صِناعةُ المرأة

عبد الله بن سليمان العبد الله

الناظرُ في تأريخ البشر كُلِّهِ يرى ما يقضي بالعجبِ لديه، فيرى أحوالاً لا تكادُ تنال طرفاً ضئيلاً من الحقيقة، ويرى أشخاصاً كأنهم من غير الجنس البشري مخلوقين، ووو..
إن التأريخ يحوي هذه الأمور و غيرها ليدل بدلالة اليقين على أن حصولها ممكن ليس بصعبٍ.
من أجناس التأريخ و الحياة كلها: (المرأة)، وهي شقيقة الرجل، وهي ساعده، وهي سكنُه، عفواً: بل هي صانعةُ الرجل ـ رغماً عنه ـ.
(المرأة) نالت من بعض الرجال ـ وأعني به: البعض الأكثر ـ تهويناً لقدرها، وهضماً لحقها، وتحقيراً لشأنها، وليس ذلك من الإسلام في شيء، ولا من الأخلاق في قُرْبٍ أو بُعْدٍ، ولا من شِيَمِ العقلاء.
الإسلام أولاها عنايةً كبرى ـ شهرةُ ذلك تغني عن ذكرها ـ، و الأخلاق مُوْلِيَةٌ (المرأة) حقها ـ بوصفي العموم و الخصوص ـ.
إن الناظرَ إلى (المرأة) تلكَ النظرةَ النشاز فاقد العقل والتمييز، ومسلوب العلم والفهم.
العنايةُ بـ (المرأة) من أسمى ما يجبُ أن يُعتنى به في أزمنة الإصلاح ـ عموماً ـ، بل إنها الباب الأساس في تكوين بيئةٍ صالحة في مجتمعٍ يَغُطُّ في نومٍ عميقٍ، ويعيشُ جهالةً بما يُكادُ حولَه.
وها أنا خاطٌّ ـ هنا ـ بسطرٍ من رصيف المعاني راغباً في تشميخ رفيع المباني، أرغبُ فيه أن أنقلَ (المرأة) من الغرقِ في النظرةِ (العَكِرَةِ) إلى العوم في رحابِ النُّضْرَةِ (المُشْرِقَة).
إنني أريد من هذه الكلمات أن أبذلَ ما بالوِسْعِ حيالَ (صناعة المرأة)...
(صناعة المرأة)؟!
قد يكون في العنوان ما يثيرُ عَجَبَاً، لكن الحقائق تجعل الأمرَ مُسَلَّمَةً.
فَلْتَقْبَلْ مني أُخَيَّتي الكريمة بأن أبوح لها بكلمات أخاطبُ فيها: نفسَها، وعقلَها، وقلبَها، وأرادتها.
أختي النبيلة: إن الله ـ تعالى ـ لم يجعَلْكِ سوى إنسانٍ مَيَّزَهُ بـ: عقلٍ، وفهم، وإرادةٍ.
وهذه مما أصبَحَتْ وصفاً أساساً في الإنسان ـ ذكراً وأُنْثى ـ.
فما الذي جعلَ الرجلَ ممتازاً عن المرأة، وكلاهما متفقٌ في أصل التمايُز البشَري؟
إذاً فالأمر بينهما واحدٌ في أصلِ التمايزِ، وأما التفاوت في درجات ذاك التمايُز فهو زائد عن الأصل، وخارجٌ عن أصل ما أريده.
إذا عرفتِ ذلك؛ فهل من المعقولِ أن يكون في المجتمعِ نساءٌ لا يَنْظُرْنَ إلى أنفسهنَّ سوى النظرة (الدُّوْنِيَّة)؟ بل من الرجال ـ أحياناً كثيرة ـ من يكون هذا ديدنه.
العقلُ الذي وهبَه الله الإنسانَ ـ ذكراً وأُنْثى ـ سبيلٌ مُعْتَبَرٌ لمعرفةِ الأشياء، وتبيينِ الصدق من الكذب، والحقيقة من الخيال.
إذاً فالخُطْوَةُ الأولى ـ وهي الأساس ـ أن تعرفَ (المرأة) أنها ذاتُ عقلٍ مُمَيِّزٍ، وهذه الخُطْوَةُ ليستْ من المجهولاتِ لدى المرأة وغيرها، وإنما ذكرها من باب: تحصيل الحاصل.
ثم إن (المرأة) لها نفسٌ تستشرفُ شيئاً تناله، وتبتغي أمراً ترجو بلوغَه، وهذا ـ بِحَدِّ ذاته ـ كافٍ لكونها متأهلَةٌ لصناعةِ نفسها، أما أن تكون غيرَ راغبةٍ في شيء من الأمور العوالي، ولا طموحةٍ إلى منتهى الكمالات، فإنها ستحتضنُ التراب لصيقاً لهمتها، وبيت العنكبوت معشوقاً لإرادتها؛ وحيثُ كانتْ فاقدةً للسعي وراءَ ذلك فإنها مُطالَبَةٌ بتحصيل أسباب نوالِه، إذ التَطلُّعُ للشيء العالي من أهم مَيْزَات العقل.
والسَعْيُ نحوَ الكمالِ ميسورٌ سهلٌ ـ ولله الحمد ـ فليس صعباً لا يُنالُ إلا بشقِّ الأنْفس، ولا غالياً باهظَ الثمن؛ وأصلُ ذلك: معرفةُ (المرأة) قُدْرَةَ نفسها و عقلها نحو الأشياء التي تريدها، والبداية بعزمٍ وحزمٍ في المقصود.
وهذه هي الخُطْوَةُ الثانية في عمليةِ (صناعة المرأة), وهي: أن تكون ذات طموحٍ وهمةٍ نحو الكمال.
والهِمَّةُ إنما تكونُ في سعايةٍ نحوَ أمرٍ مطلوبٍ معروف، تَطْمَحُ المرأةُ في الوصولِ إليه، بل تجنح إلى سلوك أسباب تحصيلِه.
وعدَمُ سَعْيِها نحوَ أمْرٍ ترْنُوْ إليهِ هو سعي نحو مجهولٍ، والمجهولُ ليسَ بشيء، وسَعْيُها نحو غايةٍ يَشُوْبُها غَبَشٌ سعي في ظلامٍ بلا نورٍ.
إن المرأة الراغبَةِ في صناعة نفسها لابدَّ لها من تحديد معالمَ ما ترغبُ الوصولَ إليه بِحُداءِ الهمة، وترانيم الإرادة.
والغاياتُ التي تريدُها أغلبُ النساء ـ في سبيل الإصلاحِ ـ نوعان:
الأول: غايةٌ عِلْمِيَّةٌ.
فالعلمُ أسمىَ غايةٍ سَعَتْ المرأة في نوالِه، وأشرف مقصد رَغِبَتْ في تحصيلِه، وهو غايةُ الكمال البشري، والجهْلُ من أدنى صفاتِ الإنسان، بل يَشْرُفُ المخلُوْقُ بما عنده من علمٍ وبما أُوْتِيْهِ من معرفة، وهذه الغايةُ متفاوتةٌ، فهي قسمان:
الأول: غايةٌ أصْلٌ واجبةٌ حَتْمِيَّةٌ، و هي تحصيلُ المرأة ما هو واجبٌ عليها من علمٍ في دِيْنِ الله ـ تعالى ـ.
و هذا الواجبُ يندرجُ تحتَه شيئان:
أولهما: ما يكون به تحصيلُ أصْلِ الدين، وهذا في تَحْصِيْلِ أصولِ الإيمان الستة المذكوْرَةِ في حديثِ جبريلَ المشهور "... قال: يا محمد: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمنَ بالله وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليوم الآخر وتؤمنَ بالقدر خيره وشرِّه..." [ متفقٌ عليه ].
ثانِيْهما: ما يكون به تمام العبادات، و تمامُها بأمرين:
الأول: الإخلاص لله ـ تعالى ـ.
الثاني: المُتابَعةُ للنبي صلى الله عليه و سلم.
هذه هي الغايةُ الواجبة اللازمةِ للعبد أن يقومَ بتحصيلها.
و أما الغايةُ الثانية: غايةُ كمالٍ، و هي تحصِيْلُ ما زادَ عن الأول.
الثاني: غايةٌ دعويةٌ.
الدعوةُ نِتاجُ العلم، و ثمرةٌ من ثمار المعرفة، وهي فَرْعٌ عن العلم ـ حيثُ كان الأصلُ ـ.
و الدعوةُ نهجُ المصلحين من: الأنبياء وأتباعهم، ولا يحيدُ عنها إلا جاهل أو منطوٍ على خبيئةِ خُبْثٍ.
فسلوكِ الطريقِ سَعْياً في تحصِيْلِها أمرٌ من نفيسِ العمل، و النساءُ في ذلك في تفاوتٍ و تمايُزٍ بيْنَهُنَّ.
و الدعوةُ أنواعٌ:
الأول: التعليمُ الشرْعي، وهو بذلُ العلم الشرعي بين صفوف النساء، وهو على جهتين:
الأولى: إلقاءُ دَرْسٍ عِلْميٍ كـ: شرحٍ لكتابٍ، و طرْحٍ لفتوى، و مذاكرةٍ بعلمٍ.
الثانية: تَوْجِيْهٌ و نصحٌ، وهو متضمنٌ أمراً بمعروفٍ و نهياً عن منكرٍِ.
النوعُ الثاني: الدِّلالَةُ والإعانةُ، دلالةُ الغير على مواطن الخير، وإعانةُ داعٍ على بذلِ دعوة و نشرها.
ثم هي يتجَاذَبُها حُكْمان اثنان:
الأولُ: الوجوب، و قدرُه تبليغُ ما يَجِبُ العلم به.
الثاني: الاستحباب، وهو العُكوفُ على الاشتغال بالدعوة والإبداعِ فيها.
هاتان غايتان تستغلهما أغلبُ نساءِ المسلمين، فأيهما سلكتْ المرأة ورأتْ إتقانَها له فلتَلْزَمْهُ.
ولا يستقيمُ للمرء سلوكٌ في عمَلٍ في تحقيق هدفٍ ما لمْ يَكُنْ صاحبَ عزيمةٍ.
والعزِيْمَةُ المُرَادَةُ ثنتان:
الأولى: عزيمةُ الهمَّة؛ وأعني بها: تأهُّبُ الهِمَّةِ للسعي نحو المكارم.
الثانية: عزيمةُ الطريق؛ وأعني بها: تَبْيِيْتُ العزم على السير بجد وحزمٍ.
إن المُلاحظَ لعامةِ مَنْ يسْعى لتحصيلِ كمالٍ، ويحدو السير لنَوَاْلِ شَرَفٍ مَرُوْمٍ تتخَلَّف عنه إحدى هاتينِ العَزِيْمَتَيْن .
والقِلَّةُ مَنْ حواهما في مسيرهِ مسيرةَ الكمال.
فمتى كانت لدى المرأة عَزِيْمَةٌ وإرادة حَظِيَتْ بسلوكِ طريق (صناعة المرأة)، لكنْ يُؤْسِفُنا أن نرى نساءً ممن متعهنَّ الله ـ تعالى ـ بِهِمَمٍ كِبارٍ عَوَالٍ يَفْتَقِرْنَ إلى عزائمَ شِدادٍ، بل يُمِتْنَ العزَائِمَ اللائيِ وُهِبْنَها.
فضَاعَتْ أعمارٌ وأُهْلِكَتْ أنفسٌ، وتمضي ضيعةُ الأعمارِ سبهللاً ـ و الله المستعان ـ.
فَمُراعاةُ هذه الخُطْوَةِ أمرٌ في غايةِ الأهميّةِ، ومطلبٌ في منتهى النفاسة، وإهمالُه وإغفالُه خللٌ في سلوك الطريق، وخطأٌ في لزوم جادةِ الكمال.
فإذا صحَّ العَزْمُ لدى المرأة شَرَعَت في العمل سعياً في تحقيق الكمال، وسيراً في إتقان (صناعة المرأة).
ولا بدَّ لها من رعايةِ أمورٍ في سير العمل:
الأول: الجد في العمل، فإن كثيراً من الأخواتِ يَسْعَيْنَ ويَعْمَلْنَ وهُنَّ على غير جدٍ في العمل؛ وبهذا لا يستقيم لها الأمر، ولا يتم لها العمل للنجاح, بل عليها بإسباغِ العمل رحيق الجد حتى تتذوقَ منه جنياً وشَهْداً طيباً.
الثاني: الصبر، فإن بلوغ المعالي لا يكون إلا بجسور من الصبر، ومن يخطبِ الحَسْناءَ لم يُغْلِهِ المهرُ.
الثالث: الإتقانُ، فالرضى بالعمل المَخْدُوْشِ الناقص دنوٌ في الهمة، وخَوَرٌ في العزيمة، ومحبةُ الله مصروفةٌ لِمُتْقِنِ العمل، والإتقان من أدلِّ الأشياء على صدق السعي نحوَ الكمال.
الرابع: الاحترازُ من القوادح، إن العمل ـ أي عملٍ ـ لابدَّ من أن تعتريه قوادحُ تقْدَحُ فيه، والقوادحُ هذه قسمان:

الأول: قوادحُ في أصلِ العمل كـ: الشرك، الرياء، إهمالُ الركن في العبادات.
الثاني: قوادحُ في كمالِ العمل كـ: ترك الإتباع.
هذه خُطُوَاتٌ مَيْسُوْرَاتٌ نحو (صناعة المرأة) رغبتُ في كتابتها أملاً في أن ترعاها المرأةُ برعاية العمل، وأن تلْحَظَها بملاحظةِ العنايةِ بها.
غيرَ أنني أعترفُ أنني لم أستوعبْ ما أظنهُ سبيلاً نحوَ كمالِها، ولا طريقاً لوصولها لعليائها، إلا أنني أقطع أنني أشرْتُ إلى أمورٍ أظنهنَّ معالم في (صناعةِ المرأة)، وأتيتُ على قواعدَ في ضبط (صناعة المرأة)، ولن تَعْدِمَ الأختُ شيئاً إن هي راعتْ كُلاَّ بعين الغضِّ عن السوء، وبعين الرضى عن الحسن.
وفقَ الله الجميع, وسدد الخُطى، وبارك في الجهود!.