مستجدات الحج الفقهية
( النوازل في الحج )
(6من16)

الدكتور محمد بن هائل المدحجي

ما زال الحديث متصلاً عن أثر الزحام على أحكام منى ، ومن ذلك :
مسألة ( تفويج الحجاج ) ، وهي مسألة تنظيمية بحتة تعني تنظيم وصول الحجاج المرتبطين بمؤسسات الطوافة إلى منطقة جسر الجمرات، بحيث يتم تجنيبهم أوقات الذروة أو الخطر التي تكون غالباً في يوم العيد من الساعة السادسة صباحًا إلى الحادية عشرة صباحًا ، وفي غيره من الثانية عشرة صباحًا إلى الثالثة والنصف ظهرًا ، كذلك من ضمن خطة التفويج تقسيم مغادرة الحجاج مشعر منى إلى مراحل متعددة. وتفويج الحجاج أمر تنظيمي محمود ، قد يكون مستحباً، بشرط أن يوافق ذلك التفويج وقتاً مشروعاً للرمي، ومن أعظم الأخطاء التي ترتكب في هذا أن بعض القائمين على مؤسسات الطوافة التي تتبنى بعض الأراء الفقهية الميسرة للرمي طوال أربع وعشرين ساعة وتفوج حجاجها بناءً على هذا الأساس يبنون على أن اليوم الجديد يبدأ من الساعة الثانية عشرة مساءً ، وهذا لا أصل له في الشرع ، ولا قائل بجواز الرمي بعد منتصف الليل لليوم القادم في رمي الجمرات أيام التشريق وإن كان هناك من قال به في رمي يوم العيد ، والقائلون بجواز الرمي قبل الزوال أيام التشريق بعضهم يرى ابتداء الرمي من الفجر _ كما هو قول من قال بذلك من الحنفية والشافعية _ ، وبعضهم يرى ابتداء الرمي من طلوع الشمس _ كما هو قول من قال بذلك من الحنابلة _ ، حتى الذين ينادون بإتاحة الرمي أربعًا وعشرين ساعة أيام التشريق إنما يعنون بذلك أن يبدأ الرمي من طلوع الفجر وينتهي بطلوع الفجر الآخر .وبناء عليه فلا يجوز بحال من الأحوال تفويج الحجاج لرمي اليوم التالي ابتداء من نصف الليل؛ إذ لا اعتبار لهذا الرمي، وفيه خداع وتغرير بالحجاج، وإنقاص لنسكهم بدون دليل .
وتتميماً للفائدة أحب أن أشير إلى الوقت المشروع للرمي وما وقع فيه من خلاف باختصار ، فأقول وبالله التوفيق : أما رمي يوم النحر فيبدأ من منتصف ليلة العيد عند الحنابلة والشافعية ، ومن طلوع فجر يوم العيد عند الحنفية والمالكية ، أما أيام التشريق فيبدأ وقت الرمي فيها بعد الزوال ، ولا يجوز الرمي فيها قبل الزوال عند جمهور العلماء ، إلا في آخر أيام التشريق عند أبي حنيفة رحمه الله فقط، وفي رواية عن أبي حنيفة رحمه الله جواز الرمي قبل الزوال في اليوم الأول والثاني من أيام التشريق أيضاً ، وذهب لجواز الرمي قبل الزوال بعض الشافعية والحنابلة .
وينتهي الرمي في جميع الأيام بغروب الشمس عند الجمهور ، وذهب أبوحنيفة رحمه الله _ وخالفه صاحباه _ إلى جواز الرمي ليلاً إلا في آخر يوم من أيام التشريق فينتهي الرمي بغروب شمسه ، وهو أحد الوجهين عند الشافعية.
ورمْي كل يوم لا يجوز تأخيره إلى اليوم التالي عند أبي حنيفة ، ويلزم بذلك دم ، ومثل ذلك يقول المالكية لغير القائمين على خدمة الحجيج لكن يمكن القضاء في بقية أيام التشريق مع خلافهم في إيجاب الدم مع القضاء، بينما يرى الشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة أن وقت الرمي لجميع الأيام ممتد إلى آخر أيام التشريق ، فيجوز جمع رمي كل الأيام في آخرها ولو من غير عذر ، وقيد عدد من العلماء المعاصرين جواز التأخير بالعذر .
هذا ما قرره الفقهاء رحمهم الله في حال السعة، أما مع الضيق الذي سببه كثرة الحجيج في أيامنا هذه فقد أصبحت الفتوى المتقررة جواز الرمي ليلاً على قول أبي حنيفة رحمه الله ، استناداً على بعض الأدلة ومنها حديث البخاري عن ابن عباس { قال سُئِلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ فَقَالَ: "لاَ حَرَجَ" ، والمساء يكون آخر النهار ، وفي أول الليل ، ولم يستفصل النبي– صلى الله عليه وسلم- عما يقصده الرجل ، فعلم أن الأمر واسع .
أما الرمي قبل الزوال فرغم قلة القائلين به من الفقهاء المتقدمين فقد رجحه عدد من الفقهاء المعاصرين : كالشيخ صالح البليهي ، والشيخ عبدالله بن زيد آل محمود ، والشيخ مصطفى الزرقا ، وقواه قبل ذلك الشيخ عبدالرحمن السعدي – رحم الله الجميع -، وبعضهم _كالشيخ ابن جبرين رحمه الله_جعل ذلك رخصة لذوي الحاجات فقط كمن يخشى فوات رحلة طائرة أو باخرة أو رفقة لا ينتظرونه.
واستند القائلون بجواز الرمي قبل الزوال بأدلة من أبرزها : عدم وجود دليل صريح صحيح يدل على المنع ، بل جاء ما يدل على الجواز : كورود ذلك عن ابن عباس وابن الزبير"وأيام التشريق أيام ذكر لله ، والرمي جعل لإقامة ذكر الله " فيجوز قبل الزوال وبعده كسائر أعمال الحج من ذبح أو حلق أو طواف .
والأحوط بلا شك هو الرمي بعد الزوال خروجاً من الخلاف على أقل الأحوال ، ناهيك أن من يمنع هم جماهير العلماء المتقدمين ، والدليل فيما يظهر يؤيدهم ، ومن ذلك ما جاء في البخاري أن رجلاً سأل ابن عمر رضي الله عنه : مَتَى أَرْمِي الجِمَارَ؟ قَالَ: «إِذَا رَمَى إِمَامُكَ، فَارْمِهْ» فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ المَسْأَلَةَ، قَالَ: «كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا» ، ولا معنى لهذا الترقب لزوال الشمس إلا انتظار بداية دخول وقت الرمي .
والذي يظهر _ والله أعلم _ أن القول بجواز الرمي قبل الزوال قول قوي معتبر ، لكن ينبغي ألا يفتى به بشكل عام ، وخاصة مع التوسعات الهائلة في منطقة الجمرات ، ووجود السعة في وقت الرمي إلى الفجر ، بل يجعل علاجاً لبعض الحالات الخاصة : كارتباط الحاج بموعد في رحلة ، أو للضعفة الراغبين في التعجل ويخافون من الهلكة بسبب الزحام ، ونحو ذلك من الأعذار ، والله أعلم .
ومن المسائل المتعلقة بالزحام وأثره على أحكام منى : تساهل بعض الناس في التوكيل في الرمي خشية الزحام رغم قدرتهم على الرمي ، والقادر على الرمي لا يجوز له أن يوكل باتفاق أهل العلم ، أما العاجز عن الرمي : كامرأة حامل، أو مريض، أو شيخ كبير، فهو الذي يجوز له التوكيل كما دل على ذلك حديث جابر –رضي الله عنه- قال : «حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- ، وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَلَبَّيْنَا عَنِ الصِّبْيَانِ، وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ» [ رواه أحمد وابن ماجه ] ، والحديث فيه ضعف لكن عليه العمل عند أهل العلم ، فالنيابة تجوز في أصل الحج فكذا تجوز في أبعاضه ، والحقيقة أن شدة الزحام عند الجمرات ليست عذرًا مبيحًا للاستنابة سواء في حال الرجال القادرين أو النساء القادرات؛ وذلك لأن لاختيار الوقت المناسب للرمي دورًا في خفة الزحام ؛فإذا اختار الناس الأوقات الأخف زحامًا كالليل مثلا فسيكون بمقدور الجميع الرمي بدون خطورة ،ولأن جميع المناسك لا تخلو من زحام بل بعضها أشد زحامًا من الجمار كالطواف ولا يستناب فيه، يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في بيان أخطاء الحجاج: "تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم تراهم يوكلون من يرمي عنهم مع قدرتهم على الرمي ليسقطوا عن أنفسهم معاناة الزحام ومشقة العمل ، وهذا مخالف لما أمر الله تعالى به من إتمام الحج حيث يقول سبحانه : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ... }البقرة196فالواجب على القادر على الرمي أن يباشره بنفسه ويصبر على المشقة والتعب ، فإن الحج نوع من الجهاد لا بد فيه من الكلفة والمشقة ، فليتق الحاج ربه ، وليتم نسكه كما أمره الله تعالى به ما استطاع إلى ذلك سبيلا " .
وعليه فالمرأة لا توكل ما دامت قادرة عليه ، بل تتحين الوقت المناسب للرمي ، لكن يمكن أن يقال بجواز التوكل عن النساء المتعجلات مطلقاً في حال الرمي في وقت ما بعد الزوال مباشرة ، وهذا الجواز لم يكن محل شك أو تردد فيما مضى ، أما بعد التوسعات الضخمة لمنطقة الجمرات فهو محل تردد ، وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : إذا أراد إنسان التعجل في اليوم الثاني عشر ومعه نساء فهل يتوكل عنهن في رمي الجمرات؟ فأجاب رحمه الله بقوله: " اليوم الثاني عشر لمن أراد أن يتعجل لا شك أن فيه مشقة ويحصل فيه أموات، لذلك أرى أن من أراد أَن يتعجل ومعه نساء فليتوكل عنهن، ويبقين في الخيمة لئلا يلقين بأنفسهن إلى التهلكة، والناس اليوم كما هو مشاهد كثير منهم لا يرحم أحداً، يريد أن يقضي شغله ولا يهمه أحد إلا من شاء الله، والنساء ضعيفات متحجبات محتشمات، فأحياناً تخرج المرأة بلا عباءة، تسقط العباءة من شدة الزحام، وقد تكون حاملاً فتسقِط، وأحياناً تدوخ، وهذا والله لا يأتي به الإسلام، لأن الله تعالى قال في كتابه العظيم: {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(البقرة286) ويقول جل وعلا:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج 78 )فكيف نحرج أنفسنا وقد وسَّع الله علينا.وعلى كل حال إن بقيت الدنيا زحاماً كما نشاهد، وأراد الإنسان أن يتعجل فيتوكل عن النساء ويرمي عنهن والحمد لله رب العالمين " اهـ [ مجموع فتاوى ورسائل الشيخ 23/308].
وأحب هنا أن أنبه على أن الفقهاء القائلين بوجوب طواف الوداع _ وهم الجمهور إلا المالكية _ أوجبوا أن يكون بعد الانتهاء من جميع المناسك ، ويدل على ذلك ما رواه مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أنه قال : «لَا يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ، حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ» ، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " وأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريح في أن الطواف بالبيت آخرُ النسك، فمن طافَ للوداع ثم رمى بعده فطوافه غير مجزىء لوقوعه في غير محله، فيجبُ عليه إعادته بعد الرمي، فإن لم يُعد كان حكمه حكم من تركه " [ مجموع فتاوى ورسائل الشيخ 24/340 ] ، وعليه فيتنبه أن من وكل من يرمي عنه من العاجزين عن الرمي وذهب لطواف الوداع لا يصح أن يوادع حتى يرمي وكيله، فيجب عليه أن ينتظر حتى يتأكد من رميه عن طريق الهاتف أو غيره ، فإن طاف قبل رميه اعتبر في حكم من لم يوادع ، لأن هذا الطواف جاء في غير وقته ، فيكون لاغياً ، فيعيده وإلا وجب عليه دم لترك واجب من واجبات الحج .
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.