مستجدات الحج الفقهية
( النوازل في الحج )
الدكتور محمد بن هائل المدحجي
(1من16)


الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فهذه مادة علمية جمعتها حول أحكام النوازل في الحج، ألقيتها في عدد من الدروس، ولم أقصد بها تأليفاً؛ لذا لم أكن حريصاً على عزو المعلومات إلى مصادرها، استفدت في جمعها من جهود من سبق إلى ذلك ، مثل:
1. فقه نوازل الحج المعاصرة ، للشيخ الدكتور : عبد الله السكاكر .
2. النوازل في الحج ، للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي .
3. مختصر في نوازل الحج ، للشيخ : محمد الدالي .
4. مسائل معاصرة في الحج ، للشيخ : عبدالعزيز بن سعود العويد .
5. نوازل في الحج ، للشيخين : أ.د. سليمان العيسى ، د.حسين العبيدي .
6. النوازل في الحج ، للدكتور : علي بن ناصر الشلعان [ والكتاب مطبوع _ الناشر : دار التوحيد للنشر، وهو في الأصل رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراه] .
7. بعض المراجع الأخرى والتي منها ما تحدث عن جزئية محددة ، ومنها ما كان حديثه عن الحج وغيره _ كالمسائل المعاصرة التي تضمنها كتاب شرح عمدة الفقه للشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز الجبرين _ .
وقد أشار علي بعض الإخوة الأفاضل ممن حضر هذه الدروس أن أقوم بنشرها لتعم الفائدة، فاستحسنت ذلك، سائلاً المولى عز وجل أن ينفع بها.
وقبل الدخول في خضم نوازل الحج ومستجداته الفقهية أحب أن أبدأ بمسألة نازلة وهي : هل حج النفل أفضل أم الصدقة بمال الحج على إخواننا في الصومال ؟ والجواب : الأصل الذي قرره عامة العلماء أن حج النافلة أفضلُ من الصدقة بالمال المراد الحج به ، والتعليل لهذا ظاهر ، وهو أن الصدقة عبادة مالية ، بينما الحج عبادة مالية بدنية ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة " ( رواه الترمذي والنسائي ) ، لكن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبة. وأما إن كان له أقارب محاويج، فالصدقة عليهم أفضل. وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته. فأما إذا كان كلاهما تطوعا فالحج أفضل؛ لأنه عبادة بدنية مالية، وكذلك الأضحية، والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك، لكن هذا بشرط أن يقيم الواجب في الطريق، ويترك المحرمات، ويصلي الصلوات الخمس،ويصدق الحديث،ويؤدي الأمانة،ولا يتعدى على أحد" اهـ [ الاختيارات ص172 ].
وعلى ذلك : فالذي يظهر أن الصدقة على إخواننا في الصومال ، الذين يعانون من المجاعة في هذه الأيام ، بالمال المراد الحج به نافلة أفضل من الذهاب للحج ؛ لما في ذلك من إنقاذ الأنفس من الهلكة ، وهذا حيث كان الإنسان بين خيارين : إما الصدقة وإما حج النفل فيقدم الصدقة ، ولعل الله يكرمه بحج في السنة التي بعدها ، ويعوضه خيراً ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال : " ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا ".
أما من وسع الله عليه فالأفضل أن يجمع بين الحسنيين : فيحج ، ويتصدق ، وهذا نور على نور ، ومن توفيق الله عز وجل العبد للخير .
وأنتقل الآن إلى الحديث عن نوازل الحج ومستجداته الفقهية ، والتي ستنتظم وفق العناصر التالية :
· أولاً : أثر الزحام في مناسك الحج .
· ثانياً: نوازل الحج المتعلقة بالاستطاعة .
· ثالثاً: نوازل الحج المتعلقة بالمرأة .
· رابعاً: نوازل الحج المتعلقة بالإحرام ومحظوراته .
· خامساً: نوازل الحج المتعلقة بأركان الحج وواجباته ( غير ما تقدم ) .
فأقول وبالله التوفيق :
أثر الزحام في مناسك الحج
إن أبرز ما طرأ على الحج في زماننا هذا فأثر في كثير من مسائله : الزحام الشديد الذي تشهده البقاع الطاهرة ؛ بسبب الملايين التي صارت تأتي لأداء مناسك الحج كل عام ، ويمكن توضيح هذا الأثر من خلال المسائل التالية :
تحديد نسب الحجاج والمدة بين حجة وأخرى :
من المسائل المتعلقة بالزحام وأثره في أحكام الحج ومناسكه : تحديد نسب الحجاج والمدة بين حجة وأخرى، وما يتبع ذلك من اشتراط الحصول على تأشيرة الحج بالنسبة لحجاج الخارج، وتصاريح الحج بالنسبة لحجاج الداخل .
وهذا الإجراء ليس المقصود منه منع أداء الناس لعبادة الحج، بل هو مبني على مصلحة شرعية، وهي: منع ازدحام الحجاج في مشاعر الحج، وما ينجم عن ذلك من مفاسد وأضرار، وما يترتب عليه من وقوع الوفيات و الإصابات، فالمشاعر بلا شك لها طاقة استيعابية، والزحام يزيد عامًا بعد عام، فالضرورة تدعو إلى مثل هذا التنظيم؛ لما فيه من الإسهام في التخفيف على الحجاج، وإعانتهم على أداء مناسك الحج بيسر وسهول ، ولما فيه من دفع الحرج والمشّقة عن الحجاج، و لا شك أن درءَ المفاسد مَقدم على جلب المصالح؛خاصة إذا كانت المفسدة عامة والمصلحة خاصة .
ومن المسائل المترتبة على تحديد نسب الحجاج لكل بلد: أن الشخص قد تكون عنده الاستطاعة البدنية والمالية لأداء الحج، ولكنه لم يستطع استخراج تأشيرة الحج نظرًا لأن أعداد الحجاج محدودة بقدر معين أو سن معين، أو لأنه لم يكن ممن وقعت عليه القرعة لتحصيل تأشيرة الحج _ كما يحصل في بعض البلاد _ أو لم تحصل له الاستطاعة إلا بعد توقيف استخراج التأشيرات، فهل يعتبر من كان هذا حاله غير مستطيع للحج فلا يتعلق الحج بذمته، وإذا مات لم يجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه ؟ أم يقال أن الحج قد وجب عليه بحيث لو مات قبل أدائه أخرج من تركته ما يحج به عنه ؟
الحقيقة أن الفقهاء المتقدمين بحثوا مسألة تفيد في معرفة حكم هذه المسألة، وهي اشتراط تخلية الطريق، وهل هي شرط في وجوب الحج أم شرط للزوم أداء الحج؟ ومعنى تخلية الطريق أن لا يكون في الطريق مانع من عدو أو غيره مما يحول بين الإنسان وبين بيت الله الحرام، ولا شك أن من لم يحصل على تأشيرة الحج لن يخلو له الطريق، وسيكون ممنوعًا من الحج ومن الدخول إلى المشاعر المقدسة، وقد ذهب جمهور الفقهاء المتقدمين من المذاهب الأربعة إلى أن تخلية الطريق شرط لوجوب الحج؛ وذلك لأن الله عز وجل إنما فرض الحج على المستطيع، كما قال تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [ آل عمران 97] ، ولا استطاعة بدون أمن الطريق، وفي قول عند الحنفية والحنابلة أن تخلية الطريق شرط للزوم الأداء وليس شرطاً لوجوب الحج، واستدلوا على قولهم بما رواه الترمذي عن عبدالله بن عمر{ قال جاء رجل النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال:الزادوالراحلة } ولم يذكر أمن الطريق، ولو كان هذا الشرط من الاستطاعة ولم يذكره –صلى الله عليه وسلم- لكان فيه تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز.
لكن فيما استدلوا به نظر من وجهين: الأول : أن الحديث فيه ضعف، والثاني : على التسليم بصحته يقال : إن النبي –صلى الله عليه وسلم- بيّن الاستطاعة بالزاد والراحلة ليستدل بالمنصوص على غيره لاستوائهما في المعنى، وهو إمكان الوصول إلى البيت، ألا ترى أنه كما لم يذكر في الحديث أمن الطريق لم يذكر صحة الجوارح، وزوال سائر الموانع الحسية، وكلّها شروط للوجوب .
فالصحيح أن تخلية الطريق شرط لوجوب الحج وليس شرطاً للزوم الأداء فحسب، وبناء عليه تكون إمكانية الحصول على تأشيرة الحج شرطاً لوجوب الحج، وعلى هذا الترجيح فإننا نقول لعموم إخواننا المسلمين الذين تهفو نفوسهم، وتتعلق أفئدتهم بهذا البيت العتيق، ويجدون الاستطاعة المالية والبدنية، ولكنهم لا يستطيعون الحصول على تأشيرة الحج: إن الله سبحانه وتعالى قد عذركم، ولم يوجب عليكم الحج، فمن حصل بعد ذلك على تأشيرة الحج وجب عليه الحج، ومن مات قبل أن يحصل عليها فإنه غير مؤاخذ عند الله سبحانه وتعالى، ولا يجب على ورثته أن يخرجوا من تركته ما يحج به عنه، ولكن لا شك أنهم إن فعلوا ذلك فهو أعظم لأجرهم، ومن برهم بمورثهم، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .
وقبل أن أنتقل إلى مسألة أخرى أحب أن أشير إلى مسألة شبيهة بهذه المسألة ، وهي مسألة ( تحديد مواسم معينة لمنح تأشيرات العمرة ) ، وهذه المسألة داخلة أيضاً في المصالح المرسلة؛ إذ ليس المقصود منها منع الناس من أداء العبادة، وإنما المقصود إتاحة بعض الوقت للجهات المسؤولة عن خدمة الحرمين للقيام بالإصلاحات والصيانات اللازمة في الحرمين الشريفين بعد موسم الحج لتكون مهيأة لاستقبال المعتمرين بقية العام، ويمكن أن يستدل على جواز مثل هذا التنظيم بما جاء عن نهي عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- عن التمتع، وقد ذُكر من علل ذلك : لئلا يُهْجَر البيت في غير أشهر الحج، فكأن عمر –رضي الله عنه- منع العمرة في أشهر الحج لهذه المصلحة .
والأولى بلا شك أن تكون المدة التي يتوقف فيها منح تأشيرات العمرة أقصر ما يمكن، وبقدر ما يحقق المصلحة، إذ الأصل أن العمرة مشروعةٌ في سائر أيام السنة، وأن من أراد أداءها في أي يومٍ من أيام السنة فإنه يُيَسَّر له ذلك ولا يُمنَعُ منه إلا لمصلحة شرعية معتبرة، وبقدر الحاجة فقط، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة : "وأما العمرة: فيُحرم بها متى شاء لا تختص بوقت؛ لأن أفعالها لا تختص بوقت، فأولى أن لا يختص إحرامها بوقت".
ومن المسائل المترتبة على تحديد نسب الحجاج : أن الشخص الذي لم يتمكن من استخراج تأشيرة الحج يعتبر عذره مما يرجى زواله، والذي عذره يرجى زواله كمريض يرجو الشفاء أو أسير لا يجوز له أن ينيب من يحج عنه فرضاً عند جماهير الفقهاء، وذهب الحنفية إلى جواز ذلك ويكون إجزاؤه موقوفاً، فإن مات قبل زوال العذر أجزأه، وإن زال العذر قبل الموت لم يجزئه ولزمه الحجّ بنفسه، وقول الجمهور أظهر؛ إذ لم يرد في الشرع النيابة في حج الفرض إلا عن الميت كما في البخاري من حديث ابن عباس : (( أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالت إن أمي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتى ماتت أفأحجّ عنها؟ قال: " نعم حجّي عنها أَرَأَيْتِ لو كان على أمك دين أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ" ، أو عن العاجز عجزاً بدنياً لا يرجى زواله كما في حديث الخثعمية التي سألت النبي –صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه ؟ قال:نعم [رواه البخاري ].
أما من حج حجة الإسلام ممن عذره يرجى زواله، وأراد أن ينيب عنه من يحج عنه حج تطوع فإن ذلك يصح عند الحنفية والحنابلة بناء على قولهم في جواز الإنابة في حج النفل مطلقاً ولو من صحيح الجسد؛ لأن قاعدة الشرع التوسيع في النفل أكثر من الفرض، بينما منع من ذلك المالكية في المعتمد من قولهم بمنع النيابة عن الحيّ مطلقاً سواء كان صحيحاً أو مريضاً، سواء كانت النيابة في الفرض أم في النفل، وكذا منع الشافعية من ذلك بناء على أن النيابة في حج النفل إنما تجوز فيما تجوز فيه النيابة في الفرض أي في حال الموت أو العجز البدني الدائم، وقول الشافعية فيما يظهر أصح وقوفاً مع ما جاء في النصوص .
وعليه فلا يجوز لمن لم يتمكن من استخراج تأشيرة الحج أن يوكل من يحج عنه الفرض، أما في حج النفل فالصحيح أنه لا يجوز له التوكيل، وإن كان لا يشدد في هذا لوجود الخلاف المشار إليه سابقاً، والصدقة بمبلغ الحج أولى في هذه الحالة _ حتى على القول بالجواز _ خروجاً من الخلاف ، والله أعلم .
وهناك عدد من المسائل التي نتجت عن الذهاب إلى الحج بدون حمل تصريح الحج: إما نسياناً له ، أو بسبب عدم استخراجه، فمثل هذا الراغب في الحج مع عدم حمله تصريحاً إما أن يحرم من الميقات، وإما أن يجاوز الميقات بدون إحرام، وإذا أحرم من الميقات ربما يبقى لابساً لملابسه المعتادة المخيطة حتى يجاوز نقطة فرز الحجاج الذين لا يحملون تصريحاً، وفي كل الأحوال قد يتمكن من الدخول إلى مكة وقد يمنع من ذلك ، وإذا منع من الدخول إلى مكة وهو محرم _ سواء كان لابساً للإحرام أم لا _ قد يكون اشترط أن محله حيث حبس وقد لا يكون اشترط، وكل هذه المسائل تحتاج لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بها ، فنحاول أن نسلط عليها الضوء فيما يلي ، فأقول وبالله التوفيق :
بالنسبة للاشتراط عند الإحرام : ذهب الشافعية والحنابلة رحمهم الله إلى مشروعيته ، مستدلين بما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: (لعلكِ أردتِ الحج)، قالت: (والله لا أجدني إلا وجعة)، فقال لها: (حجّي واشترطي، قولي: اللهم محلي حيث حبستني) ، وهذا الاشتراط مستحب عند الحنابلة يفيد التحلل بالنية فقط، جائز عند الشافعية يفيد التحلل بالنية مع الحلق، لكنه لا يفيد عند الشافعية شيئاً إذا وقع الإحصار بالمنع عن النسك ؛ لأن هذه الحالة مجيزة للتحلل عندهم بدون شرط دون غيرها كالمرض ، فلم يؤثر الشرط في حل التحلل فيها ولا في وجوب دم الإحصار أيضاً. بينما ذهب الحنفية والمالكية رحمهم الله إلى عدم صحة الاشتراط وأنّه لا يفيد شيئاً، فلا يسقط دم الإحصار عند الحنفية ، ولا نية التحلل مع استحباب الحلق والذبح عند المالكية ، ويدل لقولهم ما جاء في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر { أنّه كان ينكر الاشتراط ويقول: "أليس حسبكم سنة رسولكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، إنْ حُبِس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلَّ من كل شيءٍ حتى يحجّ عاماً قابلاً، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هدياً) ، وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين القولين [ كما في مجموع الفتاوى (26/106)]،فذهب إلى استحباب الاشتراط في حال الخوف من الحصر أو الحبس عن أداء النسك وإلا فلا ، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله [الشرح الممتع (7/80-81)]: "وهذا القول هو الصحيح، والذي تجتمع به الأدلة ، فإنّ الرسول –صلى الله عليه وسلم- أحرم بعُمَرِه كلِها..وحجة الوداع، ولم يُنقل عنه أنه قال: وإن حبسني حابس، ولا أمر به أصحابه أمراً مطلقاً، بل أمر به من جاءت تستفتي؛ لأنها مريضةٌ تخشى أن يشتد بها المرض، فلا تُكمِل النسك، فمن خاف من مانعٍ يمنعه من إتمام النسك قلنا له: اشترط؛ استرشاداً بأمر الرسول –صلى الله عليه وسلم- ، ومن لم يخف قلنا له: السُنّة ألا تشترط..".
وعليه فيستحب الاشتراط لمن ليس معه تصريح للحج ويخشى من منع الشرطة له من دخول مكة ، فإذا منع من الحج حل من إحرامه بالنية ، ولا شيء عليه لاشتراطه.
أما إذا منع بعد إحرامه من دخول مكة ، وعلم أنه لا سبيل له إلى الدخول، ولم يكن اشترط فإنه يعد محصراً باتفاق الفقهاء في هذه الصورة، فيتحلل تحلل المحصر، وتحلل المحصر يكون بالنية فقط عند المالكية ، وبالنية مع ذبح الهدي عند الجمهور، ويزيد الشافعية الحلق، وفي اشتراط الحلق عند الحنابلة خلاف، والذي دل عليه القرآن أن المحصر يتحلل بذبح ما استيسر من الهدي كما قال تعالى {... فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ...}البقرة196 ، وهو شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة يذبحها المحصر، كما يجب عليه مع ذلك أن يحلق رأسه ثم بعد ذلك يحل من إحرامه _ كما فعل النبي –صلى الله عليه وسلم-وأصحابه رضوان الله عليهم لما صدهم المشركون عن البيت وهم محرمون عام الحديبية _ .
فإن لم يتيسر الهدي على المحصر فهل يكفيه الحلق وحده ويحل، أو ينوب عن الهدي صيام عشرة أيام قياسا على هدي التمتع ثم يحل ؟ الصواب عدم وجوب الصيام، فإن لم يجد هدياً إذا أحصر فإنه يحل ولا شيء عليه؛ لأن الله قال : { فما استيسر من الهدي } وسكت فنقف على ما وقف الله عليه، وهو ظاهر فعل الصحابة الذين لم يكن معهم هدي في الحديبية، فقد ثبت في الصحيحين أن عددهم أكثر من ألف وأربعمائة رجل، وفي مسلم عن جابر –رضي الله عنه- قال : " نحرنا يومئذ سبعين بدنة، أشركنا كل سبعة في بدنة" ، مما يعني أن قرابة ثلثي الجيش لم يذبح هديًا، ولم يؤثر أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أمرهم بالصوم، ولا يصح القياس على دم التمتع؛ لأن دم التمتع دم شكران وهذا دم جبران لما فاته من إتمام النسك، ولا يجب على المحصر قضاء هذا النسك إذا لم يكن واجباً من حيث الأصل، فقد روى الطبري عن ابن عباس { أنه قال : " من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عذر يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد حجة الفريضة أو عمرة فلا قضاء عليه " ، وأما ما تقدم من قول ابن عمر { : " أليس حسبكم سنة نبيكم ، إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل من كل شيء حتى يحج عاماً قابلاً ، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هدياً " فيمكن أن يقال : إن مراده من كان حجه فريضة ، وعلى فرض أنه أراد النافلة فهو معارض لقول ابن عباس{ الذي يوافق ظاهر السنة ، حيث لم ينقل أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه يوم الحديبية بالقضاء ، وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن من أحرم بالحج من الميقات ثم سار إلى أن قرب من مكة فمنعه مركز التفتيش لأنه لم يحمل بطاقة الحج فما الحكم؟ فأجاب : " الحكم في هذا الحال أنه يكون محصراً حين تعذر عليه الدخول فيذبح هدياً في مكان الإحصار ويحل، ثم إن كانت هذه الحجة هي الفريضة أداها فيما بعد بالخطاب الأول لا قضاءً، وإن كانت غير الفريضة فإنه لا شيء عليه على القول الراجح؛ لأن النبي–صلى الله عليه وسلم- لم يأمر الذين أحصروا في غزوة الحديبية أن يقضوا تلك العمرة التي أحصروا عنها، فليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله–صلى الله عليه وسلم- وجوب القضاء على من أحصر، قال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}، ولم يذكر شيئاً سوى ذلك، وعمرة القضاء سميت بذلك لأن النبي–صلى الله عليه وسلم- قاضى قريشاً أي عاهدهم عليها وليس من القضاء الذي هو استدارك ما فات، والله أعلم " [مناسك الحج والعمرة ص 120] .
فمما سبق يتبين أن من منع من نسكه لعدم حمله تصريحًا، ولم يشترط حكمه حكم المحصر، يحل من إحرامه بعد أن ينحر هديه في موضع حصره إن تيسر ذلك، ويحلق رأسه، ولا يجب عليه قضاء نسكه إلا إذا كان نسكًا واجبًا من حيث الأصل .
أما إذا استطاع الذي لم يحمل تصريحاً دخول مكةبسبب بقائه بملابسه المعتادة وعدم لبسه للإحرام فهنا لابد أن ننظر إن كان لم يحرم إلا بعد مجاوزته الميقات فيجب عليه دم لتركه واجباً من واجبات الحج وهو الإحرام من الميقات يذبحه في مكة ويوزعه على فقراء الحرم ، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في مثل هذا : " أما حجه فصحيح، وأما فعله فحرام من وجهين:أحدهما: تعدي حدود الله - سبحانه وتعالى- بترك الإحرام من الميقات.والثاني: مخالفة أمر ولاة الأمور الذين أمرنا بطاعتهم في غير معصية الله، وعلى هذا يلزمه أن يتوب إلى الله، ويستغفره مما وقع، وعليه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء لتركه الإحرام من الميقات على ما قاله أهل العلم من وجوب الفدية على من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة ".
أما إن كان قد أحرم من الميقات لكنه بقي لابساً للمخيط فهنا يجب عليه فدية يخير فيها بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ( أي تقريباً كيلو ونصف لكل مسكين من البر أو الأرز أو نحوهما) أو نسك وهو دم يذبحه ويوزعه في مكة أو في مكان ارتكابه للمحظور، فإن كان غطى رأسه فعليه فدية أخرى مثلها، لقوله تعالى {... وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ...}البقرة196 ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال له حين رأى هوام رأسه : " أيؤذيك هوام رأسك ؟ قال : قلت : نعم . قال : فاحلق ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك نسيكة " متفق عليه .
وأنبه أخيراً على أن عدداً من العلماء المعاصرين أشاروا إلى تحريم التحايل على أنظمة الحج بأي نوع من أنواع الحيل مثل: تزوير الجوازات والقدوم باسم شخص آخر لم يحج من قبل، أو شراء التصاريح، أو تزوير التأشيرات، أو بيع حملات الحج عقوداً وهمية يتحايل بها الناس للحصول على تصاريح الحج؛ لأن هذا الأمر مع ما فيه من الكذب يفتح مجالا للفوضى، ويسبب خللا أمنيا كبيرا، خاصة في منطقة المشاعر، ويوجد زحاما كبيرا، وكما تقدم فإن هذه الأنظمة إنما وضعت لمصلحة الحجيج، لا للتضييق على الناس في عباداتهم، فلا يجوز التحايل عليها بما ذكر من الحيل .
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.