قصة استضافة جابر بن عبد الله رضي الله عنهما للنَّبيِّ ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم يوم الخندق









د. رضا بوشامة





إنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم أُشربت قلوبهم حبَّ النَّبيِّ ﷺ، وإيثاره على أنفسهم وأهليهم، يتألَّمون لألمه، ويحزنون لِمَا يرون فيه من الضِّيق في العيش وهو رسول ربِّ العالمين، يجوع الأيَّام المتَوالية ولا يطعم شيئًا، بل يكون جوعه في وقت هو في أمسِّ الحاجة للشِّبع والقوَّة، والصَّحابة رضي الله عنهم من شدَّة حبِّهم له يقدِّمون له كلَّ نفيس يملكونه.
وقد وقعت وقائع عظيمة تدلُّ على شدَّة محبَّتهم لنبيِّهم ﷺ، ومن تلك الوقائع قصَّة جابر ابن عبد الله الأنصاري وامرأته سُهيلة بنت مسعود الأنصاريَّة رضي الله عنها في استضافتهما للنَّبيِّ ﷺ يوم الخندق بعد أن رأى جابرٌ ما لحق به ﷺ من الجوع والشِّدَّة، وما في تلك القصَّة من الفوائد والمواعظ والعوائد الحسنة الكثيرة، وقد ذكر القصَّة الإمام البخاري في «صحيحه» وغيره.
* * *
¤ يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:
«لَمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ خَمَصًا شَدِيدًا(1)، فَانْكَفَأْتُ(2) إِلى امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شيء فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ خَمَصًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا(3) فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ(4) دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَى فراغي، وَقَطَّعْتُهَا في بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ الله ﷺ، فَقَالَتْ: لاَ تَفْضَحْنِي برَسُولِ الله ﷺ وَبمَنْ مَعَهُ، فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ، وَنَفَرٌ مَعَكَ(5)، فَصَاحَ النَّبيُّ ﷺ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ! إِنَّ جَابرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا(6) فحيَّ هَلاً بكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلاَ تَخْبزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ»، فَجِئْتُ، وَجَاءَ رَسُولُ الله ﷺ يَقْدُمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بكَ وَبكَ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ، فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا، فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا، فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعِ خَابزَةً فَلْتَخْبزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي(7) مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلاَ تُنْزِلُوهَا»، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ باللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ، وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ(8) كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ(9).
وفي رواية للبخاري أيضًا قَالَ: إِنَّا يَوْمَ الخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ(10)، فَجَاءُوا النَّبيَّ ﷺ فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ في الخَنْدَقِ، فَقَالَ: «أَنَا نَازِلٌ»، ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بحَجَرٍ، وَلَبثنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبيُّ ﷺ المِعْوَلَ فَضَرَبَ في الكدية، فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ ـ أَوْ أَهْيَمَ ـ(11)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ائْذَنْ لي إِلَى البَيْتِ، فَقُلْتُ لامرأتي: رَأَيْتُ بالنَّبيِّ ﷺ شَيْئًا، مَا كَانَ في ذَلِكَ صَبْرٌ، فَعِنْدَكِ شيء؟ قَالَتْ: عندي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ(12)، فَذَبَحْتُ العَنَاقَ، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ في البُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبيَّ ﷺ وَالعَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ(13)، وَالبُرْمَةُ بَيْنَ الأَثَافِيِّ(14)، قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ، فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لي(15)، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ الله! وَرَجُلٌ، أَوْ رَجُلاَنِ، قَالَ: «كَمْ هُوَ؟»، فَذَكَرْتُ لَهُ، قَالَ: «كَثِيرٌ طَيِّبٌ»، قَالَ: «قُلْ لَهَا لاَ تَنْزِعِ البُرْمَةَ، وَلاَ الخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِي»، فَقَالَ: «قُومُوا»، فَقَامَ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَيْحَكِ جَاءَ النَّبيُّ ﷺ بالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَمَنْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «ادْخُلُوا وَلاَ تَضَاغَطُوا(16)»، فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ البُرْمَةَ، وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الخُبْز،َ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبعُوا، وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قَالَ: «كُلِي هَذَا وَأَهْدِي، فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ»(17).
فهذا جابر بن عبد الله من شدَّة محبَّته للنَّبيِّ ﷺ استضافه ومنح له كلَّ ما يملك في بيته، بعد أن رأى أثر الجوع على النَّبيِّ ﷺ، ولم يصبر رضي الله عنه أن يرى أفضلَ الخلق معصوب البطن لم يذق طعامًا لأيَّام، فساندته زوجه في تلك الضِّيافة الكريمة، إلاَّ أنَّها شعرت بالحرج والحياء خاصَّة أنَّها أوصته أن يضيِّف رسول الله ﷺ ونفرًا معه، فلمَّا رأت كثرة المدعوِّين خشيت أن لا ينال النَّبيُّ ﷺ من ضيافتهم إلاَّ الشَّيء القليل، لكن عناية الله بهم كانت فوق توقُّعاتهم، إذ أكرمه ربُّه بآية من آياته، وهي تكثير الطَّعام بين يديه، فأكلَ وأكل الضِّيفان، وأكل أهل البيت وبقيت بقيَّة من الطَّعام المبارك.
وهذا دليل من دلائل نبوَّته، وهو من الآيات البيِّنات فيما للنَّبيِّ ﷺ من المعجزات، وأدركت سُهيلة رضي الله عنها ذلك بإيمانها وتوكُّلها على الله، وجاء بيان ذلك في رواية أخرى(18) ذكرها الحافظ في «الفتح»(19)، قال جابر: «فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلاَّ الله، قلت: جاءنا الخلق على صاع شعير وعَناق، فدخلت على امرأتي فقلت: افتُضحت، جاءك رسول الله النَّبي ﷺ بالجند أجمعين، فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ قلت: نعم، فقالت: الله ورسوله أعلم، ونحن قد أخبرناه بما عندنا، فكشفت عنِّي غمًّا شديدًا».
- ففي هذه القصَّة فوائد غزيرة:
- ففيها بيان ما كان عليه ﷺ من حسن الخلق؛ إذ لم يستأثر بالطَّعام وحده، بل دعا أصحابَه كلَّهم، فشاركهم في الضَّرَّاء، كما شاركوه في السَّراء، بل لم يأكل ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ حتَّى أدخلهم جماعة جماعة فكسر لهم الخبز وأطعمهم بيده الشَّريفة، حتَّى شبعوا.
- وفيه بيان ما كان عليه الصَّحابة رضي الله عنهم من الشِّدَّة والفقر والجوع، فأصابهم جهد شديد حتَّى ربط النَّبيُّ ﷺ على بطنه حجرًا من الجوع، وكان ذلك كلُّه في وقت همْ أحوج للقوَّة، وهو الجهاد في سبيل الله، مع ذلك صبروا في ذات الله على تلك الشَّدائد والابتلاءات، فأكرمهم الله تعالى بالجنَّات.
- وفيه ما كان عليه النِّساء المؤمنات في ذلك العهد الزَّاخر من قوَّة الإيمان والتَّوكُّل على الله، فما كان من سُهيلة رضي الله عنها بعد أن استثبتت من زوجها: هل ذكر للنَّبيِّ ﷺ مقدار الطَّعام الَّذي كان عندهم حتَّى أتاها علم اليقين بأنَّ الله لن يخيب أملهما في إطعام النَّبيِّ ﷺ ومن معه من الجند الَّذين وصل عددهم الألف، فانكشف بكلامها ويقينها الغمُّ عن زوجها رضي الله عنه، وتيقَّنَا جميعًا بفتح الله تعالى عليهما، فكان أن بورك لهما في ضيافتهما؛ فأكل جميع الجند وبقيت بقيَّة للهديَّة.
- وفيه بيان لِما ينبغي أن يكون عليه المرء المسلم في أماكن الاجتماعات من الخلق الحسن والرِّفق بإخوانه وعدم الازدحام، وذلك من وصيَّته ﷺ للصَّحابة رضي الله عنهم بعدم الازدحام، وكانوا ألفًا، فدخلوا عشرة عشرة، والمكان لضيقه في بيت جابر لا يتَّسع إلاَّ لذاك العدد، فأكرمهم الله تعالى بأن طعموا جميعًا وشبعوا رضي الله عنهم، وهذا عكس ما نراه اليوم في بعض التَّجمُّعات من اللَّهث واللَّهف حول ما يوزَّع من الطَّعام خاصَّة في أيَّام المواسم كالحجِّ ورمضان من بعض الجهَّال والعوامِّ.
- وفيه الحثُّ على الإحسان والتَّصدُّق على النَّاس، خاصَّةً في أيَّام الحاجة؛ كالمجاعات وما يصيب النَّاس من ابتلاءات كالزَّلازل والفياضانات وغيرها، ففي هذه الأحوال يحتاج النَّاس إلى مدِّ يد العون لهم والرَّحمة بهم والسَّعي لرفع همومهم وغمومهم: «كُلِي هَذَا وَأَهْدِي؛ فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ»، فهذا من كمال هديه ﷺ وكريم أخلاقه وحبِّه لنفع النَّاس وإيصال الخير لهم، فحريٌّ بالمسلم أن يأتسي به في أخلاقه وحسن معاملته للخلق.
- وفيه أنَّ لصاحب الطَّعام أن يقدِم إلى طعامه ممَّن حضره من شاء من غير قرعة وإن كان قد دعاهم جميعًا إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يصله من الطَّعام ما يكفيه في ذلك الوقت.
- وفيه أنَّ الصَّديق الملاطف قد يأمر في دار صديقه بما يحبُّ إذا علم رضى صاحب البيت بذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ ﷺ تولَّى تقديم الطَّعام وكسر الخُبْز لأصحابه بنفسه، وهو فعل يرضاه أهل الكرم من الضَّيف ويحسون به أُنْس الضَّيف، حتَّى قد لا يعلم النَّاس صاحب البيت من الضَّيف، كما قال قائلهم:
يستأنس الضَّيف في أبياتنا أبدًا فليس يعـرف خَـلـقٌ أيُّنـا الضَّيف
- وفيه أيضًا ما يجب أن تكون عليه النِّساء المؤمنات من التَّعاون في أيَّام المناسبات كالأفراح والأعراس وغيرها، من طهي الطَّعام جماعةً ومساعدة صاحبة الوليمة في شؤونها «ادْعِ خَابزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَك»، وهذا من باب التَّكافل بين المسلمين، الَّذي بدأت ظاهرته تنعدم في بعض المجتمعات.
والله أعلى وأعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا وعلى آله وسلَّم.


(1) يعني ضُمور بطنه من أثر الجوع.

(2) أي: انقلبت ومِلْتُ.

(3) جمعه جُرْب، وهو وعاء من جِلد.

(4) تصغيرُ بَهْمَة، وهي الصغيرة من أولاد الغنم.

(5) النَّفر: بين الثَّلاثة إلى العشرة.

(6) السُّور دون همز بالفارسيَّة: كلُّ طعام يُدعى النَّاسُ إليه.

(7) أي: اغْرِفِي، والمِقدَحة المِغرَفة.

(8) أي تغلي غليانًا له صوت.

(9) «صحيح البخاري» (4102)، و«صحيح مسلم» (5436).

(10) القطعة الصُّلبة من الأرض التي لا تُحفر إلا بعد شدَّة.

(11) الكثيبُ قطعة من الرَّمل مستطيلة مُحْدَوْدبة وهي شبه الرَّبوة، والأهيَل: السيَّال من كثبان الرمل، يُقال: تهيَّل الرمل وانهال إذا سال، والأهيَم بالشك بمعنى أهيل، فهيَامُه سيلانُه.

(12) الجذَعة من المعز التي قاربت الحمل التي لا يجوز أخذها في الصدقة لصِغرها.

(13) كلُّ شيء قتر فقد انكسر، يريد أنه لان ورطب بإجادة عجنه.

(14) جمعُ أُثفِية، وهي ثلاثة أحجار توضع لتُوضَع عليها القِدْر للطبخ، هذا أصلها عند العرب.

(15) من المبالغة في تحقيره، أي طعام قليل.

(16) أي: لا تزدحموا.

(17) «صحيح البخاري» (4101).

(18) «دلائل النُّبوَّة» للأصبهاني (1/ 209)، و«دلائل النُّبوَّة» للبيهقي (4101).

(19) (7/ 398).