"يا أبتِ لا تعبد الشيطان"

الشيخ سليمان العيد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:-
فقد كانت جهود شباب صدر الإسلام في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، جهود مثمرة ومباركة بين الأهل والعشيرة ومن لهم حق على الإنسان، وإذا تأملنا النماذج الدعوية من حياة ذلك الجيل لاشك أننا سنجد نماذج رائعة في دعوة خاصة، وهي دعوة الوالدين، كما تصور لنا دعوة معاذ بن عمر الجموح لوالده، حيث كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه سيداً من سادات بني سلمة، وشريفاً من أشرافهم، وقد كان اتخذ في داره صنماً من خشب، يقال له: مناة، كما كان الأشراف يصنعون، تتخذه إلهاً تعظمه وتطهره، فلما أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، في فتيان منهم ممّن أسلم وشهد العقبة، كانوا يدلجون[1] بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عِذَر الناس، منكساً على رأسه.
فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ ثم يغدوا يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه. فإذا أمسى ونام عمرو، عدوا عليه، ففعلوا به مثل ذلك، فيغدوا فيجده في مثل ما كان من الأذى، فيغسله، ويطهره، ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك.
فلما أكثروا عليه، استخرجه من حيث ألقوه يوماً، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك. فلما أمسى ونام عمرو، عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة، فيها عذر من عذر الناس، ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به. فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه، وكلمه من أسلم من رجال قومه، فأسلم برحمة اللّه وحَسن إسلامه، فقال حين أسلم، وعرف من اللّه ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك، وما أبصر من أمره ويشكر اللّه تعالى الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة:
والله لــو كنت إلهـــاً لم تكـن
أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقــاك إلهــــاً مستـدن[2]
الآن فتشناك عن سـوء الغبن
الحمــد لله العــلي ذي المـنن
الواهب الرزاق ديان الـدّين[3]
هو الـذي أنقذني من قبـل أن
أكون في ظلمة قبر مرتهن[4]
في هذا الموقف نجد معاذ بن عمرو بن الجموح تصرف بذكاء مع أخيه الشاب معاذ بن جبل، وذلك من أجل تخليص عمرو بن الجموح مما هو فيه من الشرك، وقد نجحت الخطة وتخلص الوالد مما كان فيه الهلاك، فكان نفع ابنه له أفضل نفع، إذ كان سبب دخوله في دين الله تعالى وترك عبادة الأصنام.
في هذا الموقف درس للشباب الذين يرون المنكر فيمن هو أكبر منهم سناً من والد أو غيره، ولا يستطيعون مواجهتهم به، خشية أو حياء منهم فلابد لهم من أن يتصرفوا في ذلك، وأن يستعينوا بإخوانهم من الشباب لإعانتهم في التخطيط والتنفيذ.
ولنعرض قصة أخرى من قصص ذلك الجيل في دعوة الوالدة، فهذا الفتى طليب بن عمير[5] رضي الله عنه لما أسلم في دار الأرقم، خرج فدخل على أمه، وهي أروى بنت عبدالمطلب، فقال: تبعت محمداً، أو أسلمت لله رب العالمين جل ذكره. فقالت أمه: إن أحق من وازرتَ ومن عاضدتَ ابن خالك، والله لو كنا نقدر على ما يقدر عليه الرجال لمنعناه، ولذببنا عنه، فقال: يا أماه، وما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه، فقد أسلم أخوك حمزة؟ فقالت: انْظُر ما يصنع أخواتي، ثم أكون إحداهن. قال: قلت فإني أسألك بالله إلاّ أتيته فسلمت عليه وصدقته، وشهدت أن لا إله إلا الله، فقالت: فإني أشهد أن لا إله اللّه وأن محمداً رسول الله، وكانت بعد تعضد النبي صلى الله عليه وسلم بلسانها، وتحض أبناءها على نصرته، والقيام بأمره[6].
ومن المواقف الجميلة في هذا الموضوع دعوة أبي هريرة لأمه، حيث يروي ذلك فيقول: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَة،ٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَه،ُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ـ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ ـ قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا. قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا ـ يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ ـ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي. (أخرجه مسلم).
معشر الشباب، تعلمون عظم بر الوالدين، وأثره على حياة الشاب، ولكن البر ليس مقصوراً على خدمتهما وتلبية حاجاتهما، وطاعة أوامرهما. بل باب البر أوسع من ذلك. ومن أنفع أبواب البر بالوالدين هو دلالتهما على الخير وتحذيرهما من الشر؛ لأن ذلك نفع لهما في دنياهم وأخرهم، كما يجب أن نعلم أن دعوة الوالدين تكون بأسلوب خاص فيه من التقدير والاحترام لهما ما يناسب حالهما، وحقوقهما على الأولاد. فهما بحاجة إلى دعوتهما بلطف معهما وشفقة عليهما.
في الختام نسأل المولى جل وعلا أن يلهمنا رشدنا، وأن يوفقنا لصلاح ديننا ودنيانا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


([1]) الدُّلْجَةُ: سير الليل كله. وأَدْلَجُوا: ساروا من آخر الليل، وادَّلَجُوا ساروا الليل كله. (ابن منظور، لسان العرب، 2/272، مادة [دلج]).
([2]) قال السهيلي: مستدن من السدانة، وهي خدمة البيت وتعظيمه. (انظر: للروض الأنف. الطبعة الأولى، القاهرة، دار النصر، 1228هـ، 4/154).
([3]) قد يكون أراد بالدين الأديان، أي هو ديان أهل الأديان، ولكن جمعها على الدين، لأنها ملل ونحل. (المرجع نفسه).
([4])انظر ابن هشام، السيرة النبوية 1/452، 453. وابن حجر، الإصابة 2/529. والذهبي سير أعلام النبلاء، 1/253، 254.
([5]) طليب بن عمير أو عمر بن وهب بن أبي كثير بن عبد بن قصي بن كلاب.. ذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة فيمن هاجر إلى الحبشة. أسلم في دار الأرقم. وهو أول من أدمى مشركاً في الإسلام بسبب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه استشهد بأجنادين. (انظر ابن حجر، الإصابة، 2،233).
([6]) أخرجه الحاكم، المستدرك، 3/239. وقال: [صحيح غريب على شرط البخاري ولم يخرجاه].