حكم البيع إلى أجل مـــع زيادة الزمن وبعض مشكلاته في أوروبا
د. حمزة أبو فارس
بحث مقدم للدورة التاسعة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء ـ اسطنبول (8 رجب 1430 هـ / 30 يونيو 2009 م) للأستاذ الدكتور حمـــزة أبو فـــارس - قسم الشريعة الإسلامية ـ كلية القانون ـ جامعة الفاتح ـ طرابلس - ليبيا
حكم البيع إلى أجل مع زيادة الزمن
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد اشرف المرسلين وبعد، فقد كثر سؤال الناس هذه الأيام عن الحكم الشرعي لبيع السلعة على أن يدفع المشتري الثمن، إما على أقساط أو قسط واحد، يدفع بعد مدة من العقد على السلعة، وهذا الثمن – عادة – يزيد على ثمن السلعة في حالة الدفع الفوري، فهل هذه المعاملة مباحة أو ممنوعة؟
لأهمية هذه المسألة – خاصة للمسلين في أوروبا – اخترتها موضوعا لهذه الورقة، وقسمتها إلى مقدمة ومبحثين وخاتمة.
المقدمة: في بيان أهمية البيع في حياة البشر، وأنه من الضروريات أو الحاجيات، وتعريف البيع لغة واصطلاحاً.
المبحث الأول: ويحوي النقاط التالية: تعريف الأجل لغة واصطلاحا ـ حكم البيع إلى أجل ـ أدلة جوازه ـ حكم البيع إلى أجل معروف عرفا ـ البيع بالتقسيط ـ حكمه مع الزيادة في الثمن واختلاف الفقهاء في ذلك ـ أدلة المانعين ـ أدلة المجيزين ـ المذهب الراجح.
المبحث الثاني: بعض المشكلات التطبيقية لعقد البيع إلى أجل في أوربا.
خاتمة: أذكر فيها نتائج البحث.
المقدمة
البيع جزء من المعاملات المالية التي لا يستغني عنها الناس، وبدونه تتعرقل الحياة الإنسانية إن لم تتوقف؛ ولذا اعتبرت الشريعة الإسلامية المال من الكليات الخمس التي يجب الحفاظ عليها، فحفظ المال من مقاصد الشريعة.
قال الشاطبي: " وكذلك أصل البيع ضروري "، وحتى لو اعتبرناه حاجيا لوجب الحفاظ عليه؛ لأنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري؛ إذ يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق، أو الحاجي بإطلاق، اختلال الضروري بوجه ما.
والمال يحافظ عليه من جهتين: الأولى تنميته باستثماره، ومنع الأيدي العابثة به، وانطلاقا من الجهة الأولى أحل الله البيع والشراء، وكافة المعاوضات وفق ضوابط شرعية معينة، ونهى عن الكنز والربا، وأمر بتداول الأموال بين الناس بمختلف فئاتهم؛ وفي كل ذلك يقول الله ـ سبحانه ـ: } كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ{، ويقول: } وأحل الله البيع وحرم الربا{، ويقول – عز وجل – :} والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم{.
والثانية: وضع عقوبات على من يعتدي على أموال الناس بالأكل بالباطل، أو بالغصب، أو بالسرقة، قال تعالى: }ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل {، وقال - سبحانه –: } وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ والله عزيز حكيم {.
بل إن الشارع منع العبث بالمال حتى من مالكه، فشرع الحجر على السفيه، قال – تعالى –: }ولا تؤتوا السفها أموالكم التي جعل الله لكم قيما {. ومنع الإسراف والتبذير – قال سبحانه –: }ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين {.
أولا: تعريفه لغة: البيع في اللغة مطلق المبادلة.
وقال ابن منظور: البيع ضد الشراء، والبيع الشراء أيضاً، وهو من الأضداد. }وشروه بثمن بخس دراهم معدودة{.
وفي الحديث: "لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض" أي لا يشتر على شراء أخيه.
ثانيا: تعريفه اصطلاحاً:
اختلفت المذاهب الفقهية في تعريف البيع اصطلاحا، فعند المالكية عرفه ابن عرفة بأنه " عقد معاوضة على غير منافع، ولا متعة لذة، ذو مكايسة، أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة، معين غير العين فيه ".
وهذا تعريفه له بالأخص، وأما بالأعم فهو " عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة ".
وهذه الألفاظ التي زادها ابن عرفة – رحمه الله – على التعريف بالأعم – فيها إخراج هبة الثواب والصرف والسلم والمراطلة.
واشترط المالكية في العاقدين التمييز، والمميز هو من يفهم الخطاب ويرد الجواب. وبيع المكره والملجئ والمضغوط موقوف على الرضا بعد غياب الإكراه والتلجئة والضغط، ويلحق بذلك في الوقف بيع المحجور عليه، فهذا البيع موقوف على إجازة الولي.
واشترطوا في المعقود عليه أن يكون طاهراً، معلوماً، منتفعاً به، يجوز تملكه، مقدوراً على تسليمه. قال خليل في مختصره: " وشرط عاقده: تمييز، إلا بسكر فتردد، ولزومه تكليف... وشرط للمعقود عليه طهارة،... وانتفاع..، وعدم نهي، وعدم حرمة ـ ولو لبعضه ـ وجهل بمثمون أو ثمن ولو تفصيلاً "
أقسام البيع من حيث تعجيل الثمن وتأجيله مع زيادة الثمن: وهو ما خصصنا له المبحث الأول:
المبحث الأول: حكم البيع بالآجل مع زيادة الثمن
الأصل في البيع أن يتم تعجيل الثمن والمثمون فيه، لكن قد يعجل الثمن وتؤجل السلعة، وذلك هو السلم، وله أحكامه التي تخصه.
وقد يؤجل العوضان، وهو بيع الدين بالدين، وله أيضا أحكامه، وهذان ليسا من موضوع هذه الورقة.
وقد تعجل السلعة ويؤجل الثمن، وهذا الذي يهمنا هنا، فما معنى تأجيل الثمن وما حكمه؟ هذا ما سنتحدث عنه في هذا المبحث في النقاط التالية:
أولا: تعريف الأجل لغة واصطلاحا:
أجل الرجل على قومه شرا، من باب قتل، جناه عليهم وجلبهم عليهم. يقال من أجله كان كذا، أي بسببه. وأجل الشيء: مدته ووقته الذي يحل فيه، وهو مصدر أجل الشيء أجلا من باب تعب، وأجل أجولا من باب قعد لغة.
وأجلته تأجيلا جعلت له أجلاً، والآجل على فاعل خلاف العاجل، وجمعها آجال.
قال تعالى: }وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا..{.
واصطلاحاً لا يتعدى معناه اللغوي فهو بمعنى التأخير.
أما البيع إلى أجل فهو ما يشترط فيه تأجيل الثمن، وعكسه منجز الثمن، وهو البيع الذي ينقد فيه الثمن، ويسمى أيضا البيع بالنقد.
ثانيا: حكم البيع إلى أجل:
البيع إلى آجل يتعلق به أحكام متعددة تبعا لكيفية هذا التأجيل، وما يصحبه من زيادة في الثمن لأجل هذا التأجيل. وعدم ذلك؛ وتحديد الأجل وعدم تحديده؛ ولذا سنقسم هذه المسألة إلى النقاط التالية:
1– البيع إلى أجل محدد بنفس الثمن الذي تباع به السلعة في البيع نقدًا، وهذا النوع من البيع لا نعلم خلافاً في جوازه إلا إذا كان هذا الأجل بعيداً جدا.
قال الباجي: " وأما البعيد فكره ابن القاسم البيع إلى أجل بعيد مثل عشرين سنة أو أكثر، ولا يفسخه إلا [في] مثل الثمانين والتسعين ".
قال القباب الفاسي: " والضابط عنده أن كل ما يقطع أنه لا يعيش إليه لا يجوز، وأما الغالب أن يعيش إليه يختلف فيه هل يجوز أم لا؟ ".
2- أما إذا كان تأجيل الثمن غير محدد، أي بيع سلعة بثمن إلى أجل مجهول، فإن ذلك غير جائز، ويعتبر هذا العقد فاسدا، يسترد فيه البائع سلعته أو قيمتها إذا فاتت.
قال ابن جماعة في مسائله: " لا يجوز أن تقول له: بع لي إلى موت فلان، أو إلى ميسرتي، أو إلى قدوم فلان، أو إلى أن أقتضي ديني من فلان، أو إلى أقدم من سفر لي، أو إلى أن أبيع السلعة ".
والسبب في منع ذلك هو الغرر والمخاطرة، فقد ثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن بيع الغرر. وهذا يدخل فيه الغرر في الثمن والمثمون والأجل. قال ابن أبي زيد القيرواني في رسالته معددا البيوع الفاسدة: " وكل عقد بيع أو إجارة أو كراء بخطر أو غرر في ثمن أو مثمون أو أجل فلا يجوز ".
وقد ورد النهي عن ما كان يفعله أهل الجاهلية من بيعهم إلى حبل الحبلة. وذلك كله للجهل بالأجل.
ثالثا: أدلة جواز البيع إلى أجل:
والحاصل أن البيع إلى أجل محدد بنفس ثمن البيع النقدي جوازه محل اتفاق بين العلماء للأدلة الكثيرة منها:
قوله تعالى: }وأحل الله البيع وحرم الربا {، فإن البيع مع تأجيل الثمن داخل في عموم الآية.
ومن السنة فعله – صلى الله عليه وسلم – ذلك. فقد توفي – عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير.
وحديث بريرة حيث جاءت إلى عائشة فقالت " إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني..." الحديث. ووجه الدلالة فيه أن فيه بيعاً مؤجل الثمن، ولم يعترض النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك، وإنما اعترض على الشروط التي ليست في كتاب الله.
وفي سنن الترمذي من حديث عائشة قالت: كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - ثوبان قطريان غليظان، فكان إذا قعد فعرق ثقلا عليه، فقدم بز من الشام لفلان اليهودي، فقلت: لو بعثت إليه فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرة، فأرسل إليه. فقال: قد علمت ما يريد، إنما يريد أن يذهب بمالي أو بدراهمي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "كذب، قد علم أني من أتقاهم لله وآداهم للأمانة". وقد بوب الترمذي – رحمه الله – لهذا الحديث بالرخصة في الشراء إلى أجل.
ومن حديث العالية قالت: كنت قاعدة عند عائشة – رضي الله عنها – فأتتها أم محبة فقالت لها: يا أم المؤمنين أكنت تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإني بعته جارية لي إلى عطائه بثمانمائة نسيئة، وإنه أراد بيعها بستمائة نقدًا. فقالت لها: بئسما اشتريت، وبئسما اشترى. أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إن لم يتب.
وجه الدلالة أن عائشة – رضي الله عنها – لم تعترض على البيع إلى أجل، وإنما اعترضت على بيع العينة.
وحديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة. وجه الدلالة أنه كان يشتري نسيئة بعلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وأوضح في الدلالة رواية البيهقي وفيها: قلت: يا رسول الله، نفدت الإبل، فقال: "خذ في قلاص الصدقة". فهنا الآمر له بالاشتراء نسيئة هو الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري – عند شرحه لحديثي عائشة وأنس أن النبي – صلى الله عليه وسلم – اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعا من حديد، وفي رواية أنس أنه عليه السلام – رهن درعا عند يهودي وأخذ منه شعيراً لأهله...
قال: " العلماء مجمعون على البيع بالنسيئة؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – اشترى الشعير من اليهودي نسيئة. وقال ابن عباس: البيع بالنسيئة في كتاب الله وقرأ: } يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم{
وجاء في المدونة في كتاب الآجال: " أرأيت لو بعت ثوباً بمائة درهم إلى أجل شهر ثم إني اشتريته بمائة درهم إلى الأجل، أيصلح ذلك أم لا في قول مالك؟ قال: نعم، لا بأس بذلك ".
رابعا: حكم البيع إلى أجل معروف عرفاً:
كأن يبيع الرجل سلعته على أن يدفع إليه المشتري الثمن في موسم حصاد الزرع أو جني الثمار أو عصير الزيت.
هذا البيع جائز عند مالك، ويعتبر الوسط من ذلك.
قال في التهذيب: " ولا بأس بالبيع إلى الحصاد أو الجذاذ أو العصير... لأنه أجل معروف. وأما إلى العطاء فإن كان قائما معروفا وقته فجائز، وإلا لم يجز ".
وهذا إعمال من الإمام مالك لقاعدة ( المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ).
خامسا: البيع بالتقسيط:
وهو بيع يسلم فيه السلعة إلى المشتري على أن يدفع إليه المشتري الثمن على دفعات متفق على قدرها ووقتها.
وحكمه لا يختلف عن ما ذكرناه سابقاً من تأجيل الثمن كله إلى أجل معلوم.
سادسا: البيع إلى أجل مع زيادة الثمن على ثمن الساعة إذا بيعت بنقد، وهذا هو لب موضوع هذه الورقة.
إذا وضع البائع للسلعة الواحدة ثمنين أحدهما للبيع النقدي، والآخر لمن أراد شراءها إلى أجل، على أن يجزم المشتري بأحد الأمرين، ولا يذهب على عقد متردد بينهما. فهل هذا الأمر جائز؟
قبل أن نفصل هذه المسألة نقول:
اتفق العلماء ـ فيما أعلم ـ على منع العقد المتردد بين الحال والآجل، فإذا اشترى السلعة على أنه بالخيار بين الثمنين، فإن هذا العقد غير صحيح عند كافة العلماء.
أما إذا تم العقد على أحدهما بعينه فإن للناس في ذلك مذهبين فيما يتعلق بالشق الثاني، أعني عقد البيع إلى أجل، مع وجود زيادة في ثمن السلعة على ثمنها الحال.
ذهب الجمهور منهم الأئمة الأربعة على أن زيادة الثمن من أجل الأجل جائز، وبالتالي فإن هذا البيع صحيح.
وذهب زين العابدين علي بن الحسين، والناصر، والمنصور بالله، والهادوية، والإمام يحيى إلى منعه، وهو الذي يفهم من كلام أبي بكر الجصاص من الأحناف.
سابعا: أدلة المانعين:
استدل الفريق المانع.
أولا: بالكتاب وذلك قوله تعالى: }وأحل الله البيع وحرم الربا {.
وجه الدلالة: أن الزيادة في الثمن في نظير الأجل، كالزيادة في الدين نظير الأجل، فكما أن الأخيرة تعتبر ربا، كذلك الزيادة في الثمن نظير الأجل في البيع تعتبر ربا، فهي داخلة في عموم النهي عن الربا وتحريمه؛ إذ أن الحالتين كلتيهما فيهما معاوضة على الزمن، وهذا هو الربا.
ثانيا: السنة النبوية، فمن ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ". واستدلوا بما ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ "نهى عن بيعتين في بيعة".
وقد فسره مالك بما ذكره ـ بعد هذا البلاغ ـ ببلاغين آخرين الأول أن رجلا قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد، حتى ابتاعه منك إلى أجل، فسئل عن ذلك عبد الله بن عمر، فكرهه ونهى عنه. والثاني أن القاسم بن محمد سئل عن رجل اشترى سلعة بعشرة دنانير نقدا، أو بخمسة عشر دينارا إلى أجل، فكره ذلك ونهى عنه.
وفسره سماك بن حرب والشافعي بأن يقول بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا.
قال الشوكاني: أما التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك، وذكره الشافعي ففيه متمسك لمن قال: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء.
وقد أورد الشوكاني هذا التفسير في ذكره لحديث ابن مسعود قال: "نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صفقتين في صفقة. قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنساً بكذا، وهو نقد بكذا وكذا".
وذكر السرخسي: " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث عتاب بن أسيد ـ رضي الله عنه ـ إلى مكة، وقال: " انههم عن شرطين في البيع، وعن البيع وسلف، وعن بيع مالم يقبض، وعن ربح مالم يضمن" وبه نأخذ. وصفة الشرطين في البيع: أن يقول: بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا , وذلك غير جائز..."
وظاهر كلام السرخسي أن العلة في عدم الجواز ـ عند الأحناف ـ هي الربا؛ فإن تفسير سماك بن حرب للحديث يدل على تحريم زيادة ثمن السلعة المؤجل عن سعرها يوم بيعها؛ لأن البائع يجمع هنا صفة النقد والنسيئة في صفقة واحدة، فلا يكون له إلا أوكسهما أو الربا، لا يستحق إلا رأس ماله، فإن أخذ زيادة فقد أربى.
ثامنا: أدلة المجيزين:
قلنا إن الجمهور ذهبوا إلى جواز أن يجعل للأجل حصة من الثمن، فإن كان ثمن السلعة خمسين دينارا نقدا، فإنه يجوز بيعها بستين دينارا إلى شهرين مثلا.
سبق أن ذكرنا أدلة جواز البيع إلى أجل، وبقي لنا التدليل على جواز زيادة الثمن لأجل الأجل.
الدليل الأول: الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يعارضها نص شرعي، فالعقود جميعها مباحة إذا كانت مبنية على التراضي بين المتعاقدين، ما لم يمنع ذلك نص من نصوص الشرع، ولم يرد مانع، بل جاء النص عاما في جواز البيع، وذلك قوله تعالى: }وأحل الله البيع {.
والبيع إلى أجل مع زيادة الثمن على الحال عقد مبني على التراضي، يخدم الطرفين، فالبائع ربحه يزيد، والمشتري ينتظر زمنا ما حتى تحصل له السلعة، فيستفيد من هذه السلعة التي قبضها قبل أن يتوفر لديه ثمنها، والمعروف أن للزمن قيمة اقتصادية مهمة في المقاولات وعقود الاستصناع وغيرها من أنظمة التجارة والمعاملات.
ورد الجمهور استدلال المانعين بحديث "من باع بيعتين" بأن الحديث بهذا اللفظ فيه مقال، والمشهور فيه "النهي عن بيعتين في بيعة"، وعلى فرض صحته باللفظ الأول فإن العلماء لم يعملوا بظاهره. قال الخطابي: " لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث، أو صحح البيع بأوكس الثمنين، إلا شيء يحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد، وذلك لما يتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل ".
الدليل الثاني: هو نفس الدليل الذي استدل به المانعون، وهو حديث "نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيعتين في بيعة "، فالممنوع ـ عند الجمهورـ هو قبول إحدى الصفقتين على الإبهام، أما لو قال: قبلت بألف نقدا أو بألفين نسيئة صح ذلك.
وهذا تفسير الإمام مالك لهذا الحديث حيث قال: في رجل ابتاع سلعة من رجل بعشرة دنانير نقدا أو بخمسة عشر دينارا إلى أجل، قد وجبت للمشتري بأحد الثمنين إنه لا ينبغي ذلك.
أقول: وتعليل مالك للمنع يبين هذه المسألة حيث قال: لأنه إن أخر العشرة كانت خمسة عشر إلى أجل، وإن نقد العشرة كانت إنما اشترى بها الخمسة عشر التي إلى أجل.
وقد فسر الشافعي ـ فيما ذكره المزني والربيع والزعفراني عنه ـ معنى نهي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيعتين في بيعة: أن أبيعك عبدا بألف نقدا، أو ألفين إلى سنة، ولا أعقد البيع بواحد منهما، فهذا تفرق عن ثمن غير معلوم.
والذي ذكر ابن عبد البر في مسألة العقد على أحد الثمنين على القطع والافتراق على ذلك أن ذلك جائز حتى عند أبي حنيفة وأصحابه.
بل إن ابن عبد البر أوجز المسألة كلها بقوله: " ولا يجوز عند مالك والشافعي وأبي حنيفة إن افترقا على ذلك بالالتزام، حتى يفترقا على وجه واحد ".
قال الشيخ خليل في مختصره مع شرحه الكبير للدردير معددا الممنوعات: "( وكبيعتين ) جعلها بيعتين باعتبار تبدد الثمن في السلعتين والثمن في السلعة الواحدة ( في بيعة )، أي عقد واحد. وفسر ذلك بقوله (يبيعها بإلزام بعشرة نقدا أو أكثر لأجل)، ويختار بعد ذلك. فإن وقع لا على الإلزام، وقال المشتري: اشتريت بكذا فلا منع ".
وقال الترمذي عند إيراده لحديث النهي عن بيعتين في بيعة: " والعمل على هذا عند أهل العلم. وقد فسر بعض أهل العلم، قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين , ولا يفارقه على أحد البيعتين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس، إذا كانت العقدة على أحد منهما ".
الدليل الثالث: ما ذكرناه من الأدلة السابقة من أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باشتراء البعير بالبعيرين من إبل الصدقة يدل دلالة واضحة على أن الثمن المؤجل يزيد على الثمن الحال؛ إذ لو كان حالا لكان البعير ببعير.
الدليل الرابع: قياس الزيادة غي الثمن المؤجل على عقد السلم. وذلك أن ثمن المسلم فيه يكون أقل وقت العقد عنه لو كان حالا، فهذه الزيادة لأجل الأجل؛ فلما جاز إنقاص ثمن المسلم فيه مقابل تأخيره، جازت زيادة الثمن المؤجل مقابلة لتأخيره.
وبناء على هذه الأدلة وغيرها فقد ذهب الجمهور ـ كما علمنا ـ إلى جواز البيع إلى أجل مع زيادة في الثمن على ما لو باعه نقدا. وفسروا حديث النهي عن بيعتين في بيعة بما إذا تفرقا ولم يجزم المشتري بالأخذ بأحد الثمنين، أما إذا أخذ بأحدهما فالبيع صحيح.
وقد مر بنا كلام المالكية في المسألة، ولا يختلف الأمر عند الشافعية والحنابلة، فالممنوع عندهم هو عدم الجزم بأحد الثمنين. وهو الذي ذهب إليه ابن الرفعة من الشافعية. وقال ابن قاسم العبادي في الحاشيته معلقا على قول الشارح ( بألف نقدا أو ألفين إلى سنة ): قضيته بطلان ذلك وإن قبل بأحدهما معينا وهو الأوجه ".
ولا يختلف رأي الإباضية عن المالكية فيما يظهر من كلام الجربي في حاشيته على الإيضاح، فقد قال صاحب الإيضاح: " ومن باع سلعة بكذا وكذا نقدا أو كذا وكذا نسيئة , وأخذ السلعة ومر، ولم يقطعا لذلك ثمنا وأشهدا عليه بأحد البيعتين أو أحد الأجلين، فإن ذلك عندنا لا يثبت؛ لأنهما لم يقطعا له بيعا معلوما... " قال الجربي: " وأما الزيادة في الثمن على القيمة إذا اشترطها إلى أجل معين، فلا بأس بالإجماع ".
إذن سبب المنع هو عدم معرفة ما وقع عليه العقد، أما إذا اتفق البيعان على بيعة واحدة من البيعتين في مجلس العقد صح البيع. وقد روي ذلك عن الزهري، وطاووس، وابن المسيب , وقتادة.
وقد أيد الشوكاني هذا النوع من البيوع في نيل الأوطار، فقد قال بعد أن بين من منعه: " وقالت الشافعية، والحنفية، وزيد بن علي، والمؤيد بالله، والجمهور إنه يجوز لعموم الأدلة القاضية بجوازه، وهو الظاهر ". وبين أنه ألف رسالة مستقلة في هذا الموضوع سماها: " شفاء الغلل في حكم زيادة الثمن لأجل الأجل ". وقد ورد اسمها في نيل الأوطار: " شفاء الغليل [ كذا في المطبوع والصواب: الغلل ] في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل ".
يتبع