ضرورة العمل على الدفاع عن علماء الأمة ودعاتها


محمد بن حسين حداد الجزائري

بسم الله الرّحمن الرّحيم،

والحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين.


أمّا بعد.
فأخذَ كثيرُ كلامِنا مِن أيّامِنا القليلة أعزّ الأزمنة والسّاعات، أيّامٌ هي زهرةُ شبابِنا وتاجُ أعمارِنا، وليت آخذها إنّما أخذها في الدّلالةِ على الخير، أو الأمرِ بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإلاّ فنِعم الآخذ والمأخوذ، بل كلامٌ بضدّ ذلك، وقليل منه هو ذلك.


قيل وقال، وكثرةُ السّؤالِ مع قلّة الأعمال، خُلقٌ في لبوس الشّريعة وبغلاف الدّعوة، ذلك هو ديدنُ الكثير مِن أشباهِ المُلتزمين، وتلك هي ميزتهم، ولم يكتف هؤلاء بهذا ولم يقفوا عنده؛ بل تعدَّوه معتدين على العاملين الأخيار، والمخلِصين الأبرار، والأمّارين بالمعروف والنهّائين عن المنكر الأغيار، فذهبوا يُروِّجون ضدَّهم الإشاعات، ويَخْتلقون حولَهم الافتراءات، ويُظاهرون عليهم دعاة المنكرات، يسعى أولئك للبناء ولا مُعين؛ بل يبنون ويسعى هؤلاء هادمين، ولله درّ الشّاعر حين قال:
ولو ألف بانٍ خلْفهم هادمٌ كَفى ♦♦♦ فكيف بِبانٍ خلفه ألف هادم

هل عملوا مثل عملِهم؟ هل دعوا مثل دعوتِهم؟ هل أمروا بالمعروف مثل أمرِهم؟ هل نهوا عن المنكر مثل نهيهِم؟ لا شكّ أنّ الجواب هو لا، و(لا) هي الجواب.
فكان الجدير بهم إذن، معرفة قدْر أنفسِهم - إذا كان ثمّة قدْر لديها - ثمّ معرفة قدْر غيرهِم مِن ذوي التّقى والفضل، ليعرفوا بالمقارنة بعد ذلك، هل يصحّ أنْ يُقال: إنّ السّيف أمضى من العصا؟!


وما أحسن وأبلغ ما قاله الأوّل في أمثال هؤلاء:
أقِلّوا عليهم لا أبًا لأبيكُم مِن اللَّوم ♦♦♦ أو سُدّوا المكان الّذي سَدّوا

وممّن أظهرهم الله في هذا الزّمان، وذاع صيْتُهم بين الأنام، فأحبّهم القريب والبعيد: علماء ومشايخ عاليّو القدْر، شامخو القامة، غزيرو العِلم، سالِمو المُعتقد، سديدو الرّأي، صِباحُ الوجوه؛ اشتهروا بدروسهم ومحاضراتهم القيّمة، الّتي عالجت مختلف المسائل والقضايا، سواءً كانت علمية دعوية، أو واقعية عصرية، وكثيرًا ما عُقدت عبر سلاسل في موضوع واحد، يتطرّق فيها هؤلاء طرْقًا، مِن أبواب عِدّة وجوانبَ شتّى، كلُّ ذلك يُخرجونه في أحسنِ حُلّة، جامعين فيه بين فصاحة اللّغةِ، وعذْبِ الكلامِ، وزينة الشِّعرِ، وبراعةِ الأسلوب، وتَسلْسُلِ الأفكار، وسُهولةِ العبارة، تتجلّى من خلالِها غزارةُ علمِهم وقوّةُ ذكائهم، أمّا لقاءاتُهم المفتوحَة، وبرامجُهم المصوَّرة، وكتبُهم المؤلَّفة، فهي الوجهُ المطابق تمامًا لمحاضراتِهم ودروسِهم.


فلا غرابة بعد ذلك، أن يَظهر لمثل هؤلاء الأعلام الأفذاذ، مَن يغمِسون ألسنتَهم في رُكامٍ مِن الأوهام والآثام، ثمّ يبسطونها بإصدار الأحكامِ عليهم، والتّشكيكِ فيهم، وخدشِهم، وإلصاقِ التّهم بهم، وطمسِ محاسنهم، والتّشهير بزلاّتِهم الّتي لا يَسلَم منها عالم، ولا شكّ أنّ هذا من سنن الله - عزّ وجلّ - الّتي قدّرها على أهلِ الحقّ إلى يومِ الدّين، فيُبتلون ويُمتحنون، فيَصبرون ويُبادلهم الله على ذلك رِفعةً و تمكينًا، قال الله - عزّ وجلّ - لنبيّه - عليه الصّلاة والسّلام -: ﴿ ما يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرّسُلِ مِن قَبْلِكَ، إِنّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ[1].
نعم، إنّها سنّةٌ من الله ماضية، لكلّ من سَلك سبيل الأنبياءِ والرّسل واقتفى آثارهم؛ بل قد حوى القرآن الكريم الأخبار الكثيرة مِن قَصَصِ أصحاب الرّسالةِ مع أممِهم، وما نالهم منهم مِن الأذى والبلاء.


ومِن باب حِفظ كرامة العالم، والذَبِّ عن عِرضه وتعظيم حُرمته، تحتّم علينا معاشر الكِرام والكريمات -ضرورةً و لِزامًا - أنْ نفي بحقِّ علمائِنا، ونردّ شيئًا مِن جميلهم، بالعملِ الدّؤوب والسّعي الحثيث، في دَفعِ ما مِن شأنه أنْ يخدِشَ كرامتَهُم، أو يَنتهِك حُرمتَهُم، أو ينتقِصَ عِرضَهُم، أو يُقلِّل شأنَهُم؛ نَدفع الشّبهةَ بالدَّليل، والضّلالةَ بالهُدى، والظَنّ باليقين، والجهل بالعِلم، مُحتسبين - في كلّ هذا - عظيمَ الأجر، مُتحلّين بجميل الصّبر، واضعين في الحُسبانِ أنّ الغالطين في حقِّ العلماء قسمان: قِسمٌ مِن الحُثالةِ الحَسدَةِ المُعانِدين، وقِسمٌ مِن الضّحايا التّائِهينَ المُضلَّلين، و لكلِّ قِسمٍ قِسمتُه مِن التّعامل.


عملٌ ترتفع به الجهالةُ عن البعض، بهؤلاء العلماء الأسياد الأفاضل، والمشايخ الدّعاة الأكارم؛ مِن خلالِ التّرجمةِ لهم، والتّعريفِ بمشايخهم.
عملٌ يُبرزُ أقوالَ الأكابرِ في هؤلاء، جامعًا مِن أنوارِ الهدى، جاعلاً مِنها سراجًا يأخذُه طالبُ الحقِّ بقوّة، شامخًا غيرَ مستحيٍ، ويعود من زَيّنَ له الشّيطانُ سوءَ عمله إلى جادّةِ الصّواب وحظيرتِه، قبل أن يكون حالُه غدًا، كحال القائلين إذا عُرضت الأعمال ونُصبت الموازين: ﴿ وَقَالُـوا مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُم ْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ[2].
عملٌ يُروي الغليل، ويَشفي العليل، ويُطمْئِنُ الحيران؛ من خلال ردود هؤلاء وأجوبتهم، عمّا قيل وكُتب فيهم و حولهم.
عملٌ يَمحُو تلك الصّورة الزّائفة المزيَّفة، القاتمة المُغيَّمة، المُشوِّهة لِعلاقةِ هؤلاء الأفاضل بكبار العلماء - الّتي قيل فيها وقيل - فيرسم بدلها لوحةً ربيعيةَ الواقع مُشرقة الأنوار، نسيميّة الرّيح فوّاحة الأزهار، لتتجلّى حقيقة تلك العلاقة، الّتي ملؤُها الحبّ، والوفاء، والتّقدير، والاحترام، والتّواصل.
عملٌ يكشِفُ جانبًا مِن همومِ هؤلاء الأكارِم، الّتي يحملونها في الدّعوة إلى الله، ويَنْشَغلون بها عن حظوظ أنفسهم، رغم ما أُحيط حولها مِن تشكيكات وتشويهات.
عملٌ يسلِّط الضّوء على المنهج الأصيل لهؤلاء الأفاضل، ويُجلّي عقيدتَهم المُستمَدَّة مِن سلفهِم الصّالح، ويبيِّن مدى تمسّكهم بالسنّة واستماتتهم في دفاعهم عنها، فيُبَرَّؤون ممّا نُسب إليهم ظلمًا، براءة الذّئب من دم يوسف - عليه السّلام.
عملٌ يزيدنا حماسًا إليه وحِرصًا عليه، آلامُنا على واقع الأمّة المكسورة الجناح، المُثْخَنة بالجراح، في سائر بلاد الإسلام الواسعة.
أمّةٌ عادت لإبليس فيها بضاعةُ الشّرك، ليجد فيها سُوقًا وتسويقًا، فدُعي غير الله، وذُبح لغيرِ الله، ونوزِع الله في ربوبيتِه.
أمّةٌ قد اجتمع عليها الأعداء مِن كلّ حَدَبٍ وصَوْب، اجتماعَ الأكلةِ على القصْعة.
أمّةٌ يُستنزَفُ دمُها، ويُبقَرُ بطنُها بأيادي بعض الخارجين مِن رحمِها، فضاقَت دنياها بوسعِها، وتَزَعزَع الأمنُ في ديارِها، حتّى أطلَّ الخوفُ مِن أعين الرّجال.

وهل يُخمِدُ النّيران الحامِية، ويُضمدُ الجراحَ الدّامِية، ويَكسِرُ الرّماح المُتَرامية، ويوحِّدُ الأمّة على الأحزاب المتعالية، إلاّ العالِم العامل المُستنير المخلص؟ إنّه العالم الربّاني الّذي يذكِّر أمّته بحقّ الله على العبيد، ويزيل ركام الجهل عنها إزالة الصّدأ عن الحديد، وينفخ فيها روحَ العِزّة مِن جديد.
فمَن لهذه الأمّة بعد الله - عزّ وجلّ - إذا أفلت شمس العالم، وانطفأ سراجُه، وسقط قدرُه، وضَعُف شأنه؟!


عمل ننتصر به للحقّ على الباطل في معركةٍ مِن معارك الحرب بينهما، مع علمنا الّذي لا يُراوده شكّ، أنّه ليس بالضّرورة أنْ يكون الوقوعُ في هذا الباطل مقصدًا للكثير من إخواننا أو سمةً فيهم، وإنْ كانوا واقعين فيه جهلاً منهم أو وهمًا، جهلٌ ووهمٌ لا يبقى معهما عذرٌ بعد معرفةِ الحقّ وقيامِ الحجّة، وإنّما الخَطْب في ظهورِ الباطلِ، والشّأنُ كلّ الشّأن في ردّه، فليس الموضوع امتحان قلوب الواقعين فيه ومعرفة مآربهم، فهذا أمرٌ ينفرد به مَن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور - سبحانه وتعالى.


عملٌ يدلّ إلى الخير على الخير، و((مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ))[3].
عملٌ ننسجُ به حجابًا مِن النّار، طامعين راجين الله - عزّ و جلّ - أنْ يعتقنا به منها؛ قال - عليه الصّلاة والسّلام -: ((مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخيهِ كانَ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ))[4]، و قال: ((مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ))[5].
عملٌ نمضي به متأسّين وقائلين بما ذَكَره أحد كبار علماءِ أمّتنا الغالية - الرّاحلين عنّا حديثًا -: فضيلة الشّيخ العلاّمة بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - في مقدّمته على كتابه النّفيس: "تصنيف النّاس بين الظنّ و اليقين".


قال - رحمه الله -:
"فأنتخب من مزدَحَم الحياة: العلماء الهداة في مثالهم: العالم العامل بعلمه في خاصة نفسه، ونصحه لله، ولرسوله، ولإمامه، ولعموم أهل الإسلام، فما أن يُذكر اسم ذلك العالم إلاّ ويُرفع في العلماء العاملين، فعلمه وعمله متلازمان أبدًا، كالشّاخص والظلّ سواء، والله يمنّ على مَن يشاء.


فأنتصر له حسبةً لله، لا دفاعاً عن شخصه فحسب، بل وعن حرمات علماء المسلمين ومنهم دعاتهم، ورجال الحِسبة فيهم؛ إذْ بدا لقاء ما يحملونه من الهدى والخير والبيان: اخْتِراقُ: (ظاهرة التجريح) لأعراضهم بالوقيعة فيهم، وفَرْي الجرّاحين في أعراضهم، وفي دعوتهم، ولما صَنعَه (سُعاةُ الفِتنة) مِن وقائع الافتراء، وإلصاق التّهم، وألوان الأذى، ورمي الفتيل هنا وهناك، ممّا لا يخفى في كلّ مكان وَصَلَته أصواتُهم البَغيضَة.
ولِعِظَم الجناية على العلماء، صار من المعقود في أصول الاعتقاد: (ومَن ذكرهُم بسوء فهو على غير سبيل).
وعلى نحوه كلمات حِسان لعدد من علماء الأمة الهداة في العلم والدّين.


لذلك، ولما لهم على العامّة والخاصّة من فضل في تعليم النّاس الخير، ونشر السّنن، وإماتة الأهواء والبدع، فهم قد أوتوا الحكمة يَقضون بها، ويعلِّمونَها الناس، ولم يتخلّفوا في كُهوف (القَعَدَة) الّذين صرفوا وجوههم عن آلام أمّتهم وقالوا: "هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب"، و كأنّما عناهم شوقي بقوله:

وقد يموت كثير لا تُحِسُّهم ♦♦♦ كأنّهم مِن هَوَان الخطب ما وُجدوا


بل نزلوا ميدان الكفاح، وساحة التّبصير بالدّين، وهم الّذين يُنبؤن عن مقياس العظمة (العِصَامِيَّة) التاريخية في أشباحهم المغمورة، لا العظمة (العِظَامِيَّة) الموهومة، كما لبعض أصحاب الرُّتب، والشّارات، المفَرِّغين لأنفسهم عن قَرْن العِلم بالعَمَل.
إنّ القيم، والأقدار، وآثارها الحِسان، الممتدّة على مسارِب الزّمن لا تُقَوَّم بالجاه، والمنصب، والمال، والشّهرة، وكيل المدائح، والألقاب، وإنّما قَوامها وتقويمها بالفضل، والجهاد، وربط العِلم بالعمل، مع نُبْل نفس، و أدَبٍ جمٍّ، و حُسْن سَمْت، فهذه، وأمثالها هي الّتي تُوزن بها الرّجال والأعمال.
وإلى هذا الطّرازِ المبارك تَشْخُصُ أبصارُ العالَم، ولكلّ نبأٍ مستقَرّ.
لهذا كلّه، صار من الواجب على إخوانهم، الذبّ عن حُرماتهم وأعراضهم بكلمات تَجْلو صدأ ما ألصقه (المنشقّون) بهم من الثّرثرة، وتَكْتِم صَدَى صياحهم في وجه الحقّ. وإيضاح السبيل الآمن الرَّشَد، العدلِ الوسَط"[6]. انتهى كلامه - رحمه الله رحمة واسعة.


وفي الأخير:
أسأل الله - عزّ وجلّ - أن يغفر لمَن سبقني بالإيمان، وأنْ لا يجعل في قلبي غِلاًّ للّذين آمنوا، وأنْ يهدينِي وإخواني إلى الحقِّ، في جَليِّ الأشياء وخفيّها، و يثبّتنا عليه، ويجمعني وإيّاهم عنده في جنّاتٍ ونَهر، في مقعدِ صدقٍ عند مليك مقتدر، مع الأنبياء والصِدّيقين والشّهداء والصّالحين والعلماء المتّقين؛ وأسأله الغفور التوّاب، السّداد والإخلاص والصّواب، وحُسن الخاتمة والمغفرة والثّواب، في القولِ والعملِ؛ كما أناشد إخواني الدّعاء لي ولوالدي، ولكلّ من له عليَّ فضل، ولي منّي إليهم مُقدَّما المحبّة في الله، والسّلام مع رحمته وبركاته ومغفرته.
وسبحانك اللّهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.


[1] سورة فصّلت: الآية 43.

[2] سورة ص: الآيتان 62-63.

[3] رواه مسلم وغيره، واللّفظ لمسلم: [كتاب كتاب الإمارة/ باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير/ حديث رقم: 71-72] مِن حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي اللّه عنه.

[4] (أخرجهالخرائطي في مكارم الأخلاق: [8/ 225/ 2]، و ابن عساكر [8/ 501/ 2] من حديث أبي الدّرداء -رضي اللّه عنه. قال الألباني: "إسناده لا بأس به في الشّواهدوالمتابعات" (غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام للألباني/ حديث رقم: 431).

[5] أخرجهأحمد وغيره عن أسماء بنت يزيد - رضي اللّه عنها - وصحّحه الألباني كما في: [غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام للألباني/ حديث رقم: 431].


[6] تصنيف النّاس بين الظّنّ و اليقين: ص 05-06-07.