تنمية الرقابة الذاتية لدى الناشئة
د. رقية المحارب
سادساً: تحبيب الناشئ في الجنة ووعده بها، وتبغيضه للنار وتوعده بها:
إن التوازن بين هذين الجانبين كفيلٌ بأن يجعل الناشئ دائم الرقابة لنفسه. فكيف يوصل إلى تقوية هذا الجانب؟
لابد للمربي من غرس المبادئ الفاضلة مع ربطها بالثواب بالجنة مع وصفها له وتقريبها إلى ذهنه؛ عن طريق قراءة وحفظ الآيات ونعيمها، وقراءة الأحاديث الصحيحة التي تصف الجنة، فأنت ترين أن الشباب إذا سافر بعضهم إلى بلاد ما، وذكروا لزملائهم ما رأوا من أنوع المتعة طار قلب المُحدَّث حتى تصبح رؤية هذه البلاد هاجساً يُذلل له كل السبل والإمكانات مع الفرق بين الاثنين.
وكذلك إذا وصف زميل لزميله ما لقيه من عنت ومشقة وضرب في الحبس عند مخالفته أو تعديه على حقوق الآخرين؛ فإن هذا المحدَّث يجد في نفسه خوفاً من رجل الشرطة مثلاً، فإذا همّ بمخالفة تذكر ما قد يلقاه وما حدّثه به صاحبه. وفرقٌ بين المُحدِّثين وبين المحَدَّث عنهما أيضاً، فأين باق من زائل؟ وأين شديد من هين؟ وأين ما يعقبه راحة مما يعقبه عذاب ونصب؟!
ومما ورد في الجنة: قال تعالى: {جنَّاتُ عدنٍ مُفتّحة لهمُ الأبوَاب..} وقال صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من يتوضأ ثم يقول أشهد ألاّ إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله إلاّ فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيهما يشاء" (رواه مسلم).
ومعنى الحديث: ما منكم من أحد يتوضأ فيُبلغ أو يُسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد ألاّ إله إلاّ الله وأن محمد عبد الله ورسوله، إلاّ فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيّها يشاء.
وساحة الفضل متسعة الأرجاء في ظل هذه الحقيقة، فأنى تلفّت المؤمن وجد موائد العطاء منصوبة، وما عليه إلاّ أن يُقبل بقلبه وعقله وجوارحه، ويأخذ نفسه بذلك الهدي. وما أكثر وأوفر مشاهد الفضل الكبير يوم القيامة لأولئك السعداء الموفقين.
ومن الحقائق التي لا يتمارى بها مؤمن: أن يظل المرء على ذكر من يوم المعاد وما يكون فيه، وأن يكون لديه مع رجاء النجاة والفوز بجنة الخلد، والخوف من أن يُلقى يوم الحشر في العذاب المهين.
وقد وجّه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وسلك بهم سبيل النجاة، فطوبى لمن استنارت منهم البصائر فاهتدوا بهديه صلى الله عليه وسلم.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن.
"اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات"، وكيف لا يتعوذ المؤمن من عذاب النار وهي على ما هي عليه كما جاءت نصوص الكتاب والسنة في شأنها وفي أحوال أهلها وما ينزل بهم من الأهوال و الشدائد؟!
قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ...} [الفرقــان:65]. وقال سبحانه: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ..} [الصافات:62].
وفي الحديث: أن رسول الله تلا هذه الآية: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} ـ [الغاشية:6] ـ وقال: "اتقوا الله حق تُقاته، لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معاشهم، فكيف بمن يكون طعامه" (رواه أحمد والترمذي وابن حبان وابن ماجه).
ومن ذلك ما روى البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" (رواه البخاري ومسلم وابن حبان والبيهقي).
إنه مشهدٌ مخيفٌ حقاً، وهو مشهدٌ جديرٌ ـ وأيم والله ـ أن يتدبره العالم.
وفي متابعة الرحلة مع الكلمة الهادية البانية، في حديث المصطفى، التي تقف بالمسلم على صور من مشاهد يوم الفصل، قال صلى الله عليه وسلم:- "تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل، ويزاد في حرها كذا و كذا.. تغلي منها الهوام كما تغلي منها القدور، يعرقون فيها على قدر خطاياهم، منهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يلجمه العرق لجماً" (رواه أحمد في مسنده).
اللهم اجعلنا من أهل اليقين، واسلك بنا سبيل النجاة يوم الدين، بفضلك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
إن التفاعل مع دلالات النصوص المشرقة، بما يحصل يوم القيامة، والإحاطة بتلك المشاهد العظام يجعل النفس تديم الاجتهاد في تزكية النفس وجلاء القلوب. وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا المنهج القويم يترسمون خطاه، ويعملون به جادّين على صعيد الفرد والأسرة والجماعة، والعاملين بذلك لهم بشارة الفوز المبين؛ مصداقاً للحقيقة القرآنية التي لا بُعد عنها: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
سابعاً: تعزيز شعور الحب، والبعد عن القسوة، وإشباع العاطفة لدى الناشئ؛ فيستحي أن يُرى منه سوء:
روى البخاري ومسلم عن عائشة: قالت جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبلون الصبيان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة".
وروى مسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "ما ضرب رسول الله لنفسه قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلاّ أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلاّ أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم لله".
وعنها رضي الله عنها قالت: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح" (رواه الترمذي).
ومعلوم أن الإنسان لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه حتى يكون عنده شعورٌ نحو أخيه بالمحبة.
ثامناً: إشعال فتيلة التفكير الذاتي الإبداعي:
بالاعتماد على النفس: إنها صفة تزرع في أعماق الذات الثقة بما يصدر عنها، والحب لما تسعى إليه، والصبر على عوائق الطريق، واستشراف المستقبل، والسعي إلى امتلاك مقود الحياة.
إن الاعتماد على النفس أصل كل نجاح فاعل حقيقي، وإذا اتصف به أفراد الأمة فانتظر وثبتها إلى جبال المعرفة والسبق.. والتجربة اليابانية شاهد قرن يُفصل الإجمال.
يقول الشاعر:
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل
وذلك لأن الرجل الخدوم المكفول يعيش قرير العين، كسل الأعضاء, لا يستطيع أن يكون ذا قيمة في صنع الحياة؛ لما في نفسه من الدعة.
لذا ينبغي تجنب الحماية الزائدة للأولاد (الذكور) مما يجعلهم لا يتفاعلون مع المحيطين بهم من أقارب أو أصدقاء.. فيحرمون من النصح الذي يتولد نتيجة التجارب المحيطة. فلا تفريط ولا إفراط، و كما قيل: "التجربة خير أستاذ، لكن تكاليفها باهظة".
تاسعاً: استخدام وسائل التربية الوجدانية:
1- ممارسة أنواع التدريب الإداري الخاصة بالامتناع، ومن أنواع الامتناع: الصوم عن الأكل والشرب من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، والتقليل من الأكل والعادات الضارة والإفراط في الملذات. ومن هذا النوع الالتزام ببعض المبادئ الأخلاقية، مثل محاولة التغلب على السلوك الفطري، كالتغلب على الغضب وكظم الغيظ ودفع الإساءة بالإحسان.
2- ممارسة أنواع التدريب الإداري الخاصة بالأعمال الإيجابية.. {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
3- ممارسة أنواع التدريب الإداري الخاصة بالتحمل، والصبر ثلاثة أنواع: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على المصيبة..{اصبِرُ ا وصابروا ورابِطُوا..} [آل عمران:200]، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10]، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
4- ممارسة أنواع التدريب الإداري الخاصة بالالتزامات إزاء العهود والمواثيق والأيمان والنذور، وذلك يؤدي إلى تقوية الإرادة من ناحيتين:
الأولى: أن الالتزام يقتضي ضبط النفس وربط الإرادة وتركيزها على العمل الذي عقد العزم على تنفيذه.
الثاني: أن الإنسان كلما التزم بعهده ونفذ عملياً ما وعد بتنفيذه؛ أدى ذلك إلى الشعور بقوة ذاتية ثمّ إلى قوة إرادية، لا سيما إذا ارتبطت الإرادة بما يعززها كوجود الغرامات أو الكفّارات.
5- الوسائل الخاصة بانتفاضة الإرادة وإنقاذها في حالات ضعفها:
بلا ريب فأن النفس لها أوقات تنهزم فيها وتضعف؛ فلا بد من تقويتها وشحنها.
ويمكن تقسيم وسائل الانتفاضة إلي قسمين:
الأولى: قبل السقوط، ومنها ما بيّن الله أن من عزم على فعل معصية ثم عدل ذلك تكتب له حسنة ولا تكتب له سيئة.
الثانية: بعد السقوط لإنقاذ الإرادة من الاستسلام النهائي، وهذه الوسائل عاطفية ووجدانية..
الوسائل العاطفية:
تقبيح الرذيلة والنفور منها {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا..} [الحجرات:12]، {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء:32].
الوسائل الوجدانية:
التوبة، فلولا التوبة لماتت الإرادة الأخلاقية.
6- الوسائل النفسية الشعورية الإيحائية لتقوية الإرادة. ومن مصادر الإيحاء الذاتي لقوة الاعتزاز بالإيمان: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا..} [فاطر:10].
وذلك معروف بالفطرة السليمة أو الفطرة التي لا تجد بدا من السلامة في حالة الضعف: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ..} [العنكبوت:65].
يقول وليم جيمس: "يعني القلق والاضطراب حين نرده إلي أبسط معانيه أن فينا جزءاً خاطئاً إن نظرنا إلى أنفسنا نظرةً طبيعيةً. ويعني العلاج أننا ننقذ أنفسنا من هذا الخطأ بأن نعقد صلة بيننا وبين قوى عُليا"[5]. ونحن المسلمين نربط صلتنا بمدبر الكون والقادر عليه.
- البدء بالقوة عند كل عمل يقوم به الإنسان.. {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ..} [مريم:19]، {فَخُذها بِقوَّة..} [الأعراف:145]، {فَأعِينُوني بِقُوَّة..} [الكهف:95].
7- من وسائل تقوية الإرادة: الاهتمام بالصحة العامة وصحة الأعصاب خاصة "إني لأصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء".
8- تقوية الإرادة بالعمل الفكري {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا..} [الأنعام:76]. وكيف أثر ذلك على إرادته.. {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا...} [الأنعام:79] وإذا أخذ الإنسان الشيء بقناعة وإعمال فكر؛ فيستحيل أن يتخلى عنه.
عاشراً: التربية بالموعظة:
وذلك عن الطريق المباشر تارة، والطريق غير المباشر مثل القصص، لاسيما القصص التي تمثل واقعاً يعيشه، مع محاولة استثارة عواطفه ووجدانه.
__________________________
المراجع
• ¨ شقير العتيبي - كيف تربي ولدك المسلم - الرياض 1415 هــ.
• ¨ عبد العزيز النغيمشي - علم النفس الدعوي - دار المسلم - الرياض - الطبعة الأولى 1415 هــ
• ¨ محمد السيد عبد الرزاق - تنمية الإبداع لدى الأبناء - وحدة الثقافة للطفل - شركة سفير
• ¨ محمد عثمان جمال - بناء شخصية الطفل المسلم - دار العلم بيروت - 1417 هــ الطبعة الأولى
• ¨ محمد فهد الثويني - فن التعامل مع مرحلة المراهقة - الكويت 1416 هــ
• ¨ محمد نور سويد - منهج التربية النبوية للطفل - مؤسسة المنار - الكويت 1414 هــ الطبعة الخامسة
• ¨ مقداد يالجن - جوانب التربة الإسلامية الأساسية - دار الريحاني - بيروت 1406 هــ الطبعة الأولى
• ¨ منهج التربية الإسلامية - دار الشروق - بيروت 1400 هــ الطبعة الأولى
• ¨ محمد ديماس- سياسات تربوية خاطئة- دار ابن حزم- بيروت 1420 هــ الطبعة الأولى
[1]) النغيمشي / علم نفس الدعوي 247.
[2]) (يالجن / جوانب تربوية 158).
[3]) تأملات في سلوك الإنسان ص 139 –140 - كارل.
[4]) رواه مسلم.
[5]) وليم جيمس 234.