عمل المرأة والاختلاط وأثره في انتشار الطلاق
د. عثمان جمعة ضميرية
مقدمة:
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فقد قضت حكمة الله تعالى وإرادته: أن تكون الزوجية هي قاعدة بناء الكون كله، فقال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}[1] وقال سبحانه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[2] وهكذا كانت الإنسانية - كذلك - زوجين اثنين، ذكرا وأنثى، بهما يتم حفظ النوع واستمرار البقاء في هذه الحياة، للقيام بأعباء الخلافة في الأرض وعمارتها وفق منهج الله، وتحقيقا لغاية الوجود الإنساني في التوحيد والعبادة... {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[3].
ولا تستقر حياة البشرية والمجتمع البشري، ولا تستقيم أمورهما، ما لم يكن هناك نظرة صحيحة مستقرة عن العلاقة بين الذكر والأنثى ووضع كل منهما ومكانته.
نظرة الإسلام إلى المرأة:
وقد عني الإسلام بتصحيح النظرة إلى المرأة وبإقامة العلاقة بين الجنسين على أساس من حقائق الفطرة التي فطر الله تعالى الإنسان عليها، فقد عني ببيان وحدة الزوجين وتساويهما من الناحية الإنسانية والكرامة الآدمية، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}[4].
وعني ببيان وحدة الزوجين وتساويهما من حيث العلاقة بربهما وجزائهما عنده، فقال سبحانه وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}[5].
وعني أيضا: ببيان نوع الصلة بين شقي النفس الواحدة، وعني بتنظيم الصلة بين الجنسين في كل أحوالها وأطوارها، وقد ركب الله سبحانه وتعالى كلا من الرجل والمرأة تركيبا يتفق مع طبيعة الوظيفة التي أعده للقيام بها، كما جعل في كل واحد منهما دافعا فطريا عميقا يدفعه إلى اللقاء بالآخر ويجذبه إليه، ونظم الإسلام هذا اللقاء، ولم يتركه للفوضى ونوازع النفس الأمارة بالسوء، ولا نهبا للعواطف الثائرة، ولا فريسة للهوى والشهوة الجامحة، ولذلك شرع الزواج طريقا يتم به إشباع الحاجة الجسدية والنفسية عند كل من الزوجين، فكل منهما يحتاج إلى الآخر حاجة فطرية ضرورية، كحاجته للباسه الذي يستره ويحفظه من عوادي الطبيعة وفضول النظر، وكحاجته للسكن الذي يأوي إليه ويأنس فيه[6] ، قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}[7]...
كما عني الإسلام أيضا: ببيان الحقوق والواجبات المتقابلة بين أطراف الأسرة، وقواعد العلاقة والتعامل بين أفرادها، تحقيقا للعدالة والحق الذي قامت به السماوات والأرض: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[8] وربط ذلك كله بالعقيدة والإيمان، وجعل تقوى الله تعالى ومراقبته ضمانا للالتزام بهذه الواجبات، والقيام بها ورعايتها، وعدم الإخلال بمقتضياتها؛ ولذلك فإن كل واحد منهم ينصف من نفسه ويقوم بواجبه قبل أن ينتصف من الآخر، وقبل أن يطالب بحقه، بعيدا عن الإضرار والتعسف والجور: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[9].
الأسرة ضرورة فطرية, نفسية, واجتماعية:
ومن هنا كان نظام الأسرة ضرورة فطرية تلبي حاجة نفسية عميقة في نفس الإنسان، وتنظيما اجتماعيا مدنيا للمساعدة في تربية الطفولة البشرية الممتدة امتدادا زمنيا لا نجده في غيرها من أنواع الحياة والأحياء، ولذلك أعلى الإسلام من مكانة الأسرة، واهتم بها اهتماما بالغا: في نشأتها وتكوينها، وفي العناية بها والرعاية بعد قيامها، وفي معالجة ما قد يطرأ عليها مما يعكر صفو العلاقة بين أفرادها، ويكاد يأتي عليها فيفصم عراها المتينة، فشرع من الأحكام ما يكفل لها القيام على أسس قوية متينة، ويضمن لها الاستقرار والقيام بأداء الوظيفة المنشودة منها، ثم حاطها بالرعاية والوقاية من أسباب الشقاق والتصدع، فإن هاجت الأعاصير، وهبت العواصف في وجهها، فإن الوفاء لهذا الركن الاجتماعي يدعو إلى اختيار العلاج الناجع بعد تشخيص دقيق للداء، وبعد معرفة أسباب الانحراف الذي يميل بهذه الأسرة عن الجادة أو يعصف بها ويزعزع أركانها.
الواقعية والمثالية في نظام الأسرة:
والإسلام، وإن كان يدعو إلى المثالية والكمال بدرجاته العليا، فهو أيضا: دين واقعي، يتعامل مع الواقع ولا يكلف الناس من أمرهم عسرا، ولا يتجاهل نوازع الضعف والانحراف والشذوذ الذي يقع.
ومن واقعيته: أنه لا يتجاهل ما قد يكون بين الزوجين من خلاف أو نشوز، فإن طبيعة الحياة والعلاقات المتشابكة والمصالح المتضاربة المتناقضة، والنفوس بما جبلت عليه، قد تدعو إلى الخلاف والنفور.
ولكن: ليس معنى ذلك أن يسارع الزوج إلى فصم عرى الزوجية لأقل الأمور وأيسر الأسباب، أو لجموح الشهوات العارضة، فهو لم يرغب في الطلاق، وإنما نهى الزوج عن المسارعة فيه، وجعله «أبغض الحلال إلى الله »[10]، ونهى الزوجة عن المطالبة به من غير ما بأس، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة»[11].
وجعل إفساد المرأة على زوجها، والزوج على زوجته من المحرمات والكبائر، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): «ليس منا من خبب امرأة على زوجها»[12]، وقال(صلى الله عليه وسلم): «من أفسد امرأة على زوجها فليس منا»[13].
ولذلك يأخذ الإسلام بيد الزوجين في خطوات متدرجة متئدة، يعالج بها ما قد يكون بينهما من خلافات، ويضع لها العلاج الناجع، بل يعود إلى ما قبل وقوع الخلاف، حيث يرسي من المبادئ والتوجيهات ما يساعد على الوقاية من التصدع والانحراف.
خطوات في رأب الصدع:
وحسبنا هنا أن نشير إلى هذه الخطوات بكلمات موجزة سريعة، دون الوقوف عندها بالتفصيل، لأن ذلك يخرج بنا عما قصدنا إليه:
1 - وأول ما يرشدنا إليه الإسلام في هذا: هو التذكر بأن عقد الزواج ميثاق غليظ مؤكد، يجب على أصحاب الإيمان والمروءة
أن يحافظوا عليه ويقوموا بمقتضياته، وأن لا يتلاعبوا به، وأن لا ينقضوه: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[14].
2 - ثم يحث على الالتزام بالأسس والقواعد الدقيقة في تكوين الأسرة، بحسن الاختيار والتعرف والرضائية، والمعاشرة بالمعروف، والتغاضي عما قد يكون من تقصير أو هفوات لأنا إذا كنا دائما ننشد الكمال في الآخرين، فلن نجد كاملا مبرأ من العيب: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}[15] ويسن من الأحكام والتشريعات ما يكفل القيام بالواجبات المتقابلة، كما تقدم آنفا.
3 - يعود بكل من الطرفين إلى المحكمة الداخلية في النفس، بالتربية على المراقبة لله سبحانه وتعالى والخشية له في السر والعلن، ويجعل من الإيمان والتقوى حارسا للعدالة والحقوق، ومن هنا يعرض الله سبحانه وتعالى أحكام الأسرة من خلال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته ومقتضياتها، ومن خلال التذكير الدائب بالتقوى وبالحساب والجزاء في الآخرة. وعندئذ: فالحقوق كلها مصونة، والواجبات كلها مرعية. قال الله سبحانه وتعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}[16] والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة تعز على الحصر.
4 - يرسم الإسلام للزوج طريق العلاج عند الخوف من نشوز المرأة بما يؤثر على البيت أو المؤسسة العائلية والخلية الاجتماعية أو يهددها، وذلك بثلاث خطوات تأديبية متدرجة؛ فكرية ونفسية ومادية. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}[17].
5 - اللجوء إلى المحكمة العائلية من أهل الطرفين للإصلاح وإزالة أسباب الشقاق بالتحكيم من أهل الثقة والخير من هؤلاء الأقارب من الأهل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}[18].
6 - وإذا لم تفلح تلك الخطوات في رأب الصدع، واستمر الخلاف والشقاق " فلا بأس - عندئذ - من اللجوء إلى الطلاق، علاجا مبغضا لتلك الحالة..
وهنا يشرع الإسلام جملة من الضوابط لتحقيق الحكمة التشريعية للطلاق، فيطلق تطليقة واحدة بلفظ واحد، في حال طهر من الحيض، لم يمس فيه الزوجة، وهذه طلقة رجعية، يرتب عليها العدة في بيت الزوجية، لعل ذلك يعطي الزوجين الفرصة لمراجعة حساباتهما ومحاسبة النفس، وتقدير العواقب والآثار المتنوعة المترتبة على الطلاق، فيدعوهما للعودة، فيراجع زوجته قولا أو فعلا - بالمعاشرة الزوجية عند بعض الفقهاء - ولو بإرادته المنفردة، أثناء فترة العدة بدون مهر ولا عقد جديدين: {وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[19].
7 - فإذا انقضت العدة، ولم يراجع زوجته، فيصبح الطلاق بائنا بينونة صغرى، ومعنى ذلك: أنه لا يستطيع إعادة الحياة الزوجية من جديد إلا بعقد ومهر جديدين، برضا الزوجة وموافقتها، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}[20].
8 - فإذا استأنفا الحياة الزوجية الجديدة، ووقع - أيضا - الخلاف والشقاق بينهما مرة أخرى، فإن الخطوات السابقة قد تفلح هذه المرة في إعادة الوئام بعد تلك التجربة. فإن لم تفلح في ذلك: فيمكن أن يقع الطلاق أيضا بتلك الضوابط. وهو يعلم هنا: أنه إن طلقها للمرة الثالثة فإن ذلك طلاق بائن بينونة كبرى بمجرد وقوعه، لا يمكن بعده أن يراجعها، ولو بإرادتها وبعقد ومهر جديدين، وإنما يمكن ذلك إذا تزوجت من شخص آخر زواجا شرعيا، لا تدليس فيه ولا تحليل، ثم طلقها الزوج الثاني بعد الدخول بها، أو مات عنها، وانقضت عدتها منه. وهذا كله قد يحمل الزوج على التفكير والتريث في إيقاع الطلاق للمرة الثالثة؛ لأنه يعلم أنها لا ترجع إليه إلا بعد أن يصيبها غيره، وهذا مما تستصعبه النفوس وتنفر منه، فإذا وقع الطلاق في هذه الحال كان ذلك مؤشرا على استحالة الحياة الزوجية الطيبة السعيدة الهانئة بينهما، فالطلاق هو الحل الأخير لما بينهما من خلاف أو نشوز: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}[21].
الطلاق صمام أمان للأسرة:
ألمحنا آنفا إلى أن الإسلام حاط الأسرة بكثير من الضمانات كي تقوم بأداء وظيفتها وتتحقق الحكمة منها، وكانت هذه الضمانات على مستويين من الأحكام: ديانة وقضاء، ومن ناحيتين: إيجابية وسلبية. فمن هذه الناحية الأخيرة: يمكن أن يكون الطلاق صمام أمان للأسرة أيضا - رغم ما قد يبدو في هذا الكلام من التناقض - فإن إلزام الزوجين بالبقاء في أسرة واحدة رغم الخلافات المشتجرة بينهما، ورغم الكره المتبادل بينهما... قد يؤدي إلى كثير من الأخطار، كالتأثير السلبي في الأولاد، والخيانة الزوجية، والكيد المتبادل، والتآمر ليل نهار، والجريمة المدبرة، ولذلك كان الطلاق في هذه الحال ضمانة لنشأة الأولاد بعيدا عن الخلافات، ووقاية من التآمر والكيد، ومن الجريمة والخيانة.
كلمة في هذه المعاني للدهلوي:
وفي هذه المعاني كلها - في التحذير من الطلاق في الأحوال العادية لما يترتب عليه من آثار، وفي كونه علاجا في أحوال أخرى - يقول حكيم الإسلام شاه ولي الله الدهلوي: " اعلم أن في الإكثار من الطلاق، وجريان الرسم بعدم المبالاة به: مفاسد كثيرة، وذلك أن ناسا ينقادون لشهوة الفرج، ولا يقصدون إقامة تدبير المنزل، ولا التعاون في الارتفاقات، ولا تحصين الفرج، وإنما مطمح أبصارهم التلذذ بالنساء، وذوق لذة كل امرأة، فيهيجهم ذلك إلى أن يكثروا الطلاق والنكاح. ولا فرق بينهم وبين الزناة من جهة ما يرجع إلى نفوسهم، وإن تميزوا عنهم بإقامة سنة النكاح، والموافقة لسياسة المدنية، وهو قوله(صلى الله عليه وسلم): «لعن الله الذواقين والذواقات»[22].
وأيضا: ففي جريان الرسم بذلك: إهمال لتوطن النفس على المعاونة الدائمة أو شبه الدائمة، وعسى إن فتح هذا الباب أن يضيق صدره أو صدرها في شيء من محقرات الأمور، فيندفعان إلى الفراق، وأين ذلك من احتمال أعباء الصحبة، والإجماع على إدامة هذا النظم.
وأيضا: فإن اعتيادهن بذلك وعدم مبالاة الناس به، وعدم حزنهم عليه: يفتح باب الوقاحة، وألا يجعل كل منهما ضرر الآخر ضرر نفسه، وإن تخون كل واحد الآخر يمهد لنفسه إن وقع الافتراق، وفي ذلك ما لا يخفى من المفاسد والأضرار.
ومع ذلك: لا يمكن سد هذا الباب والتضييق فيه، فإنه قد يصير الزوجان متناشزين، إما لسوء خلقهما، أو لطموح عين أحدهما إلى حسن إنسان آخر، أو لضيق معيشتهما، أو لخرق واحد منهما، ونحو ذلك من الأسباب، فيكون إدامة هذا النظم - مع ذلك - بلاء عظيما وحرجا ".
وكلمة أخرى لفيلسوف قانوني:
وقد فطن أيضا إلى هذا المعنى أيضا الفيلسوف الإنجليزي " بنتام " في كتابه " أصول الشرائع "، حيث يقول:
"لو ألزم القانون الزوجين بالبقاء - على ما بينهما من جفاء - لأكلت الضغينة قلوبهما، وكاد كل منهما للآخر، وسعى إلى الخلاص منه بأية وسيلة تمكنه، وقد يهمل أحدهما صاحبه، ويلتمس متعة الحياة عند غيره، وبهذا ينفتح باب الفسوق، ويضيع النسل، وتفسد البيوت.
ولو أن أحد الزوجين اشترط على الآخر - عند عقد الزواج - ألا يفارقه، ولو حل بينهما الكراهية والخصام محل الحب والوئام، لكان ذلك أمرا منكرا، ومخالفا للفطرة، ومجافيا للحكمة، وإذا جاز
وقوع هذا بين شابين متحابين، غرهما شعور الشباب، فظنا ألا افتراق بعد اجتماع، ولا كراهية بعد محبة، فإنه لا ينبغي اعتباره من مشرع خبر الطباع، وحنكته التجارب إذ لو وضع مشرع قانونا يحرم فض الشركات، ويمنع رفع ولاية الأوصياء، وعزل الشركاء، ومفارقة الرفقاء لصاح الناس: هذا ظلم مبين !
وإذا كان وقوع النفرة، واستحكام الشقاق والعداء في الحالين - حال إباحة الطلاق، وحال منعه - ليس بعيد الوقوع، فأيهما خير ؟ أربط الزوجين بحبل متين، لتأكل الضغينة قلبيهما، ويكيد كل منهما للآخر، أم حل ما بينهما من رباط، وتمكين كل منهما من بناء بيت جديد على دعائم قويمة؟
أوليس استبدال زوج بآخر خيرا من ضم خليلة إلى امرأة مهملة، أو عشيق إلى زوج بغيض ".
يتبع