سيبويه .... حجة النحويين
سيبويه مقدمة :

إن اللغة العربية كالبحر العظيم الغائر لا تحده حدود ، ولا تعرف له عمقاً، ومن هذه اللغة خرجت الفنون الأدبية وعلوم الحديث وعلوم الكلام ، فمنذ أمد بعيد اشتهر العرب بفصاحتهم وبيانهم وتفوقهم على باقي أهل الأرض في الفنون اللغوية وعلوم الكلام إلى أن جاء الإسلام ليصبح للغة العربية مكانة خاصة تتزاهى وتتفاخر بها فأعظم معجزة عرفها البشر وهي القران الكريم نزلت بهذه اللغة العظيمة حتى صار تعلم الدين الإسلامي واعتناقه يتطلب معرفة وفهم للكلمات والمفردات العربية بل ويتطلب في بعض الأحيان الغوص في أعماق اللغة ومعرفة خباياها وأسرارها حتى أصبح لهذه اللغة أنصار ومحبون من غير العرب ، يحبونها ويتغزلون في مدحها وصدق الشاعر الذي قال :

لغتي وما لك في الجمال مثيل ... لغتي وما لك في البهاء عدي لرقراقة كالسلسبيل ترقرقاً .... كالجدول المختال حين يسيل فكان لهذه اللغة علماء وفنانون عرب وعلماء وأعلام أعجميون عرَّبـهم الإسلام , حتى كان منهم أصحاب المؤلفات الرائعة , في قواعد اللغة العربية وفي بلاغة القرآن الكريم بل إن أعظم كتاب في النحو العربي هو كتاب سيبويه الفارسي الذي يعد أعظم رجالات اللغة العربية وأحد علمائها الأوائل مع الخليل بن أحمد الفراهيدي وأبو الأسود الدؤلي وغيرهم .. ومن خلال هذا البحث المتواضع نعرف بهذا الرجل ونشأته ونتحدث عن أهم أعماله ومؤلفاته وجهوده في وضع القواعد والأسس اللغوية والنحوية ونتحدث عن كتابه الذي أصبح مرجعا لكل النحويين وطلاب العلم ويكفي سيبويه فخراً أن كتابه سمي من بعده باسم ( قرآن النحو ).

من هو سيبويه ؟هو أبو بشر عمر بن عثمان بن قمبر مولى بن الحارث بن كعب وقيل: مولى الربيع بن زياد الحارث البصري ، وقد اشتهر بلقب (سيبويه) الذي غطى على اسمه وكنيته بل وتخلد اسمه حتى وقتنا الحاضر بسيبويه حتى صار يضرب به المثل في الفصاحة ومعرفة الأصول والقواعد اللغوية والنحوية ولذلك لقب بحجة النحويين !

وسيبويه فارسي الأصل حيث لد في حدود عام (140هـ / 756 م ) على أرجح الأقوال في مدينة البيضاء ببلاد فارس، وهي أكبر مدينة في إصطخر وتقع على بعد ثمانية فراسخ من شيراز ( إيران حالياً ) وقال غيرهم أنه ولد في مدينة ( سارة ) ببلاد فارس.

وقد كانت أمه تحب أن تراقصه وتدلـله في الصغر فكانت تناديه ( سيبويه ) ، وهي كلمة فارسية مركبة وتعني "رائحة التفاح" ، حيث أن السِّيْب هو : التفاح ، ووَيْه : رائحته ، أي : رائحة التفاح ، وقيل سمي بسيبويه لجماله وحمرة بوجنتيه ..

بدايته مع العلم مع امتداد الدولة العباسية وتوسعها جاء سيبويه من مدينة البيضاء ببلاد فارس إلى البصرة في العراق وهو غلام صغير؛ لينشأ بها قريبا من مراكز السلطة والعلم، وذلك بعد أن أفسحت الدولة العباسية المجال للفرس والأعاجم كي يتولوا أرفع المناصب وأعلاها ، ويرى بعض الباحثين أن سيبويه وفد إلى البصرة بعد سن الرابعة عشرة، وهذا الرأي هو ما يرجحه الكثيرون وذلك لأن الناظر والمتفحص في كتاب سيبويه يوقن أن صاحبه كان على دراية كبيرة باللغة الفارسية وكأنها لغته الأم.

عندما قدم سيبويه إلى البصرة التي كانت حاضرة العلم والثقافة والأدب وكانت تعج بكبار الأئمة والعلماء والفقهاء أخذ ينهل من مناهل العلم والأدب والحديث، وقد كان سيبويه وقتها ما زال فتى يافعاً يدرج مع أقرانه إلى مجالس العلماء والمحدثين فيتلقى في ربوع البصرة الفقه والحديث، وقد قال ابن عائشة :في ذكر سيبويه : كنا نجلس مع سيبويه النحوي في المسجد ، وكان شابا نظيفا جميلا ، قد تعلق من كل علم بسبب، وضرب من كل أدب بسهم، مع حداثة سنه وبراعته في النحو.

وقال محمد بن سلام : كان سيبويه جالسا في حلقة بالبصرة فتذاكرنا شيئاً من حديث قتادة فذكر حديثا غريبا وقال : لم يرو هذا الحديث إلا سعيد بن أبي العروبة .

فقال له بعض ولد جعفر : ماهاتان الزيادتان يا أبا بشر ؟فقال : هكذا يقال ، لأن العروبة يوم الجمعة ، فمن قال عروبة فقد أخطأ.
قال ابن سلام : فذكر تذلك ليونس بن حبيب فقال : أصاب ، لله درّه.



ومما روي عنه أنه ذات يوم ذهب إلى شيخه حماد البصري ليتلقى منه الحديث ويستملي منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء…"

ولكن سيبويه أخطأ لقدر قدره الله له، وهو يقرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليقرأ الحديث على هذا النحو: "ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت ليس أبو الدرداء …"

فصاح به شيخه حماد : لَحَنْتَ يا سيبويه، إنما هذا استثناء؛فقال سيبويه: والله لأطلبن علمًا لا يلحنني معه أحد، ثم مضى ولزم الخليل بن أحمد الفراهيدي وغيره. ومن هنا كانت البداية الحقيقية للغلام الصغير سيبويه ليصبح بعدها إمام المتقدمين والمتأخرين في النحو وإمام النحاة الذي إليه يرجعون، وعلم النحو ونبراسه والذي إليه ينظرون، وصاحب كتاب النحو الذي سيبقى خالداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أو إلى أن يحدث الله أمراً كان مفعولا .



شيوخه ومعلموه :

تتلمذ سيبويه على يد العديد من كبار الشيوخ والعلماء الذين عاشوا في عصره إبان الدولة العباسية ، ونخص منهم أربعة من علماء اللغة ..

أولهم : عبقري العربية وإمامها الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو أكثرهم تأثيرًا فيه، ، دونسائر أساتذة سيبويه حيث كان الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب ( العربية ) ومنشىء علم العروض ومؤلف كتاب العين وأحد أعظم أساتذة النحو واللغة في عصره .

وقد أخذ «الخليل بن أحمد» العلم عن «أبي عمرو بن العلاء» والذي كان علماً في القراءة والعربية، والذين يترجمون الخليل يجمعون على انه كان من الزاهدين، المنقطعين إلى الله، وكان إماماً في العربية، كما كان الغاية في استخراج مسائل النحو، وتصحيح القياس، كما كان أول من استنبط علم العروض الذي لم يأخذه عن أستاذ قبله.

وقد كان «الخليل بن أحمد الفراهيدي» السباق إلى تدوين اللغة وترتيب ألفاظها على مخارج حروف الهجاء، وكانت بين يديه الحروف العربية، وهي الأبجدية، أي: أبجد هوز، حطي كلمن.

ولذلك استفاد سيبويه ايما استفادة من معلمه الخليل فقد روى عنه سيبويه في الكتاب 522 مرة، وهو قدر لم يروِ مثله ولا قريبًا منه عن أحد من أساتذته، وهو ما يجسد خصوصية الأستاذية التي تفرد بها الخليل بن أحمد رحمه الله .

ويقول ابن النطاح في حب الخليل لمجالسة سيبويه : كنت عند الخليل ابن أحمد فأقبل سيبويه فقال الخليل : مرحبا بزائر لا يمل.
فقال أبو عمر المخزومي وكان كثير المجالسة للخليل : ما سمعت الخليل يقولها لأحد إلا لسيبويه !

وثاني معلمي سيبويه هو أبو الخطاب الأخفش، وفي النحويين ‏(‏أخافش‏)‏ ثلاثة مشهورون‏:‏أكبر م‏:‏ ‏(‏أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد‏)‏، وهو الذي ذكره ‏(‏سيبويه‏)‏في كتابه‏.‏ والثاني‏:‏ ‏(‏سعيد بن مسْعَدة أبو الحسن‏)‏، الذي يروى عنه كتاب‏(‏سيبويه‏ )‏، وهو صاحبه‏.‏ والثالث‏:‏ ‏(‏أبو الحسن علي بن سليمان‏)‏، صاحب أبوي العباس النحويين‏:‏ ‏(‏أحمد بن يحيى الملقب بثعلب‏)‏، و‏(‏محمد بن يزيد الملقب بالمبرد‏)‏‏ ، كما أن أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قد أخذ علومه عن أبو الخطاب الأخفش .

وثالث معلمي سيبوبه العلامة عيسى بن عمرو، ورابعهم: أبو زيد النحوي، كما أخذ سيبويه العلم عن يونس بن حبيب وغيرهم من علماء وشيوخ الدولة العباسية في البصرة .

ومن الغريب في حياة سيبويه العلمية أنه لما مات - رحمه الله – كان أغلب شيوخه ومعلميه مازالوا على قيد الحياة !

سيبويه والكسائي ومؤامرة تحاك :

في البداية نتعرف على الكسائي ونقول أن يكنى بأبو الحسن , واسمه علي بن حمزة بن عبد الله الكسائي الأسدي , وهو إمام نحاة الكوفة وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات , و بلغ عند هارون الرشيد منزلة عظيمة, وقد كان الناس يأخذون عنه ألفاظه بقراءته عليهم , و ينقطون مصاحفهم بقراءته وقد اجتمعت في الكسائي أمور: كان أعلم الناس بالنحو وأوحدهم في الغريب وكان أوحد الناس في القرآن فكانوا يكثرون عليه حتى لا يضبط الأخذ عليهم فيجمعهم في مجلس و يجلس على كرسي ويتلو القرآن من أوله إلى آخره وهم يسمعون ويضبطون عنه حتى المقاطع والمبادئ ..



وقد كان سيبويه إمام النحويين في البصرة بينما كان الكسائي أمامهم في الكوفة ، وكان كل منهما مرجعاً وأستاذاً في علم النحو واللغة فكان بينهما هذه القصة التي تسمى ب ( المسألة الزنبورية ) والتي انتهت بها حياة سيبويه ..

فيقول راوي القصة :

إن الأشجار المثمرة هي وحدها التي تلقى بالحجارة ، ويبدو أن هذا القانون يمتد أيضًا إلى دنيا البشر، فكثيرًا ما يتعرض العلماء لجهالة الجهلاء وللأحقاد والأضغان، ولكن الغريب حقًّا أن يتزعم المؤامرةعالم له ثِقْله وقيمته في دنيا اللغة، ولكن هكذا اقتضت حكمة الله أن الكمال لله وحده، وأن لكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة.

تحدثنا المصادر أن سيبويه بقي في البصرة منذ دخلها إلى أن صار فيها الإمام المقدم، وأن شهرته قد لاحت في الآفاق،وأنه دعي إلى بغداد حاضرة الخلافة آنذاك من قبل البارزين فيها والعلماء، وهناك أعدت مناظرة بين كبيري النحاة: سيبويه ممثلاً لمذهب البصريين والكسائي عن الكوفيين،وأُعلن نبأ المناظرة، وسمع عنها القريب والبعيد، ولكن الأمر كان قد دُبِّر بليل،فجاء الكسائي وفي صحبته جماعة من الأعراب، فقال لصاحبه سيبويه: تسألني أو أسألك؟فقال سيبويه: بل تسألني أنت.

قال الكسائي: كيف تقول في: قد كنت أحسب أن العقرب أشد لسعة من الزُّنْبُور(الد ور)، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها بعينها؟ ثم سأله عن مسائل أخرى من نفس القبيل نحو: خرجت فإذا عبد الله القائمُ أو القائمَ؟فقال سيبويه في ذلك كله بالرفع، وأجاز الكسائي الرفع والنصب،فأنكر سيبويه قوله؛ فقال يحيى بن خالد، وقد كان وزيرًا للرشيد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟وهنا انبرى الكسائي منتهزًا الفرصة: الأعراب، وهاهم أولاء بالباب؛ فأمر يحيى فأدخل منهم من كان حاضرًا، وهنا تظهر خيوط المؤامرة وتأتي بثمارها؛ فقالوا بقول الكسائي؛ فانقطع سيبويه واستكان، وانصرف الناس يتحدثون بهذه الهزيمة التي مُني بها إمام البصريين.

وكان سيبويه لا يتصور بفطرته النقية أن يمتد الشر مدنسًا محراب العلم والعلماء؛ فحزن حزنًا شديدًا وقرر وقتها أن يرحل عن هذا المكان إلى أي مكان آخر ليس فيه حقد ولا أضغان؛ فأزمع الرحيل إلى خراسان. وكأنما كان يسير إلى نهايته؛ فقد أصابه المرض في طريق خراسان، ولقي ربه وهو ما زال في ريعان الشباب، لم يتجاوز عمره الأربعين، وذلك سنة (180هـ/ 796م) على أرجح الأقوال.

تلاميذ سيبويه :

من الصعوبة بمكان أن نحصي تلاميذ سيبويه، خاصة لو وضعنا في اعتبارنا أن كل النحاة الذين جاءوا بعد سيبويه وتعلموا أسسه وغاصوا في بحور لغتنا الجميلة قد مروا على كتابه، ولكن لو تعرضنا للتلاميذ بالمعنى الحرفي فإننا نقول: برز من بين تلاميذ سيبويه عالمان جليلان هما:

الأخفش الأوسط هو سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء، البلخي ثم البصري. أبو الحسن، اشتهر باسم الأخفش الأوسط (والأخفش هو من كان في بصره ضعف وفي عينيه ضيق) . نحوي عالم باللغة والأدب، من علماء البصرة . أخذ العربية عن سيبويه وقام بتدريس كتابه. زاد في بحور الشعر بحر (الخبب) ، وكان الخليل بن أحمد جعل البحور خمسة عشر فأصبحت ستة عشر. كان معتزليا، عالما بالكلام، حاذقا في الجدل. من تصانيفه: غريب القرآن، تفسير معاني القرآن، معاني الشعر، كتاب العروض، كتاب الاشتقاق، كتاب الأصوات، كتاب الملوك، كتاب المقاييس، كتاب الأوسط في النحو، كتاب المسائل الكبير والمسائل الصغير، غريب الموطأ. توفي عن 75 سنة.

وقطرب (أبومحمد بن المستنير المصري)

. هو محمد بن المستنير بن أحمد، من أهل البصرة من الموالي. أبو علي، الشهير بقطرب. ولد في البصرة وأخذ النحو عن سيبويه والبصريين،وأخذ علم الكلام عن النظام، وكان يتبع مذهب الاعتزال. نحوي عالم بالأدب واللغة، وهوأول من وضع (المثلث) في اللغة. كان مؤدبا لأبناء أبي دلف العجلي. دعاه أستاذه سيبويه بقطرب، والقطرب دويبة لا تستريح نهارا سعيا، وذلك أنه كان يبكر إلى سيبويه فيفتح سيبويه الباب فيجده هناك فيقول: ما أنت إلا قطرب من تصانيفه: معاني القرآن،غريب الحديث، النوادر، الأضداد، الأزمنة، تفسير القرآن على مذهب المعتزلة. كتاب الرد على الملحدين، في تشابه القرآن (وهي الآيات التي تعالج موضوعات هي في الأصل موضع جدل بين العلماء) . كتاب الهمزة، الاشتقاق، الأصوات، كتاب خلق الإنسان، كتاب الصفات، كتاب القوافي، العلل في النحو، المثلث في اللغة (جمع في أسماء ثلاثية يأتي أولها مفتوحا ومكسورا ومضموما، فيدل على معاني مختلفة) .

منهج سيبويه في النحو مثلما ذكرنا فقد تخرج «سيبويه» على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي وعنه أخذ وكل ما يحكيه «سيبويه» في كتابه، وقد كان «الخليل بن أحمد الفراهيدي» السباق إلى تدوين اللغة وترتيب ألفاظها على مخارج حروف الهجاء، وكانت بين يديه الحروف العربية، وهي الأبجدية، أي: أبجد هوز، حطي كلمن.

فبدأ بترتيب الحروف ابتداء من حرف ( العين ) وقد سمى الخليل كتابه هذا باسم أول حرف اعتمده، وهو حرف العين،وقد جاء بعده من حذا حذوه. وإذا كان «الخليل» أول واضع للكلام العربي في صورة معجمة فقد اعتمد على ما ذكره الصرفيون من قبل في حصر لأبنية الكلمة وجعلها إما ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية.

ولكننا نقول إن علم النحو ليس علماً عقلياً ،بمعنى أن سيبويه ـ مثلاً ـ لم يعتمد على التفنن العقلي في تقرير قواعد النحو .

إن علم النحو مبنى على الاستقراء فسيبويه ـ مثلاً ـ أخذ يحلل كل النصوص الواردة عن العرب ، من شعر وخطابة ونثر وغير ذلك ، فوجد أنهم ـ العرب ـ دائما يرفعون الفاعل في كلامهم ، فاستنبط من ذلك قاعدة " الفاعل مرفوع " .. وهكذا نتجت لدينا " قاعدة نحوية " تسطر في كتب النحو ، ليتعلمها الأعاجم فيستقيم لسانهم بالعربية إذا جرت عليه.
أفلو كان سيبويه وجد العرب ينصبون الفاعل ، أكنا سنجد كتاب القواعد النحوية في الصف الثالث الإعدادي ، يخبرنا بأنه يجب علينا نصب الفاعل كلما وجدناه ؟ بلا .. إن علم النحو مبنى على الاستقراء .. " القواعد النحوية " مستنبطة من " استقراء " صنيع العرب في كلامهم .

ولذلك نرى أن نهج سيبويه في دراسة النحو منهج الفطرة والطبع والاستقراء للغة العربية من على ألسنة العـــربوليس التفنن والاختراع في تحديد قواعد النحو .

ولهذا نقول أن منهج سيبويهاعتمد بالأساس الأول على الفطرة والسليقة العربية في وضع قواعد النحو وتحديد مخارجالحروف .

الصوت في منهجية سيبويهولو تركنا الخليل ذاته إلى من تأثربمدرسته لوجدنا جهوداً صوتية متناثرة ، تستند في أغلبها إلى مبتكرات الخليل ،توافقه حيناً ، وتخالفه حيناً آخر . فأعضاء النطق مثلاً عند الخليل وعند سيبويهواحدة ، والحروف في مدارجها ، ويعني بها الأصوات تبعاً للخليل ، تبدأ بأقصى الحلق ،وتنتهي بالشفتين ، فهي عند سيبويه كما هي عند الخليلولكن ترتيب الحروف في كتابسيبويه تخالف ترتيب الخليل ، فحينما وضع الخليل الأبجدية الصوتية للمعجم العربيمبتكراً لها ، خالفه سيبويه في ترتيب تلك الأصوات ، إذ بدأ بالهمزة والألف والهاء ،وقدّم الغين على الخاء ، وأخر القاف عن الكاف وهكذا . . .
يتضح هذا من ترتيبهللحروف على هذا النحو :
همزة . ا . هـ .
ع . ح . غ . خ .
ك . ق .
ض . ج . ش .
ي . ل . ر .
ن . ط . د .
ت . ص .
ز . س . ظ .
ذ . ث . ف .
ب . م . ووهذا وإن كان خلافاً جوهرياً في ترتيب مخارج الأصوات ،إلا أنه لا يعني أكثر من العملية الاجتهادية في الموضوع دون الخروج عن الأصل عندالخليل . « كذلك نلاحظ اختلافاً واحداً في ترتيب المجموعات الصوتية بالنظر إلىتقدمها وتأخرها ، فقد جاءت حروف الصغير في كتاب العين بعد الضاد ، وهو حرف حافةاللسان ، والذي عند سيبويه بعد الضاد : حروف الذلاقة . ونتيجة لتقديم حروف الصفير ،فقد وضع مكانها حروف الذلاقة ، ومعنى ذلك أنه في العين حدث تبادل بين حروف الصفيروحروف الزلاقة .

إن الاختلاف من هذا القبيل لا يعدو وجهة النظر الصوتيةالمختلفة ، ولكنه لا يمانع أن تكون آراء سيبويه في الكتاب امتداداً طبيعياً لمدرسةالخليل ، نعم لا ينكر أن لسيبويه ابتكارته المقررة ، فنحن لا نبخس حقه ، ولا نجحدأهميته في منهجة البحث الصوتي ، فقد كان له فضل بذلك لا ينكر ، فتصنيفه لصفاتالأصوات في الجهر والهمس والشدة والرخاوة والتوسط ، وكشفه لملامح الإطباق واللين ،وتمييزه لمظاهر الاستطالة والمد والتفشي ، كل أولئك مما يتوّج صوتيته بالأصالة .
ولسيبويه قدم سبق مشهود له في قضايا الإدغام ، وهي معالم صوتية في الصميم ، فقدقدم لها بدراسة علم الأصوات ، كما قدم الخليل معجمه بعلم الأصوات ، فالخليل قد ربطبين اللغة والصوت ، وسيبويه قد ربط بين قضايا الصوت نفسها ، لأن الإدغام قضية صوتية « ونحن نقرر هنا مطمئنين أن سيبويه قد وضع قواعد هذا البحث وأحكامه لا لفترة معينةمن الزمن ،بل يكاد يكون ذلك نهائياً ، وكان تصرفه فيها تصرفاً رائعاً ،صادراً عن عبقرية سبقت الزمن ، فلم يكن ممن جاء بعده من العلماء والباحثين إلا أناتبعوا نهجه ، واكتفوا بما قال ، ولم يزيدوا بعد سيبويه على ما قال حرفاً ، بلأخذوا يرددون عباراته مع كتبهم ، ويصرحون بأنهم إنما يتبعون مذهبه ، سواء في ذلكعلماء النحو وعلماء القراءة » (1) .
وقد يكون في هذا الحكم مبالغة ، ولكنهمقارب للحقيقة في كثير من أبعاده ، إذ كان سبّاقاً إلى الموضوع بحق .
ومما يجلبالانتباه حقاً عند سيبويه في صفات الحروف ومخارجها ، هو تمييزه الدقيق بين صفةالجهر وصفة الهمس فيما أشرنا له في الفصل السابق فمصدر الصوت المجهور يشترك فيهالصدر والفم ، ومصدر الصوت المهموس من الفم وحده ، وبمعنى آخر أن للرئتين عملاً مافي صفة الجهر ، بينما ينفرد الفم بصفة الهمس (2) .
فتعريف المجهور عنده : « حرفأشبع الاعتماد في موضعه ، ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ، ويجريالصوت . بينما المهموس : حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه » (3) .
وهو يعبر بالموضع هنا عن المخرج فيما يبدو ، ويجري الصوت عن الشيء الإضافي فيحالة الجهر عن حالة الهمس التي يجري النفس معها لا الصوت . « وقد ظلت محاولة سيبويهتفسير المجهور والمهموس من الأصوات قانوناً سار عليه جميع من جاء بعده من النحاةوالقراء . إلى أن جاءت بحوث المحدثين فصدقت كثيراً مما قاله في هذا الباب » (4) .
ومن المفيد الرجوع إلى ما فسره في هذا المجال أستاذنا المرحوم الدكتور ابراهيمأنيس فقد أشبعها بحثاً وتنويراً (5) .
____________
(1) عبد الصبور شاهين ،أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي : 198 .
(2) سيبويه ، الكتاب : 2|284 .
(3) المصدر نفسه : 2|405 .
(4) عبد الصبور شاهين ، أثر القراءات في الأصواتوالنحو العربي : 205 .
(5) ظ : إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : 92 وما بعدها .

ولا يمكن في منظورنا أن تفصل سيبويه عن مدرسة الخليل في اللغة والأصوات ،فهو الممثل الحقيقي لها فيما نقل لنا من علم الخليل في الكتاب ، وتبقى مدرسة الخليلالصوتية مناراً يستضاء به في كثير من الأبعاد لمن جاء بعده . فابن دريد ( ت : 321هـ ) مثلاً ، يذكر في مقدمة الجمهرة إفاضات الخليل بعامة ، ويضيف إليها بعض الإشاراتفي ائتلاف الحروف والأصوات ، ولكن هذا بالطبع لا يخرجه عن إطار هذه المدرسة في كلالأحوال ، فلديه على سبيل المثال جملة كبيرة من التسميات المتوافقة مع الخليلكالأصوات الرخوة ، والأصوات المطبقة ، والأصوات الشديدة . كما أن له بعض الاجتهاداتالصوت ية في أكثر الحروف وروداً في الاستعمال ، فأكثرها الواو والياء والهاء ،واقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الخاء ثم النون ثم اللام ثمالراء ثم الباء ثم الميم (1) .
ولا تعلم صحة هذا الاجتهاد إلا بالإحصاء . وليسكثيراً على ابن دريد الإحصاء والاستقصاء .
وبعد مدرسة الخليل نجد ابن جني ( ت : 392 هـ ) مؤصل هذا الفن ومبرمجه ، وأول مضيف له إضافات مهمة ذات قيمة منهجية فيالدراسات الصوتية ، بما تواضعنا على تسميته بـ ( الفكر الصوتي عند ابن جني ) أو أنجهود ابن جني في الأصوات ارتفعت إلى مستوى الفكر المخطط والممنهج ، فأفردناه ببحثخاص ، إذ انتهل من هذا الفكر رواد هذا الفن كما سنرى .

الكتاب ( مؤلف سيبويهالخالد ) :

كان كل العلماء والباحثين والمصنفين وعلى امتداد تاريخ البشريةيضعون أسماء تميز مؤلفاتهم ومصنفاتهم، إلا أن سيبويه لم يضع لكتابه اسمًا أو حتىمقدمة أو خاتمة، ولكن لماذا لم يضع سيبويه عنوانًا لكتابه أو مقدمة أو خاتمة؟باختصار لم يفعل سيبويه ذلك لأن القدر لم يمهله حيث مات سيبويه وهو ما يزالفي ريعان شبابه، وذلك قبل أن يخرج الكتاب إلى النور؛ فأخرجه تلميذه أبو الحسنالأخفش إلى الوجود دون اسم؛ وذلك من باب رد الجميل وعرفانًا بفضل أستاذه وعلمهوخدمةً للغة العربية ( لغة القرآن ) وهي التي عاش من أجلها أستاذه وأعطاها كما لميعطها غيره إلى أن توفاه الله فأطلق العلماء على كتابه اسم "الكتاب" حيث يدل هذاالاسم على ما يحتويه هذا المؤلف من علم عظيم حيث أن أي كتاب لابد أن يحوي علماً فمابالكم لو كان اسم الكتاب هو الكتاب ، ولذلك إذا ذُكر " الكتاب " في موضع مجردًا منأي وصف فإنما يقصد به كتاب سيبويه.

أهمية الكتاب:

بالرغم من أنسيبويه مات قبل أن يرى كتابه النور إلا أن كتاب سيبويه هذا بلغ القمة فيما وصلتإليه الدراسات النحوية في أواخر القرن الثاني الهجري وإبان الدولة العباسية التيكان تحترم العلم والعلماء وتعطيهم مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة وقد صنع سيبويه فيمؤلفه "الكتاب" أعظم ما يصنع عالم لموضوعه، إذ آتاه حقه من التقصي والاستيعاب، ومنالدرس والنقد، وجهد ما أسعفه الجهد الكبير، والعقل المستنير لتحرير المسائل وترتيبالموضوعات حتى استحق كتابه في النحو والصرف أن يكون هو الكتاب ، وكأنه النبع الذييرتوي من كل باحث عن قواعد وأصول علم النحو واستحق سيبويه بكتابه أن يكون فيالنحويين الإمام.وشيخ المعلمين النحويين حتى عصرنا هذا فأقبل الباحثون وطلبة العلممن بعده على دراسة الكتاب وشرح شواهده والتنقيب عنها .

وقد تسارع العارفونبالنحو والفقه والشعر واللغة إلى تناول هذا الكتاب بالشرح، وجاء الكثير منهم فيشروحهم إلى الحديث عن شخصيته العلمية، وثقافته اللغوية، وقدرته على معرفة معانيالمفردات، وتفسير الأبنية الغريبة وضبطها، وبيان مفردات جموعها، واستشهاده للمعانيالتي يريد توضيحها، وكثرة نقوله عن أئمة اللغة والنحو، واجتهاده الذاتي الذي تجلىفي إسرافه في التعليلات النحوية التي تدور حول حكمة اللغة في تركيباتها، وعلاقةمفرداتها، وعلامات الإعراب والبناء، وكان لهذه الشروح أيضاً صدى لثقافته القرآنية،والفقه ية والشرعية، وفي علم الأنساب، والمنطق والكلام.

فهذا الكتاب أصبحبمثابة خزانة للكتب، احتواها بالقوة في ضميره وتمخض عنها الزمن بالفعل من بعد وفاةسيبويه، ولذلك نرى أن الأئمة كلهم تلاميذ في مدرسته، فلا نرى المؤلفون جميعًايتقدمون في علم النحو إلا بأن يناقشوه ويفسروه ويعلقوا عليه ويصوبوه ويخطئوه، وهمبذك يدورون في فلكه، حتى أصبح ( الكتاب ) هو المصدر الفريد لعلمي النحو والصرفبالإضافة إلى علم الأصوات.

منهج الكتاب:

درجت العادة على أن يوضحكل كاتب منهجه في بداية كتابه، ولكن مع سيبويه فالوضع يختلف؛ ولقدر الله الذي شاءأن يأخذ سيبويه إلى الرفيق الأعلى لم يتمكن من وضع مقدمة لكتابه، يوضح فيها المنهجالذي سلكه في ترتيب كتابه ؛ فبقي منهج الكتاب لغزًا يستعصي على الإدراك، حتى قالبعض الباحثين إلى أن سيبويه لم يكن يعرف المنهج، وإنما هو قد أورد مسائل الكتابمتتابعة دون أي نظام أو رباط يربط بينها. ولو كان مؤلف الكتاب شخصًا آخر غيرسيبويه، لجاز أن يسلم بهذا الرأي على ضعفه، أمَا والمؤلف سيبويه فمن الواجب أنننزهه عن هذا حيث أن سيبويه بعلمه الكبير لم يكن لينسى أويجهل هذا الأمر ..

ويقول الشيخ علي النجدي عن منهج سيبويه، فيقول: نهج سيبويه في دراسةالنحو منهج الفطرة والطبع، يدرس أساليب الكلام في الأمثلة والنصوص؛ ليكشف عن الرأيفيها صحة وخطأ، أو حسنًا وقبحًا، أو كثرة وقلة، لا يكاد يلتزم بتعريف المصطلحات،ولا ترديدها بلفظ واحد، أو يفرع فروعًا، أو يشترط شروطًا، على نحو ما نرى في الكتبالتي صنفت في عهد ازدهار الفلسفة واستبحار العلوم.

فهو في جملة الأمر يقدممادة النحو الأولى موفورة العناصر، كاملة المشخصات، لا يكاد يعوزها إلا استخلاصالضوابط، وتصنيع الأصول على ما تقتضي الفلسفة المدروسة والمنطق الموضوع، وفرق مابينه وبين الكتب التي جاءت بعد عصره كفرق ما بين كتاب في الفتوى وكتاب في القانون،ذاك يجمع جزئيات يدرسها ويصنفها ويصدر أحكامًا فيها، والآخر يجمع كليات ينصفهاويشققها لتطبق على الجزئيات.

ويمكن أن يقال على الإجمال: إنه كان في تصنيفالكتاب يتجه إلى فكرة الباب كما تتمثل له، فيستحضرها ويضع المعالم لها، ثم يعرضهاجملة أو آحادًا، وينظر فيها تصعيدًا وتصويبًا، يحلل التراكيب، ويؤول الألفاظ، ويقدرالمحذوف، ويستخلص المعنى المراد، وفي خلال ذلك يوازن ويقيس، ويذكر ويعد، ويستفتيالذوق، ويستشهد ويلتمس العلل، ويروي القراءات، وأقوال العلماء، إما لمجرد النصوالاستيعاب وإما للمناقشة وإعلان الرأي، وربما طاب له الحديث وأغراه البحث، فمضىممعنًا متدفقًا يستكثر من الأمثلة والنصوص. واللغة عنده وحدة متماسكة، يفسر بعضهابعضًا، ويقاس بعضها على بعض، وهو في كل هذا يتكئ في ترتيب أبواب الكتاب على فكرةالعامل أولاً وأخيرًا.

وفاة سيبويه :

كما أسلفنا في ذكر قصة المكيدةالتي كانت من الكسائي لسيبويه ورحيله عن البصرة ووفاته في الطريق نذكر أن سيبويهإمام المتقدمين والمتأخرين النحويين قد توفي سنة 180 هجري وقيل سنة 177 هجري فيقرية البيضـاء مـن قـرى شيـراز وهي التي ولد وترعرع فيها وقد كـان عمـره لمـا مـاتنيفـاً وأربعيـن سنـة وقال بعضهم أنه توفي بالبصرة سنة 161 وقيل سنة 188 .. وقالأبو الفرج ابن الجوزي توفي سيبويه في سنة 194 هجري وعمره اثنتان وثلاثون سنة وإنهتوفي بمدينة ساوة فيما وذكر خطيب بغـداد عـن ابـن دريـد أن سيبويه مات بشيراز وقبرهبها ..

مما سبق نرى أن الأقوال تضاربت في تاريخ وفاته وعمره ووقت وفاته ولكنهذا كله لا يمثل شيئاً أمام العلم الذي خلفه من بعده في كتابه ( الكتاب ) فماتشاباً قبل أن يخرج كتابه إلى النور فجزى الله تلميذه أبو الحسن الأخفش الذي أخرجهإلى النور ليكون نبراساً لكل الباحثين والمتعمقين في بحور النحو العربي واللغةالعربية وهكذا بالفعل يكون رد جميل المتعلم إلى معلمه !!

مات سيبويه شاباًوكان كثيراً ما ينشد في حياته ‏:‏إِذا بل من داء به ظـن أنْه ** نجا وبهالـداء الـذي هـو قاتلـهالخاتمة :

أن سيبويه جاءفي وقت مبكر جداً من عمر فترة الازدهار العلمي العربي حيث لم تتجاوز فترة حياتهالنصف الثاني من القرن الهجري الثاني فكان علامة عصره وإمام النحويين في ذلك الوقتمما جعل النحاة يدورون في فلكه ويأخذون عنه ولا يخرج أحد بجديد يغطي به عليه فأصيبالتفكير والتأليف النحوي بالشلل وأصبح العلماء والنحويين يطبقون المثل القائل ( لايُفتى ومالك في المدينة ) فصار أكثر العلماء خيراً ومعرفة يسارع إلى شرح كتابسيبويه وينقل عنه ويوضح بعض الأمور التي تستعصي على بقية طلاب العلم ، ووصل كتابسيبويه إلى القمة وصار أشبه بالمرجع الوحيد في علم النحو والكلام ويكفي دليلاً علىما كان لكتاب سيبويه من سحر وإغراء وعلم عظيم سوى أن العلماء وطلاب العلم أطلقواعلى كتابه من بعده اسم " قرآن النحو" ونحتسب عند الله سبحانه وتعالى أن يجعل كتابه ( الكتاب ) من الباقيات الصالحات التي خلفها أبو بشر عمر بن عثمان بن قمبر الذياشتهر اسمه على مدى القرون اللاحقة باسم سيبويه .