مستجدات الحج الفقهية ( النوازل في الحج ) (7من16)
الدكتور محمد بن هائل المدحجي

أثر الزحام على أحكام منى
ما زال الحديث متصلاً عن أثر الزحام على أحكام منى ، ومن ذلك :
(عدم المبيت في منى لعدم وجود المكان ) :فبعض الحجاج ربما لا يجد مكاناً يبيت فيه بمنى ؛ بسبب تجاوز عدد الحجاج لطاقتها الاستيعابية ، حيث تبلغ مساحة منى بحدودها الشرعية 8.16 كم2 بما فيها السفوح الجبلية والمنطقة السهلية المنبسطة, وتقدر مساحة بطن الوادي في منى بحوالي 4 كم2 وهي تكاد تكون نصف المساحة الإجمالية للحدود الشرعية لمشعر منى في حين أن بقية المساحة سفوح جبلية, وتستأثر الطرق والأرصفة بحوالي 25% منها في حين تقدر المساحة التي تشغلها الدوائر الحكومية والخدمات بـ 15% منها. وبهذا يتضح أن المساحة المتبقية لنصب الخيام, وإيواء الحجاج في منى هي فقط 2.5 كم2 تقريباً [مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ع49/ص20] ، وهؤلاء الحجاج تجاوز عددهم اليوم المليونين ، ويضاف لهم الأعداد الوفيرة من الأجهزة المختلفة؛ للمحافظة على الأمن والنظام وتأمين متطلبات الحجاج من الطعام والشراب وغيرها ، بالإضافة إلى وجود القائمين على الخدمات والإرشاد, ووجود الإعلاميين والمراقبين والمرافقين, وقد يصل العدد إلى ثلاثة ملايين يجتمعون في هذه البقعة الصغيرة المحدودة, ومن ثَمّ لا يجد بعض الحجاج وخاصة غيرَ النظاميين مكاناً مهيئاً لهم يبيتون فيه بمنى .
والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق ثلاث ليال لغير المتعجل وليلتين للمتعجل واجب عند جماهير العلماء ، ويجب على من تركه بغير عذر دم لتركه واجباً من واجبات الحج ، وذهب الحنفية وهو قول عند الشافعية ورواية عند الحنابلة إلى أن المبيت بمنى ليالي أيام التشريق سنة وليس بواجب ، ولا يجب على من تركه شيء ، واللطيف استدلال كلا الفريقين بدليل واحد كحديث ابن عمر { في الصحيحين : «أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِالْمُطَّل ِبِ، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى الله عليه وسلم- ، أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ» ، فالموجبون للمبيت قالوا : لو كان المبيت سنة ما احتاج العباس رضي الله عنه للإذن ، فالترخيص لأهل السقاية كالعباس رضي الله عنه دليل على أنه واجب في حق من ليست عنده هذه الرخصة ، وقال الفريق الثاني : لو كان المبيت واجباً لما أذن النبي -صَلَّى الله عليه وسلم- للعباس رضي الله عنه أن بتركه ، وفعل النبي -صَلَّى الله عليه وسلم- محمول على السنة توفيقا بين الدليلين ، وقول الجمهور أقرب ، والله أعلم .
فإن قلنا لهؤلاء الحجاج الذين لم يجدوا مكاناً مهيئاً في منى إنه يجب عليكم المبيت بمنى على كل حال وإلا وجب عليكم دم ، تكون النتيجة هي افتراش الطرقات والأرصفة التي لا تصلح مكاناً للمبيت ؛ إذ فيها أذية للآخرين بالتضييق عليهم _ كما هو مشاهد وخاصة حول الجمرات_ ، فالطرق جعلت لسيارات الخدمة والإسعاف ونحوها ، والأرصفة جعلت للمشاة ، وكلها ملوثة بعوادم السيارات والأتربة والغبار وغير ذلك مما لا يناسب أن يجلس الإنسان فيه تلك الليالي ، كما أن في هذا الافتراش امتهان لكرامة المسلم, وخاصة النساء, وربما نام الحاج رجلاً كان أو امرأة على هذه الأرصفة أو الطرقات فتعرض لخطر الدهس أو انكشاف العورة ، والشريعة لا تأتي بإيجاب مثل هذا ، قال تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج 78 ] ، وقال -صَلَّى الله عليه وسلم- : " لا ضرر ولا ضرار" رواه ابن ماجه ، ومثل هذا يقال فيما لو لم يجد الإنسان إلا مكاناً يخشى على نفسه فيه من السقوط أو الأذى, أو كان في الوصول إليه مشقة شديدة للبعد ووعورة المكان, ومن المعلوم أن الإنسان يحتاج إلى الأكل والشرب وبعض الخدمات مما لا يتوفر في هذه الأماكن, إلا بمشقة كبيرة ، والحرج مرفوع في الشريعة .
فإذا كان افتراش الطرقات والأرصفة ليس واجباً ، بل ولا جائزاً في بعض الحالات ، فإن المبيت بمنى لا يلزم من لم يجد مكاناً مهيئاً يبيت فيه بمنى ؛ لأن الواجبات تسقط بالعجز ، قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } (البقرة 286) ، وعليه فإنه يبيت حيث يشاء ، قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله : " إذا اجتهد الحاج في التماس مكان في منى ليبيت فيه ليالي منى فلم يجد شيئاً فلا حرج عليه أن ينزل في خارجها ؛ لقول الله عز وجل : {فاتقوا الله ما استطعتم} (سورة التغابن16). ولا فدية عليه من جهة ترك المبيت في منى ؛ لعدم قدرته عليه " [ مجموع فتاواه كتاب الحج 2/209] ، وفي فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية 11/268 : " من لم يجد مكانا في منى وهو حاج، ونزل أيام منى خارج منى لكنه يبيت في الليل في منى، ثم يخرج إلى منزله بعد طلوع الفجر فلا شيء عليه، ولو بات في منزله فلا حرج إذا لم يتيسر له النزول في منى " .
لكن من العلماء من رأى أنه يلزم المبيت في أقرب مكان من منى: كالشيخ ابن عثيمين والشيخ ابن جبرين رحمهما الله ، والشيخ صالح الفوزان حفظه الله ، وبنوا قولهم على القياس على من لم يجد مكاناً في المسجد في صلاة الجمعة إذ يلزمه أن يصلي خارج المسجد قريباً بحيث تتصل الصفوف ، فهكذا إذا امتلأت منى يسكنون بأقرب ما يمكنهم ، وبالتالي يتحقق مقصود الشارع من اجتماع الناس في مكان واحد .
والحقيقة أن كلا القولين له وجاهته وقوته ، لكن الذي يظهر رجحانه أن من لم يجد مكاناً بمنى فإنه يبيت حيث شاء ، أما ما استدل به الذين أوجبوا أن يكون المبيت بجانب خيام منى ملاصقاً لها فيمكن أن يجاب عنه بما يلي : أما القياس على وجوب اتصال الصفوف في الصلاة فهو قياس مع الفارق من جهة أن اتصال الصفوف في الصلاة هو لتحقيق مصلحة الاقتداء ومتابعة الإمام ، وليس هناك اقتداء في المبيت بمنى ، وأما المعنى الذي ذكروه من اجتماع الناس في مكان واحد فهو معنى يفيد الاستحباب ولا شك ؛ لأنه يحقق مقصداً من مقاصد الشارع ، ولكنه ليس كافياً في إثبات الوجوب بدون دليل خاص ، خاصة وأن الاجتماع قد حصل بمن في منى وهم كثر ، والله أعلم.
لكن قد يقال بأنه ينبغي أن تكون الفتوى العامة على وجوب المبيت في أقرب مكان من منى من باب سياسة الناس على الخير ، فإنه لو قيل بأنه يبيت حيث شاء لوُجد من يحرص على ألا يجد مكاناً بمنى أو على الأقل يتساهل في التأكد من عدم إمكان المبيت في منى ، لتحصل له الرفاهية بالانتقال إلى فنادق مكة مثلاً ، فيفوته بذلك خير كثير ، في حين أنه لو عَلِم أنه إن لم يجد مكاناً في منى لزمه أن يكون قريباً منها لحرص على أن يكون في منى لتوفر الخدمات التي قد يحتاجها فيها .
ومن جهة أخرى قد يقال أيضاً أنه لا ينبغي التشديد في هذا الأمر خاصة مع وجود قول قوي بعدم وجوب المبيت بمنى من حيث الأصل .
لكن مما لا شك فيه أنه يستحب لمن لم يجد مكاناً بمنى أن يكون حريصاً على أن يكون أقرب ما يمكن منها ؛ إذ إن من أسباب قبول الدعاء وتنزل رحمة الله سبحانه وتعالى أن يجتمع الناس في مكان واحد مظهرين الفقر والفاقة والذل لله سبحانه وتعالى رافعين أكفهم بالدعاء ، فقد يكون من الحرمان أن يبيت الحجاج بعيدا عن التعرض لرحمة الله سبحانه وتعالى في تلك المواقف العظام.
كما إن من مقاصد الحج العظيمة أن يجتمع الحجاج في مكان واحد؛ يتعلم جاهلهم من عالمهم، ويواسي غنيهم فقيرهم، ويساعد قويهم ضعيفهم وهذا لا يحصل حينما يكون الإنسان بعيداً.
وإن من أعظم مقاصد الحج أيضاً تساوي الناس وإظهارَ الذل والفاقة ، ولا شك أن من قرب من منى سيكون أقرب إلى الذل والعبودية واستشعار الحج ممن يكون بعيدا في مكان مهيأ لا يقرب من الحجاج، ولا يشعر بهم، ولا ينتفعون منه، ولا ينتفع منهم.
وأيضاً فمن أعظم المقاصد في الحج للأقوياء وللأغنياء والمتعلمين أن يحسوا في هذا الموقف العظيم بالقرب من إخوانهم الفقراء والضعفاء والمعوزين والجهلاء، وأن ينفعوا إخوانهم ويعلموهم ويرشدوهم ، وهذا كله يؤيد أنه ينبغي لمن لم يجد مكاناً في منى أن يكون قريباً منها ، والله أعلم .
ومن المسائل المتفرعة عن هذه المسألة ( حكم الحج في حملات خيامها في مزدلفة ) أو ما يعرف بالفئة ( هـ ) ، والمقصود أن الحاج يعلم سلفاً قبل بدء الحج أنه لن يبيت في منى ، سواء إذا كان مستأجراً في هذه الحملات ، أو موظفاً فيها ، أو طبيباً مرافقاً ، أو واعظاً ، وهذه المسألة محل خلاف كبير بين الفقهاء المعاصرين ، والذي يبدو لي والله أعلم أنه لا بأس بالحج مع هذه الحملات ؛ وذلك لأنه مما يكاد يُجزم به أنه لن يأتي وقت المبيت بمنى إلا ومنى ممتلئة ، والرخصة في ترك المبيت بمنى قائمة ، وأما بالنسبة للموظف والطبيب والواعظ ونحوهم فيمكن أن يقال بأن مبيتهم خارج منى إنما هو لعذر القيام على مصلحة الحجيج الذين لهم رخصة في الاستئجار في هذه الحملات ، خاصة وأن الحملات التي خيامها في منى قد تكون أجرة الحج معها مبالغاً فيها ، أو مرهقة لمثل هؤلاء الحجاج ، والله أعلم .
ومن المسائل المتفرعة عن هذه المسألة أيضاً ( كيفية تعجل من لم يجد مكاناً بمنى ) ، فمعلوم أن الحاج يجوز له التعجل في اليوم الثاني من أيام الرمي ، لقوله تعالى { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى } ( البقرة 203 )، وشرط جوازه عند الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة أن يخرج الحاج من منى قبل الغروب ، فيسقط عنه رمي اليوم الثالث ، فإن لم يخرج حتى غربت الشمس لزمه المبيت بمنى ، ورمى اليوم الثالث ؛ وذلك لأن اليوم اسم للنهار ، فمن أدركه الليل فما تعجل في يومين ، وثبت عن عمر رضي الله عنه _ كما في الموطأ _ أنه قال " من غربت عليه الشمس وهو بمنى ، فلا ينفرن ، حتى يرمي الجمار من الغد " .
لكن الذي حصلت له الرخصة في المبيت خارج منى _ كالذي يبيت في خيام مزدلفة مثلاً _ هو في الحقيقة خارج منى ، وعليه فقد نص بعض الفقهاء المعاصرين أن له أن يتعجل ولو غربت عليه شمس يوم الثاني عشر من ذي الحجة وهو في خيمته ، فلا يلزمه المبيت ليلة الثالث عشر فيها ، ولا يلزمه الرمي في اليوم الثالث عشر ، وشرط ذلك فيما يظهر ألا يطلع عليه فجر يوم الثالث عشر من ذي الحجة إلا وقد نوى التعجل ، أما لو طلع الفجر وهو لم يتعجل فلا أعلم أحداً من أهل العلم يقول بسقوط رمي يوم الثالث عشر عنه ، والله أعلم .
ومن النوازل المتعلقة بالزحام وأثره على أحكام منى :أن بعض الحجاج ربما يخرج من منى لأي سبب من الأسباب ثم عند عودته إليها يتأخر في الوصول إليها بسبب زحام السيارات ، ومن المعلوم أن الطرق المؤدية إلى منى والخارجة منها تزدحم ازدحاماً كبيراً بالسيارات وينتج عن ذلك التوقف المتكرر مما يعيق – في كثير من الأحيان - وصول الحاج فلا يدرك القدر الواجب في المبيت _ وهو أكثر من نصف الليل ولو بلحظة _ بل ربما لا يدرك شيئاً من الليل في منى ، ومثل هذا لا شك أنه معذور ، ولا شيء عليه ؛ إذ الواجبات تسقط بالعجز ، قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } (سورة البقرة 286) ، ولا يخالف في هذا إلا المالكية الذين يرون أن مثل هذا العذر يسقط الإثم ، ولكنه لا يسقط وجوب الدم ، وقول الجمهور أصح ؛ لموافقته لقواعد رفع الحرج في الشريعة، وعليه الفتوى .
ومثل ذلك يقال فيمن أراد أن يتعجل ، وارتحل وجمع متاعه ، ولكنه لم يستطع الخروج من منى إلا بعد الغروب ، نظراً لشدة زحام السيارات ، وكان قد رمى قبل ذلك ، فهو في حكم من نفر من منى ، فلا يلزمه المبيت بها ليلة الثالث عشر ولا الرمي في اليوم الثالث عشر ، ومثله من نوى التعجل، و أخرج سيارته ومتاعه خارج منى ، ثم رجع للرمي فغربت الشمس قبل أن يرمي نظراً لشدة الزحام ، فهؤلاء يعتبرون متعجلين؛ لأن تأخرهم بغير اختيارهم .
وقبل أن نفارق نوازل الحج المتعلقة بالزحام أحب التنبيه على أن من الفسوق الذي يجب على الحاج أن يجتنبه في حجه : أذية الناس بالمزاحمة ، وسباب الحجاج عند التأذي في حال الزحام أو غيره ، وعدم الرفق بمن حوله في حال الطواف ، أو السعي ، أو رمي الجمرات ، أو غير ذلك ؛ لأن أذى المسلم محرم ، ومما ينقص حج المسلم ، ويجعل حجه غير مبرور ، قال تعالى : { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } (الأحزاب : 58).
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.