حكم اشتراط المحرم في حج المرأة وأثره في الفقه الإسلامي1
د.عبود بن علي بن درع
الحمد لله الذي جعل بيته الحرام للناس أمنا ومثابة، وزادة سبحانه تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابه ، أحمده تعالى، وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والإصابة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد:
فلقد رعى الإسلام المرأة، وصانها وحفظ حقوقها، كما راعي فطرتها وضعفها، فلم يكلفها فوق طاقتها، بل شرع لها ما يناسب حالها ولهذا خصت بالاحتجاب، وترك إبداء الزينة، وترك التبرج، فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حق الرجال، لأن ظهور النساء سبب الفتنة، والمرأة يجب أن تصان، وتحفظ بما لا يجب مثله في الرجال.
ولهذا من رحمة الله تعالى ولطفه أن شرع الحج في العمر مرة واحدة لمن استطاع إليه سبيلاً، وجعلت قاعدة المشقة تجلب التيسير من القواعد الكلية في هذه الشريعة السمحة.
وبما أن هذه الفريضة تجب على المرأة كما تجب على الرجل متى ما توفرت الشروط الشرعية، فقد يحصل للمرأة عارض يمنعها من الذهاب إلى أداء هذه الفريضة وهو عدم وجود محرم معها من زوج أو قريب يصونها ويمنعها من أن تطال بأذى أو تمس بسوء لذا كان هذا البحث الذي أسميته.
حكم اشتراط المحرم في حج المرأة وأثره في الفقه الإسلامي سائلاً المولى القدير أن ينفعني به وأن ينفع به إخواني المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أسباب اختيار الموضوع:
أولاً:الرغبة الصادقة والملحة لمعرفة كلام أهل العلم قديماً وحديثاً في هذه المسألة التي تعتبر ذات شقين فهي قديمة وجديدة في آن واحد تتطور مع تطور العصور في كل زمان ومكان، فإن كان السفر قريباً من الميقات أو بعيداً من كل فج عميق أو كان السفر مسافته تقطع في شهور وأسابيع فقد أصبح ، الآن في ساعات، وما خفي كان أعظم، مما يجعل هذه المسألة القديمة تعتبر من النوازل المستجدة التي يدلي فيها كل علماء عصر بدلوهم، ويقولوا قولهم فيها بما يرونه من الأدلة الشرعية، وما يرونه في واقعهم المعاصر .
ثانياً: كثرة اختلاف أهل العلم في المسألة لا سيما في عصرنا الحاضر مع توفر وسائل الاتصالات والانفتاح الإعلامي، ومعرفة الناس بمواقع المشايخ والعلماء ومحاولة معرفة رأيهم في هذه المسألة التي يرجع فيها كل أهل البلد إلى علمائهم مما جعل الخلاف يتسع، حتى بين علماء أهل البلد الواحد، فكيف بغيرهم من العوام،مما يجعل البحث في هذه المسألة بكل فروعها من الأهمية بمكان.
ثالثاً: سؤال النساء خاصة عن هذه المسألة، التي ترغب المرأة فيما عند الله من الأجر، وتخاف من الإثم، فتريد معرفة الحكم الشرعي في هذه المسألة بما تبرأ به ذمتها أمام الله عزوجل في هذه الفريضة التي هي ركن من أركان هذه الدين القويم.
رابعاً: كثرة من يسافر بالخادمات لأداء الحج أو العمرة بدون محرم في هذا العصر مما يزيد من أهمية التعرض لهذا الموضوع بالبيان والتفصيل.
خامساً : أصبح الحج في عصرنا الحاضر يتخذ شكلاً آخر عن طريق نسب معينه من كل بلد، وتوفير مسكن خاص، مما يجعل الكثير يأتي ضمن الحملة سواء في طائرة أو باخرة أو سيارة، جماعات وأفراداً، ذكوراً وإناثاً. مما يجعل الفقيه يبحث مسألة الرفقة للمرأة إذا كن نساءً هل يقوم هذا مقام المحرم أم لا؟ فكان بحثها من الأهمية بما لا يخفى.
هذه أهم الأسباب، وقد يكون هناك أسباب أخرى، ولكن ما ذكرت فيه الكفاية إن شاء الله.
خطة البحث:
سرت في بحث هذا الموضوع ضمن خطة تحتوي على:
مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث.
أما المقدمة فتتاول تعريف الشرط والحج في اللغة والاصطلاح.
وأما المباحث الثلاثة فهي على النحو التالي.
المبحث الأول: حقيقة المحرمية، وتحديد مسافة السفر
المطلب الأول: تعريف المحرم وشروطه
وفيه المطالب التالية:
الفرع الأول: تعريف المحرم في اللغة والإصطلاح.
الفرع الثاني: شروط المحرم
الفرع الثالث: هل المحرم شرطا لوجوب الأداء؟
المطلب الثاني: تحديد مسافة السفر.
المبحث الثاني : حكم اشتراط المحرم في حج المرأة.
وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول : حكم اشتراط المحرم في حج المرأة.
المطلب الثاني: حكم سفر المرأة للحج في الطائرة دون محرم,.
المطلب الثالث: حكم حج الخادمة دون محرم.
المبحث الثالث: أثر انعدام المحرمية في الحج.
وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: حكم منع الزوج زوجته من الخروج إلى الحج.
المطلب الثاني: حكم المرأة إذا أحرمت بالحج الواجب بغير إذن زوجها.
المطلب الثالث: أثر وفاة محرم المرأة في أثناء الحج.
الخاتمة: وتشمل أهم النتائج.
منهج البحث:
لقد سرت في بحث هذا الموضوع على المنهج التالي:
- الاقتصار على المذاهب الفقهية المعتبرة، من كتب الأئمة في المذاهب الفقهية الأربعة، وقد أضيف إليها المذهب الظاهري إذا اقتضت طبيعة دراسة المسألة ذلك.
- ذكر الأقوال في المسألة، مع توثيق الأقوال من كتب أهل المذهب نفسه.
- استقصاء أدلة الأقوال، مع بيان وجه الدلالة، وذكر ما يرد عليها من مناقشات، وما يجاب به عنها إن كانت.
- الترجيح مع بيان سببه.
- ترقيم الآيات وبيان سورها، وتخريج الأحاديث، مع العناية بتصحيح الأحاديث من كتب التخريج المعتمدة.
- الخاتمة عبارة عن ملخص لأبرز النتائج.
- فهارس للآيات والأحاديث والمراجع والموضوعات .
وبعد، فأرجو من الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في هذا البحث للصواب، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.
والحمد لله أولاً و آخراً ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد
المطلب الأول
تعريف الشرط والفرق بينه وبين الواجب
الشرط – في اللغة – فيه لغتان : سكون الراء، وفتحها:
فالشرط بالسكون يراد به الإلزام بالشيء، والالتزام به ومنه الشرط في البيع – مثلاً – وجمعه شروط .
وبالتحريك: الشرَط العلامة ، وجمعه أشراط ، ومنه قول الله تعالى: ﴿....فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا ﴾[1]. أي : علاماتها ومنه سمي الشرطي و الشُّرَط لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها[2].
أما في الاصطلاح: فقد عرف بتعريفات متقاربة منها:-
1- ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدم لذاته[3].
2- ما لا يتم المشروط إلا به[4].
3- ما لا يوجد المشروط مع عدمه، لكن لا يلزم أن يوجد عند وجوده[5].
وأشهرها: التعريف الأول، فقد خرج به المانع ، لأنه لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، ويلزم من وجوده العدم، وخرج السبب، فإنه يلزم من وجوده الوجود.
وقوله في التعريف لذاته احتراز من مقارنة وجود الشرط لوجود السبب فيلزم الوجود، كوجود الحلول الذي هو شرط لوجوب الزكاة، من النصاب الذي هو سبب الوجوب[6].
والفرق بين الشرط والواجب[7]: يتضح من تعريف الواجب عند الأصوليين ومن تلك التعريفات: ما يمدح فاعله ويذم تاركه على بعض الوجوه [8].
فالواجب نوع من الأحكام التكليفية[9]، والشرط نوع من الأحكام الوضعية[10]، وقد يجتمع الحكم التكليفي والحكم الوضعي في شيء واحد، كالزنا، فإنه حرام وسبب لإقامة الحد على فاعله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومنه ما لا يقدر المكلف على تحصيله، كالعدد المشروط لصحة الجمعة، فليس لأحد المكلفين قدرة على إحضار هذا العدد لتنعقد بهم الجمعة، ومنه ما هو في مقدور المكلف، وهو كل ما كان شرطاً لوقوع الفعل، كشرط الطهارة في الصلاة أو المحرم في نسك المرأة ، فإنه يكون واجباً، إلا إذا ورد ما يدل على عدم وجوبه[11].
فالشرط إذاً من الأمور المقدورة للمكلف، فالطهارة شرط لصحة الصلاة ولا يتم الواجب – وهي الصلاة – إلا بها ، فهي واجبة، وهكذا. فالشرط والواجب بينهما عموم وخصوص، فكل شرط واجب، وليس كل واجب شرطاً[12].
المطلب الثاني
تعريف الحج في اللغة والاصطلاح
تعريف الحج في اللغة:
قال ابن فارس في مقاييسه: « الحاء والجيم أصول – منها- : القصد، وكلُّ قصد حج»[13]، قال الشاعر:
وأشهدُ منْ عوفٍ حلولاً كثيرةً يحجُّون سِبَّ الزّبرقان المُزعفرا
أيْ: يقصدونه، ثم اختصّ بهذا القصد إلى البيت الحرام للنُّسك.
والحجيج والحاجُّ ، ويُقال لهم: الحجّ، والأصل الآخر للكلمة: الحَجَّة، وهي السَّنَةُ، ويمكن أن يجتمع مع الأصل الأوّل؛ لأنّ الحجّ في السّنة لا يكون إلاّ مرّة واحدة، فكان العام يُسمّى بما فيه من الحجّ حجّة[14].
وفي تهذيب اللُّغة: نقول: حجَّ يحجُّ حجّاً ، والحجُّ : قضاء نسك سنة واحدة، ويُقال: بكسر الحاء؛ أي : الحِجّ والحِجّة، وقرئ: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ [ آل عمران: 97 ] بالكسر والفتح أكثر[15]، وقال أبو إسحاق الزّجّاج في قوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾: « يُقْرَأُ بفتح الحاء وكسرها والفتح الأصل، تقول: حَجْجْتُ البيتَ أحُجُّهُ حَجّاً إذا قصدْتَهُ، والحجُّ اسم العمل »[16].
وقيل: الحجُّ الزيارة والإتيان، وإنّما سُمِّي حاجاً بزيارته بيت الله، يقول: حججت فلاناً واعتمرته؛ أي: قصدته ، وقيل : حججْتُ فلاناً إذا أتيتُهُ مرّة بعد مرّة، فقيل: حجَّ البيتَ لأنّ النّاس يأتونه كلّ سنة المرّة بعد المرّة.
والحُجّةُ الوجه الذي يكون به الظَّفَرُ عند الخصومة، جمعها: حُجَجٌ، وسُمِّيَتْ حُجّة لأنّها تُقْصَدُ، وكذا سُمّيَتْ محجّة الطّريق لأنّها هي المقصد والمسلك[17].
وسُمّيَ الحَجُّ نسكاً، والنُّسُكُ : اسم لكل عبادة وتقربٍ لله تعالى، ومناسك الحج عبادته، وهو من الخاص الذي صار عاماً[18].
تعريف الحج اصطلاحاً:
من الحنفية عرف الحج بأنه: قصد مخصوص إلى مكان مخصوص على وجه التعظيم في أوان مخصوص[19].
ومن المالكية من عرفه: بأنه عبادة يلزمها الوقوف بعرفة ليلة عشر ذي الحجة، وطواف ذي طهرْ أخص بالبيت عن يساره سبعاً بعد فجر يوم النحر، والسعي بين الصفا والمروة ومنها إليها سبعاً بعد طواف كذلك، لا تقيد وقته بإحرام في الحج[20].
ومن الشافعية من عرَّفهُ : بأنّه قصد الكعبة للنسك الآتي بيانه، وفسّره بعضهم بالأفعال الآتية في باب الحج من إحرام ووقوف وطواف وسعي وحلق[21].
وعرّفه بعض الحنابلة بأنه زيارة البيت على وجه مخصوص[22].
ولعل التعاريف السابقة ينقصه بعض القيود، وتكمل في هذا التعريف، وهو التعريف المختار للحجّ وهو: « قَصْدُ مكّة والمشاعرِ تعبُّداً لله لأداءِ المناسك على وجه المخصوص»[23] .
قصد مكّة والمشاعر: يخرج به قصد مكّة فحسب لأداء العمرة مثلاً؛ لأنّ المشاعر لا تقصد إلاّ في حال الحجّ كعرفة ومنى ومزدلفة ونحوها.
تعبُّداً لله: والمقصود بذلك إخراج كل قصد ليس لله خالصاً، وإخراج ما كان من قصد مكّة للتّجارة ونحوها.
لأداء المناسك: يخرج به قصدها لعمل أو تجارة بدون أداء المناسك.
على وجه مخصوص: ويُقْصَدُ به أداء المناسك على الكيفيّة الواردة في سُنّة الرسول e ، والتي أكّدها بقوله e : « لتأخذوا مناسككم»[24]، كما يقصد به الزمن المخصوص؛ لأن عمل الحجّ مرتبط بوقت لا يتقدَّمُ ولا يتأخَّرُ[25].
المبحث الأول
حقيقة المحرم ، وتحديد مسافة السفر
المطلب الأول: تعريف المحرم وشروطه.
وفيه الفروع التالية:
الفرع الأول: تعريف المحرم في اللغة والاصطلاح
الفرع الثاني : شروط المحرم
الفرع الثالث: هل المحرم شرطا لوجوب الأداء.
المطلب الثاني: المسافة التي تسمى سفرا
الفرع الأول - تعريف المحرم :
يتبع