مستجدات الحج الفقهية
( النوازل في الحج )
الدكتور محمد بن هائل المدحجي
(2من16)

ما زال الحديث متصلاً عن أثر الزحام في مناسك الحج ، ومن ذلك :
أثر الزحام على أحكام الطواف والسعي
ومن المسائل المتعلقة بذلك : (الطواف والسعي في الدور العلوي والسطح ) ، ووجه دخول هذه المسألة في النوازل أن تهيئة الدور العلوي والسطح للطواف والسعي هي أمر معاصر سببها تزايد الحجاج والمعتمرين عاماً بعد عام حتى صار المطاف والمسعى لا يتسع لهم، وقد درست هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية هذه المسألة قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة، وانتهت بالأغلبية إلى جواز الطواف والسعي في الدورين الأول والسطح، ورغم مخالفة وتحفظ بعض الأعضاء في حينها إلا أن الأمر أصبح فيما بعد إجماع عمل من الأمة الإسلامية، فتلقاه الناس بالقبول، وأصبحوا يعملون به ولا ينكره أحد من علمائهم ولا من طلاب العلم فيهم، ولا شك أن الأمة في هذا الزمان تحتاج إلى مثل هذه الحلول؛ حتى تتسع المشاعر -ومنها بيت الله الحرام- لأكبر عدد من المسلمين حتى يؤدوا مناسكهم بشيء من اليسر والسهولة .
وهذه المسألة لها أصل في كلام الفقهاء المتقدمين، فمن المعلوم أن مكان الطواف هو حول الكعبة المشرفة داخل المسجد الحرام لا خارجه، لقوله تعالى : {... وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (الحج 29)، وجمهور الفقهاء يرون جواز الطواف على سطح المسجد، وخالف في ذلك المالكية فرأوا أن الطواف في سطح المسجد كالطواف خارج المسجد، لكن الصحيح هو قول الجمهور؛ وذلك لأن الهواء له حكم القرار، وسطح كل شيء له حكم ذلك الشيء : فتجوز الصلاة على سطح المسجد اقتداءً كما تجوز فيه، ولا يجوز للجنب اللبث على سطح المسجد كما لا يجوز له اللبث فيه، ويصح الاعتكاف في السطح كما يصح الاعتكاف في المسجد، ولو حلف لا يدخل دارًا فدخل سطحها فإنه يحنث بذلك، ومما يدلل على أن الهواء له حكم القرار - قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...}البقرة149، ومعلوم أنه يوجد في الأرض أماكن منخفضة عن الكعبة، وأماكن مرتفعة عنها، وقد حصل الإجماع على أن من صلى في تلك الأماكن أن صلاته صحيحة، وهو قد استقبل إما هواء الكعبة، وإما قرارها.
وعليه فلا ينبغي التردد في صحة الطواف والسعي في الأدوار العلوية والسطح، خاصة في حال الزحام؛ إذ المتقرر أن الدين مبني على رفع الحرج عن المكلفين .
وليُعلم أن حد المسعى سواء في الطابق الأرضي أو العلوي هو نهاية ممر العربات، فبه ينتهي القدر الواجب للسعي بين الصفا والمروة؛ إذ الصعود على الصفا والمروة ليس بواجب في قول عامة أهل العلم ، ولكنه مستحب لفعل النبي – صلى الله عليه وسلم- ، كما قال جابر رضي الله عنه _ والحديث في مسلم _ : " فبدأ بالصفا فَرَقِيَ عليه" ، فإذا أراد الإنسان أن يطبق هذه السنة في الطابق العلوي فهل يكون ذلك بالدوران من وراء القبتين اللتين في آخر المسعى فوق الصفا وفوق المروة ؟ ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم، والظاهر أنه يكفيه أن يتقدم قليلاً نحو القبة دون دوران حتى يجد مكانًا يتيسر له الدعاء فيه، وأما الدوران حول قبة على الصفا قطرها خمسة عشر مترًا، وأخرى على المروة قطرها حوالي تسعة أمتار فمشقته لا تخفى خاصة وقت الزحام، ناهيك أن صفة الصعود ليست كصفة الدوران، ففي القول بالاستحباب نظر، خاصة وأن بعض العوام الجهلة قد يعتقد مشروعية الطواف بنفس القبة فيقع في البدعة ، والله أعلم .
وهنا مسألة يحتاج إلى معرفة حكمها وهي : لو أدى الطائف بعض أشواط الطواف أو السعي في الدور الأرضي ثم بسبب الزحام مثلاً أكمله في الدور العلوي، أو العكس، فهل يصح بناء الأشواط بعضها على بعض أم لا بد من الاستئناف والبدء من جديد بعد الانتقال ؟ الجواب : أنه بناء على ما تقدم تقريره من عدم الفرق بين الدور الأرضي أو العلوي في المطاف والمسعى فإنه يبني ويكمل من حيث انتهى قبل انتقاله ، ويبدأ الشوط بعد انتقاله من أوله حتى لا يفوته شيء من طوافه وسعيه ، ولا يشكل على هذا أنه بهذا الفعل يترك الموالاة بين أشواط الطواف والسعي ؛ وذلك لأن هذه الموالاة سنة عند الحنفية والشافعية ، والذين يرون وجوبها وهم المالكية والحنابلة يرون أن الفاصل اليسير عرفاً لا يخل بالموالاة ، والانتقال من دور إلى دور هو فاصل يسير عرفاً فلا يؤثر في بناء الأشواط بعضها على بعض ، نعم الذي يريد الانتقال من الدور الأرضي إلى العلوي قد يحتاج أن يخرج من المسجد ليدخل مرة أخرى عبر السلالم الكهربائية ، لكن الذي يظهر كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أن مثل هذا إنما خرج ليدخل فيكون خروجه غير مقصود ، ولا يترتب عليه حكم ، على أن الخروج من المسجد إذا لم يفوت الموالاة لا يؤثر في صحة الطواف أو السعي إن عاد إليه قريباً ، والله أعلم .
ومن المسائل المتعلقة بتوسعة المسجد الحرام : أن المسعى بعد التوسعة صار داخل المسجد ، وهو بالأصل مشعر مستقل له أحكامه ، فهل دخوله داخل حدود المسجد الحرام يغير من هذه الأحكام بحيث يأخذ أحكام المسجد أو لا ؟ اختلف الفقهاء المعاصرون في ذلك ، وقد درس هذا الموضوع مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في شعبان عام 1415هـ ، وأصدر القرار رقم ( 77 ) بشأن حكم المسعى بعد التوسعة السعودية: هل تبقى له الأحكام السابقة أم يدخل حكمه ضمن حكم المسجد ، وقرر بالأغلبية ما نصه : " أن المسعى بعد دخوله ضمن مبنى المسجد الحرام لا يأخذ حكم المسجد ولا تشمله أحكامه، لأنه مشعر مستقل، يقول الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(البقرة:1 58). وقد قال بذلك جمهور الفقهاء، ومنهم الأئمة الأربعة، وتجوز الصلاة فيه متابعة للإمام في المسجد الحرام ،كغيره من البقاع الطاهرة، ويجوز المكث فيه والسعي للحائض والجنب، وإن كان المستحب في السعي الطهارة " اهـ ، ولم يوافق ثلاثة من أعضاء المجلس على ذلك.
والذي يظهر والله أعلم أن المسعى لما صار داخل حدود المسجد على وجه لا يمكن التمييز بينه وبين المسجد أنه يأخذ حكمه كتوسعات المسجد الحرام من غير جهة المسعى ؛ إذ لا فرق ، وكونه مشعراً مستقلاً لا ينافي أنه يأخذ حكم المسجد الحرام ، وعليه فلا يجوز للحائض والجنب السعي ، لا لمعنى وجوب الطهارة للسعي ، فهي غير واجبة ، بل لمعنى عدم جواز مكثهم في المسجد وقد صار المسعى منه ، كما لا يلزم اتصال الصفوف إلى المسعى لجواز الاقتداء بالإمام في الصلاة ، ويجوز للمعتكف في المسجد الحرام أن يذهب إلى المسعى ، ولا يعد بذلك قد خرج من المسجد إلى غير ذلك من الأحكام ، قال البهوتي رحمه الله في كشاف القناع ( 2/351 ) : " ( وكذا ما زيد فيه ) أي : في المسجد فهو منه ( حتى في الثواب في المسجد الحرام وكذا مسجد النبي –صلى الله عليه وسلم " اهـ .
ومن المسائل المترتبة على المسألة السابقة النزول إلى المسعى أثناء الطواف بسبب الزحام في الدور العلوي أو السطح في بداية الطواف عند ضيق المطاف حين اقترابه من المسعى هل يؤثر في صحة الطواف؟ فالطواف لا يصح إلا داخل المسجد ، ولا يصح خارجه باتفاق ، فإن اعتبرنا المسعى ليس من المسجد لم يصح طواف من نزل إلى المسعى أثناء طوافه ، وإن اعتبرناه من المسجد كما تقدم لم يؤثر النزول إلى المسعى على صحة الطواف _سواء كان النزول إلى المسعى بسبب الزحام أو لا _، وبعض الفقهاء المعاصرين ممن يرى أن المسعى لم يدخل في المسجد رأى أن طواف من نزل إلى المسعى إن كان بسبب اضطرار بسبب الزحام وعدم القدرة على إكمال الطواف إلا بالنزول فيه ثم العودة إلى المطاف مرة أخرى لم يؤثر ذلك على صحة طوافه ، والأظهر ما تقدم أن الطواف عبر المسعى صحيح مطلقاً ؛ لأنه صار جزءاً من المسجد ، والله أعلم.
ومن المسائل المتعلقة بالزحام وأثره على طواف الوداع :أن بعض الحجاج ربما أراد التعجل ، وخشية الزحام يذهب فيطوف الوداع ، ثم يعود إلى منى فيرمي ثم ينصرف إلى بلده ، وهذا لا شك أنه خطأ ؛ ففي الصحيحين من حديث ابن عباس –رضي الله عنه- واللفظ لمسلم : ( كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال النبي –صلى الله عليه وسلم :" لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" ، فمن طاف للوداع ثم رمي بعده فطوافه غير مجزئ لوقوعه في غير محله ، فيجب عليه إعادته بعد الرمي ، فإن لم يعد كان حكمه حكم من تركه ، فيكون عليه دم عند الفقهاء القائلين بوجوب طواف الوداع ، وهم الجمهور إلا المالكية .
ومن المسائل المتعلقة بطواف الوداع : تقديم طواف الوداع على وقت مغادرة مكة بزمن طويل ، فالمشروع عند جمهور الفقهاء إلا الحنفية أن يكون طواف الوداع آخرَ شيء يفعله حجاج الآفاق قبل مغادرتهم مكة ، فلا يشتغلون بعده بشيء إلا بأسباب السفر كشراء زاد أو تحميل أمتعة ، وهذا هو ظاهر السنة ، لكن الذي يحدث في هذه الأيام أنه بسبب الزحام تطلب الحملات من حجاجها أن يقوموا بطواف الوداع قبل السفر بساعات كثيرة ؛ وذلك خوفاً من تأخر الحجاج وخاصة الضعفة منهم في أدائهم لطواف الوداع ، ثم بعد الفراغ من طواف الوداع قد ينتظر الحجاج الحافلات التي ستقلهم إلى بلدانهم أو إلى المطار الساعات الطويلة لأنها تأخرت بسبب الزحام ، فهل نقول بأن طواف الوداع يجب إعادته بسبب طول المكث بعده ، ومن لم يعده فإن عليه دم ؟ والجواب : بأن الكلام في السعة ليس مثل الكلام في الضيق ، وقواعد نفي الحرج في الشريعة تقتضي عدم المؤاخذه بمثل هذا المكث بعد طواف الوداع ؛ لأنه واقع بغير اختيار ، مع ملاحظة أن المالكية لا يوجبون طواف الوداع ، والحنفية لا يشترطون عدم المكث بعده ، جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء : " المشروع أن يكون طواف الحاج للوداع عند مغادرته لمكة المكرمة؛ لحديث ابن عباس المتفق عليه: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض » ، وما دمت طفت بنية الخروج بالليل، ولم تتمكن إلا في الصباح، فلا شيء عليك في ذلك إن شاء الله ، ولو كنت أعدت الطواف عند خروجك لكان أحوط ".
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.