مستجدات الحج الفقهية
( النوازل في الحج )
(4من16)

الدكتور محمد بن هائل المدحجي

ما زال الحديث متصلاً عن أثر الزحام في مناسك الحج ، ومن ذلك :
أثر الزحام على أحكام عرفة ومزدلفة
من المسائل المتعلقة بالزحام وأثره على أحكام عرفة ومزدلفة : ( الذهاب إلى عرفة مباشرة والمبيت فيها ليلة التاسع ) ، فبعض حملات الحج أصبحت لا تأخذ حجاجها إلى منى يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة ، بل تأخذهم مباشرة إلى عرفة فيبيتون ليلة التاسع في عرفة ، وقد تأخذهم إلى منى ثم بعد العشاء مباشرة تتجه بهم إلى عرفة ، والغرض من هذا تفادي الزحام الشديد الذي يحصل عند انتقال سيارات وحافلات الحجاج من منى إلى عرفة صبيحة يوم عرفة ، وما يترتب على ذلك من إرهاق على الحجاج قد يؤثر على تعبدهم يوم عرفة ، فهل مثل هذا الفعل ؟
والجواب : أن السنة للحاج أن يخرج من مكة إلى منى يوم التروية بعد طلوع الشمس ، فيصلي بمنى خمس صلوات هي : الظهر، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والفجر ، وقد جاء في حديث جابر رضي الله عنه في مسلم : " فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ، وركب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة " ، فالنبي –صلى الله عليه وسلم- بات ليلة التاسع من ذي الحجة بمنى ، ولكن هذا المبيت سنة عند عامة أهل العلم وليس بواجب إلا على قول عند الحنابلة المذهب خلافه ، والصحيح أنه لا يجب كما دل على ذلك حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه قَالَ:( أَتَيْتُ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- بِجَمْعٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَقْبَلْتُ مِنْ جَبَلَيْ طَيِّئٍ، لَمْ أَدَعْ حَبْلًا إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَنَا، وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ" )أخرجه أحمد والأربعة بسند صحيح( ، ولم يذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- المبيت في منى ليلة التاسع، فدل هذا على أنه ليس بواجب. وعليه ففعل هذه الحملات غايته أنه ترك لمستحب ولا يؤثر في صحة الحج ، قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: " المبيت ليلة التاسع في عرفة لا بأس به ولا حرج، لكن الأفضل أن يكون المبيت ليلة التاسع في منى " [ اللقاء الشهري رقم 47 ].
ومن المسائل المتعلقة بالزحام وأثره على أحكام عرفة ومزدلفة : تأخر بعض الحجاج أحياناً في الوصول إلى مزدلفة بسبب الزحام الشديد للسيارات وبعض إشكالات خطة السير ، حتى إنه حصل في بعض السنوات أن بعض الحجاج لم يصل إلى مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس ، فما الذي يجب على الحجاج في مثل هذه الحالة ، وما الذي يترتب عليهم ؟ أولاً وقبل كل شيء لابد أن يراعي الحجاج عدم إخراج الصلوات عن وقتها لقوله تعالى : {... إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }النساء103، فإذا خشي الحاج أن يخرج وقت العشاء قبل أن يصل إلى مزدلفة فإنه في هذا الحال يكون الواجب عليه أن يؤديها مع المغرب قبل أن يخرج وقتها ، نعم الحنفية إلا أبا يوسف يرون وجوب صلاة المغرب والعشاء في مزدلفة ، ومن صلاها قبل الوصول إلى مزدلفة أعاد إن وصل قبل طلوع الفجر ، مستدلين بما في البخاري من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه لما قال للنبي –صلى الله عليه وسلم- في الطريق إلى مزدلفة " الصلاة " ، قال له النبي –صلى الله عليه وسلم- : " الصلاةُ أمامك " ، وكذا يقول المالكية أنه يعيد ندباً، وعند الجمهور أنه إن جمع قبل الوصول إلى مزدلفة ترك السنة وأجزأه ، لكن هذا كله مقيد بعدم خوفه من خروج الوقت ، فإن خشي خروج الوقت لم يشرع له الانتظار إلى مزدلفة عند جميع الفقهاء لقوله تعالى {... إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }النساء103 ، وعليه فإن تأخر الحاج في الطريق أو في خروجه من عرفة بسبب زحام السيارات أو غيره وجب عليه أن يصلي المغرب والعشاء قبل نصف الليل _ الذي هو آخر وقت الاختيار على الصحيح _ ولا يجوز له بحال من الأحوال أن يؤخرهما حتى طلوع الفجر إذ به ينتهي وقت العشاء عند جميع الفقهاء ، وإن لم يتمكن من النزول من السيارة لشدة الزحام صلى في سيارته بحسب حاله ، ويأتي بما يمكنه من الشروط والأركان والواجبات ، قال تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ... }البقرة286أما فيما يتعلق بما يترتب على ترك المبيت بمزدلفة بسبب عدم القدرة على دخول مزدلفة حتى انتهاء وقت الوقوف بمزدلفة لتعطل السير أو ازدحامه ، فمعلوم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- بات في مزدلفة حتى أصبح ولما كان من آخر الليل أمر ضعفة أهله –صلى الله عليه وسلم- فدفعوا إلى منى ، وبعض الفقهاء يرون الوقوف بمزدلفة ركناً من أركان الحج ، وفي المقابل يرى آخرون أنه سنة ، والصحيح من أقوال أهل العلم أن المبيت بمزدلفة من واجبات الحج، يلزم من تركه بغير عذر دمٌ ، وهو ما عليه جمهور الفقهاء من الأئمة الأربعة ، لقوله تعالى: {... فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ... }البقرة198، ولأن النبي –صلى الله عليه وسلم- بات بها، وهو القائل : "لتأخذوا عني مناسككم"[ رواه مسلم ].
أما في صورتنا فقد تعذر المبيت بمزدلفة من غير إرادة ولا اختيار ، فأوجب بعض أهل العلم الدم على من ترك المبيت في هذه الحالة ، لكن الصحيح أنه لا يلزم في هذه الحالة شيء ، وهو ما اختاره الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله، ويدل على ذلك حديث عبد الرحمن بن يعمر الدِّيلِيِّ رضي الله عنه ، وفيه: "الحج عرفة، فمن جاء قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجهُ" (أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بسند صحيح)، والشاهد من هذا الحديث أن من وقف قبل طلوع الفجر بعرفة ولو بشئ يسير، فقد تم حجه، وإذا كان سيقف آخر لحظة من الليل بعرفة، فلن يبقى له شئ يقفه بمزدلفة؛ وذلك أن المبيت بمزدلفة ينتهي بطلوع الفجر، كما هو مذهب الجمهور إلا الحنفية، ومع ذلك فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: " فقد تم حجُّه "، وهو ما تقتضيه الأصول، فإن هذا الشخص فاته المبيت بمزدلفة لعذر، وقاعدة الشارع أن الواجبات تسقط بالعجز عنها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ومن المسائل المتعلقة بالزحام وأثره على أحكام عرفة ومزدلفة : أن سيارات الحجاج وحافلاتهم قد لا تتمكن من الوقوف في مزدلفة وذلك بسبب منع الشرطة للسائق من ذلك بسبب ازدحام الأماكن ، وقد لا يستطيع السائق الرجوع إلى مزدلفة بعد أن خرج منها، فهل مرورهم بمزدلفة كاف في إتيانهم بالواجب أو يجب عليهم دم ؟
والجواب: تقدم أن الوقوف بمزدلفة واجب من واجبات الحج، يلزم من تركه بغير عذر دمٌ، وهو ما عليه جمهور الفقهاء من الأئمة الأربعة، لكن اختلف الفقهاء في مقداره ووقته ، فذهب الحنفية إلى أنه ما بين طلوع الفجر يوم النحر وطلوع الشمس ، فمن وقف بمزدلفة في هذا الوقت فترة من الزمن فقد أدرك الوقوف ، سواء بات بها أو لا ، ومن لم يقف بها فيه فقد فاته الوقوف الواجب بالمزدلفة ، وذهب الأئمة الثلاثة إلى أن زمن الوقوف الواجب هو المكث بالمزدلفة من الليل ، ثم اختلفوا : فذهب المالكية إلى أن النزول بالمزدلفة قدر حط الرحال في ليلة النحر واجب ، والمبيت بها سنة ، وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يجب الوجود بمزدلفة بعد نصف الليل ، ولو مدة قصيرة من الزمن . وليس هذا موضع بسط الخلاف لكن ظاهر أن الجمهور يرون أن المرور بمزدلفة كاف إن كان بعد نصف الليل .
وإن كان قبل نصف الليل ، ومُنع من التوقف لم يجب عليه شيء ؛ لأن الواجبات تسقط بالعجز كما قال تعالى {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ... }البقرة286، ناهيك أن هذا المرور مجزئ على قول المالكية إذا وجد توقف يسير بقدر حط الرحال ، ولو كان الدفع قبل نصف الليل ، وليس من الواجب النزول من السيارة أو الحافلة ؛ وذلك لأن الواجب هو الوقوف بمزدلفة ، فكيف وقف بها أجزأه ، والله أعلم.
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.