مستجدات الحج الفقهية ( النوازل في الحج ) (14من16)
الدكتور محمد بن هائل المدحجي

ما زال الحديث متصلاً عن نوازل الحج المتعلقة بأركان الحج وواجباته ، ومن ذلك :
المستجدات المتعلقة بالوقوف بعرفة والهدي
فمن المسائل المتعلقة بالوقوف بعرفة : أنه ينبغي للحجاج أن يحرصوا على استماع خطبة عرفة ، وإن كان مكانهم بعيداً عن المسجد الذي فيه الخطبة ، وذلك عن طريق المذياع ، وهو أولى من أن يقوم في كل مخيم خطيب ، لأن اجتماع الحجاج على خطيب واحد أولى ، نص على ذلك الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله [ مجموع فتاوى ابن عثيمين 23/28 ] .
ومن النوازل المتعلقة بالوقوف بعرفة أيضاً : هل يعتبر المرور بالطائرة في سماء عرفة وقوفاً مجزئاً بعرفة ؟ وهذه المسألة قد يَحتاج إليها بعض المسؤولين عن الحج ، أو مسؤولي المراقبة الجوية ، وغيرهم . والفقهاء المعاصرون مختلفون في هذه المسألة ، فمنهم من يرى صحة هذا الوقوف ؛ معللاً ذلك بأن الهواء له حكم القرار ، ومنهم من رأى عدم الصحة ، بل يلزم النزول للمرور بها على الأقدام ، أو على أي وسيلة من وسائل النقل الأرضية . ومن اللطيف أن هذه المسألة تكلم عنها الفقهاء المتقدمون من المالكية والشافعية ، ولا أعني بالتأكيد مسألة المرور بالطائرة ، ولكن مسألة الوقوف في هواء عرفة ، بل اقترب الشافعية أكثر من مسألتنا فقالوا : "إذا ركب على طيرٍ طائر في هواء عرفات ، أو ركب على السحاب فلا يكفي ، فليس لهوائها حكمها، فلو طار فيه لم يجزه " [ البجيرمي على شرح الخطيب 2/441 ]، وعللوا ذلك بأن المقصود ذات البقعة [ البجيرمي على شرح المنهج 2/130 ، والرشيدي على نهاية المحتاج 3/298]، وأن هواءها لا يسمى عرفات [ حاشية الجمل 1/156] ، ووافقهم على ذلك المالكية فقالوا : "ولا بد من مباشرة الأرض أو ما اتصل بها كالسجود ، فلا يكفي أن يقف في الهواء" .[ حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2/53 . وانظر حاشية العدوي على الخرشي 2/320 ، وعلى كفاية الطالب الرباني 1/539] .
وأول من وقفت عليه يقرر إمكانية اعتبار الوقوف بهواء عرفة الشَّبْرامَلِّس ِيّ الشافعي ( ت: 1087 هـ /1676م ) حيث قال في حاشيته على نهاية المحتاج ( 3/298 ) : "أقول : ولو قيل بالصحة في الصورتين تنزيلا لهوائه منزلة أرضه لم يبعد" ، وقوى ذلك الشَّرْواني ( كان حيا 1289 هـ/ م1872) في حاشيته على تحفة المحتاج ( 4/109 ) فقال : " وهو وجيه " ، مع ملاحظة أن البُجَيرمِي (ت: 1221 هـ/ 1806م) وصف بعض تقريرات الشبراملسي في هذا الموضوع بالضعف [البجيرمي على الخطيب 2/432].
ومن خلال ما تقدم يمكن أن نقرر بأن أقل ما يمكن أن يقال في مسألة الوقوف بعرفة من خلال المرور بالطائرة أن الأحوط تركه وعدم الاعتداد به ، والأظهر أن المرور بهواء عرفة لا يسمى وقوفاً ما لم يكن الشخص مباشراً لأرض عرفة أو لما اتصل بها من نحو سيارة ، والله أعلم .
لكن يظهر مما تقدم أيضاً أن قاعدة أن الهواء له حكم القرار ليست عند الفقهاء على إطلاقها تستخدم في كل موضوع _كما أرى ذلك من بعض فقهاء العصر _، بل تحتاج لمعرفة مواضع استخدام الفقهاء لها ، ومواضع تركها [ انظر مثلاً : المنثور في القواعد للزركشي 3/225]، والله الموفق.
من المسائل المتعلقة بالهدي : شراء كروت أو كوبونات الهدي، وهذه مسألة طرأت في هذا الزمان ، وهي في حقيقتها شراء للهدي مع التوكيل بذبحه وتوزيعه ، وهذا الشراء للهدي فيه إشكال شرعي كبير ؛ إذ المعقود عليه فيه جهالة واضحة ، ولم يوصف أدنى وصف سوى أنه هدي مجزء شرعاً ، وهذا وصف لا يكفي في انتفاء الجهالة ؛ إذ الشياه تتفاوت في أوصافها المؤثرة في الثمن تفاوتاً كبيراً ، والفقهاء يتفقون على عدم صحة أن أبيعك شاة من القطيع أو عبداً من عبيدي دون تعيين أو وصف ، قال ابن قدامة رحمه الله : " وإن باعه شاة من القطيع لم يصح ؛ لأن شياه القطيع غير متساوية القيم ، فيفضي ذلك إلي التنازع " [المغني 4/99 ] ، لكن هذا الإشكال يمكن إزالته من جهتين :
الأولى : أن الحاجة داعية لمثل هذا البيع مع كثرة الحجيج في هذا الزمان ، وما كان هذا شأنه لا تأتي الشريعة بتحريمه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "فكذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا، مثل: بيع العقار، وإن لم تعلم دواخل الحيطان والأساس، ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، وإن لم يعلم مقدار الحمل واللبن، وإن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا، وكذلك اللبن عند الأكثرين" [الفتاوى الكبرى 4/18] .
الثانية : إن تحريم بيعِ شاة من القطيع سببه إفضاء هذا البيع إلى النزاع ، وليس الأمر هنا كذلك ؛ إذ الغرر هنا لا يفضي إلى النزاع ، فالحاج لا غرض له سوى هدي يبرئ ذمته ، ولا يريد أكل هذه الشاة حتى يحرص على الاستقصاء في أوصافها ، فالمعقود عليه هنا ليس فيه تسليم للمشتري حتى يفضي إلى النزاع ، وأقرب فرع وجدته لمثل هذه المسألة ما جاء في كتاب العناية شرح الهداية للبابرتي الحنفي (8/439 ) : " وإذا كانت التركة بين ورثة ، فأخرجوا أحدهم منها بمال أعطوه إياه ، حال كون التركة عقارا أو عروضا جاز ، قل ما أعطوه أو كثر ...وهذا لأنه أمكن تصحيحه بيعا ، والبيع يصح بالقليل والكثير من الثمن ...فإن قيل : لو كان بيعا لشرط معرفة مقدار حصته من التركة ؛ لأن جهالته تفسد البيع . أجيب بأن الجهالة المفضية إلى النزاع تفسد البيع ؛ لامتناعه عن التسليم الواجب بمقتضى البيع ، وهذا لا يحتاج إلى تسليم فلا يفضي إلى المنازعة " اهـ .
لكن يمكن أن يكون شراء الكوبونات من باب توكيل الجهة التي تبيعها في شراء الهدي ثم ذبحه وتوزيعه ، وهي وكالة بأجر ، والأجر هو ما نقص من القيمة المدفوعة عن القيمة الحقيقية لشراء الهدي ، والظاهر جواز مثل هذه الصيغة كما جازت صيغة بعه بكذا فما زاد فهو لك ، قال ابن قدامة في الكافي (2/143 ) : "وإن قال: بع هذا بعشرة ، فما زاد فهو لك ، صح وله الزيادة ؛ لأن ابن عباس كان لا يرى بذلك بأسا" ، كما أن هذه الجهالة لا تفضي إلى النزاع والحاجة داعية لمثل هذه المعاملة _ كما تقدم _ ، وعليه فلا يظهر مانع شرعي من شراء الحجاج للهدي من خلال شراء هذه الكروت على كلا التخريجين ، والله أعلم .
وأما التوكيل في الذبح والتوزيع الذي يتضمنه عقد شراء هذه الكروت فهو جائز باتفاق أهل العلم ، لكن المهم هنا أن يبرئ الإنسان ذمته بأن لا يشتري هذه الكروت إلا من جهة موثوقة مرخص لها _ كالبنك الإسلامي للتنمية _ ، أما الشراء ممن يطوف بالمخيمات يعرض بيع مثل هذه الكروت فلا يجوز إلا مع غلبة الظن بصدق هذا البائع ، والله أعلم .
ولما كان الذي يشتري مثل هذه الكروت لا يعلم متى يُذبح هديه فقد يشكل عليه متى يتحلل ، وهذا لا ينبغي أن يكون محل إشكال ؛ إذ ذبح الهدي لا علاقة لها بالتحلل لا الأصغر ولا الأكبر باتفاق العلم _ مع ملاحظة أن الحنفية يوجبون أن يكون الذبح بين الرمي والحلق ؛ لأن الترتيب واجب بين هذه النسك عندهم ، وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : هل يجزئ الهدي عن طريق التوكيل بواسطة البنك الإسلامي ومتى يحل المحرم من إحرامه؛ لأنه لا يعلم وقت ذبح الهدي؟ فأجاب: " إعطاء الدراهم لهذه المؤسسة أو الجهة من أجل أن تتولى الذبح عنك وتوزيع اللحم مبرئ للذمة؛ لأن الظاهر الذي نعلمه أن هذه المؤسسة عليها أناس من قبل وزارة العدل، ومن قبل رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، ومن جهات موثوق بها، وبناءً على ذلك فإن تسليم الدراهم ليقوموا بذبح الهدي وتوزيعه جائز، والتوكيل في ذبح الهدي وتوزيعه قد جاءت به السنة، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- أهدى من الإبل مئة ، ذبح منها ثلاثًا وستين بيده، وأعطى عليَّا الباقي، وأمره أن يتصدق من هذه الإبل . وأما قول السائل: لا أدري متى أحل؟ لا علاقة للحل بالنحر، الإنسان يحل التحلل الأول وإن لم ينحر، ، بل ويحل التحلل الثاني وإن لم ينحر أيضًا، فالإنسان إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد، وحلق أو قصر حل التحلل الأول، وحل جميع محظورات الإحرام إلا النساء، فإذا طاف وسعى بالإضافة إلى الرمي والحلق أو التقصير حل له كل شيء حتى النساء، فهذا التحلل الأول والثاني ثابت وإن لم ينحر الإنسان، وحينئذٍ فلا إشكال في الموضوع بالنسبة للإحلال" [ مجموع فتاوى ابن عثيمين 25/64 ].
أما طواف الوداع قبل معرفة ذبح الحاج لهدية فهو محل إشكال ؛ إذ الأصل أن يكون طواف الوداع بعد الانتهاء من جميع الأنساك كما جاء في أثر عمر رضي الله عنه أنه قال : «فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ» ، وإن كنت لم أظفر بنص للفقهاء في حكم هذه المسألة ، إلا أن الذي يخفف مثل هذا الإشكال عدم إيجاب المالكية لطواف الوداع من جهة ، وأن الحاجة هنا عامة ، والمشقة ظاهرة في إيجاب تأخير طواف الوداع حتى يعلم ذبح جميع الهدي _ وهذا قد لا يكون إلا في اليوم الرابع من العيد _ ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والله لم يحرم على الناس في الإحرام ولا غيرِه ما يحتاجون إليه حاجة عامة "اهـ[ مجموع الفتاوى 21/197-198 ] ، وينظر إن كان لعدم تأثير ذبح الهدي على التحلل أثر في هذه المسألة .
وأخيراً أقول : مهما تيسر أن يتولى الإنسان ذبح هديه بنفسه ، أو على الأقل أن يشهد ذبحه ، فهذا هو الأولى والأحرى ؛ خروجاً من جميع الإشكالات السابقة .
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.