قراءة ونقد كتاب (الكوكبُ الدُّرِّي في أنَّ صومَ يومِ عرَفةَ لم يَصُمْه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
عنوان الكتاب: الكوكبُ الدُّرِّي في أنَّ صومَ يومِ عرَفةَ لم يَصُمْه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
اسم المؤلِّف: فوزي بنُ عبدِ الله الحُميدي
الناشر : مكتبة أهل الحديث- مملكة البحرين- قلالي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1437هـ – 2016م
عدد الصفحات: 96
عرض ونقد: القِسمُ العِلميُّ بمؤسَّسةِ الدُّرر السَّنيةِ
أولًا: عرضُ الكتابِ:
هذا الكِتابُ عبارةٌ عن رِسالةٍ تتحدَّثُ عن مسألةِ صومِ يومِ عَرفةَ، وفيه يَزعُمُ المؤلِّفُ أنَّه غيرُ مَشروعٍ للحاجِّ ولا لغيرِ الحاجِّ، ويَنهى عن صِيامِه، ويُنفِّرُ منه! وأنَّ الأحاديثَ الواردةَ في الحثِّ على صيامِه واستحبابِه لغيرِ الواقف بعَرَفةَ ضعيفةٌ ولا يُحتَجُّ بها!
وقد بدَأَ المؤلِّفُ كتابَه ببعضِ العناوينِ الفرعيَّةِ تَسبِقُ المقدِّمةَ، التي يهدُفُ منها إلى النَّهيِ عن صيامِ يومِ عَرَفةَ بما يُوحي للقارئِ أنَّ موضوعَ النَّهيِ هذا موضوعٌ مُنتهٍ، ولا جِدالَ ولا خِلافَ فيه!
ومع صِغَرِ حجمِ الكتابِ إلَّا أنَّ المؤلِّفَ بدَأَ كتابَه بعدَّةِ مُقدِّماتٍ مِن النُّقولاتِ حولَ آدابِ المخالَفةِ العِلْميةِ، ونُقولاتٍ عن كيفيَّةِ النَّصيحةِ، وعدَمِ التشهيرِ بالمخالِفِ بنَقلِ عدَّةِ نُصوصٍ مِن رِسالةِ الحافظِ ابنِ رجَبٍ “الفرقُ بيْن النصيحةِ والتعييرِ”، واستوعَبَ ذلك نصفَ الكتابِ تقريبًا على ما يأتي في التعقيبِ! وبعدَ ذلك بدَأ في المدخلِ للموضوعِ، وأخَذَ المدخَلُ خمْسَ صفحاتٍ أُخرى، متكلِّمًا فيه عن مسألةِ التقليدِ وإثمِ مَن يُفتي بالتقليدِ وهو غيرُ عالمٍ بخلاف العلماءِ، وذكَرَ مَن لهم حقُّ الإفتاءِ وصِفَتَهم، وصِفَةَ الجهَّالِ المتجرِّئينَ على الإفتاءِ!
وممَّا ذُكِر مِن عناوينَ: (الإمامُ يحيى بنُ مَعِينٍ رحِمَه اللهُ لم يَصُمْ يومَ عَرفةَ). (قاعدةٌ جليلةٌ: كلُّ حديثٍ فيه ذِكرُ غُفرانِ الذُّنوب الماضيةِ والمتأخِّرةِ فهو حديثٌ ضعيفٌ). (يجِبُ توقيرُ أهلِ العِلم). (أهلُ الأهواءِ لا يأخُذون إلَّا ما لهم). (ذِكرُ الدليلِ على أنَّ أبا بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه، وعمَرَ رضِيَ اللهُ عنه لم يَصُومَا يومَ عَرفةَ في المدينةِ). (يجِبُ توقيرُ طَلبةِ العِلم، وإنْ خالَفوك في أحكامِ الدِّين).
ثم بدَأَ في المقدِّمةِ، وفيها مَدخلٌ: في أنَّ الفقيهَ هو الذي يَعرِف مواقعَ الخلافِ، لا حِفظَ مُجرَّدِ الخلافِ؛ فإنَّ المقلِّدةَ بجميع أنواعِهم في هذا الزمانِ يَحفَظون الخلافَ، لكنْ لا يَعرِفون مواقعَ الخلافِ؛ فهم يَذكُرون الإجماعَ في بعضِ الأحكام بجَهلٍ بالغٍ في الفِقه الإسلاميِّ.
ثم ذكَر الدليلَ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمْ يومَ عَرفةَ؛ لا في الحجِّ ولا في غيرِه، ولم يَتحرَّ في السَّنةِ إلَّا صومَ يومِ عاشوراءَ.
ثم تحدَّثَ عن حديثِ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها: «أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمِ العشرَ الأُولى من ذي الحجةِ»، وإبطالِ الشيخ ابنِ بازٍ رحِمَه اللهُ لتأويلاتِ حديثِ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها، وأنَّه يَبعُدُ أنْ يكونَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصومُ العشرَ، ويَخفى ذلك على عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها، وتَضعيفِ الشيخِ لحديثِ حَفصةَ رضِيَ اللهُ عنها بالاضطرابِ، وإثباتِ صحَّة حديثِ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها.
ثم ذكَر سقوطَ الاجتهادِ مع وُجود النصِّ، وسقوطَ التقليدِ عند ظُهورِ النصِّ. ثم ذكَر الدليلَ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمِ العشرَ الأُولى مِن ذي الحجةِ، ولم يَصُمْ عرَفةَ وهو بالمدينةِ في السَّنةِ التاسعةِ، والدليلَ على أنَّ الصحابةَ الكرامَ لم يَنقُلوا صومَه في العشرِ الأُولى مِن ذي الحجةِ، مع أنَّ مِثلَ هذا يُحفَظُ ويُضبَطُ، وتتوفَّر الهِمَمُ والدواعي إلى نقْلِه، وذكَر الدليلَ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصحابةَ الكرامَ لم يَتحرَّوا في السَّنةِ إلَّا صومَ يومِ عاشوراءَ.
وذكَر الدليلَ على أنَّ تكفيرَ الذُّنوبِ المتقدِّمةِ والمتأخِّرة خاصٌّ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُشارِكُه فيه أحَدٌ. ثم ذكَر الدليلَ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُشرِّعْ لأهلِ الإسلامِ من الحُجاجِ وغيرِهم صومَ يومِ عَرفةَ، وأنَّ الإمام البُخاريَّ رحِمَه اللهُ لم يَرَ صومَ يومِ عَرفةَ؛ لضَعفِ حديثِ أبي قتادةَ رضِيَ اللهُ عنه في صومِ يومِ عَرفةَ.
وذكَر الدليلَ على أنَّ أفضلَ الصيامِ بعدَ شهرِ رمضانَ شهرُ اللهِ المحرَّمُ، وأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصحابةَ كانوا يَصومون يومَ عاشوراءَ، وأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمْ يومَ عَرفةَ، ولا أبو بكرٍ، ولا عمرُ، ولا عثمانُ، ولا علِيٌّ رضِيَ اللهُ عنهم!
ثانيًا: نَقدُ الكتابِ:
تَجدُرُ الإشارةُ -بدايةً- إلى أنَّ الكتابَ فيه أشياءُ عامَّةٌ جيِّدة وحَسنةٌ، وأمورٌ متَّفقٌ عليها، مِثلُ حديثِه عن الحثِّ على السُّنةِ والتحذيرِ من البِدْعة، وكذلك دعوتُه إلى عَدمِ تحكيمِ العاداتِ المألوفةِ في الدِّين، وغير ذلك، أمَّا ما زعَمَه المؤلِّفُ مِن أنَّ صيامَ يومِ عَرَفةَ ليس مِن السُّنة؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمْه؛ فهذا خلافُ ما عليه المسلِمون قديمًا وحديثًا مِن اعتقادِ مَشروعيَّةِ صِيام يومِ عَرَفةَ لغيرِ الحاجِّ، وجمهورُهم على استحبابِه لغيرِ الحاجِّ، وخلافُ ما يحُثُّ عليه العلماءُ والدُّعاةُ غيرَ الحاجِّ مِن صيامِ يومِ عَرَفةَ والترغيبِ فيه؛ لِمَا له مِن عظيمِ الأجرِ، واستدلالاتُ المؤلِّفِ ضعيفةٌ، ومخالِفةٌ لِفُهومِ أهلِ العلمِ، ومخالِفةٌ لطريقتِهم على مرِّ العصورِ، وقد خلَطَ في بحثِه –كما سيَتبيَّن- بيْن النصوصِ التي تَنهى عن صومِ عَرفةَ للحاجِّ وبيْن النصوصِ التي تُرغِّبُ في صيامِه لغيرِ الحاجِّ. وكذلك طريقةُ المؤلِّفِ الغريبةُ، وأسلوبُه في الردِّ والاعتراضِ، ورمْيُ المخالِفِ بما لا يَنبغي، وعَدمُ أمانتِه في النقلِ وحكايةِ الأقوالِ، وعَدمُ فَهمِه الصحيحِ لِمَا يَنقُلُ ولِمَا يَستدِلُّ به… إلخ، ممَّا أنكَرَه هو نفْسُه ونقَل ما يُنفِّرُ منه؛ قد وقَع في أكثرِه، كما سيَتبيَّنُ ذلك أيضًا.
وسوف نَتناولُ نقدَ الكتابِ على النحوِ التالي:
أولًا– نقدُ الكِتابِ من حيثُ المحتوى والمضمونُ:
فِكرةُ الكتابِ أو الرأيُ الذي انطلَق منه المؤلِّفُ غيرُ صوابٍ؛ حيث قرَّر عَدمَ مشروعيَّةِ صِيامِ يومِ عَرَفةَ للحاجِّ وغيرِ الحاجِّ على حدٍّ سواءٍ، واعتبَر غيرَه على خطأٍ ابتداءً، وأنَّ الحقَّ والصوابَ معه؛ ولذلك صدَّر الكتابَ بعنوانٍ يَحمِلُ الحكمَ النهائيَّ في الموضوعِ، وجعَل عُنوانَه: (الكوكبُ الدُّرِّي في أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ لم يَصُمْه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم). وقال بجُرأةٍ غريبةٍ في (ص: 49): “قلت: وصومُ يومِ عَرفةَ للمقيمِ لم يَعرِفْه الصحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم، ولم يُنقَلْ عنهم صومُهم ذلك اليومَ، وما لم يَعرِفْه الصحابةُ الكرامُ فليس مِن الدِّين بلا شكٍّ، وإنْ عمِلَ به الناسُ كلُّهم في هذا الزمانِ الحاضر”! ومشى في بَحثِه على لَيِّ أعناقِ النصوصِ والآثارِ؛ للاستدلالِ بها على هذا القولِ الغريب الشاذِّ!
التعقيبُ: لا نَدري كيف سوَّغَ المؤلِّفُ لنفْسِه أنْ يَجزِمَ بهذا القولِ وبهذا الحُكمِ؟! مع أنَّ الواقعَ خلافُ ذلك؛ فقد اختلَف الصحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم في صيامِه، ومنهم مَن صامَه في عَرفةَ وفي غيرِ عرَفةَ، كما أنَّ المراجعَ التي يَنقُل عنها المؤلِّفُ وفي الصفحاتِ نفْسِها التي رجَعَ إليها؛ فيها أدلَّةُ الاختلافِ بينهم، ومذكورٌ فيها مَن رَأى صيامَ يومِ عَرَفةَ ومَن رأى عدَمَ صيامِه، واختلافُهم هذا مع اجتماعِهم في مكانٍ واحدٍ: في المدينةِ، ومكَّةَ، وغيرِهما؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ الأمرَ واسعٌ، وقد نقَل ابنُ عبدِ البرِّ ذلك في كتابِه ((التمهيد)) (21/158)، فقال: “وكان ابنُ الزُّبيرِ وعائشةُ يصومانِ يومَ عَرفةَ، وعن عمرَ بنِ الخطَّابِ وعثمانَ بنِ أبي العاصي مِثلُ ذلك، إلَّا أنَّه قد جاء عن عمرَ أنَّه لم يَصُمْ يومَ عَرفةَ، وهذا عندي على أنَّه بعَرفةَ؛ لئلَّا تَتضادَّ عنه الرِّوايةُ في ذلك… وكان إسحاقُ بنُ راهَويهِ يَمِيلُ إلى صومِه بعَرَفةَ وغيرِ عرَفةَ، وقال قتادةُ: لا بأسَ به إذا لم يُضعِفْ عن الدُّعاء، وكان عطاءٌ يقولُ: أصومُه في الشِّتاءِ، ولا أصومُه في الصيفِ؛ وهذا لئلَّا يُضْعِفُه صومُه مع الحرِّ عن الدُّعاءِ، واللهُ أعلَمُ”. ويُنظَر في ذلك: [((التمهيد)) لابنِ عبد البرِّ (21/ 157 – 164)، و((تهذيب الآثارِ)) للطَّبَري (1/361)].
وممَّا يدُلُّ على أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ كان معروفًا لدَى الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم في عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما جاء عن أمِّ الفضلِ بنتِ الحارثِ: “أنَّ ناسًا تمارَوا عندها يومَ عَرفةَ في صومِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقال بعضُهم: هو صائمٌ، وقال بعضُهم: ليس بصائمٍ. فأرسَلَت إليه بقدَحِ لَبنٍ وهو واقفٌ على بَعيرِه، فشرِبَه”. [أخرجه البخاري (1988) واللفظ له، ومسلم (1123)].
وقد علَّق الحافظُ ابنُ حَجرٍ على هذا بقولِه: (هذا يُشعِرُ بأنَّ صومَ يومِ عَرفةَ كان معروفًا عندهم، مُعتادًا لهم في الحضَرِ، وكأنَّ مَن جزَمَ بأنه صائمٌ استنَدَ إلى ما ألِفَه مِن العبادةِ، ومَن جزَم بأنه غيرُ صائمٍ قامت عنده قرينةُ كونِه مسافرًا، وقد عرَفَ نَهيَه عن صومِ الفرضِ في السفَرِ فضلًا عن النفْلِ) [((فتح الباري)) لابن حجر (4/237)].
ولمَّا رأى المؤلِّفُ أنَّ هذا الكلامَ صريحٌ في نقْضِ كلامِه؛ زعَم في صفحةِ (67) أنَّ كلامَ الحافظِ ابنِ حَجرٍ (اجتهادٌ في مقابَلةِ النصِّ)! وقال: (فإذا وُجِدَ النصُّ فلا رأيَ ولا اجتهادَ؛ فالنقلُ هو الأصلُ، وهو المقدَّمُ على كلِّ شيءٍ في حالةِ ما يُشبِهُ التعارُضَ). فهل فَهمُ الحديثِ على وجهِه، وعلى ما فهِمَه العلماءُ منه، وما هو واضحٌ لكلِّ متأمِّلٍ؛ اجتهادٌ في مقابَلةِ النصِّ؟!
ومِن ذلك: قوله (ص: 76): (لا يُشرَعُ لأهلِ الإسلامِ -من الحُجاجِ وغيرِهم- صومُ يومِ عَرفةَ؛ لأنه أوَّلُ أعيادِهم وأكبرُ مَجامعِهم، وقد أفطَرَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَرَفةَ والناسُ ينظُرون إليه، ولم يُبيِّنْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ غيرَ الحاجِّ يصومُه)، ثم قال: (وإليك الدَّليل…)، وساق حديثَ أمِّ الفضلِ بنت الحارثِ السابقَ، وحديثَ مَيمونةَ رضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ الناسَ شكُّوا في صيامِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ عَرفةَ، فأرسَلَت إليه بحِلابٍ، وهو واقفٌ في الموقفِ، فشرِبَ منه، والناسُ ينظُرون)).
فهذان الحديثانِ واضحانِ في كونِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفطَرَ وهو واقفٌ بعرَفةَ، وليس فيهما أيُّ إشارةٍ إلى عدَمِ مشروعيَّةِ صِيامِ مَن ليس واقفًا بعَرَفةَ مِن أهلِ الأمصارِ، وهذا مِن دَيدنِ المؤلِّفِ في تأويلِ النصوصِ والمتونِ على خِلافِ ما هي عليه، واستنطاقِها بعكسِ ما يُفهَمُ منها، وليس هذا من مفهومِ المخالَفةِ أيضًا!
بل هذانِ الحديثانِ عند التأمُّلِ يَصلُحانِ أنْ يكونَا من الأدلَّةِ لِمَن يقولُ بمشروعيَّةِ واستحبابِ صَومِ يومِ عَرفةَ؛ فإنَّه لولا أنَّ الصحابةَ يَعرِفون صومَ هذا اليومِ، أو أنَّ صومَه مشهورٌ، أو أنَّ صومَ الأيامِ الفاضلةِ مُستحَبٌّ؛ لَمَا شكُّوا في صَومِه ذلك اليومَ، وإلى ذلك أشار الحافظُ ابنُ حَجرٍ، كما مرَّ.
وفيما يلي أيضًا بيانٌ مختصَرٌ لرأيِ أئمَّةِ الأمَّةِ وفُقهائها سلَفًا وخلَفًا –بعدما ذُكِرَ ذلك عن جمْعٍ من الصحابةِ والتابعين- في صومِ يومِ عَرفةَ؛ ليَتبيَّنَ شُذوذُ رأيِ المؤلِّفِ الذي زعَمه:
فقد نقَل ابنُ عبد البَرِّ في ((التمهيد)) (21/164) إجماعَ العلماءِ على مَشروعيةِ (جوازِ) صيامِ يومِ عَرَفةَ بغيرِ مكَّةَ، وسيأتي هذا النقلُ في محلِّه من هذا الردِّ.
وقد اتَّفقت المذاهبُ الفِقهيةُ الأربعةُ (الحنَفيةُ، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابِلةُ) على استحبابِ صومِ يومِ عَرفةَ، وممَّن نقَل الاتِّفاقَ على ذلك: ابنُ هُبيرةَ؛ قال: “واتَّفقوا على أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ مُستحبٌّ لمَن لم يكُنْ بعرَفةَ” [الإفصاح 3/170].
وهو أيضًا قولُ الظاهِريَّةِ -للحاجِّ وغيرِه- كما نصَّ على ذلك ابنُ حزْمٍ في ((المحلَّى)) (7/17)، وهو أيضًا قولُ الطبَريِّ، وابنِ عبدِ البرِّ، وابنِ العرَبيِّ، وابنِ قُدامةَ، والنوويِّ، وابنِ تَيميَّةَ، وابنِ حَجرٍ، وابنِ الهُمامِ، والصَّنعانيِّ، والشَّوكانيِّ، وغيرِهم مِن العلماءِ، ولم نقِفْ على أحدٍ من المتقدِّمين والمتأخِّرين قال بعَدمِ مشروعيَّةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ لغيرِ الحاجِّ.
وكذلك أفتى باستحبابِ صومِ يومِ عَرفةَ لغيرِ الحُجاجِ عامَّةُ عُلماءِ هذا العصرِ وفقهائِه، ونَذكُر هنا بعضًا منهم: فممَّن أفتى باستحبابِ صومِ يومِ عَرفةَ لغيرِ الحُجاجِ، واستدلَّ بحديثِ أبي قتادةَ: الشيخُ محمَّد بنُ إبراهيمَ آل الشيخِ مُفتي السُّعوديةِ الأسبقُ في [فتاوى ورسائل الشيخِ محمَّد بن إبراهيمَ 4/204]، والشيخ ابنُ بازٍ في [فتاوى نُور على الدَّرب 16/ 411]، والشيخ محمَّد ناصرُ الدِّين الألبانيُّ في [سِلسلة الأحاديث الضَّعيفة 1/45]، ، والشيخ ابنُ عُثَيمين في [شرح رِياض الصالحين 5/ 304]، والشيخ صالح الفوزانُ في [دُروس وفتاوى الحجِّ 1/26].
وبه أفتَتِ اللَّجنةُ الدائمة [فتاوى اللَّجنة الدائمة – المجموعة الأولى (10/ 395)]، ودارُ الإفتاءِ المِصرية [فتاوى دار الإفتاء المصرية 9/ 255].
ويُنظَر كذلك لحكايةِ المذاهبِ الفِقهية: الموسوعةُ الفِقهيةُ بموقعِ الدُّررِ السَّنية على هذا الرابطِ:
https://dorar.net/feqhia/2773
ويُرجَع أيضًا إلى هذه المراجعِ: ((بدائع الصَّنائعِ)) للكاسانيِّ (2/79)، ((فتح القديرِ)) للكمالِ ابنِ الهُمامِ (2/350). ((مواهب الجليلِ)) للحطَّابِ (3/312)، ((الفواكهُ الدَّواني)) للنَّفراويِّ (1/91). ((المجموع)) للنَّووي (6/380)، ((مُغني المحتاجِ)) للشِّربيني (1/446). ((المُغني)) لابنِ قُدامةَ (3/177)، ((الفروع)) لابن مُفلِحٍ (5/88).
وبهذا يَتبيَّنُ أنَّ جوازَ صومِ يومِ عَرفةَ لغيرِ الحُجاجِ -بلْ واستحبابُه- معروفٌ عند الصحابةِ والتابعينَ، وعامَّةِ العُلماءِ قديمًا وحديثًا، كما سيَتبيَّن أنَّ العِللَ التي ذكَرها المؤلِّفُ لم يُصِبْ في شيءٍ منها على الإطلاقِ، وأنَّه قد اختلَطَت عليه الأمورُ؛ فعمَدَ إلى الآثارِ التي تدلُّ على عدَمِ استحبابِ صيامِ يومِ عَرَفةَ للحُجاجِ، فاستدلَّ بها على عَدمِ مشروعيةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ لغيرِ الحُجاجِ، كما أنَّه أخطَأَ في استنتاجِ الأحكامِ مِن كلام العلماءِ، ومِن تَبويباتِ كُتبِ الحديثِ، وقام بِلَيِّ أعناقِ النصوصِ؛ لِيَصِلَ إلى حُكمٍ تصوَّرَه قبلَ البَدءِ في البحثِ، ثم إنَّه لم يَعتمِدْ رأيَ المذاهبِ الفِقهيَّة في المسألةِ؛ ويكونُ بذلك قد خالَف أُصولَ المنهجِ العِلميِّ في البحثِ الشرعيِّ، وأثبَتَ أنَّه لا يستطيعُ معرفةَ كيفيَّةَ الخُلوصِ إلى الحكمِ الصحيحِ.
ومِن المُؤاخذاتِ: أنَّ المؤلِّفَ لم يَذكُرْ حديثَ أبي قتادةَ رضِيَ اللهُ عنه، ولا تخريجَه، ولا مواطنَ ضَعفِه، إلَّا بما توهَّمَ أنَّه معارَضٌ به، وحديثُ أبي قتادةَ رضِيَ اللهُ عنه هو: ((صِيامُ يَومِ عَرفةَ أحتسِبُ على اللهِ أنْ يُكفِّرَ السنةَ التي قبْلَه والسَّنةَ التي بعْدَه))، والحديثُ أخرَجه مسلمٌ في صحيحِه (2/ 818)، ولا مَطعَنَ فيه، وصحَّحه جمعٌ غفيرٌ من العلماءِ، والقولُ بأنه منقطعٌ؛ لعَدمِ سَماعِ عبدِ اللهِ بنِ مَعبَدٍ الزِّمَّانيِّ مِن أبي قتادةِ: كلامٌ غيرُ مقبولٍ؛ كما قال ابنُ حزْمٍ في [(المحلَّى: 7/19)]: “أمَّا سماعُ عبدِ اللهِ بنِ مَعبَدٍ مِن أبي قتادةِ؛ فعبدُ اللهِ ثقةٌ، والثِّقاتُ مقبولون، لا يَحِلُّ ردُّ رِواياتِهم بالظُّنون”.
وممَّا يدُلُّ على معاصَرةِ عبدِ الله بنِ مَعبَدٍ أبا قتادةَ: أنَّ أبا قتادةَ تُوفِّي سنةَ أربعٍ وخمسينَ في قولِ الأكثرينَ، وقيل: إنه تُوفِّيَ سنةَ ثمانٍ وثلاثين؛ قال ابنُ حَجرٍ في [تقريب التهذيب /1192]: (والأولُ أصحُّ وأشهرُ)، وقال عن الثاني: (وهو شاذٌّ، والأكثرُ على أنَّه مات سنةَ أربعٍ وخمسينَ)، وذكَر الذَّهبيُّ في [سير أعلام النُّبلاء 4/207]: أنَّ عبدَ اللهِ بنَ مَعبَدٍ مات قبلَ المئةِ؛ فعلى هذا تكونُ مُعاصرتُه لأبي قتادةَ ظاهرةً. وقد روى البُخاري في ((التاريخ الكبير)) 2/377 حديثًا مِن روايةِ عبدِ الله بنِ مَعبَدٍ الزِّمَّانيِّ عن أبي هُريرةَ، ولم يَتعقَّبْه بشيءٍ يَتعلَّقُ بسَماعِ عبدِ الله بنِ مَعبَدٍ مِن أبي هُريرة، وأبو هُريرة تُوفِّي سنةَ سبعٍ وخمسينَ على المُعتمَدِ، كما ذكَر ابنُ حَجرٍ في “الإصابة في تمييز الصحابة” (7/ 362)؛ فعلى هذا يكونُ سماعُ عبدِ الله بنِ مَعبَدٍ مِن أبي قتادةَ ممْكنًا؛ لتقارُبِ وفاتَيْ أبي قتادةَ وأبي هُريرةَ.
ومِن المؤاخَذاتِ: قولُ المؤلِّفِ (ص:5): (الإمامُ يحيى بنُ مَعِينٍ لم يَصُمْ يومَ عَرفةَ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ الحديثَ لم يَثبُتْ عنده، بل لم يَعرِفِ الحديثَ أصلًا، والحديثُ الذي لم يَعرِفْه الإمامُ ابنُ مَعِينٍ ليس بحديثٍ؛ فكيف العملُ به؟!”
التعقيبُ: هذا القولُ هو أوَّلُ الألفاظِ التي كتَبها المؤلِّفُ في كتابِه، ولم يَذكُرِ الحديثَ المقصودَ الذي لم يَعرِفْه الإمامُ يحيى بنُ مَعِينٍ، بل ترَك القارئَ يُخمِّنُ أنَّ المقصودَ هو الحديثُ الذي فيه صحَّةُ صِيامِ يومِ عَرفةَ، وهذا خطأٌ مَنهجيٌّ في التصنيفِ؛ إذ لا بُدَّ مِن ذِكرِ القولِ المُعتَرَضِ عليه أوَّلًا، ثم تَفنيدُه بالحُجةِ والدليلِ النَّقليِّ والعقليِّ.
ولا يَختلِفُ أحدٌ على أنَّ ابنَ مَعِينٍ حُجةٌ عندَ أهلِ الحديثِ، وإنَّ مَا يُذكَرُ -والذي ذكَره المؤلِّفُ- في حقِّ ابنِ مَعِينٍ إنما يكونُ على سبيلِ التوقيرِ والإكبارِ؛ لمَنزلتِه وفضْلِه، لا على سبيلِ التشريعِ؛ فمقولةُ: “كلُّ حديثٍ لا يَعرِفُه يحيى ليس بحديثٍ” مقولةٌ لا يُبْنى عليها قَبولُ الأحاديثِ أو رَفضُها، وليست أصلًا مِن الأصولِ، وإلَّا لَضعَّفنا كلَّ الأحاديثِ التي لم يَعرِفْها يحيى بنُ مَعِينٍ، بل هناك أحاديثُ ضعَّفها يحيى بنُ مَعِينٍ، وبعدَ البحثِ والتحرِّي في السَّندِ والمتْنِ يتيبيَّنُ أنها صحيحةٌ لا غُبارَ عليها. وقائلُ هذه العبارةِ هو الإمامُ أحمدُ بن حَنبلٍ، كما في [تهذيب الكمال: 31/ 559]، وقالها في تَعظيمِ شأْنِ يحيى بنِ مَعِينٍ في عِلمِ الحديثِ، ولا يَقصِدُ بها أبدًا أنَّ يحيى بنَ مَعِينٍ قد استوعَبَ كلَّ الأحاديثِ والآثارِ دونَ غيرِه. ثم مَن قال: إنَّ صومَ يومِ عَرفةَ أو إفطارَه كان دَيدنَ الإمامِ يحيى بنِ مَعِينٍ؟! فلعلَّه أفطَرَ في سنَةٍ، وصامَه في سنواتٍ أُخرى!
وبعد ذلك ذكَر المؤلِّفُ (ص: 5): (عن يعقوبَ بنِ إبراهيمَ بن كثيرٍ الدَّورقيِّ قال: رأيتُ يحيى بنَ مَعِينٍ عشيَّةَ عرَفةَ في مسجدِ الجامعِ قد حضَرَ مع الناسِ، ورأيتُه يشرَبُ ماءً، ولم يكُنْ بصائمٍ). قال المؤلِّفُ عَقِبَه: (وهذا يدُلُّ على أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ لم يكُنْ معروفًا عندَ الإمامِ…، ولا الناسِ…، لذلك لم يُنكِرْ عليه أحدٌ مِن الناسِ).
التعقيب: بل ذِكْرُ هذا وتقييدُه يدُلُّ على أنَّ صِيامَ يومِ عَرَفةَ كان معلومًا معروفًا؛ ممَّا اضطَرَّه إلى تَسجيلِ مثلِ هذا الحدَثِ ونقْلِه، وهو واضحٌ لمَن تأمَّلَه. والإنكارُ إنما يكونُ في تركِ الواجباتِ دونَ عُذرٍ أو رُخصةٍ، لا في ترْكِ الفضائلِ والمستحبَّاتِ، كما في حديثِ أبي سعيدٍ رضِيَ اللهُ عنه قال: ((كنَّا نسافرُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رمضانَ، فما يُعاب على الصائمِ صومُه، ولا على المُفطِرِ إفطارُه)) [أخرجه مسلم].
ومِن المؤاخَذات: استدلالُ المؤلِّفِ بقاعدةٍ للشيخِ ابنِ عُثَيمين (أنَّه إذا أتاك حديثٌ فيه: أنَّ مَن فعَلَ كذا غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنْبِه وما تأخَّرَ؛ فاعلَمْ أنَّ قولَه: ((ما تأخَّر)) ضعيفٌ لا يصِحُّ) (ص:6).
التعقيب: هذه القاعدةُ وإنْ كانت صحيحةً، فإنَّ الاستدلالَ بها على تضعيفِ حديثِ صومِ يومِ عَرفةَ ليس في مَحلِّه؛ لأنَّ الحديثَ فيه تحديدُ سَنتينِ فقطْ -سَنَةٍ قبْله، وسَنَةٍ بعده- وليس العمرَ بأكمَلِه، أو ما تأخَّرَ بأكمَلِه، بل هي سَنةٌ واحدةٌ مُقبِلةٌ، والدليلُ القاطعُ على هذا: أنَّ الشيخَ ابنَ عُثَيمين لم يُطبِّقْ هذه القاعدةَ على يومِ عَرفةَ، وكان يُفتي باستحبابِه ويُحافِظ على صِيامِه. كما أنَّ هذا مِن نُصوصِ الوعدِ، وفضْلُ اللهِ واسعٌ ولا يُحَدُّ. والعجيبُ أنَّ المؤلِّفَ لَمَّا علِمَ هذا من حالِ الشيخِ: زعَم في هامشِ الصفحةِ أنَّ الشيخَ قد خفِيَ عليه تطبيقُ تلك القاعدةِ على حديثِ يومِ عَرفةَ!
وكذلك قال المؤلِّفُ: (وكلُّ ما يرِدُ في الأخبارِ مِن تكفيرِ الذُّنوبِ المُستقبَلةِ فهي ضعيفةٌ؛ لِتَخصيصِ ذلك بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحْدَه)، ثم قال: (ومِن هذه الأخبارِ الضعيفةِ خبَرُ صومِ يومِ عَرفةَ؛ فإنه يُكفِّرُ سَنةً ماضيةً، وسَنةً مُستقبَلةً)، وقال (ص:51): (وهذا يدُلُّ على أنَّ حديثَ أبي قَتادةَ رضِيَ اللهُ عنه في فضْلِ يومِ عَرفةَ قد أنكَره بعضُ العلماءِ؛ ممَّا يتبيَّنُ أنَّه غيرُ مُجمَعٍ على صحَّتِه)!
التعقيب: قولُ المؤلِّفِ هذا يُشِير إلى حديثِ أبي قتادةَ رضِيَ اللهُ عنه في صحيحِ مسلمٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((صيامُ يومِ عَرفةَ أحتسِبُ على اللهِ أنْ يُكفِّرَ السنةَ التي قبْلَه والسَّنةَ التي بعْدَه))، وفي روايةٍ: وسُئِلَ عن صومِ يومِ عَرفةَ، فقال: ((يُكفِّرُ السَّنةَ الماضيةَ والباقيةَ))، ويُمكِن إجمالُ الردِّ عليه في الآتي:
أولًا: بذِكْرِ بعضِ كلامِ أهل العِلم في توضيحِ هذا الأمْرِ الذي يَستشكِلُه، ويُطبِّقُ عليه تلك القاعدةَ تطبيقًا مغلوطًا مرودًا:
قال النَّوويُّ في [((المجموع)) (6/381)]: (واختلَفَ العلماءُ في معنى تَكفيرِ السَّنةِ الباقيةِ المُستقبَلةِ؛ فقال بعضُهم: معناه إذا ارتكَبَ فيها معصيةً، جعَل اللهُ تعالى صومَ يومِ عَرفةَ الماضي كفَّارةً لها، كما جعَله مُكفِّرًا لِمَا في السَّنةِ الماضيةِ، وقال بعضُهم: معناه أنَّ اللهَ تعالى يَعصِمُه في السَّنةِ المُستقبَلةِ عن ارتكابِ ما يَحتاجُ فيه إلى كفَّارةٍ، وقال صاحبُ العُدَّةِ: في تَكفيرِ السَّنةِ الأخرى يَحتملِ مَعنيينِ: أحدَهما: المرادُ السَّنةُ التي قبْلَ هذه، فيكونُ معناه أنْ يُكفِّرَ سنتينِ ماضيتينِ، والثانيَ: أنَّه أراد سَنةً ماضيةً، وسَنةً مُستقبَلةً).
وقال الشَّوكاني في [((نَيل الأوطار)) (4/324)]: (وقد استُشكِلَ تكفيرُه السَّنةَ الآتيةَ؛ لأنَّ التكفيرَ التَّغطيةُ، ولا تكونُ إلَّا لشَيءٍ قد وقَعَ، وأُجِيبَ بأنَّ المرادَ يُكفِّرُه بعدَ وُقوعِه، أو المُراد: أنَّه يَلطُفُ به، فلا يأْتي بذنْبٍ فيها؛ بسَببِ صِيامِه ذلك اليومَ).
وثانيًا: أنَّ حديثَ أبي قتادةَ له نظائرُ في تَكفيرِ الذُّنوبِ المُستقبَلةِ أو الماضيةِ؛ منها: حديثُ أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن اغتسَلَ، ثم أتى الجُمعةَ، فصلَّى ما قُدِّرَ له، ثم أنصَتَ حتى يَفرُغَ مِن خُطبتِه، ثم يُصلِّي معه؛ غُفِرَ له ما بيْنه وبين الجُمعةِ الأُخرى، وفضْلَ ثلاثةِ أيَّامٍ)) وهذا أخرجه مسلمٌ: (857).
وقال النَّوويُّ في شرحِه على صحيحِ مسلمٍ: (6/147): (قال بعضُ أصحابِنا: والمرادُ بما بيْن الجُمعتينِ: مِن صلاةِ الجُمعةِ وخُطبتِها إلى مِثلِ الوقتِ مِن الجمعةِ الثانيةِ، حتى تكونَ سبعةَ أيَّامٍ بلا زيادةٍ ولا نُقصانٍ، ويُضَمُّ إليها ثلاثةٌ، فتَصيرُ عشَرةً).
ومنها حديثُ علِيٍّ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لعلَّ اللهَ أنْ يكونَ قد اطَّلعَ على أهلِ بَدْرٍ فقال: اعمَلوا ما شِئتُم؛ فقد غفَرْتُ لكم)) أخرجه البُخاري (3007) واللفظ له، ومسلم (2494).
قال ابنُ حَجرٍ في [((فتح الباري)) (7/305-306)]: (قِيل: إنَّ صِيغةَ الأمرِ في قولِه: “اعمَلوا” للتَّشريفِ والتكريمِ، والمرادُ عَدمُ المؤاخَذةِ بما يَصدُر منهم بعدَ ذلك، وأنهم خُصُّوا بذلك؛ لِمَا حصَلَ لهم مِن الحال العظيمةِ التي اقتَضَت مَحوَ ذُنوبِهم السابقةِ، وتأهَّلوا لأنْ يَغفِرَ اللهُ لهم الذُّنوبَ اللاحقةَ إنْ وقَعَت. أي: كلُّ ما عمِلْتموه بعدَ هذه الواقعةِ مِن أيِّ عملٍ كان فهو مَغفورٌ).
فهل طبَّقَ أحدٌ مِن العلماءِ قديمًا وحديثًا هذه القاعدةَ على هذينِ النَّصينِ وغيرِهما ممَّا يُشبِهُهما، وحكَموا بضَعْفِ هذه الأخبارِ بناءً على تلك القاعدةِ؟!
ومِن المؤاخَذات: قولُه في صفحة (9): (عن سُليمانَ الأحولِ رحِمَه اللهُ قال: ذكَرْنا لطاوسٍ صومَ يومِ عَرفةَ، وأنَّه كان يُقال: كفَّارةُ سَنتينِ، فقال طاوسٌ: فأين كان أبو بكرٍ وعمَرُ عن ذلك؟! يعني أنَّهما كانا لا يَصومانِه).
وكأنَّ المؤلِّفَ هنا قد دخَل في صُلبِ مَوضوعِه بهذا الحديثِ، ولكنه طيلةَ 40 صفحةً بعدَ هذا لم يَتكلَّمْ عن صومِ يومِ عرَفةَ!
التعقيب: المؤلِّفُ قال بصِحَّةِ هذا الأثرِ دونَ نقْلِ تصحيحِ عن أحدٍ من العُلماءِ، والحديثُ مُنقطِعٌ؛ فطاوسٌ لم يُدرِكْ أبا بكرٍ ولا عمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما؛ قال أبو زُرْعةَ الرازيُّ: “طاوسٌ عن عمَرَ؛ مرسَلٌ” [((المراسيل)) لابنِ أبي حاتم (ص: 100)]، ولو سلَّمْنا بصِحَّةِ هذا الأثرِ -على حسب قولِه- فإنَّ شاهدَه عند التِّرمذيِّ عن أبي نَجِيحٍ قال: “سُئِلَ ابنُ عمَرَ عن صومِ يومِ عَرفةَ بعرَفةَ، فقال: حجَجْتُ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يَصُمْه، ومع أبي بكرٍ فلم يَصُمْه، ومع عمَرَ فلم يَصُمْه، ومع عُثمانَ فلم يَصُمْه، وأنا لا أصومُه، ولا آمُرُ به، ولا أنْهى عنه”. وقد بوَّب التِّرمذيُّ لهذا الحديثِ بقولِه: “بابُ كراهيةِ صومِ يومِ عَرفةَ بعرَفةَ” [((سنن الترمذي)) (751)]؛ فهو ظاهرٌ في صومِ يومِ عَرفةَ بعَرَفةَ للحاجِّ، وخارجٌ عن موضوعِنا، والمؤلِّفُ استدلَّ بهذا على العمومِ للحاجِّ وغيرِه. وفي روايةِ الفاكهيِّ في أخبارِ مكَّةَ التي عزَا إليها المؤلِّفُ أيضًا: جُملةٌ مهِمَّةٌ تُوضِّح المرادَ مِن الحديثِ لم يَذكُرْها المؤلِّفُ؛ وهي قولُ الفاكهيِّ: “يعني يومَ عَرفةَ في الحجِّ [((أخبار مكة)) للفاكهي (2783)]! فجاء الجوابُ على قدْرِ حالِ المُسْتفتي الذي قد فهِمَ مِن ترغيبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صيامِ عرَفةَ أنَّه يَشمَلُ الحاجَّ.
وأيضًا عزا المؤلِّفُ هذا الأثَرَ للطَّبريِّ، ولو راجَعَ المؤلِّفُ كلامَ الطبريِّ في تعليقِه على صومِ يومِ عرَفةَ والخلافِ فيه؛ لَعرَفَ منه طريقةَ أهلِ العلمِ في الكتابةِ؛ قال الطَّبريُّ: “فأمَّا الخبرُ الذي رُوِيَ عن عمرَ، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ كفَّارةُ سَنتينِ، فإنه مَعنِيٌّ به صومُه في غيرِ عرَفةَ. وكذلك كلُّ ما رُوِيَ في ذلك عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنه مُرادٌ به صومُه بغيرِ عرَفةَ” [((تهذيب الآثار- مسند عمر)) للطبري (1/350].
ومِن الجُرأةِ العجيبةِ لدى المؤلِّف: قولُه في حاشية (ص: 50): (وأمَّا الصحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم فأجْمَعوا على عَدمِ مَشروعيةِ صومِ يومِ عَرفةَ)!
فكيف يَجرُؤُ على ذِكْرِ إجماعِ الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم على هذا الأمرِ، مع ما ثبَتَ وصحَّ، واشتُهِرَ عن جمْعٍ من الصحابةِ أنهم صاموا يومَ عَرفةَ؛ ممَّا ذكَرْنا أمثلةً قليلةً عليه هنا في هذا الردِّ!
ومِن ذلك أيضًا ما ذكَره الإمامُ ابنُ حزْمٍ بسنَدِه: أنَّه قد صامه غيرُ واحدٍ مِن الصحابةِ، منهم عثمانُ بنُ عفَّانَ في يومٍ حارٍّ يُظلَّلُ عليه، وعائشةُ أمُّ المؤمنين كانت تصومُ يومَ عَرفةَ في الحجِّ. ويُنظُر الآثارُ الثابتةُ عنهم في صومِ يومِ عَرفةَ في: ((مصنَّف ابن أبي شَيبة)) (3/96)، و((تهذيب الآثار)) لابن جرير الطَّبريِّ (2370) و(2371)، و((مصنَّف عبد الرزَّاق)) (7830)، وغيرِ ذلك.
ومِن الردِّ الصريحِ الواضحِ على كلامِ المؤلِّفِ: قولُ ابنِ جريرٍ الطَّبريِّ في “تهذيب الآثارِ مُسند عمر” (1/ 365): (وبعدُ: فإنَّ كراهةَ الصومِ ذلك اليومَ لمَن صامَه غيرُ مُجمَعٍ عليه، بل ذلك مُختلَفٌ فيه، وقد اختار صومَه على إفطارِه جماعةٌ مِن الصحابةِ والتابعينَ، حتى لقد صامَه جماعةٌ منهم بعرَفةَ…)؛ فابنُ جريرٍ الإمامُ يَحكي الخلافَ صراحةً، والمؤلِّفُ يدَّعي الإجماعَ على عَدمِ المشروعيَّةِ!
وقال الشَّوكانيُّ في ((نَيل الأوطار)) (4/284) عند شرحِه لحديثِ أبي قتادةَ: (والحديثُ يدُلُّ على استحبابِ صومِ يومِ عَرفةَ، وكذلك الأحاديثُ الواردةُ في معناه التي قدَّمنا الإشارةَ إليها، وإلى ذلك ذهَبَ عمرُ، وعائشةُ، وابنُ الزُّبيرِ، وأسامةُ بنُ زيدٍ، وعثمانُ بن أبي العاصِ، والعِترةُ، وكان ذلك يُعجِبُ الحَسنَ ويَحكِيه عن عثمانَ…).
بل المؤلِّفُ نفْسُه ناقَض نفْسَه؛ فقد حَكى (ص: 28 هامش 2) أنَّ المسألةَ خِلافيةٌ، وأنكَر على مَن لا يَعرِفُ إلَّا قولًا واحدًا في المسألةِ؛ فكيف تكونُ خلافيةً بعدَ إجماعِ الصحابةِ؟!
بل أنْكَى مِن هذا: أنَّ ابنَ عبد البَرِّ نقَل في ((التمهيد)) (21/164) إجماعَ العلماءِ –وعلى رأسِهم صحابةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- على مشروعيَّةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ بغيرِ مكَّةَ؛ حيث قال: ((وقد أجمَع العلماءُ على أنَّ يومَ عَرفةَ جائزٌ صِيامُه للمُتمتِّعِ إذا لم يجِدْ هدْيًا، وأنَّه جائزٌ صيامُه بغيرِ مكَّةَ، ومَن كرِهَ صومَه بعَرَفةَ فإنما كرِهَه مِن أجلِ الضَّعفِ عن الدُّعاءِ والعملِ في ذلك الموقفِ والنَّصبِ للهِ فيه…))! فهذه حكايةُ إجماعٍ مِن إمامٍ ثقةٍ، وهو ضِدُّ القولِ الذي يَزعُم المؤلِّفُ أنَّ عليه إجماعَ الصحابةِ!
فما أعظَمَ جُرأةَ المؤلِّفِ! وما أظهَرَ مُخالَفتَه لِمَا أصَّلَه في بحثِه هذا، ونعى على المقلِّدةِ بجميعِ أنواعِهم في هذا الزمانِ بأنهم (يَحفَظون الخلافَ، لكنْ لا يَعرِفون مواقعَ الخلافِ؛ فهم يَذكُرون الإجماعَ في بعضِ الأحكام بجَهلٍ بالغٍ في الفِقه الإسلاميِّ)؛ فإنَّ المؤلِّفَ بصَنيعِه -الجُرأةِ على ادِّعاءِ هذا الإجماعِ- أحقُّ بوصْفِ نفْسِه، وأنَّه ممَّن (يَذكُرون الإجماعَ في بعضِ الأحكام بجَهلٍ بالغٍ في الفِقه الإسلاميِّ)!
ومِن المؤاخَذات: قولُه في صفحة (55- 57): (فعن عُقبةَ بنِ عامرٍ رضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يومُ عرَفةَ، ويومُ النَّحرِ، وأيَّامُ التشريقِ عِيدُنا أهلَ الإسلامِ، وهي أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ»، ثم يُعلِّقُ على الحديثِ بقولِه: (عِيدُنا أهلَ الإسلامِ)؛ هذا عامٌّ لجميعِ المسلمين من الحُجاجِ وغيرِهم، ولم يَثبُتْ أيُّ دليلٍ يُخصِّصُ هذا العامِّ بأنَّ هذا خاصٌّ بمَن كان بعَرَفةَ من الحُجاجِ؛ فالحديثُ يدُلُّ على أنَّ هذه الأيامَ الخمسةَ -بما فيها يومُ عَرفةَ- أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ للحاجِّ وغيرِ الحاجِّ، وهذا المعنى يُوجَدُ في العيدينِ وأيَّامِ التشريقِ أيضًا؛ فإنَّ الناسَ كلَّهم فيها في ضِيافةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لا سيَّما عيدُ النَّحرِ؛ فإنَّ الناسَ يأكُلون مِن لُحومِ نُسكِهم؛ أهلُ الموقفِ، وغيرُهم، فلا يَصومُنَّ أحدٌ… لذلك ذهَب بعضُ أهلِ العلمِ إلى هذا الحديثِ؛ فكرِهوا به صومَ يومِ عَرفةَ، وجعَلوا صومَه كصومِ يومِ النَّحرِ).
يتبع