فتاوى الحج من مجموع فتاوى ابن تيمية (1-6)
إدارة الملتقى الفقهي


فتاوى الحج من مجموع فتاوى ابن تيمية (1-6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ عَنْ الْعُمْرَةِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ ؟ وَإِنْ كَانَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ: فَصْلٌ وَالْعُمْرَةُ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا وُجُوبُهَا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تَجِبُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} لَمْ يُوجِبْ الْعُمْرَةَ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ إتْمَامَهُمَا. فَأَوْجَبَ إتْمَامَهُمَا لِمَنْ شَرَعَ فِيهِمَا وَفِي الِابْتِدَاءِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ. وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا إيجَابُ الْحَجِّ وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ فِيهَا جِنْسُ غَيْرِ مَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهَا إحْرَامٌ وَإِحْلَالٌ وَطَوَافٌ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْحَجِّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَفْعَالُ الْحَجِّ لَمْ يَفْرِضْ اللَّهُ مِنْهَا شَيْئًا مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يَفْرِضْ وَقْتَيْنِ وَلَا طَوَافَيْنِ وَلَا سعيين وَلَا فَرَضَ الْحَجَّ مَرَّتَيْنِ. وَطَوَافُ الْوَدَاعِ لَيْسَ بِرُكْنِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَدِّعَ. وَلِهَذَا مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ لَا يُوَدِّعُ عَلَى الصَّحِيحِ فَوُجُوبُهُ لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِ الْخَارِجِ بِالْبَيْتِ كَمَا وَجَبَ الدُّخُولُ بِالْإِحْرَامِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِسَبَبِ عَارِضٍ لَا كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا بِالْإِسْلَامِ كَوُجُوبِ الْحَجِّ. وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ بِمَكَّةَ. لَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ بَلْ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ عُمْرَةً بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةَ وَحْدَهَا لِسَبَبِ عَارِضٍ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
******
وَسُئِلَ عَمَّنْ حَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ وَتَرَكَهَا إمَّا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا. فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْحَجِّ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ ذَكَرَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ خِلَافًا ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْعُمْرَةُ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِهِمَا وُجُوبُهَا وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ وُجُوبِهَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَأَنَّ مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَرَكَ الْعُمْرَةَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا فَرَضَ فِي كِتَابِهِ حَجَّ الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}. وَلَفْظُ الْحَجِّ فِي الْقُرْآنِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعُمْرَةَ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ ذَكَرَهَا مَعَ الْحَجِّ كَقَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ، وَفِيهَا فَرْضُ الْحَجِّ. وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ مُتَأَخِّرًا. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ فُرِضَ سَنَةَ سِتٍّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِآيَةِ الْإِتْمَامِ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ الْآيَةَ إنَّمَا أَمَرَ فِيهَا بِإِتْمَامِهِمَ ا لِمَنْ شَرَعَ فِيهِمَا لَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِابْتِدَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَمْ يَكُنْ فُرِضَ عَلَيْهِ لَا حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ ثُمَّ لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. فَأَمَرَ فِيهَا بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُحْصَرِ الَّذِي تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يَلْزَمَانِ بِالْمَشْرُوعِ فَيَجِبُ إتْمَامُهُمَا. وَتَنَازَعُوا فِي الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ فِيهَا جِنْسٌ مِنْ الْعَمَلِ غَيْرَ جِنْسِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا إحْرَامٌ وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ وَإِحْلَالٌ وَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي الْحَجِّ. وَالْحَجُّ إنَّمَا فَرَضَهُ اللَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَفْرِضْهُ مَرَّتَيْنِ وَلَا فَرَضَ شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِهِ مَرَّتَيْنِ لَمْ يَفْرِضْ فِيهِ وقوفين وَلَا طَوَافَيْنِ؛ بَلْ الْفَرْضُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَأَمَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ فَلَيْسَ مِنْ الْحَجِّ وَإِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ وَلِهَذَا لَا يَطُوفُ مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَلَيْسَ فَرْضًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَلْ يَسْقُطُ عَنْ الْحَائِضِ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَجْزَأَهُ دَمٌ وَلَمْ يَبْطُلْ الْحَجُّ بِتَرْكِهِ بِخِلَافِ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوُقُوفِ. وَكَذَلِكَ السَّعْيُ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَالرَّمْيُ يَوْمَ النَّحْرِ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَرَمْيُ كُلِّ جَمْرَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. فَإِذَا كَانَتْ الْعُمْرَةُ لَيْسَ فِيهَا عَمَلٌ غَيْرَ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَأَعْمَالُ الْحَجِّ إنَّمَا فَرَضَهَا اللَّهُ مَرَّةً لَا مَرَّتَيْنِ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ الْعُمْرَةَ. وَالْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ فِي {أَنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ} قَدْ احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ الْعُمْرَةَ وَهُوَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَالٌّ عَلَى حجين: أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ. كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا لَأَوْجَبْنَا حجين: أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَفْرِضْ حجين وَإِنَّمَا أَوْجَبَ حَجًّا وَاحِدًا وَالْحَجُّ الْمُطْلَقُ إنَّمَا هُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ وَهُوَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَجَعَلَ لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَكُونُ فِي غَيْرِهِ كَمَا قَالَ {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِوَقْتِ بِعَيْنِهِ بَلْ تُفْعَلُ فِي سَائِرِ شُهُورِ الْعَامِ. وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ مَعَ الْحَجِّ كَالْوُضُوءِ مَعَ الْغُسْلِ وَالْمُغْتَسِلُ لِلْجَنَابَةِ يَكْفِيهِ الْغُسْلُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. فَكَذَلِكَ الْحَجُّ؛ فَإِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ: صُغْرَى وَكُبْرَى. فَإِذَا فَعَلَ الْكُبْرَى لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُ الصُّغْرَى وَلَكِنَّ فِعْلَ الصُّغْرَى أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ كَمَا أَنَّ الْوُضُوءَ مَعَ الْغُسْلِ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ. وَهَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ؛ لَكِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِأَمْرِ التَّمَتُّعِ وَقَالَ: {دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
******
وَسُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ حَجَّتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَمَا اعْتَمَرَتْ وَفِي الْعَامِ الثَّانِي قَصَدَتْ أَنْ تَحُجَّ عَنْ بِنْتِهَا وَكَانَتْ بِالْأَوَّلِ أَحْرَمَتْ بِحَجِّ وَعُمْرَةٍ فَهَلْ عَلَيْهَا عُمْرَةٌ أُخْرَى ؟
فَأَجَابَ: لَا عُمْرَةَ عَلَيْهَا لِمَا مَضَى وَأَمَّا إذَا اعْتَمَرَتْ فِي هَذَا الْعَامِ عَنْ نَفْسِهَا غَيْرَ الْعُمْرَةِ عَنْ بِنْتِهَا جَازَ ذَلِكَ .
******
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَاذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَجُلٍ آتَاهُ ذُو الْعَرْشِ مَالًا حَجَّ وَاعْتَمَرَا فَهَزَّهُ الشَّوْقُ نَحْوَ الْمُصْطَفَى طَرَبًا أَتَرَوْنَ الْحَجَّ أَفْضَلَ أَمْ إيثَارَهُ الفقرا أَمْ حَجَّةً عَنْ أَبِيهِ ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْ مَاذَا الَّذِي يَا سَادَتِي ظَهَرَا فَأَفْتُوا مُحِبًّا لَكُمْ فديتكمو وَذِكْرُكُمْ دَأَبَهُ إنْ غَابَ أَوْ حَضَرَا
فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَقُولُ فِيهِ: بِأَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ التَّصَدُّقِ وَالْإِعْطَاءِ للفقرا وَالْحَجُّ عَنْ وَالِدَيْهِ فِيهِ بِرُّهُمَا وَالْأُمُّ أَسْبَقُ فِي الْبِرِّ الَّذِي ذَكَرَا لَكِنْ إذَا الْفَرْضُ خَصَّ الْأَبَ كَانَ إذًا هُوَ الْمُقَدَّمَ فِيمَا يَمْنَعُ الضَّرَرَا كَمَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى صِلَةٍ وَأُمُّهُ قَدْ كَفَاهَا مَنْ بَرَا الْبَشَرَا هَذَا جَوَابُك يَا هَذَا مُوَازَنَةً وَلَيْسَ مُفْتِيك مَعْدُودًا مِنْ الشعرا .
******
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ امْرَأَةٍ تَمْلِكُ زِيَادَةً عَنْ نَحْوِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَوَتْ أَنْ تَهَبَ ثِيَابَهَا لِبِنْتِهَا فَهَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ تُبْقِيَ قُمَاشَهَا لِبِنْتِهَا ؟ أَوْ تَحُجَّ بِهَا ؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ تَحُجُّ بِهَذَا الْمَالِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَنَحْوُهَا. وَتُزَوِّجُ الْبِنْتَ بِالْبَاقِي إنْ شَاءَتْ فَإِنَّ الْحَجَّ فَرِيضَةٌ مَفْرُوضَةٌ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ تَسْتَطِيعُ إلَيْهِ سَبِيلًا. وَمَنْ لَهَا هَذَا الْمَالُ تَسْتَطِيعُ السَّبِيلَ .
---
وَسُئِلَ عَنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَقَدْ انْحَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ. لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ وَلَا يَتَحَرَّكُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ الْفَرْضَ ؟
فَأَجَابَ: أَمَّا الْحَجُّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الرُّكُوبَ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَسْتَنِيبُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ .
******
وَسُئِلَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ بِلَا مَحْرَمٍ ؟
فَأَجَابَ: إنْ كَانَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَقَدْ يَئِسَتْ مِنْ النِّكَاحِ وَلَا مَحْرَمَ لَهَا. فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنْ تَحُجَّ مَعَ مَنْ تَأْمَنُهُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ أَحْمَد وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحُجَّ عَنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِنْتَهَا أَوْ غَيْرَ بِنْتِهَا وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ عَنْ الرَّجُلِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا {أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ الخثعمية أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا لَمَّا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا} مَعَ أَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ أَكْمَلُ مِنْ إحْرَامِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ أَوْ الْمَعْضُوبِ بِمَالِ يَأْخُذُهُ إمَّا نَفَقَةً فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ بِالْإِجَارَةِ أَوْ بِالْجَعَالَةِ عَلَى نِزَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ الْمَحْجُوجُ بِهِ مُوصًى بِهِ لِمُعَيَّنِ أَوْ عَيْنًا مُطْلَقًا أَوْ مَبْذُولًا أَوْ مُخْرَجًا مِنْ صُلْبِ التَّرِكَةِ؛ فَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ أَطْيَبِ الْمَكَاسِبِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ صَالِحًا وَيَأْكُلُ طَيِّبًا. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْرِفُ فِي السَّلَفِ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ هَذَا وَعَدَّهُ بِدْعَةً وَكَرِهَهُ. وَلَفْظُ نَصِّهِ مَكْتُوبٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَمْ يَكْرَهْ إلَّا الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ. قُلْت: حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَّ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ: الْإِحْسَانَ إلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ أَوْ نَفْسَ الْحَجِّ لِنَفْسِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ فَرْضًا فَذِمَّتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ فَالْحَجُّ عَنْهُ إحْسَانٌ إلَيْهِ بِإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ دَيْنِهِ. كَمَا {قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للخثعمية: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فقضيتيه أَكَانَ يُجْزِي عَنْهُ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ} كَذَلِكَ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لِرَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ أَحَقُّ بِأَنْ يَقْبَلَ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَمَّنْ قُضِيَ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الْحَاجِّ قَضَاءَ هَذَا الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَنْ هَذَا فَهَذَا مُحْسِنٌ
إلَيْهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَهَذَا غَالِبًا إنَّمَا يَكُونُ لِسَبَبِ يَبْعَثُهُ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ مِثْلَ رَحِمٍ بَيْنَهُمَا أَوْ مَوَدَّةٍ وَصَدَاقَةٍ أَوْ إحْسَانٍ لَهُ عَلَيْهِ يَجْزِيهِ بِهِ وَيَأْخُذُ مِنْ الْمَالِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ عَنْهُ؛ وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَطْلُبَ مِقْدَارَ كِفَايَةِ حَجِّهِ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا نَفَقَةَ الْحَجِّ بِلَا نِزَاعٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَصَّى بِحَجَّةِ مُسْتَحَبَّةٍ وَأَحَبَّ إيصَالَ ثَوَابِهَا إلَيْهِ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُؤْثِرًا أَنْ يَحُجَّ مَحَبَّةً لِلْحَجِّ وَشَوْقًا إلَى الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ فَيَسْتَعِينُ بِالْمَالِ الْمَحْجُوجِ بِهِ عَلَى الْحَجِّ وَهَذَا قَدْ يُعْطَى الْمَالَ لِيَحُجَّ بِهِ لَا عَنْ أَحَدٍ كَمَا يُعْطَى الْمُجَاهِدُ الْمَالَ لِيَغْزُوَ بِهِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ فَيَكُونُ لِهَذَا أَجْرُ الْحَجِّ بِبَدَنِهِ وَلِهَذَا أَجْرُ الْحَجِّ بِمَالِهِ كَمَا فِي الْجِهَادِ فَإِنَّهُ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَقَدْ يُعْطَى الْمَالَ لِيَحُجَّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْمُعْطَى الْحَجَّ عَنْ الْمُعْطَى عَنْهُ وَمَقْصُودُ الْحَاجِّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْحَجِّ لَا بِنَفْسِ الْإِحْسَانِ إلَى الْغَيْرِ. وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ: الْحَجُّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ وَلِلْمُعْطِي أَجْرُ الْإِنْفَاقِ كَالْجِهَادِ. وَعَلَى أَصْلِنَا فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ وَالصَّائِمَ وَالْمُتَصَدِّق َ عَنْ الْغَيْرِ وَالْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ لَهُ قَصْدٌ صَالِحٌ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَقَصْدٌ صَالِحٌ فِي عَمَلِهِ عَنْ الْغَيْرِ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: {الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَي ْنِ} فَجَعَلَ لِلْوَكِيلِ مِثْلَ الْمُوَكِّلِ فِي الصَّدَقَةِ وَهُوَ نَائِبٌ ؟ وَقَالَ: {إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِلزَّوْجِ أَجْرُهُ بِمَا اكْتَسَبَ وَلِلْخَادِمِ مِثْلُ ذَلِكَ} فَكَذَلِكَ النَّائِبُ فِي الْحَجِّ وَسَائِرُ مَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ مِنْ الْأَعْمَالِ لَهُ أَجْرٌ. وَلِلْمُسْتَنِي بِ أَجْرٌ. وَهَذَا أَيْضًا إنَّمَا يَأْخُذُ مَا يُنْفِقُهُ فِي الْحَجِّ كَمَا لَا يَأْخُذُ إلَّا مَا يُنْفِقُهُ فِي الْغَزْوِ. فَهَاتَانِ صُورَتَانِ مُسْتَحَبَّتَان ِ وَهُمَا الْجَائِزَتَانِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ نَفَقَةَ الْحَجِّ وَيَرُدَّ الْفَضْلَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الِاكْتِسَابَ بِذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَسْتَفْضِلَ مَالًا فَهَذَا صُورَةُ الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُسْتَحَبُّ وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَعْمُولَ لِلدُّنْيَا لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ فِي نَفْسِهِ إذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إلَّا الْمَالُ فَيَكُونُ مِنْ نَوْعِ الْمُبَاحَاتِ. وَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. وَنَحْنُ إذَا جَوَّزْنَا الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ لَمْ نَجْعَلْهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ لَا نَجْعَلُهَا مِنْ " بَابِ الْقُرَبِ " فَإِنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَوْ يُثَابَ أَوْ لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ. وَكَذَلِكَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ: إمَّا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا مُبَاحٌ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. لَكِنْ قَدْ رَجَحَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ الْمَالِ لِلنَّفَقَةِ مُدَّةَ الْحَجِّ وَلِلنَّفَقَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ فَيَقْصِدُ إقَامَةَ النَّفَقَةِ وَقَضَاءَ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَهُنَا تَصِيرُ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً: إمَّا أَنْ يَقْصِدَ الْحَجَّ وَالْإِحْسَانَ فَقَطْ أَوْ يَقْصِدَ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ لَهُ فَقَطْ أَوْ يَقْصِدَ كِلَيْهِمَا فَمَتَى قَصَدَ الْأَوَّلَ فَهُوَ حَسَنٌ وَإِنْ قَصَدَهُمَا مَعًا فَهُوَ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمَا مَقْصُودَانِ صَالِحَانِ وَأَمَّا إنْ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا الْكَسْبَ لِنَفَقَتِهِ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. وَالْمَسْأَلَةُ مَشْرُوحَةٌ فِي مَوَاضِعَ .
******
وَسُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ حَجَّتْ وَقَصَدَتْ أَنْ تَحُجَّ عَنْ مَيِّتَةٍ بِأُجْرَةِ فَهَلْ لَهَا أَنْ تَحُجَّ ؟ .
فَأَجَابَ: يَجُوزُ أَنْ تَحُجَّ عَنْ الْمَيِّتِ بِمَالِ يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد: إحْدَاهُمَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. ثُمَّ هَذِهِ الْحَاجَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ قَصْدُهَا الْحَجَّ أَوْ نَفْعَ الْمَيِّتِ كَانَ لَهَا فِي ذَلِكَ أَجْرٌ وَثَوَابٌ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَقْصُودُهَا إلَّا أَخْذَ الْأُجْرَةِ فَمَا لَهَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ .
******
وَسُئِلَ عَمَّنْ حَجَّ عَنْ الْغَيْرِ لِيُوَفِّيَ دَيْنَهُ ؟ .
فَأَجَابَ: أَمَّا الْحَاجُّ عَنْ الْغَيْرِ لِأَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّرْكُ. فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَحُجُّ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَفْضِلَ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ يَحُجُّ عَنْ أَحَدٍ بِشَيْءِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا عَمَلًا صَالِحًا لَكَانُوا إلَيْهِ مُبَادِرِينَ وَالِارْتِزَاقُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الصَّالِحِينَ. أَعْنِي إذَا كَانَ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْعَمَلِ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَهَذَا الْمَدِينُ يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ مَا يُوَفِّي بِهِ دَيْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ دَرَاهِمَ يُوَفِّي بِهَا دَيْنَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا يَحُجُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: إمَّا رَجُلٌ يُحِبُّ الْحَجَّ وَرُؤْيَةَ الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ. فَيَأْخُذُ مَا يَقْضِي بِهِ وَطَرَهُ الصَّالِحَ وَيُؤَدِّي بِهِ عَنْ أَخِيهِ فَرِيضَةَ الْحَجِّ. أَوْ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يُبَرِّئَ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ عَنْ الْحَجِّ إمَّا لِصِلَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ لِرَحْمَةِ عَامَّةٍ بِالْمُؤْمِنِين َ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ مَا يَأْخُذُ لِيُؤَدِّيَ بِهِ ذَلِكَ. وَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ لِيَحُجَّ لَا أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْأَرْزَاقِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ فَمَنْ ارْتَزَقَ لِيَتَعَلَّمَ أَوْ لِيُعَلِّمَ أَوْ لِيُجَاهِدَ فَحَسَنٌ. كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي. وَيَأْخُذُونَ أُجُورَهُمْ. مَثَلُ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ ابْنَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا} شَبَّهَهُمْ بِمَنْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِرَغْبَةِ فِيهِ كَرَغْبَةِ أُمِّ مُوسَى فِي الْإِرْضَاعِ بِخِلَافِ الظِّئْرِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى الرِّضَاعِ إذَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً. وَأَمَّا مَنْ اشْتَغَلَ بِصُورَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِأَنْ يَرْتَزِقَ فَهَذَا مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ الدِّينُ مَقْصُودَهُ وَالدُّنْيَا وَسِيلَةٌ وَمَنْ تَكُونُ الدُّنْيَا مَقْصُودَهُ وَالدِّينُ وَسِيلَةٌ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا .
******
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِشَخْصِ غَائِبٍ بِبَغْدَادَ وَالْمَدْيُونُ مُقِيمٌ بِمِصْرِ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَقَصَدَ شَخْصٌ أَنْ يَحُجَّ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ. فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحُجَّ وَعَلَيْهِ الدَّيْنُ ؟ .
فَأَجَابَ: نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ الْمَدِينُ الْمُعْسِرُ إذَا حججه غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إضَاعَةٌ لِحَقِّ الدَّيْنِ إمَّا لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الْغَرِيمِ غَائِبًا لَا يُمْكِنُ تَوْفِيَتُهُ مِنْ الْكَسْبِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
******
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ خَرَجَ حَاجًّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِذَلِكَ ثُمَّ إنْ كَانَ خَرَجَ إلَى الْحَجِّ حِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مَاتَ غَيْرَ عَاصٍ وَإِنْ فَرَّطَ بَعْدَ الْوُجُوبِ مَاتَ عَاصِيًا وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَّفَ مَالًا فَالنَّفَقَةُ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا اسْتَطَاعَ الْحَجَّ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ حَجَّ عَقِبَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَاتَ وَهُوَ غَيْرُ عَاصٍ وَلَهُ أَجْرُ نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ. فَإِنْ كَانَ فَرَّطَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ الْحَجِّ مَاتَ عَاصِيًا آثِمًا وَلَهُ أَجْرُ مَا فَعَلَهُ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ بِذَلِكَ بَلْ الْحَجُّ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
******

بَابُ الْإِحْرَامِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَمَّا حَكَى أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْإِحْرَامِ. هَلْ هُوَ رُكْنٌ ؟ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ إنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَارَةٌ عَنْ نِيَّةِ الْحَجِّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي النِّيَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْحَجِّ الشَّرْعِيِّ بِدُونِهَا، أَبِنْ لَنَا عَنْ هَذَا مُثَابًا مُعَظَّمَ الْأَجْرِ ؟ .
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْجَوَابُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: إجْمَالِيٍّ وَتَفْصِيلِيٍّ. أَمَّا الْإِجْمَالِيُّ فَنَقُولُ: أَمَّا النِّيَّةُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهَا إمَّا مِنْ الْحَاجِّ نَفْسِهِ وَإِمَّا مَنْ يَحُجُّ بِهِ كَمَا يَحُجُّ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَلَوْ عَمِلَ الرَّجُلُ أَعْمَالَ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَصِحَّ الْحَجُّ كَمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَسَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ الْحَجَّ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهَا وَبِشَيْءِ آخَرَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ: مِنْ تَلْبِيَةٍ أَوْ تَقْلِيدِ هَدْيٍ عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ أَمْ لَيْسَ بِرُكْنِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَقْبَلُ الْخِلَافَ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورَ بِهَا بِدُونِ النِّيَّةِ. وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَفِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفَرْقٌ بَيْنَ النِّيَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ لِلْحَجِّ وَالنِّيَّةِ الَّتِي يَنْعَقِدُ بِهَا الْإِحْرَامُ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْحَجَّ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ وَيَقِفَ وَيَطُوفَ مُسْتَصْحِبًا لِهَذِهِ النِّيَّةِ؛ ذِكْرًا وَحُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْإِحْرَامَ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ الْمَعْهُودَةَ فِي الْعِبَادَاتِ تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ: عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ وَقَصْدِ الْمَعْبُودِ. وَقَصْدُ الْمَعْبُودِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} {وقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ}. فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيَّزَ بَيْنَ مَقْصُودٍ وَمَقْصُودٍ وَهَذَا الْمَقْصُودُ فِي الْجُمْلَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} فَإِنَّ كُلَّ بَشَرٍ بَلْ كُلَّ حَيَوَانٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هِمَّةٍ وَهُوَ الْإِرَادَةُ وَمِنْ حَرْثٍ وَهُوَ الْعَمَلُ إذْ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَوَانِ أَنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِإِرَادَتِهِ ثُمَّ ذَلِكَ الَّذِي يَقْصِدُهُ هُوَ غَايَتُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَصْدِ قَصْدٌ آخَرُ وَإِنَّمَا تَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ بِوُصُولِهَا إلَى مَقْصُودِهَا. وَأَمَّا قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَقَصْدُ الْعَمَلِ الْخَاصِّ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ بِعَمَلِهِ: فَقَدْ يُرِيدُهُ بِصَلَاةِ وَقَدْ يُرِيدُهُ بِحَجِّ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَصَدَ طَاعَتَهُ بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَدْ أَطَاعَهُ فِي هَذَا الْعَمَلِ. وَقَدْ يَقْصِدُ طَاعَتَهُ فِي هَذَا الْعَمَلِ فَهَذَا الْقَصْدُ الثَّانِي مِثْلُ قَصْدِ الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ ثُمَّ صَلَاةِ الظُّهْرِ دُونَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ وَهَذِهِ النِّيَّةُ الَّتِي تُذْكَرُ غَالِبًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ الْمُتَأَخِّرَة ِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ النِّيَّتَيْنِ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ. أَمَّا الْأُولَى: فَبِهَا يَتَمَيَّزُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الطَّاغُوتَ أَوْ يُشْرِكُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَمَنْ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ مِمَّنْ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا وَهُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ لِلَّهِ الَّذِي تَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الشَّرَائِعِ الَّذِي نُهِيَ الْأَنْبِيَاءُ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}. وَلِهَذَا كَانَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا وَإِنْ كَانَتْ شَرَائِعُهُمْ مُتَنَوِّعَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}. وَأَمَّا النِّيَّةُ الثَّانِيَةُ: فَبِهَا تَتَمَيَّزُ أَنْوَاعُ الْعِبَادَاتِ وَأَجْنَاسُ الشَّرَائِعِ فَيَتَمَيَّزُ الْمُصَلِّي مِنْ الْحَاجِّ وَالصَّائِمِ وَيَتَمَيَّزُ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَيَصُومُ قَضَاءَ رَمَضَانَ مِمَّنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَيَصُومُ شَيْئًا مِنْ شَوَّالٍ وَيَتَمَيَّزُ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ مِمَّنْ يَتَصَدَّقُ مِنْ نَذْرٍ عَلَيْهِ أَوْ كَفَّارَةٍ. وَأَصْنَافُ الْعِبَادَاتِ مِمَّا تَتَنَوَّعُ فِيهِ الشَّرَائِعُ إذْ الدِّينُ لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا الشَّرِيعَةُ إذْ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِأَعْمَالِ الْأَبْدَانِ كَمَا أَنَّ الرُّوحَ لَا قِوَامَ لَهَا إلَّا بِالْبَدَنِ. أَعْنِي مَا دَامَتْ فِي الدُّنْيَا. وَكَمَا أَنَّ مَعَانِيَ الْكَلَامِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْأَلْفَاظِ وَبِمَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَصِيرُ الْكَلَامُ كَلَامًا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ، وَاللَّفْظُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأُمَمِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ لُغَةُ بَعْضِ الْأُمَمِ أَبْلَغَ فِي إكْمَالِ الْمَعْنَى مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ أَبْلَغَ تَمَامًا لِلْمَعْنَى مِنْ بَعْضٍ. فَالدِّينُ الْعَامُّ يَتَعَلَّقُ بِقَصْدِ الْقَلْبِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ عَمَلٍ بَدَنِيٍّ يَتِمُّ بِهِ الْقَصْدُ وَيَكْمُلُ فَتَنَوَّعَتْ الْأَعْمَالُ الْبَدَنِيَّةُ كَذَلِكَ وَتَنَوَّعَتْ لِمَا اقْتَضَتْهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ لِعِبَادِهِ وَبِحِكْمَتِهِ فِي أَمْرِهِ وَإِنَّمَا وَجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النِّيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نُقِيمَ دِينَهُ بِالشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَا يَقْبَلُ مِنَّا أَنْ نَعْبُدَهُ بِشَرِيعَةِ غَيْرِهَا. وَالْأَعْمَالُ الْمَشْرُوعَةُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ قَدْ يُعْتَبَرُ لَهَا أَوْقَاتٌ وَأَمْكِنَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَصِفَاتٌ كُلَّمَا كَانَ فَرْضًا عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَأَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَى وَصْفٍ مُعَيَّنٍ كَانَ فَرْضًا عَلَيْنَا أَنْ نَقْصِدَهُ الْقَصْدَ الَّذِي نَكُونُ بِهِ عَابِدِينَ. وَالْقَصْدَ الَّذِي بِهِ نَكُونُ عَابِدِينَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ النِّيَّاتِ قَدْ تَحْصُلُ جُمْلَةً وَقَدْ تَحْصُلُ تَفْصِيلًا وَقَدْ تَحْصُلُ بِطَرِيقِ التَّلَازُمِ وَقَدْ تَتَنَوَّعُ النِّيَّاتُ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ بِحَيْثُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِأَدْنَاهَا لَكِنَّ الْفَضْلَ لِمَنْ أَتَى بِالْأَعْلَى. وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَقْصُودًا بِالْقَصْدِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَدْ يَحْضُرُ الْإِنْسَانَ الْقَصْدُ الثَّانِي وَيُذْهَلُ عَنْ الْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي قَصْدِهِ الْعِبَادَةَ قَدْ يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَوْ يُرِيدُ طَاعَتَهُ أَوْ عِبَادَتَهُ أَوْ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ أَوْ يُرِيدُ ثَوَابَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَشْعِرَ ثَوَابًا مُعَيَّنًا أَوْ يَرْجُوَ ثَوَابًا مُعَيَّنًا فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِيهِمَا أَوْ يَخَافُ عِقَابًا إمَّا مُجْمَلًا وَإِمَّا مُفَصَّلًا. وَتَفَاصِيلُ هَذِهِ النِّيَّاتِ بَابٌ وَاسِعٌ. وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي نَوْعٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ دُونَ نَوْعٍ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَقْيِيسِ ذَلِكَ نِيَّةَ نَوْعِ الْعَمَلِ فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ الْحَجَّ قَدْ يَكُونُ قَدْ اسْتَشْعَرَ الْحَجَّ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَهُوَ أَنَّهُ قَصْدُ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَيَقْصِدُ مَا اسْتَشْعَرَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدِ تَفْصِيلِ أَعْمَالِهِ مِنْ وُقُوفٍ وَطَوَافٍ وَتَرْكِ مَحْظُورَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ تَفَاصِيلُ أَعْمَالِ الْحَجِّ مَقْصُودَةً إذَا اسْتَشْعَرَهَا وَقَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِجِنْسِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَأَنَّهَا وُقُوفٌ وَطَوَافٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَيْنَ الْمَكَانِ وَصُورَةَ الطَّوَافِ فَيَنْوِي ذَلِكَ. وَقَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَيَنْوِي مَا قَدْ عَلِمَهُ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَقُلْنَا لَهُ: قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْك الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُهَا وَيَنْوِيهَا لِاسْتِشْعَارِه ِ لَهَا جُمْلَةً وَلَمْ يَعْلَمْ صِفَتَهَا؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيمَانًا رَاسِخًا فَإِنَّ إيمَانَهُ مُتَضَمِّنٌ لِتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَهُ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنْوَاعَ الْأَخْبَارِ وَالْأَعْمَالِ ثُمَّ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ: إمَّا أَنْ يُصَدِّقَ وَيُطِيعَ فَيَصِيرَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَوْ يُخَالِفَ ذَلِكَ فَيَصِيرَ إمَّا مُنَافِقًا وَإِمَّا عَاصِيًا فَاسِقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ الْمَأْمُورَ بِهِ: كَرَجُلِ لَهُ أَمْوَالٌ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ مُرِيدًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ لَا زَكَاةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ وَلَا وَضْعُهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ دُونَ بَعْضٍ. فَهَذَا يُثَابُ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَكِنْ بَقِيَ فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ . وَرَجُلٌ قَدْ يَقْصِدُ الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ طَاعَةَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ كَمَنْ يَدْفَعُ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى السُّلْطَانِ؛ لِئَلَّا يَضْرِبَ عُنُقَهُ أَوْ يَنْقُصَ حُرْمَتَهُ أَوْ يَأْخُذَ مَالَهُ أَوْ قَامَ يُصَلِّي خَوْفًا عَلَى دَمِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ. وَهَذِهِ حَالُ الْمُنَافِقِينَ عُمُومًا وَالْمُرَائِينَ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ خُصُوصًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} وَقَالَ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ نَوْعِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ أَوْ الْحَجَّ أَوْ الصِّيَامَ وَلَهُمْ فِي فُرُوعِ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي النِّيَّةِ الْأُولَى: وَهِيَ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا تَجِبُ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ الْمَقْصُودَةِ كَالطَّهَارَةِ وَالتَّيَمُّمِ " وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَعْتَبِرُوا نِيَّةَ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ نِيَّةِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَتَضَمَّنُ الْإِضَافَةَ كَمَا تَتَضَمَّنُ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تُشْرَعُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي الْحَضَرِ لَا تَكُونُ إلَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ. وَأَيْضًا: النِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ تَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ الْمُسْتَحْضَرَ ةِ وَإِنْ كَانَتْ النِّيَّةُ الْمُسْتَحْضَرَ ةُ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ فَإِذَا نَوَى الْعَبْدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَجْزَأَهُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ حُكْمًا فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ الَّذِي دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ قَدْ نَوَى نِيَّةً عَامَّةً: أَنَّ عِبَادَاتِهِ هِيَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا. فَإِذَا نَوَى عِبَادَةً مُعَيَّنَةً مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ كَانَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ تِلْكَ النِّيَّةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ كَمَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ إذَا نَوَى الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ كَانَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ نِيَّةِ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ ثُمَّ إنْ أَتَى بِمَا يَنْقُضُ عِلْمَ تِلْكَ أَفْسَدَهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ فَاسِخًا لَهَا كَمَا لَوْ فَسَخَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا فَإِذَا قَامَ يُصَلِّي لِئَلَّا يُضْرَبَ أَوْ يُؤْخَذَ مَالُهُ أَوْ أَدَّى الزَّكَاةَ لِئَلَّا يُضْرَبَ: كَانَ قَدْ فَسَخَ تِلْكَ النِّيَّةَ الْإِيمَانِيَّة َ. فَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ فَاسِدَةٌ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَقُلْنَا: إنَّ عِبَادَاتِ الْمُرَائِينَ الْوَاجِبَةَ بَاطِلَةٌ وَإِنَّ السُّلْطَانَ إذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَائِهَا لَمْ يُجْزِهِ فِي الْبَاطِنِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ يُولَدُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ يَصِيرُونَ مُسْلِمِينَ إسْلَامًا حُكْمِيًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ إيمَانٌ بِالْفِعْلِ ثُمَّ إذَا بَلَغُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْزَقُ الْإِيمَانَ الْفِعْلِيَّ فَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ الْمَحْضَةِ وَالْمُتَابَعَة ِ لِأَقَارِبِهِ وَأَهْلِ بَلَدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: مِثْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُ الْكُلَفَ وَلَمْ يَسْتَشْعِرْ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا. فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْكُلَفِ الْمُبْتَدَعَةِ وَبَيْنَ الزَّكَاةِ الْمَشْرُوعَةِ أَوْ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ [كُلَّ] سَنَةٍ إلَى عَرَفَاتٍ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْعَارِ أَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ لِلَّهِ. لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا أَوْ يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ لِأَنَّ قَوْمَهُ قَاتَلُوهُمْ فَقَاتَلَ تَبَعًا لِقَوْمِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ لَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُمْ بِلَا تَرَدُّدٍ بَلْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ نِيَّةَ الْإِضَافَةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً: أَرَادَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِيهَا بِالنِّيَّةِ الْحُكْمِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. فَفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ لَمْ يُرِدْ اللَّهَ بِعَمَلِهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا وَبَيْنَ مَنْ أَرَادَهُ جُمْلَةً وَذُهِلَ عَنْ إرَادَتِهِ بِالْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ تَفْصِيلًا. فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَا يَقُولُ: إنَّ الْأَوَّلَ عَابِدٌ لِلَّهِ وَلَا مُؤَدٍّ لِمَا أَمَرَ بِهِ أَصْلًا؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اشْتَرَطَ هَذِهِ النِّيَّةَ عِنْدَ الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ فَقَالَ: النِّيَّةُ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَدَاءَ فِعْلِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ. وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ: اتِّبَاعُ أَمْرِهِ وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لَهُ. وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُ أَكْثَرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى النِّيَّةِ الْوَاجِبَةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا بِقَوْلِهِ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قَالُوا: وَإِخْلَاصُ الدِّينِ هُوَ النِّيَّةُ. وَمَنْ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ أَوْ التَّنَظُّفِ لَمْ يُخْلِصْ الدِّينَ لِلَّهِ وَيَسْتَدِلُّون َ بِقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} قَالُوا: وَمَنْ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ لَمْ يُرِدْ حَرْثَ الْآخِرَةِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُخْلِصَ لَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ تَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ أَبْلَغَ مِنْ دَلَالَتِهِمَا عَلَى وُجُوبِ نِيَّةِ الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ؛ لَكِنْ مَنْ نَصَرَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ قَدْ يَقُولُ: نِيَّةُ النَّوْعِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِنِيَّةِ الْجِنْسِ فَإِنَّ مَنْ نَوَى الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ نَوَى الْعَمَلَ لِلَّهِ بِحُكْمِ إيمَانِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَنْ نَصَرَ الثَّانِيَ يَقُولُ: النِّيَّةُ الْوَاجِبَةُ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْعَمَلِ بِعِشْرِينَ سَنَةً بَلْ إنَّمَا تُقَدَّمُ عَلَيْهِ إمَّا بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَإِمَّا مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْوُجُوبِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ. وَأَيْضًا: فَالدَّلِيلُ الظَّاهِرُ وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ وُجُودَ النِّيَّةِ الْمُحْضَرَةِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْ اسْتِصْحَابِهَا فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلَا مَشَقَّةَ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ عِنْدَ فِعْلِ كُلِّ عِبَادَةٍ. وَأَيْضًا فَغَالِبُ النَّاسِ إسْلَامُهُمْ حُكْمِيٌّ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي قُلُوبِهِمْ فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ إنْ دَخَلَ. فَإِنْ لَمْ تُوجَبْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّيَّةُ لَمْ يَقْصِدُوهَا فَتَخْلُو قُلُوبُهُمْ مِنْهَا فَيَصِيرُونَ مُنَافِقِينَ إنَّمَا يَعْمَلُونَ الْأَعْمَالَ عَادَةً وَمُتَابَعَةً كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ .
******
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - عَنْ " التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ " أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ .
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه ُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ: وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ أَحْمَد أَنَّهُ إذَا قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ الْخَاصُّ أَفْضَلُ لَهُ وَهُوَ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِعُمْرَةِ فَيَحِلُّ مِنْهَا إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ. وَأَمَّا إذَا سَاقَ الْهَدْيَ: فَنَقَلَ المروذي عَنْهُ: أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ. فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ هَذَا رِوَايَةً ثَانِيَةً عَنْ أَحْمَد. وَجَعَلُوا فِيهَا إذَا سَاقَ الْهَدْيَ: هَلْ الْأَفْضَلُ التَّمَتُّعُ ؟ أَوْ الْقِرَانُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِي نَ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ وَسَاقَ الْهَدْيَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَلَا يَبْقَى لِاخْتِيَارِ الْقِرَانِ وَجْهٌ. وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ الْمُتَقَدِّمُو نَ: أَنَّهُ حَجَّ قَارِنًا وَلَكِنْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ - مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ - أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَيَجْعَلَهَا مُتْعَةً. وَقَالَ: {لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً}. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَإِنَّ أَحْمَد لَمْ يَنُصَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ. بَلْ إنَّمَا اخْتَارَ التَّمَتُّعَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بِهِ. وَلِقَوْلِهِ: {لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً}. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَ بِالتَّحَلُّلِ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَلَا يَحِلُّ مَنْ لَمْ يَخْتَرْ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أَحْمَد لَمْ يَقُلْ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مُتَمَتِّعًا - التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ - بَلْ نَصَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَارِنًا. وَقَالَ: لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَالتَّمَتُّعُ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَالَ: {لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً}. فَكَلَامُهُ إنَّمَا كَانَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ: أَنْ يَسُوقَ وَيَقْرِنَ أَوْ يَتَمَتَّعَ وَلَا يَسُوقَ ؟. لِأَنَّهُ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ. فَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً} هَلْ كَانَ لِأَنَّ
التَّحَلُّلَ بِعُمْرَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ أَمْ لَا: مُوَافَقَةً لِأَصْحَابِهِ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. فَهَذَا مَوْرِدُ اجْتِهَادٍ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُ أَحْمَد أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ عِنْدَ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ أَوْ قَارِنًا. وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ عِنْدَ أَحْمَد إلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَارِنَ يَكُونُ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ. بِأَنَّهُ فِي كِلَيْهِمَا قَارِنٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ: فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ إلَى مَا بَعْدَ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ. وَمَعْلُومٌ حِينَئِذٍ أَنَّ تَقْدِيمَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ فَيَكُونُ الْقِرَانُ أَفْضَلَ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَهُ لَا يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَالْمُفْرِدِ. وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَقَدْ اخْتَارَ لَهُ أَنْ يَسْعَى سعيين وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ سَعْيٌ وَاحِدٌ كَالْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ. وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ تَمَيَّزَ بِسَعْيٍ زَائِدٍ مُسْتَحَبٍّ لَكِنْ هُوَ أَيْضًا يَسْتَحِبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا بَعْدَ عَرَفَةَ طَوَافَ الْقُدُومِ فَيَكُونُ الْمُتَمَتِّعُ قَدْ طَافَ بَعْدَ عَرَفَةَ مَرَّتَيْنِ وَسَعَى سَعْيًا ثَانِيًا. وَأَمَّا الْقَارِنُ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُهُ الْمُفْرِدُ لَكِنْ كُلُّ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ السَّعْيَ الثَّانِيَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ. وَقَوْلٌ: إنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سعيين كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَوْلٌ: إنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ طَوَافُ الْقُدُومِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ سَعْيٌ ثَانٍ. فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْعَوْا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَبِهَذَا يَظْهَرُ فَضْلُ الْقَارِنِ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الْغَيْرِ السَّائِقِ. وَأَمَّا إذَا حَصَلَ فِي عَمَلِ الْمُتَمَتِّعِ زِيَادَةُ سَعْيٍ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ أَوْ زِيَادَةُ طَوَافٍ مُسْتَحَبٍّ فَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ هُوَ خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأيضا: فَلَوْ سَلِمَ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لَمْ يَسْلَمْ أَنْ كُلَّمَا زَادَ عَمَلًا كَانَ أَفْضَلَ بَلْ الْأَفْضَلُ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْأَيْسَرَ كَمَا أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ وَهُوَ أَيْسَرُ، وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ وَهُوَ أَيْسَرُ وَكَذَلِكَ الْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنْ التَّرْبِيعِ وَهُوَ أَيْسَرُ. وَقَدْ يُفَضَّلُ الْمُتَمَتِّعُ بِأَنَّ طَوَافَهُ الْأَوَّلَ يَكُونُ وَاجِبًا لِأَنَّهُ طَوَافُ عُمْرَةٍ وَالْقَارِنُ يَكُونُ طَوَافُهُ طَوَافَ قُدُومٍ وَهُوَ لَا يَجِبُ. وَالْوَاجِبُ أَفْضَلُ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ. فَإِنَّ الْفَضْلَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ مَصْلَحَةِ الْفِعْلِ، وَالْوُجُوبُ سَبَبُ حُصُولِ مَفْسَدَةٍ فِي التَّرْكِ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُ أَحْمَد أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ جَمِيعَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ. وَمَذْهَبُ أَحْمَد أَيْضًا أَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ الْحَجَّ بِسَفْرَةِ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةِ فَهَذَا الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّمَتُّعِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ: كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي تَعْلِيقِهِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ الْكُوفِيَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ مَعَ أَنَّ الْقِرَانَ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ. لَكِنَّ الْقِرَانَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ هُوَ الْقِرَانَ الَّذِي يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطُفْ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَلَمْ يَسْعَ إلَّا سَعْيًا وَاحِدًا. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ أَوَّلًا. وَيَسْعَى لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْحَجِّ وَإِذَا فَعَلَ مَحْظُورًا كَانَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَدْ حُكِيَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَأَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ وسعيان كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. لَكِنَّ مَذْهَبَهُ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْمَعْرُوفَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي عَمَلِ الْقَارِنِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ. بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ هَلْ يُجْزِيهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ الَّذِي مَعَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى سَعْيٍ ثَانٍ عَقِيبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد قُلْت لِأَبِي: الْمُتَمَتِّعُ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قَالَ: إنْ طَافَ طَوَافَيْنِ فَهُوَ أَجْوَدُ وَإِنْ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا فَلَا بَأْسَ. قَالَ: وَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ فَهُوَ أَعْجَبُ إلَيَّ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ مَذْهَبُهُ فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: {لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا} طَوَافَهُ الْأَوَّلَ. وَهَذَا مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَتِّعِينَ. وَرَوَى أَحْمَد قَالَ: ثِنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: ثِنَا الأوزاعي عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّع ُ وَالْمُفْرِدُ يُجْزِيهِ طَوَافٌ بِالْبَيْتِ وَسَعْيٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عن عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فليهل بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا - إلَى أَنْ قَالَتْ - فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنَى لِحَجِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا بِالْبَيْتِ}. قُلْت: فَقَوْلُهَا طَوَافًا آخَرَ إنَّمَا أَرَادَتْ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذِكْرِهَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَعُلِمَ أَنَّهَا إنَّمَا نَفَتْ طَوَافًا مَعَهُ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا الطَّوَافُ الْمُجَرَّدُ بِالْبَيْتِ. وَاَلَّذِي نَفَتْهُ عَنْ الْقَارِنِ أَثْبَتَتْهُ لِلْمُتَمَتِّعِ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يُدْخِلْ عَلَيْهَا الْحَجَّ. وَأَحْمَد فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ فَهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ طَافُوا بِالْبَيْتِ فَقَطْ لِلْقُدُومِ فَاسْتَحَبَّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَوَّلًا إذَا رَجَعَ مِنْ مِنَى أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا لِلْقُدُومِ ثُمَّ يَطُوفَ طَوَافَ الْفَرْضِ. وَمَنْ رَدَّ عَلَى أَحْمَد حُجَّتَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّوَافِ طَوَافُ الْفَرْضِ فَقَدْ غَلِطَ. لِأَنَّ طَوَافَ الْفَرْضِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ وَالْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ. وَعَائِشَةُ أَثْبَتَتْ لِلْمُتَمَتِّعِ مَا نَفَتْهُ عَنْ الْقَارِنِ. وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إنْ لَمْ تَكُنْ أَرَادَتْ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَجْلِ حَيْضِهَا. وَهَذَا قَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الصَّحِيحُ " {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً لَمْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا فُهِمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، فَإِنَّهُمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا سَعَوْا بَعْدَ طَوَافِ الْفَرْضِ فَأَنْ لَا يَطُوفُوا قَبْلَهُ لِلْقُدُومِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَفِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ. فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هِيَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ فَلَا تُعَارِضُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَفِيهِ أَيْضًا عِلَّةٌ. وَالشَّافِعِيِّ اخْتَارَ التَّمَتُّعَ تَارَةً وَاخْتَارَ الْإِفْرَادَ تَارَةً - وَمَنْ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا فَقَدْ غَلِطَ وَاخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِي إحْرَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ. وَمَالِكٍ يَخْتَارُ الْإِفْرَادَ لَكِنْ قَدْ قِيلَ يُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ إلَى الْمُحَرَّمِ فَأَمَّا الْعُمْرَةُ عَقِيبَ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ: فَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ إلَّا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدِمَتْ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَتَدَعَ الْعُمْرَةَ. فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا صَارَتْ قَارِنَةً وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الْعُمْرَةِ. لَكِنَّ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهُ جَعَلَ الْقَضَاءَ وَاجِبًا عَلَيْهَا لِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ عِنْدَهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَكَوْنِ عُمْرَةِ الْقَارِنِ وَالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لَا يُسْقِطُ وُجُوبَ الْعُمْرَةِ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ. وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي كُلِّ مُتَمَتِّعٍ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الطَّوَافِ قَبْلَ التَّعْرِيفِ فَإِنَّهُمْ يَأْمُرُونَهُ بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَيَصِيرُ قَارِنًا كَالْمُفْرِدِ الَّذِي قَدِمَ وَقَدْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَقِفُ بِعَرَفَةَ أَوَّلًا وَلَا يَطُوفُ قَبْلَ التَّعْرِيفِ. وَهَكَذَا يَصْنَعُ حَاجُّ الْعِرَاقِ إذَا قَدِمُوا مُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُمْ يُوَافُونَ عَرَفَةَ يَوْمَ التَّعْرِيفِ فَيُعَرِّفُونَ وَلَا يَطُوفُونَ قَبْلَ التَّعْرِيفِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَفَضَتْ الْعُمْرَةَ وَأَهَلَّتْ بِالْحَجِّ فَصَارَتْ مُفْرِدَةً. وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَتْهَا وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ: فِي أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سعيين فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقِرَانِ لَهَا فَائِدَةٌ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَبَنَوْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ: فِي أَنَّ عَمَلَ الْقَارِنِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ وَقَالُوا: إنَّ {النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعْمَرَ عَائِشَةَ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ: يَذْهَبُ أَصْحَابِي بِحَجَّةِ وَعُمْرَةٍ وَأَذْهَبُ أَنَا بِحَجَّةِ. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسَعُك طَوَافُك بِحَجِّك وَعُمْرَتِك. وَفِي رِوَايَةِ أَهْلِ السُّنَنِ طَوَافُك بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك}. فَلَمَّا أَلَحَّتْ أَعْمَرَهَا تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا وَأَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَغَيْرِهِ قَالَ: إنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ وَالْعُمْرَةَ الْمَكِّيَّةَ لَا تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ لَمَّا أَعْمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً وَأَعْمَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَجَعَلَ هَذِهِ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةً فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. لَكِنْ اخْتَلَفَا فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَلَمْ يَعْتَمِرْ مِنْ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةُ خَاصَّةً. لِأَجْلِ هَذَا الْعُذْرِ. وَأَمَّا عُمَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا كَانَتْ وَهُوَ قَاصِدٌ إلَى مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ ذِي الحليفة وَحَلَّ بِالْحُدَيْبِيَ ةِ لَمَّا أُحْصِرَ وَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ، وَالْحُدَيْبِيَ ةُ غَرْبِيُّ جَبَلِ التَّنْعِيمِ حَيْثُ بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَصَالَحَهُ الْمُشْرِكُونَ. وَجَبَلُ التَّنْعِيمِ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي عِنْدَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُسَمَّى مَسَاجِدَ عَائِشَةَ عَنْ يَمِينِك وَأَنْتَ دَاخِلٌ إلَى مَكَّةَ وَتِلْكَ الْمَسَاجِدُ مَبْنِيَّةٌ فِي التَّنْعِيمِ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَمِرَ مِنْ التَّنْعِيمِ، وَالتَّنْعِيمُ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ وَالْمُعْتَمِرُ مِنْ مَكَّةَ يَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ بِخِلَافِ الْحَاجِّ مِنْ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إلَى عَرَفَةَ وَعَرَفَةُ مِنْ الْحِلِّ ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ مِنْ ذِي الحليفة ثُمَّ لَمَّا لَقِيَ هَوَازِنَ بِوَادِي حنين فَهَزَمَهُمْ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْجِعْرَانَةِ فَقَسَمَ غَنَائِمَ حنين بالجعرانة اعْتَمَرَ دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ وحنين والجعرانة وَالطَّائِفِ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ شَرْقِيِّ عَرَفَاتٍ فَأَقْرَبُهَا إلَى عَرَفَةَ الْجِعْرَانَةُ ثُمَّ وَادِي حنين ثُمَّ الطَّائِفُ. وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ مِنْ مَكَّةَ فَيَعْتَمِرُونَ إلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلِهَذَا نَصَّ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ عُمْرَةٌ وَرَوَى أَحْمَد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةٌ إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ فَمَنْ أَبَى إلَّا أَنْ يَعْتَمِرَ فَلْيَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ بَطْنَ وَادٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ مِنْ مَكَّةَ. وَالْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ أَحْمَد: فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَعَلَ هَذَا رِوَايَةً ثَالِثَةً. فَقَالَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ: رِوَايَةٌ تَجِبُ وَرِوَايَةٌ لَا تَجِبُ وَرِوَايَةٌ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَهْلُ مَكَّةَ يُسْتَثْنَوْنَ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ عُمْرَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. وَهِيَ أَصَحُّ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ: مَنْ اسْتَحَبَّ لِمَنْ اعْتَمَرَ مِنْ مَكَّةَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ الْجِعْرَانَةِ مُحْتَجًّا بِعُمْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ غَلَطٌ. فَإِنَّ الْحُدَيْبِيَةَ كَانَتْ مَوْضِعَ حِلِّهِ لَمَّا أُحْصِرَ لَمْ تَكُنْ مَوْضِعَ إحْرَامِهِ. وَأَمَّا الْجِعْرَانَةُ فَإِنَّهُ أَحْرَمَ مِنْهَا دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ الْعُمْرَةَ مِنْ هُنَاكَ. وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الْعُمْرَةِ لَا مِنْ مَكَّةَ وَلَا غَيْرِهَا بَلْ يَجْعَلُ بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مُدَّةً وَلَوْ أَنَّهُ مِقْدَارُ مَا يَنْبُتُ فِيهِ شَعْرُهُ وَيُمْكِنُهُ الْحِلَاقُ وَهَذَا لِمَنْ يَخْرُجُ إلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَيَعْتَمِرُ. وَأَمَّا الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ فَكَثْرَةُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْعُمْرَةِ الْمَكِّيَّةِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَسْتَكْثِرُونَ مِنْ الطَّوَافِ وَلَا يَعْتَمِرُونَ عُمْرَةً مَكِّيَّةً فَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْإِفْرَادَ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا اسْتَحَبُّوا أَنْ يُسَافِرَ سَفَرًا آخَرَ لِلْعُمْرَةِ؛ لِيَكُونَ لِلْحَجِّ سَفَرٌ عَلَى حِدَةٍ وَلِلْعُمْرَةِ سَفَرٌ عَلَى حِدَةٍ. وَأَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا اتَّبَعُوا الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَاسْتَحَبُّوا هَذَا الْإِفْرَادَ عَلَى التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَيُّ الْعُمْرَةِ عِنْدَك أَفْضَلُ ؟ قَالَ: أَفْضَلُ الْعُمْرَةِ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ عُمَرُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَتَمُّ لِحَجِّكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ أَنْ تَجْعَلُوهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَنْتَ تَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ وَتَقُولُ الْعُمْرَةُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ: إنَّمَا سُئِلْت عَنْ أَتَمِّ الْعُمْرَةِ فَقُلْت فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقُلْت: الْمُتْعَةُ تُجْزِيهِ مِنْ عُمْرَتِهِ فَأَتَمُّ الْعُمْرَةِ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَقَالَ عَلِيٌّ: مِنْ تَمَامِ الْعُمْرَةِ أَنْ تَقْدَمَ مِنْ دويرة أَهْلِك وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عيينة يُفَسِّرُهُ أَنْ يُنْشِئَ لَهَا سَفَرًا يَقْصِدُ لَهُ لَيْسَ أَنْ تُحْرِمَ مِنْ أَهْلِك حَتَّى تَقْدَمَ الْمِيقَاتَ. وَقَالَ عُمَرُ: فِي الْعُمْرَةِ مِنْ دويرة أَهْلِك. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَيَجْعَلُ لِلْحَجِّ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ وَلِلْعُمْرَةِ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ قَالَ: نَعَمْ قُلْت لَهُ: فَإِنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ أَيَكُونُ هَذَا قَدْ جَعَلَ لَهُ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ وَلِلْحَجِّ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ ؟ فَقَالَ: لَا. حَتَّى يَرْجِعَ ثُمَّ يَحُجَّ. فَهَذَا مَدٌّ لِلْعُمْرَةِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَصْدٌ لِلْحَجِّ مِنْ أَهْلِهِ، هَذَا مَعْنَاهُ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنَّهُمْ يَحْكُونَ عَنْك أَنَّك تَقُولُ: الْمُتْعَةُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا فَقَالَ: أَمَّا أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَحْدَهُ فَلَيْسَ فِيهِ شَكٌّ ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ: أَنْ يَجِيءَ بِعُمْرَةِ وَحَجٍّ ؟ أَوْ أَنْ يَجِيءَ بِحَجِّ وَحْدَهُ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ إفْرَادِ الْحَجِّ. قُلْت لَهُ: وَأَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ جَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ نَعَمْ وَأَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ ثُمَّ قَالَ: نَحْوَ مَا قُلْت. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: التَّمَتُّعُ أَحَبُّ إلَيَّ هُوَ {آخر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَصَنَعْت كَمَا صَنَعْتُمْ} وَقَوْلُهُ لِأَصْحَابِهِ: " حُلُّوا " وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنْ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَيْضًا: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَنْتَ تَذْهَبُ إلَى الْمُتْعَةِ. فَقَالَ: هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ وَأَفْضَلُ. وَذَاكَ أَنَّا نَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ. قَالَ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ثُمَّ قَالَ: هَذَا بَيِّنٌ. وَكَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ يَرَيَانِهَا وَاجِبَةً وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاَللَّهِ إنَّهَا لَقَرِينَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ فَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الْحَجِّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَرِيضَةٌ فَإِذَا خَرَجَ مُتَمَتِّعًا فَقَدْ أَجْزَأَهُ مِنْ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، جَاءَ بِعُمْرَةِ مُفْرَدَةٍ وَحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ. فَأَمَّا عُمْرَةُ الْمُحَرَّمِ فَلَيْسَ بِمَجْزِيِّ عَنْهُ عِنْدِي. وَلَيْسَتْ بِعُمْرَةِ تَامَّةٍ إنَّمَا هِيَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ. {وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ: إنَّمَا هِيَ عَلَى قَدْرِ نَصَبِك وَنَفَقَتِك} وَمَعْنَى عُمْرَةِ الْمُحَرَّمِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ مَكَّةَ لِيَعْتَمِرُوا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى أَنْ يَعْتَمِرَ فَكَيْفَ مَنْ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ مَكَّةَ عَقِيبَ الْحَجِّ وَهَذَا لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ يَفْعَلُونَهُ. فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ الْمَكِّيَّةَ عَقِبَ الْحَجِّ مَعَ الْحَجِّ لَمْ يَفْعَلْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا عَائِشَةَ وَلَا كَانَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَفْعَلُونَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَفْضَلَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: الْإِفْرَادُ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ فَهَذَا غالط بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرَجَعَ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ حَجَّ أَوْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ أَنَّهُ مُفْرِدٌ لِلْحَجِّ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ فِي سَفْرَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ مُفْرِدٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا الْإِفْرَادُ هُوَ الَّذِي اسْتَحَبَّهُ الصَّحَابَةُ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ أَيْضًا عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ الِاعْتِمَارَ فِي رَمَضَانَ وَالْإِقَامَةَ إلَى أَنْ يَحُجَّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ السَّفَرُ لِلْحَجِّ أَفْضَلَ مِنْهَا. وَالتَّمَتُّعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ يَكْرَهُونَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إنْ الَّذِينَ كَرِهُوا ذَلِكَ إنَّمَا كَرِهُوا فَسْخَ الْحَجِّ إلَى التَّمَتُّعِ فَإِنَّ النَّاسَ يَقْدَمُونَ مِنْ الْآفَاقِ فَيُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ فَمَنْ جَوَّزَ الْفَسْخَ جَوَّزَ لَهُمْ الْمُتْعَةَ وَمَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَنَعَهُمْ مِنْهُ. وَالْفَسْخُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ: قِيلَ هُوَ وَاجِبٌ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَتْبَاعِهِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مُحَرَّمٌ كَقَوْلِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ: هُوَ جَائِزٌ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالْأَمْرُ بِهِ مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرَانِ بِالْمُتْعَةِ. قَالَ أَحْمَد: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَأَمَرَ بِهَا فَقِيلَ لَهُ: إنَّك تُخَالِفُ أَبَاك فَقَالَ: عُمَرُ لَمْ يَقُلْ الَّذِي تَقُولُونَ إنَّمَا قَالَ عُمَرُ: إفْرَادُ الْحَجِّ مِنْ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهَا أَتَمُّ لِلْعُمْرَةِ أَوْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتِمُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَّا أَنْ يُهْدَى. وَأَرَادَ أَنْ يُزَارَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَعَلْتُمُوهَ ا أَنْتُمْ حَرَامًا وَعَاقَبْتُمْ النَّاسَ عَلَيْهَا وَقَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ وَعَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: أَفَكِتَابَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا أَمْ عُمَرُ ؟ وَكَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِهَا فَيَقُولُونَ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَفْعَلَاهَا فَيَقُولُ يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ أَقُولُ لَكُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُنَاظِرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا فَقَالَ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك فَقَالَ: لَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَا عرية سَلْ أُمَّك يَعْنِي أَنَّهَا تُخْبِرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْلَالِ وَكَانَتْ أَسْمَاءُ مِمَّنْ أَحَلَّتْ. وَهَذِهِ الْمُشَاجَرَةُ إنَّمَا وَقَعَتْ؛ لِأَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يُوجِبُ الْمُتْعَةَ بَلْ كَانَ يُوجِبُ الْفَسْخَ وَكَانَ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ. وَيَحْتَجُّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بِالتَّحَلُّلِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. وَإِيجَابُ الْمُتْعَةِ هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالظَّاهِرِيَّ ةِ: كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَيْضًا لَكِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ؛ وَالْقِرَانُ لَكِنْ أَهْلُ مَكَّةَ وَبَنُو هَاشِمٍ وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَسْتَحِبُّونَه َا. فَاسْتَحَبَّهَا عُلَمَاءُ سُنَّتِهِ وَأَهْلُ سُنَّتِهِ وَأَهْلُ بَلْدَتِهِ الَّتِي بِقُرْبِهَا الْمَنَاسِكُ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ. وَأَبُو يُوسُفَ يَجْعَلُ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ سَوَاءً. وَإِنَّمَا جَوَّزَ الْجُمْهُورُ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةِ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةِ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ}. وَأَمَّا أَمْرُهُ لِأَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَأَلَّا يَعْتَمِرُوا عُمْرَةً مَكِّيَّةً وَإِنْ سَافَرُوا سَفَرًا آخَرَ لِلْعُمْرَةِ. وَمَنْ كَانَ هَذِهِ حَالَهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ فَالتَّمَتُّعُ كَانَ مُتَعَيِّنًا فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ. إذَا أَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا الْأَفْضَلَ لَهُمْ وَكَانَ أَوَّلًا قَدْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْفَسْخِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ لَا سِيَّمَا إذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ التَّمَتُّعُ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَافِرْ سَفْرَةً أُخْرَى وَلَمْ يَعْتَمِرْ عَقِبَ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، وَعُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَضُّؤِ لِلْمُغْتَسِلِ فَالْمُغْتَسِلُ لِلْجَنَابَةِ إذَا تَوَضَّأَ كَانَ وُضُوءُهُ بَعْضَ اغْتِسَالِهِ الْكَامِلِ كَذَلِكَ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ عِنْدَ أَحْمَد بَعْضُ حَجَّةِ الْكَامِلِ وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَهُوَ مِنْ حِينِ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ دَخَلَ فِي الْحَجِّ كَمَا أَنَّ الْمُغْتَسِلَ مِنْ حِينِ تَوَضَّأَ دَخَلَ فِي الْغُسْلِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. يَدْخُلُ فِيهِ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ. وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ حَجَّةَ الْمُتَمَتِّعِ حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ زَعَمُوا يَقُولُ بِالْمُتْعَةِ فَقِيلَ لَهُ: يَكُونُ مَجِيئُهُ حِينَئِذٍ لِلْعُمْرَةِ. فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ يُرِيدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي جَمَاعَةٍ فَتَطَوَّعَ قَبْلَهَا بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ. ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ أَزَادَهُ ذَلِكَ خَيْرًا أَمْ نَقَصَهُ ؟ ثُمَّ قَالَ أَحْمَد: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَقُولُ مَجِيئُهُ حِينَئِذٍ لِلظُّهْرِ أَوْ لِلتَّطَوُّعِ: أَيْ إنَّمَا مَجِيئُهُ لِلظُّهْرِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا قَوْلٌ مُحْدَثٌ يَعْنِي قَوْلَهُمْ حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ. قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَرَّةً أُخْرَى وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ يَعْنِي قَوْلَهُمْ حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ قَالَ إي وَاَللَّهِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ، كَلَامٌ بِغَيْظِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ بِهِ وَيَأْمُرُ بِهِ أَصْحَابَهُ وَغَلَّظَ الْقَوْلَ فِيهِ. قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِاللَّهِ مَرَّةً أُخْرَى. قِيلَ لَهُ: مَنْ قَالَ: حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ ؟ قَالَ: هَذَا قَوْلٌ مُحْدَثٌ قِيلَ لَهُ: عَمَّنْ يُرْوَى ؟ فَقَالَ: عَنْ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .