مستجدات الحج الفقهية ( النوازل في الحج ) (13من16)
الدكتور محمد بن هائل المدحجي

ما زال الحديث متصلاً عن نوازل الحج ومستجداته الفقهية ، ومن ذلك :
(مستجدات الحج المتعلقة بأركان الحج وواجباته ) مما لم يتقدم له ذكر فيما سبق ، ونبدأ بالحديث عن ( المستجدات المتعلقة بالطواف والحلق أو التقصير ) :
فمن المسائل المتعلقة بالطواف : ما يفعله بعض الطائفين في هذه الأزمان من التحدث بالهاتف الجوال وإطالة الكلام فيه في أمور مباحة ، وربما يحصل مع ذلك ضحك ورفع صوت وغيرهما ، كل هذا مما يكره للطائف فعله ، لأنه مما ينقص أجر هذه العبادة ؛ فقد صح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " الطواف بالبيت صلاة، فأقلوا من الكلام " ( رواه أحمد والنسائي) ، فينبغي للطائف أن يحرص على استغلال وقت الطواف بالإكثار من دعاء الله وذكره وقراءة القرآن ، والله أعلم .
ومن المسائل المتعلقة بالطواف أيضاً: علامة بداية ونهاية الطواف : فمن المعلوم أن بداية كل شوط في الطواف تكون من عند الحجر الأسود ، وقد كان هناك خط على أرض المطاف ، وضع في بداية هذا القرن الخامس عشر الهجري ، ممتداً من الحجر الأسود إلى نهاية المطاف ، ليكون علامة للطائف على مكان ابتداء الشوط ، وقد تكلم الفقهاء المعاصرون في مشروعية هذا الخط على قولين مشهورين ، فمنهم من منعه: كالشيخ بكر أبو زيد ، وله رسالة في ذلك ، ومنهم من أجازه: كالشيخ ابن عثيمين ، والشيخ محمد السبيل ، وله رسالة في ذلك – رحمة الله على الجميع–.
ولكل من القولين حجته :
· فالمانع يراه أمراً محدثاً ، جَعَل الحاج أو المعتمر يلزم نفسه بألا يكون التكبير لبداية الطواف إلا من عنده ، وتبع هذا تزاحم عند بداية المطاف وتضييق على الناس ، بل واعتقاد بعض الجهلة البركة فيه .
· والمجيز يرى أن الوسائل لها أحكام المقاصد ، والمقصد مشروع ، والوسيلة ليست محرمة في ذاتها .
ولكن بغض النظر عن مدى مشروعية هذا الخط كان تسبيبه للزحام ظاهراً ، ومن ثمّ فقد تمت إزالته ، وحصل بذلك تخفيف ظاهر للزحام ، ووقف الخلاف عند هذا الحد .
لكن تنبغي الإشارة إلى أن ذلك الخط كان فيه خلل هندسيّ ، فعرض الخط من أوله عند الحجر إلى آخر المطاف على قدر واحد، والمعروف هندسياً أن الدائرة كلما اتسعت اتسع قطرها ، فكان ينبغي زيادة عرض الخط وتغليظه كلما اتجهنا إلى آخر المطاف ، وهذا يعني أن الطائف في آخر المطاف تكون محاذاته للحجر الأسود قبل وصوله إلى ذلك الخط .
وقد اقترح بعض الباحثين أن يتم حساب زاوية المحاذاة بطريقة هندسية، ثم يوضع ما يدل على بداية المحاذاة و نهايتها على جدار المصابيح المواجه للحجر الأسود_ والذي يوجد فيه الآن مصباح ( لمبة ) واحدة خضراء تشير للمحاذاة _، فتحسب مسافة المحاذاة ، وتوضع على طولها لمبات خضراء تشير للمحاذاة على الجدار [ النوازل في الحج للشلعان ص268].
وعلى أي حال فالذي يظهر أن الخلاف السابق لا ينطبق على وضع علامات يعلم بها ابتداء الطواف ونهايته في الأماكن التي تخفى فيها معالم الكعبة على الطائفين _ كمن يطوف في الدور الثاني أو السطح _ ، ونظير ذلك العلامات الخضراء التي جعلت لإيضاح محل السعي الشديد في بطن وادي المسعى الذي فعله النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه وغيره _ ، فهي من العلامات الضرورية ؛ لأن الوادي قد ردم بطنه حتى غابت معالمه ، فالساعي يستحيل عليه معرفته ، فاحتيج لوضع مثل هذه العلامات التي جنسها من الأعلام الخضراء موجود منذ القدم ، من غير نكير من أهل العلم ، والوسائل لها أحكام المقاصد، والله أعلم.
ومن المسائل المتعلقة بالحلق أو التقصير : ( حكم الحلق في حق المصاب بمرض معدٍ ) : فمعلوم أن الحلق أفضل للحاج من التقصير ؛ لأنه فعل النبي –صلى الله عليه وسلم- ، ولأن النبي –صلى الله عليه وسلم- دعا للمحلقين بالرحمة ثلاثاً ، وللمقصرين مرة [ متفق عليه] ، ولكن لما كانت معظم الأمراض المعدية تنتقل عن طريق الدم _ كالإيدز والتهاب الكبد الوبائي _ ؛لأن ميكروب المرض موجود في دم المصاب به، كان استعمال أدوات الحلاقة من أكثر من شخص مؤذناً بانتقال ميكروبات هذه الأمراض ممن يحملها إلى الشخص السليم من خلال الخدوش التي يمكن أن تحصل أثناء الحلاقة ، وبالتالي فإنه يحرم على من كان مصاباً بمرض معدي أن يحلق شعر رأسه باستخدام أدوات حلاقة مشتركة ؛ وذلك لما قد يسببه ذلك من إلحاق الضرر بالحجاج وإصابتهم بالأمراض المعدية ، وقد قال –صلى الله عليه وسلم- : " لا ضرر ولا ضرار" رواه ابن ماجه . نعم قد يقال بالكراهة فقط في حال تعقيم أدوات الحلاقة ، ولكن في الواقع أنه مع كثرة الناس ، يشتد إرهاق هؤلاء الحلاقين ، فقد يصعب عليهم تنظيف أدوات الحلاقة وتعقيمها ، فيتركون التعقيم لعدم إدراكهم الأهمية الكبرى لهذا الأمر ، فالأولى فيما يظهر هو سد الباب مطلقاً ، والله أعلم .
ومن المسائل المتعلقة بالحلق أو التقصير أيضاً: هل يعتبر الحلق بماكينة الحلاقة ( درجة صفر ) حلقاً أو تقصيراً ؟ هذا مما اختلفت فيه وجهات نظر الفقهاء المعاصرين ، فمنهم من رأى أنه حلق ؛ لأن الذي يراه لا يقول بأنه مقصر بل يقول إنه حالق ، وذات الموس ليس مقصوداً في حصول الحلق ، جاء في فتاوى اللجنة الدائمة ( 10/202 ): "العبرة هو حصول الحلق أو التقصير بأي آلة حصل، مع العلم بأن الحلق أفضل؛ والحلق هو استئصال الشعر بالموس أو غيره" ،ومنهم من رأى أنه تقصير ؛إذ إنه بمختلف درجات ماكينة الحلاقة يبقى من الشعر شيء ولو يسيراً بعد الأخذ منه. وقبل الترجيح بين القولين أحب أن أنبه على أمرين : الأول : أنه لا خلاف بين الجميع أن من حلق بالماكينة قد أدى الواجب الذي عليه ، وإنما النظر في الأجر الذي حصله هل هو أجر الحلق أو أجر التقصير ؟ والثاني : أنه لا ينبغي الخلاف في أن الأفضل هو الحلق بالموس لا بماكينة الحلاقة ؛ إذ من حلق بالموس قد حصّل أجر الحلق يقيناً ؛ لأنه فعل ما فعله النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وخرج من الخلاف . أما الترجيح بين القولين فينبني على معرفة الفرق الواقعي بين الحلق بالموس والحلق بالماكينة ، وبسؤال أهل الاختصاص ظهر أن الموس لا يبقي من الشعرة شيئاً على مستوى سطح الجلد ، بينما الماكينة تبقي شيئاً يسيراً ، ولذلك خروج الشعر في حال الحلق بالماكينة يكون أسرع مما لو تمت الحلاقة بالموس ، وعليه فلا يظهر أن الحلق بالماكينة هو حلق حقيقة ، لكنه قريب جداً من الحلق على وجه قد يصعب التفريق بينهما ، ومن القواعد أن ما قارب الشيء يأخذ حكمه ، وبالتالي فيمكن أن نقول بأن الحلق بالماكينة هو حلق حكمي ، ويرجى لمن فعله أن يحصّل أجر الحالقين لا المقصرين ، وفضل الله واسع ، والله أعلم .
ومن المسائل المتعلقة بالحلق أو التقصير كذلك :أن من قصر شعره فجعله على هيئة محرمة ، كأن يكون فيها تشبه بالكفار ، أو جعلها على هيئة القَزَع _بأن قصر بعض شعر الرأس تقصيراً كثيراً ، وبعضه – كأعلاه – لم يأخذ منه إلا قليلاً _ أجزأه ذلك ؛ لأنه فعل ما وجب عليه من تعميم رأسه بالتقصير ، وهو آثم لفعله هذا الأمر المحرم ، ويعتبر حجه ناقصاً ، ويخشى أن لا يكون هذا الحج مبروراً بسبب فعله للأمور المحرمة حال حجه .
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.