التثبت والتبين
صالح بن صبحي القيم




التثبت أمرٌ مهمٌّ، يُمَثِّل جانباً أساسيّاً في معالم المنهجية السليمة في طلب الفقه، والتثبت يشمل جانبين:
أ - التثبت مِن صحة النقل وفي الروايات التي تنبني عليها الأحكام.
ب - التثبت مِن الفهم، بمعنى تدقيق الفهم ونقده بحيث يستقيم له صحة فهمه واستدلاله.
ونرى ذلك واضحا في قول سليمان -عليه السلام - بعد سماعه خبر الهدهد: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27]. كما تجلى ذلك في استثنائه عند التهديد بالعقوبة حيث قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21].
وكل من بلغه خبر من الدين ولم يثق في علم من نقله إليه، وجب عليه التثبت بسؤال من يثق بعلمه، إذا كان هذا الخبر يترتب عليه عمل في ذات نفسه، كما في حديث عقبة بن عامر لما تثبت في أمر خبر المرأة التي أخبرته أنها أرضعته وزوجه فرحل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتثبت، وحديثه "إذا لم يجد من يفتيه ببلده؟"، وكما في حديث والد العسيف الذي زني واختلفت عليه الأقوال فذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ليتثبت، وحديثه أيضا"إذا اختلف عليه مفتيان فأكثر".
وكان السلف يتثبتون في الرواية والنقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، حتى إن عمر رضي الله عنه له مواقف خالدة في ذلك.
نذكر منها ما رواه الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم أن أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - استأذن على عمر مرة، أو مرتين، أو ثلاثاً، ولم يأذن له، وكان مشغولاً ببعض أمره، ثم لما فرغ قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس أبي موسى؟ قالوا: بلى، قال: ائذنوا له، فوجدوه قد ذهب فدعوه، قال: ألم تستأذن؟ قال: بلى! ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع". واستأذنت ثلاثاًَ فلم يؤذن لي فرجعت.
فقال له عمر: فلتأتيني بالبينة على ما قلت الآن وإلا لأفعلن بك، - يهدده- فذهب أبو موسى فزعاً مذعوراً إلى ملأ من الأنصار، فقال: نشدتكم الله، هل سمع أحد منكم الرسول - عليه الصلاة والسلام -، يقول كذا، وكذا. قالوا: كلنا سمعناه. فقال: إن عمر طلب مني البينة. فقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا، قم يا أبا سعيد فقام معه أبو سعيد الخدري، وقال لـ عمر: أنا أشهد أني سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فإن أذن له وإلا فليرجع" فقال عمر: خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ورجع يوبخ نفسه رضي الله عنه: "خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألهاني عنه الصفق في الأسواق" يعاتب نفسه.
ثم جاء أبي بن كعب وقال: يا ابن الخطاب: لا تكونن عذاباً على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لماذا تفعل هذا بـ عبد الله بن قيس، أبي موسى؟ فقال: إنني لم أتهمه، ولكن الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد.
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "كنت إذا حدثني أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -استحلفته، فإن حلف لي صدقته، وقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما من عبد يذنب ذنباً ثم يقوم فيتوضأ فيصلى ركعتين ثم يستغفر إلا غفر له".
قال ابن سيرين أيضا -كما روى مسلم وغيره- قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم".
وعن طاووس، عن ابن عباس، قال: "إن كنت لأ سأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم-".
وهذه الآثار تدل على أهمية التثبت في أمر من يؤخذ عنه الدين كالعالم والمفتي, وذلك في المسائل الهامة أو العامة.
يراجع

[الإنسان بين علو الهمة وهبوطها - (1 / 162)].
[طريقك إلى الإخلاص في الفقه والدين - (1 / 98)].
[فصول لطالب العلم - (5 / 66)].
[سير أعلام النبلاء - (3 / 344)].