، واحتمال الخلل فيه أقل من العمل الفردي، كما سيتبين معنا من خلال عرض المزايا.
هو التجمع المنظم بلوائح يوزع العمل فيه على إدارات متخصصة ولجان وفرق عمل، بحيث تكون مرجعية القرارات فيه لمجلس الإدارة أو الإدارات في دائرة اختصاصها. أي أنها تنبثق من مبدأ الشورى الذي هو أهم مبدأ في العمل المؤسسي.
لا شك أننا نريد لأعمالنا أن تستمر وتنمو وتنجح. والعمل الفردي هو الذي يرتبط بذات الشخص بوجوده وعطائه ونشاطه وعلاقاتــه، وكم من عمل ناجح نمى وصعد إلى القمة، لكن بوفاة صاحبه أو غيابه انهار واختفى.
وكذلك من ناحية الإنتاج فالتجارب الكثيرة تؤكد أن العمل الذي يبنى بناءً مؤسسياً ينتج إضعاف العمل الذي يبنى بناءً فردياً.
أيضاً نحن نريد لأعمالنا أن تنطلق من العفوية إلى التخطيط كلما كان العمل مبنياً بناءً مؤسسياً؛ كان المجال لتثبيت أركانه بخطة واضحة تنفذ بإتقان. بينما العمل الفردي تظهر فيه العفوية والمزاجية والارتجالية، وكلها آفات في طريق نجاح العمل واستمراره.
فالعمل المؤسسي يوضح الأهداف وينظم العمل؛ لأنه يجبر على إيجاد التخصصات، وبالتالي يجبر العاملين على الوضوح وتحمل المسؤولية. ونحن نريد أن تتحول مشاريعنا من المحدودية إلى الانتشار.
1-تحقيق مبدأ التعاون الجماعي الذي هو أحد مقاصد الشريعة (وتعاونوا على البر والتقوى) وفي الحديث (إن يد الله مع الجماعة) رواه الترمذي، (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً) متفق عليه. فجوهر الجماعة هو التعاون بين المسلمين والتكامل بين نشاطاتهم في طريق التمكين لشريعة الله.
2-تحقيق التكامل في العمل: إذ الكمال في عمل الفرد عزيز، فلا بد أن يعتريه الضعف البشري من القصور والإهمال والنسيان والغلو، بينما المشاركة الجماعية تقلل من ذلك أو تلغيه، فالجماعة قادرة على تحقيق التكامل باجتماع الجهود والمواهب والخبرات والتجارب والعلوم، مع التزام الشورى والتجرد للحق.
3-تأسيس الأعمال المشتركة بين الداعيات، بإقامة الدورات والندوات المنضبطة بنظام العمل المؤسسي.
4-توظيف كافة الجهود البشرية، والاستفادة من شتى القدرات الإنتاجية، وتسخيرها في العمل الدعوي والخيري؛ وذلك لأن العمل المؤسسي يوفر لها جو الابتكار والتفكير والإبداع والإسهام في صنع القرار ويكثر سواد العاملين في خدمة الدين.
5-ضمان استمرارية العمل ـ بإذن الله تعالى ـ؛ لعدم توقفه على فرد يعتريه أسباب الانقطاع من موت أو مرض أو فتور أو غير ذلك.
6-عموم نفعه للمسلمين؛ لأن العمل المؤسسي يثمر إنجازات ضخمة يعم نفعها ويتعدى إلى جهات بعيدة لا تأتي عن طريق الجهد الفردي. ولي أن أنبه إلى أن الصدقة الجارية والعمل الصالح الجاري على العبد ثوابه ليس فقط بالمال، وإنما يكون بالفكر والجهد والدلالة والمشاركة في تأسيس أي خير، أو التسبب في إيصاله إلى الناس. (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى).
7-يتناسب مع تحديات الواقع، فالأعداء الذين يحاربون الدين يواجهون من خلال عمل مؤسسي منظم، فهل يمكن أن يوجه هذا الكيد بجهود فردية؟
8-الاستفادة من الجهود السابقة، وتبادل الخبرات في إمكانية وسهولة التعاون والتنسيق بين المؤسسات والهيئات النسائية، لتجنب تكرار العمل وتعارضه، وتلافياً للبدايات من الصفر.
9-إعطاء صفة الشرعية: فمن مميزات العمل المؤسسي أنه يعطي النشاط والمشروع صفة الشرعية والنظامية؛ إذ يمكن تقديم الأنشطة والبرامج باسم المؤسسة فيفتح أمامه كثير من الميادين ويسهل سياسة الانتشار.
10- ينقل من محدودية الموارد المالية إلى تنوعها واتساعها فتتعدد قنوات الإيرادات ويعرف المحسنون طريقهم إلى العمل الخيري والدعوي عن طريق رسمية المؤسسة ومشروعيتها.
ولسائل أن يقول: عملٌ بهذه المزايا وهذه الأهمية.. ما الذي حدا بالعاملين في أرض الدعوة وميادين الخير للإحجام عنه؟
ويجاب عن ذلك بأن الأمر له خلفيات وأسباب، منها:
1-ضعف الفهم للعمل المؤسسي وعدم استيعاب أهميته ومزاياه وحداثة نشاط المؤسسات الدعوية المعاصرة وخاصة النسائية.
2-التركيز على الكم دون الكيف، فالحاجة إلى انتشار الدعوة وكثرة القضايا مع قلة الطاقات الدعوية المؤهلة حدت بكثير من الداعيات إلى التركيز على الكم دون الكيف والرغبة في الإنجاز السريع، إذ من طبيعة العمل المؤسسي تقنين الإنتاجية وفق مراحل استراتيجية التنظيم المؤسسي مما يميز العمل المؤسسي بالقدرة على الموازنة بين الكم والكيف.
3-الاهتمام بآنية التأثير وردود أفعال الجمهور دون الاعتناء بالتأصيل والتأسيس الذي يتسم بطول المدى وبعد الأثر.
4-طبيعة الجدية والالتزام في العمل المؤسسي تجعل القليل من الناس يتحمل عبء العمل المؤسسي.
5-الأنفة من الانطواء تحت قيادة، وهذا عائق من جملة عوائق نفسية قد تكون سبب عزوف البعض عن الانضمام إلى التنظيم المؤسسي.
6-مراعاة المصالح الشخصية وإعطاء الفضل: البعض يشترك في العمل المؤسسي الدعوي وهو لم يستوعب أهداف ومنطلقات هذه المهمة، فهو لا يزال يفكر بطريقة فردية، فإذا نظر راعي مصالحه وإن أعطى؛ أعطى الفضل من جهده ووقته.
7-انعدام الشورى وظهور المركزية في اتخاذ القرار في بعض المؤسسات، مما يولد الشعور بالإلزام والتقييد غير المقنع، وكذلك يولد الشعور بالتهميش والتحقير لدى الأفراد.
1-إخلاص النية وصدق التوكل:
فإخلاص النية واحتساب الأجر هو اللبنة الأولى في نجاح أي عمل من الأعمال الصالحة. وأي عمل أعظم من العطاء لهذا الدين والدعوة إلى الله العزيز الكريم؟ فالإخلاص هو الذي يترتب عليه ثمرات العمل المباركة والممتدة. ولا بد من قوة الأمل والثقة بالله تعالى بالتوفيق والنجاح؛ لأن ذلك كله من عند الله (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِاللّهِ)، وهذا اليقين بالنجاح نابع من اليقين بقوله تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) ومع ذلك إذا لم تنجح هنا فالأجر ثابت بإذن الله في الآخرة. (وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ).
2-توفر القناعة بالعمل المؤسسي:
بإدراك ضرورته، وخاصة في زمن القوة والتحديات، ومعرفة مزاياه وثمراته وفهم مقومات نجاحه.
حتى لا تتلاقح الآراء للخروج بأفضل قرار فلابد من الانفتاح والنصح، والحذر من عقلية التفكير الفردي المنغلق. ويذكر هنا بالمناسبة: نزول النبي – صلى الله عليه وسلم – على رأي أصحابه في أحد، وخروجه من المدينة تلبية لرغبتهم، مع ميله للبقاء في المدينة، وتأكيد رؤياه لرأيه، وبعدما انتهى الأمر لم يصدر منه لوم لمن كان رأيهم الخروج.
4-تحديد ثوابت ومنطلقات مشتركة للعاملين في المؤسسة تكون إطاراً مرجعياً لهم، وتشكل الضوابط الدينية المنهجية، وأصول أهل السنة والجماعة هي أهم هذه القواعد والأسس.
5-التسامي عن الخلافات الشخصية، وتقديم مصلحة العمل على المصلحة الشخصية، وهذا يتم بالاعتناء بالجانب الخلقي السلوكي الذي حث عليه ديننا الحنيف من العدل والإنصاف والصبر والإعذار للآخرين والنصح لهم، وهذا أساس قوي ومتين في نجاح العمل.
6-الإيجابية في التفكير، والتفاؤل بأن كل مشكلة (بإذن الله) لها حل، والإقدام المدروس وعدم التردد.
7-صدور القرارات عن مجلس الإدارة والبعد عن المركزية، بحيث لا يكون القائد والمدير هو المنفرد بتصدير القرار، بل إن القائد يستمد صلاحياته من المجلس، لا العكس.

8-تحديد الأهداف – إتقان الخطط – مبادرة التنفيذ – استمرارية المتابعة.
ولنتذكر دائماً أن أساس النجاح في المشاريع والأنشطة بعد توفيق الله: إحكام السير على أضلاع مثلث الإنتاج: تخطيط ـ تنفيذ ـ متابعة..

مع مراعاة:
الأنـــــــــــ ـــــاة في التخطيـــــــط



الحمـــــاس في التنفيـذ



الاستمـرار في المتابعـــة




وفي الختام.. آمل أن يكون هذا الطرح دعوة لتنظيم منسق مع ذوي الخبرات والاختصاص؛ لدراسة وعرض مفردات العمل المؤسسي وعناصر بنائه، ومقوماته الأساسية، واستراتيجية التأثير به على الأوساط النسائية.