أحكام التلبية 1
د.عبود بن علي بن درع
المقدمة :
الحمد لله على إحسانه وتوفيقه ، والشكر له على فضله وامتنانه ، أحمده تعالى وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأثني عليه الخير كله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تعظيماً لشأنه ، وإقراراً بعبوديته وربوبيته وألوهيته وكماله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ومصطفاه وخليله، الداعي إلى رضوانه ، والمبلغ للناس رسالاته ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه ، ومن سار على نهجهم واتبع أثرهم إلى يوم القيامة وسلم تسليماً كثيراً مباركاً فيه.
أما بعد :
فالحج من العبادات التي يتجلى فيها تعظيم الرب ـ جل جلاله ـ في كل منسك من مناسكه، فإن هناك كثيراً من أفعال الحج غير معقولة المعنى ، غير أن المعنى الذي يجمعها جميعاً هو الطاعة المطلقة والتعظيم المطلق لله تعالى ، فالطواف يكون حول البيت الذي هو من الحجارة ، والحجر الأسود يقبل مع كونه حجراً ، ورمي الجمار إنما هو حجر يرمى به حجر ، فما الذي جعل هذا الحجر يرمى ، وهذا الحجر يقبل ، وهذا الحجر يطاف حوله ، مستوى العبودية المحضة والتعظيم الخالص لله تعالى ! .
وفي التلبية التي هي شعار الحج أعظم عبارات الثناء والتعظيم لله جل وعلا : " لبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة ، لك والملك ، لا شريك لك" .
ذكر ابن القيم رحمه الله في معنى التلبية كلاماً جميلاً نذكر منه ما يدل على تعظيم الرب تعالى، حيث ذكر من معانيها : "إجابة لك بعد إجابة ، أو انقياداً لك بعد انقياد ، أي انقدت لك ، وسعت نفسي خاضعة ذليلة ، أو حباً لك بعد حب ، أو أخلصت لُبي وقلبي لك ، فهي شعار التوحيد ملة إبراهيم الذي هو روح الحج ومقصده ، بل روح العبادات كلها والمقصود منها ، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها بها .
وكذلك فإنها مشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلها ، ولهذا عرفها باللام المفيدة للاستغراق، أي النعم كلها لك وأنت موليها والمنعم بها .
ومشتملة كذلك على الاعتراف بأن الملك كله لله وحده ، فلا ملك على الحقيقة لغيره .
والله سبحانه يفرق في صفاته بين الملك والحمد ، وسوغ هذا المعنى أن اقتران أحدهما بالآخر من أعظم الكمال والملك ، والملك وحده كمال ، والحمد كمال ، واقتران أحدهما بالآخر كمال ، فإذا اجتمع الملك المتضمن للقدرة ، مع النعمة المتضمنة لغاية النفع والإحسان والرحمة ، مع الحمد المتضمن لعامة الجلال والإكرام الداعي إلى محبته ، كان في ذلك من العظمة والكمال والجلال ما هو أولى به وهو أهله"[1].
وقد اخترت الكتابة في هذا الموضوع وقد أسميته " أحكام التلبية " سائلاً المولى القدير أن ينفعني به وأن ينفع به إخواني المسلمين ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أسباب اختيار الموضوع :
أولاً :التلبية عبادة وذكر له اثر بالغ وفائدة عظيمة ، والعبادة ينبغي بيان ما شرعه الله فيها ، وما منع فيها حتى لا يقع الداعي في شيء من البدع والمخالفات .
ثانياً : حاجة المسلمين إلى بيان أحكام هذه العبادة وما يتعلق بها من مسائل خاصة بضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين في كل وقت وحين ، وهم بحمد الله في هذه العصور يزدادون يوماً بعد يوم ، فكانت مسؤولية أهل العلم والاختصاص في بيان الهدي النبوي في هذه الفريضة من الأهمية بمكان .
ثالثاً : الرغبة في خدمة الفقهاء وطلبة العلم ببحث مسائل التلبية وجمعها في مكان واحد بحيث يسهل الوصول إليها والرجوع لها بسهولة ويسر.
رابعاً : بعد الاطلاع والبحث ـ حسب علمي ـ لم أعثر على دراسة علمية شاملة للموضوع ، تجمع مسائله ، وتفصل أدلته ، فعقدت العزم على الكتابة في هذا الموضوع بشيء من التفصيل أجمع ما قيل فيه ، وأفصل أدلته ، وأذكر الأقوال والتفريعات مع الاجتهاد في تتبع الجزئيات بقدر الإمكان .
فجزى الله العلماء قديماً وحديثاً على ما قدموا وبذلوا خيراً فمن معينهم غرفت ، ومن مسائلهم ارتشفت ، وعلى الله جل وعلا توكلت نعم المولى ونعم النصير.
ولقد سرت في بحث هذا الموضوع ضمن الخطة التالية والتي اشتملت على ستة مباحث
المقدمة : وتحدثت فيها عن الموضوع ، وأهميته ، وأسباب اختياره إضافة إلى بيان خطة البحث ، ومنهجه .
المبحث الأول :معنى التلبية وفضلها وفوائدها وألفاظها ومواطنها وآدابها .
وفيه ثمانية مطالب :
المطلب الأول : معنى التلبية
المطلب الثاني : فضل التلبية .
المطلب الثالث : سبب التلبية .
المطلب الرابع : فوائد التلبية .
المطلب الخامس : ألفاظ التلبية .
المطلب السادس : حكم الزيادة على التلبية .
المطلب السابع : مواطن التلبية .
المطلب الثامن : آداب التلبية .
المبحث الثاني : حكم التلبية وترجمتها وحكم العجز عنها .
وفيه ثلاث مطالب .
المطلب الأول : حكم التلبية .
المطلب الثاني : حكم من نسي التلبية .
المطلب الثالث : حكم التلبية لمن لا يقدر عليها.
وفيه المسائل التالية :
المسألة الأولى : حكم التلبية بغير العربية .
المسألة الثانية : حكم اتخاذ مترجم للأعاجم في التلبية .
المسألة الثالثة : إذا كان الملبي يحسن العربية فهل له أن يلبي بغيرها ؟
المسألة الرابعة : حكم العجز عن التلبية .
المبحث الثالث : أحكام رفع الصوت بالتلبية .
وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأول : فضل رفع الصوت بالتلبية
المطلب الثاني : حكم ترك الصوت بالتلبية إن خاف ذهاب صوته .
المطلب الثالث : حكم رفع الصوت بالتلبية في حق الرجل والمرأة .
وفيه فرعان :
الفرع الأول : حكم رفع الصوت بالتلبية في حق الرجل .
الفرع الثاني : حكم رفع الصوت بالتلبية في حق المرأة .
المبحث الرابع : أحكام الملبي وقت التلبية .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : وقت بداية التلبية .
المطلب الثاني : حكم من بدأ بدعاء الركوب قبل التلبية .
المطلب الثالث : حكم التلبية عن الصبيان .
المطلب الرابع : حكم تلبية غير المحرم .
المطلب الخامس : حكم التلبية حال الجنابة .
المبحث الخامس : متى يقطع المحرم التلبية .
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : متى يقطع المعتمر التلبية .
المطلب الثاني : متى يقطع الحاج التلبية
المبحث السادس : ظواهر الانحراف في التلبية .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : الانحراف في تلبية الجاهلية .
المطلب الثاني : التلبية في الأمصار .
المطلب الثالث : رفع الصوت بالتلبية للمرأة بحضرة الأجانب .
المطلب الرابع : التلبية الجماعية .
المطلب الخامس : التمايل عند التلبية .
المطلب السادس : وضع تسجيل صوتي للتلبية في ألعاب الأطفال.
الخاتمة : وتشمل أهم النتائج
منهج البحث :
لقد سرت في بحث هذا الموضوع على المنهج التالي :
ـ الاقتصار على المذاهب الفقهية المعتبرة ، من كتب الأئمة الفقهية الأربعة ، وقد أضيف
إليها المذهب الظاهري إذا اقتضت طبيعة دراسة المسألة ذلك .
ـ ذكر الأقوال في المسالة ، مع توثيق الأقوال من كتب أهل المذهب نفسه .
ـ استقصاء أدلة الأقوال ، مع بيان وجه الدلالة ، وذكر ما يرد عليها من مناقشات ، وما
يجاب به عنها إن كانت .
ـ الترجيح مع بيان سببه .
ـ ترقيم الآيات وبيان سورها ، وتخريج الأحاديث مع العناية ببيان درجة الحديث من
كتب التخريج المعتمدة .
ـ الخاتمة عبارة عن ملخص لأبرز النتائج .
ـ فهارس للمراجع والموضوعات .
وبعد فأرجو الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في هذا البحث للصواب ، وأن يجعله
خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به الإسلام والمسلمين .
المبحث الأول : معنى التلبية وفضلها وفوائدها وألفاظها ومواطنها وآدابها .
وفيه ثمانية مطالب :
المطلب الأول : معنى التلبية .
المطلب الثاني : فضل التلبية .
المطلب الثالث : سبب التلبية .
المطلب الرابع: فوائد التلبية .
المطلب الخامس : ألفاظ التلبية .
المطلب السادس : حكم الزيادة على التلبية .
المطلب السابع : مواطن التلبية .
المطلب الثامن : آداب التلبية .
المطلب الأول : معنى التلبية :
1 المعنى الأول للبيك مأخوذة من لبى بمعنى أجاب ، ولفظها : لبيك منصوبة على المصدر ، وثنى على معنى التأكيد ، أي إلباباً بعد الباب ، وإقامة بعد إقامة[2] .
قال ابن حجر : أي معنى إجابة بعد إجابة ـ أظهر وأشهر لأن المحرم مستجيب لدعاء الله إياه في حج بيته ، ولهذا من دعا فقال لبيك فقد استجاب "[3] .
قال بن عبد البر قوله : " قال جماعة من أهل العلم معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذن بالحج في الناس "[4] .
أخرج أحمد بن منيع في مسنده وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له : أذن في الناس بالحج ، قال : رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعليَّ البلاغ . قال: فنادى إبراهيم : يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق ، فسمعه من بين السماء والأرض ، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون"[5] .
فتبين بهذا أن أحد معاني لبيك الإجابة كما أجابوا بنعم وبلى ونحوها . كما أنه أراد بقوله لبيك وسعديك إجابة بعد إجابة كأنه قال كلما أجبتك في أمر فأنا في الأمر الآخر مجيب وكأن هذا التشبيه أشد توكيداً [6] .
ومن مظاهر الإيمان في هذا المعنى " أن قولك لبيك يتضمن إجابة داعٍ دعاك ومنادٍ ناداك ولا يصح في لغة ولا عقل إجابة من لا يتكلم ولا يدعو من أجابه[7]. فالملبي قد أجاب الله الذي دعاه إلى الحج ليغفر له ذنوبه فهو بتلبيته مستجيب لدعاء الله "ومعنى التلبية إجابة الله إنما فرض عليهم من حج بيته والإقامة على طاعته فالمحرم بتلبيته مستجيب لدعاء الله إياه في إيجاب الحج عليه ومن أجل الاستجابة ـ والله أعلم ـ لبى لأن من دعا فقال لبيك فقد استجاب[8] .
2 أما المعنى الثاني للبيك فهو : الإقامة: والمعنى أنا مقيم على طاعتك ملازم لها ، مأخوذ من لب بالمكان[9] .
قال ابن القيم : " إنه من لب بالمكان إذا أقام به ولزمه ، والمعنى أنا مقيم على طاعتك ملازم لها ـ وهذا اختيار الجوهري ـ [10] .ففيه معنى الإقامة والملازمة والمداومة " فأما تأويل قولهم لبيك فإنما يقال : ألب فلان على الأمر إذا لزمه ودام عليه فمعناه مداومة على إجابتك ومحافظة على حقك فإذا قال العبد لربه : لبيك فمعناه ملازمة لطاعتك ومحافظة على أمرك"[11] .
يتبع