قواعد في منهج الدعوة إلى الخير [*]
د. فريد الأنصاري [**]
ولقد فصلنا هذا في غير هذا المكان من كتبنا [17]، لكنا نقتصر ها هنا على ما يفيد السياق.
لقد جعل الله الصلاة هي آية المسلم، والعلامة الجميلة التي تميزه في مسيرة التاريخ النبوي، قبل القرآن وبعده، فهي الفصل الذي لا يعرف إلا به، والنور الذي لا يمشي إلا به، قال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29)، وإنما اكتسبوا صفتيهم الأوليين: الجهادية {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ} (الفتح: 29)، والخُلُقية: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) من كونهم رهباناً بالليل؛ أي قوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} (الفتح: 29) الآية؛ لأن ذلك هو المعين الصافي الذي يتزود منه المسلم الصادق المجاهد الداعية إلى الله؛ بصدق التوجه والسير؛ من حيث إن قوله تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} (الفتح: 29) فيه إشارة إلى أن ذلك هو دأبهم وحالهم المستمر في حركتهم التعبدية؛ إذ التعبير باسم الفاعل {رُكَّعاً سُجَّداً} (الفتح: 29) يوحي بصورة حية لقافلة المؤمنين وهم منخرطون في حركة الصلاة المتواترة، من غير فتور أو انقطاع، سيراً مستمراً حتى كان ذلك صفة ثابتة لهم، حيثما تراهم {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} (الفتح: 29).
ولذلك كان تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاةَ في حياة المسلم التعبدية بالنهر الجاري، قال: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرَنِه شيء؟ قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» [18].
إن الإسلام في نهاية المطاف هو الصلاة بالمعنى الذي سبق بيانه؛ وعلى هذا الوزن تُقَوّم أعماله كلها يوم القيامة، وعلى ذلك يتحدد مصيره الأخير..! قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحاكم الحاسم: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر! وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك» [19].
وأوضح من هذا دلالة على ما نحن فيه قوله صلى الله عليه وسلم: « أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله » [20]، فليس عبثاً إذن أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في مراتب أعمال ابن آدم على سبيل ترتيب الأولويات: «أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله» [21]. إن الأمر يا صاح جدّ!
وما بقي لمسلم تَرَك الصلاةَ من إيمانه إلا ما لا يخلده في النار، لا ما ينقذه منها بإطلاق. قال صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» [22]، وقال أيضاً: «بين الكفر والإيمان ترك الصلاة» [23]، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك» [24]. وهذه الأحاديث وما في معناها تقتضي أن المسلم التارك لصلاته قد شابه الكفار في صفاتهم، فكفر عملاً وإن أسلم عقيدة؛ لأن المسلم إنما يتميز بصفة الصلاة التي هي عنوان إسلامه كما بيناه قبل فمن فقد عنوانه فَقَدَ هويته.
ولنعد إلى جمال القرآن الكريم؛ ذلك أن الله تعالى إذ يصف جمال المؤمنين يذكر الصلاة باعتبارها أول وسام نوري بعد الإيمان يشع من قلوبهم، وهو أمر يكاد يكون مطرداً في كل آي القرآن العظيم، يقول المولى الكريم في أول سورة البقرة: {الـم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة: 1-3) ومن أجمل ما ورد في ذلك فاتحة سورة (المؤمنون)؛ إذ جعل الله أول صفاتهم الخشوع في الصلاة وآخرها المحافظة على الصلاة. وكل أعمال الصلاة من فعل الخيرات وترك المنكرات جعلها فيما بينهما؛ فاقرأ وتدبر.. واحفظها واحدة واحدة: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون: 1-11).
فالخير كله فاتحته الصلاة، والخير كله خاتمته الصلاة. والخير كله غايته الصلاة، والخير كله وسيلته الصلاة.
ومن أعجب العجب أن ألزم الله جل جلاله المسلمين بالصلاة إلزاماً؛ حتى في أحرج الظروف وأخطرها: الحرب.. قال جل جلاله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 238-239).
فقوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ} (البقرة: 239) يعني في حال الحرب وانعدام السلم والأمن، سواء لحظة الاشتباك أو لحظة الترقب. وقوله: {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (البقرة: 239) أي فصلوا (صلاة الخوف) باصطلاح الفقهاء. وهي عندهم: الصلوات الخمس إذ تؤدى في ظروف الحرب. فتؤدى {فرِجَالاً} (البقرة: 239)، أي: على أرجلكم، أو {رُكْبَانا} (البقرة: 239)، أي: راكبين خيولكم أو دباباتكم. وقد فصَّل الفقهاء، والمفسرون، وشراح الحديث صور صلاة الخوف وأشكالها؛ بناء على قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُم ْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُم ْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 102- 103).
ولصلاة الخوف صور كثيرة معروفة في كتب السنن وكتب الفقه. وإنما الغاية عندنا ها هنا العبرة من الأحكام لا نفس الأحكام؛ وذلك أن الله عز وجل طلب من المسلم الصلاة على كل حال ما دام عقله سليماً، لا ينقصه جنون أو إغماء أو ما في معناهما.
وأحب ها هنا وأرجو أن تصبر علي قليلاً لتعرف حجم هذه الفريضة التي ضيعها كثير من الناس اليوم، ولتعرف حجم الخسارة الواقعة بما ضيعوا؛ أن أعرض لبعض الفقه في صلاة الخوف، ليس لذات الفقه، ولكن لبيان خطورة هذه العبادة في الدين، ومقامها عند رب العالمين. جاء في حاشية السندي على النسائي: «قال النووي: روى أبو داود وغيره وجوهاً في صلاة الخوف يبلغ مجموعها ستة عشر وجهاً. وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع، صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة، وأشكال متباينة، يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة، وأبلغ في الحراسة، وهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. قال الإمام أحمد: أحاديث صلاة الخوف صحاح كلها، ويجوز أن تكون كلها في مرات مختلفة، على حسب شدة الخوف، ومن صلى بصفة منها فلا حرج عليه» [25].
ومن أحرج الوجوه في صلاة الخوف ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين» [26]. ومن ذلك ما رواه البخاري أيضاً؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة، لكن يحرس بعضهم بعضاً» [27].
ولعل أحرج صورها على الإطلاق أن يصليها كل واحد لنفسه ركعة واحدة بالإيماء؛ وذلك أنه إذا اشتد الخوف، كما هو الحال عند المسايفة، ونحوها من الاشتباك في القتال، يصلي كل واحد لنفسه ركعة واحدة، راكباً أو راجلاً، مقبلاً ومدبراً. قال القرطبي في تفسيره: «واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب، وشدة القتال، وخيف خروج الوقت، فقال مالك و الثوري و الأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن؛ لقول ابن عمر: «فإن كان خوف أكثر من ذلك فيصلي راكباً أو قائماً يومئ إيماء». قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها» [28]، وهذه من عجيب صورها. فانظر رحمك الله هل يبلغ شيء من أعذار الناس اليوم ما ذكره العلماء من الشدة والحرج في القتال، ولم يروا مع ذلك رخصة في تركها، أو تأخيرها عن وقتها؟
فعجيب أمر هذه العبادة العظمى.. لا تبرأ ذمة المسلم منها حتى يؤديها. وقد جاء تأكيد ربطها بالوقت في ظروف الحرب كما قرأت؛ حتى لا يؤخرها مسلم عن وقتها الذي فرضها الله فيه. فالحرب، بل الاشتباك في المعركة؛ أي ما يسمى عندهم بـ (المسايفة)، ليس عذراً لتأخير الصلاة عن وقتها، بله أن يكون عذراً لتركها. وإنما هو يؤثر فقط في شكل أدائها لا في إسقاطها، أو إخراجها عن وقتها. صلّ على أي حال كنت، وخذ حذرك؛ {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103)، في السلم وفي الحرب سواء.
فإلى الذين يرابطون في أسواق التجارات، أو يرابطون في أسواق السياسات والنقابات، ويفرطون أو يتكاسلون في أداء الصلوات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ إليكم المفهوم النبوي للرباط!.. قال صلى الله عليه وسلم في سياق التنبيه والترشيد: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.. فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!» [29]. إنه تفسير نبوي لقول الله تعالى في محكم البلاغ القرآني: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 36- 38).
يا حسرة على العباد!.. لو يدركون ما هذه الصلوات؟.. ويا حسرة ثم يا حسرة! على نابتة من أبناء الحركات الإسلامية، تعددت بهم السبل من هنا وهناك، وتفرقت بهم الأهواء، وانغمسوا في التيه من كل صوب، وأضاعوا هذه الصلوات، خشوعها ومواقيتها وجمالها؛ فصدق عليهم قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ} (مريم: 59).
وإن للسياسة والرياسة لشهوة لو كنتم تعقلون، وإن لأشعة الإعلام وزينة الكاميرات لشهوة لو كنتم تتفكرون، تلك آية فاصلة بين نوعين من الأجيال، بينهما ما بين النور والنار من دلالة، فللآية رهبة عظيمة لو تدبرتها، اقرأها! ها هي ذي كاملة، فتدبر: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياًّ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} (مريم: 58-60).
فتدبر.. ثم تدبر عسى أن تدرك بذوقك ما هذه الصلوات في الإسلام، وتركب أوقاتها؛ لتدور بفلك العابدين سيراً إلى الله العلي الكبير. فالصلاة هي العبادة التي تدخل من خلالها إلى نسق الكون، في صحبة الكائنات السائرات من النباتات إلى المجرات، لا فوضى ولا عصيان ولا تمرد، {لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40).. فأين أنت من المدار؟
ذلك نص البلاغ النبوي المستمد من وحي الله رب العالمين.. فاختر لنفسك ما ينجيها إن كنت من العاقلين!
القاعدة الخامسة: في اعتماد مجالس القرآن:
نسمي «مجالس القرآن» مساهمة في تصحيح ما انحرفت إليه بعض الحركات الإسلامية؛ حيث تحولت مجالسهم التربوية إلى اعتماد كتاب فلان أو علان من التآليف الفكرية البشرية منهاجاً للدين والتدين. وهذا خطر كبير قد بيناه من قبل [30]؛ إذ بسببه يصيب الدعوات ما يصيبها من أنانية، وذاتية، وشركية نفسية في كثير من الأحيان، إن التربية الدعوية لا يمكن أن تستقيم على التوحيد الاعتقادي والعملي والوجداني إلا بالتعلق المصدري بكتاب الله وسنة رسول الله في المجال التربوي، بالنسبة للمربي والمتربي سواء.
وقد تبين مما سبق أن عملنا يقوم على منهج واضح وبسيط: الاعتصام بالقرآن آية آية؛ مصدراً أول للتدين، والدعوة إليه، وبالشمائل المحمدية نموذجاً أعلى للتطبيق. فهو قسمان. وبيان ذلك كما يلي:
القسم الأول: اُسْلُكْ نفسَكَ وصاحبك في مجلس من (مجالس القرآن)، وسرْ من خلالها إلى الله. لا تهتم كثيراً في هذا الشأن خاصة بالتنظيمات والجماعات، فما نحن فيه أعم من وجه بكثير مما هي فيه. وهما أمران لا يتعارضان. لك أن تنتظم فيما شئت منها، ما دام فضلها يغلب على نقصها. ولكن لا تنس (مجالس القرآن) فذلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين صحابته صفات الصلاح، ومقومات الإصلاح. تعلم من القرآن مباشرة دعوة الخير: (يدعون إلى الخير). تتبع منهج القرآن كما عرضه القرآن: التلاوة، والتعلم والتعليم، والدراسة والتدارس، ثم التدبر. فاجعل مجلسك القرآني على هذه الفقرات الأربع. وبيانها كما يلي:
1 - فأما التلاوة: فبركة وزكاة في نفسها، فقد ثبت الأجر كما بيناه قبل على كل حرف تتلوه من القرآن؛ فلا تنس هذا. والله عز وجل أمر بالتلاوة للقرآن في غير ما آية، قال عز وجل: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} (الكهف: 27)، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} (فاطر: 29).
وقال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران: 113)، وقال تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل: 4)، ثم قال: {َاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: 20). وفي الحديث الصحيح: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه ويتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران» [31]. فاقرأ كما استطعت؛ وتعلم كي تتزكى. فقد رأيت أن التلاوة بدء فعله صلى الله عليه وسلم من التزكية والتعليم، كما مر في قوله تعالى: {َتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: 164).
2 - وأما التعلم والتعليم: فهو لأحكامه كما ذكرنا. وهو يكون بتحصيل العلم للنفس وتلقينه للغير؛ وذلك لقول الله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: 79). فقد قُرِئَتْ (تَعْلَمُون) و(تُعَلِّمُونَ) فهي عملية مزدوجة، الجمع بين شقيها أوْلى: التعلم والتعليم. وأقل ذلك يا صاح! أن تكون أحَدَهما: معلماً أو متعلماً. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً» [32]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً؛ ولكن بعثني معلماً ميسرا» [33].
3 - وأما الدراسة والتدارس: فهو تتبع وجوه المعاني والدلالات للمقاصد والغايات، من كل آية وسورة. ويجمع الثانية والثالثة مما ذكرنا من قوله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: 79)، ويجمع المراحل الثلاث كلها ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أن ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة. فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء، فيهم خالي حرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون»... الحديث [34].
فالتدارس هو أساس التعلم كما في هذا الحديث؛ إذ لا علم إلا به، فأنت تبحث عن وجوه المعاني وتتدارسها؛ لتتعلم أحكامها ومقاصدها. وذكر التدارس أيضاً في الحديث المشهور من قوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» [35].
4 - وأما التدبر: فهو كما سبق بيانه أنك إذ تقرأ الآيات، وتدرس، وتتعلم تنظر إلى مآلاتها، وعواقبها في النفس وفي المجتمع؛ فتكتسب بذلك من الصفات الإيمانية ما يعمر قلبك، ويثبت قدمك في طريق المعرفة الربانية، ونحو ذلك من المعاني؛ مما فصلناه قبل في محله، فلا حاجة لتكراره. ذلك كله هو أساس التزكية، ومقياس التصفية، ومنهاج التربية، وسلم العروج إلى رضى الرحمن، فاقرأ القرآن، وتدارس، وتعلم، وتدبر... حتى يأتيك اليقين.
فاصبر على هذا المنهج؛ فإن كل آية تسلمك إلى الأخرى، وتفتح لك باب أسرارها وأنوارها. فتتبع مسالك النور حتى تصل إن شاء الله. ذلك هو الاعتصام بكتاب الله، وأما الاعتصام بالشمائل المحمدية نموذجاً أعلى للتطبيق؛ فهو:
القسم الثاني: وهو أن تتبع معالم سَيْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ذلك، وهي مبثوثة في كل كتب السنة وعلومها؛ إلا أن أجمع علوم السنة الموضوعة لبيان هذا المنهج؛ هو (علم الشمائل المحمدية): وهو علم يبحث في صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الخِلْقية والخُلُقِية، وكيفية سيرته مع ربه، وسيرته في نفسه، وفي أهله، وفي أصحابه والناس أجمعين. وإن ذلك لهو القرآن كله مطبقاً، والإسلام كله حيا متحركاً، فادرس من الكتب في ذلك ما شئت ولا حرج، أو اجمع نصوصه من حيثما شئت ولا حرج، وإنما الشرط أن تتحرى الصحة في الخبر. ويكمل بذلك ما أردناه من معنى: (مجالس القرآن) التي كانت هي مجالس الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
خاتمة:
ذلك هو المنهج التطبيقي البسيط والفعال للوصول إلى مقاصد البلاغ الرباني، وإيصالها إلى كل إنسان؛ معرفة وذوقاً. فاهتم بالقرآن والسنة، اهتم بترتيل أحكامهم على نفسك وعلى أهلك، ثم على من حواليك من الناس، واسع من أقصى المدينة إلى أقصاها؛ لتذكير المسلمين وغيرهم ببلاغات القرآن.. أعني الأصول الكبرى للدين، اعتقاداً وعملاً، كما بينا وشرحنا، اُطْرُقْ أبواب القلوب، وخاطب فطرتها؛ تجد الأسماع مصغية، والأفئدة واعية؛ عسى أن يجعل الله لك القبول في الأرض والقبول في السماء؛ فتكون إن شاء الله من الصالحين.
________________________
(*) مجلة البيان
(**) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس المغرب، ومراسل مجلة
البيان في المغرب.
(1) رواه البخاري.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مسلم.
(4) الفجور السياسي: انظر: ذلك مفصلاً في المقدمة الرابعة من الكتاب: 27 إلى 36، منشورات الفرقان، الدار البيضاء.
(5) رواه أحمد، و ابن ماجه، و ابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم 1818.
(6) كتاب الاستقامة، 2/ 218، ومجموع الفتاوى، 28/129.
(7) رواه مسلم.
(8) متفق عليه.
(9) رواه الدارقطني في الأفراد عن أبي هريرة، ورواه الخطيب البغدادي عنه، وعن أبي الدرداء، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2328.
(10) رواه مسلم.
(11) رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 5390، 5721.
(12) رواه البزار بسند صحيح، صحيح الجامع الصغير، 1578.
(13) رواه الترمذي، وصححه صاحب صحيح الجامع الصغير، 7774.
(14) متفق عليه.
(15) رواه مسلم.
(16) رواه أحمد وابن ماجه، وابن حبان و الحاكم، و الدارمي والبزار، والبيهقي و الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم 952.
(17) انظر: كتابنا: قناديل الصلاة منشورات التجديد، الدار البيضاء.
(18) متفق عليه.
(19) رواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2020.
(20) رواه الطبراني في الأوسط، والضياء عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2573.
(21) متفق عليه.
(22) رواه مسلم.
(23) رواه الترمذي بسند صحيح، انظر: صحيح الجامع الصغير، 2849.
(24) رواه ابن ماجه بسند صحيح، انظر: صحيح الجامع الصغير، 5388.
(25) حاشية السندي على النسائي، 3/168.
(26) رواه البخاري.
(27) رواه البخاري.
(28) تفسير القرطبي، 5/369.
(29) رواه مسلم.
(30) انظر: التوحيد والوساطة في التربية الدعوية للكاتب، الجزء الأول، نشر وزارة الأوقاف القطرية ضمن سلسلة كتاب الأمة.
(31) متفق عليه.
(32) رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن، كما في صحيح الجامع الصغير، 1609.
(33) رواه مسلم.
(34) رواه مسلم.
(35) رواه مسلم.