القول المبين في الإكراه وأثره في التصرفات عند الأصوليين
د. رمضان محمد عيد هيتمي
دكتور رمضان محمد عيد هيتمي أستاذ أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر بالقاهرة
مقدمة
الحمد لله الذي خلق الإنسان، وكرمه ورفع شأنه بتكليفه الخضوع له سبحانه وتعالى، فنعمه وأتم نعمته عليه، وفهمه. قال تعالى: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{([1]).
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في محكم كتابه: }مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{([2]).
ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، والقائل فيما ورد عنه: «رفع عن أمتي الخطأ, والنسيان, وما استكرهوا عليه»([3]).
اللهم صل وسلم عليه, وعلى آله وصحبه, ومن اهتدى بهديه, وسار على سنته إلى يوم الدين.
وبعد:
فإنه لما كان الإنسان مخاطبًا بالأحكام الشرعية، ومطالبًا بها إما وجوبًا فقط، أو وجوبًا وأداء حسب أهليته، فإذا وجدت لديه أهلية الوجوب والأداء فقد ثبتت له, ووجبت عليه كل الأحكام.
ولكن قد تعترض حياة الإنسان بعض الموانع أو العوارض التي تؤثر على أهليته, إما بالإزالة كالجنون، وإما بالنقصان كالصغر والعته، وإما بتغيير بعض الأحكام دون تأثير في أهليته, كالإكراه والسفه والخطأ مثلًا.
لذا فقد تكلم علماء الحنفية على هذه العوارض وقسموها إلى قسمين:
1- عوارض سماوية؛ كالصغر والجنون والعته وغيرها.
2- عوارض مكتسبة؛ كالإكراه والسفه والخطأ وغيرها.
ولهذا فقد أردت أن أتناول بالبحث والدراسة موضوع الإكراه باعتباره عارضًا من العوارض المكتسبة للأهلية, وأثره على التصرفات عند الأصوليين.
وأدعو الله تعالى أن يجعله نافعا، وأن يحسن القصد به والمثوبة عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
د. رمضان محمد عيد هيتمي
خطة البحث
تتكون خطة البحث من تمهيد وسبعة فصول وخاتمة.
التمهيد: معنى الأهلية وعوارضها وموقع الإكراه منها.
الفصل الأول: تعريف الإكراه وأركانه وشروطه.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الإكراه.
المبحث الثاني: أركان الإكراه وشروطه.
الفصل الثاني: أثر الإكراه في التكليف والرضا والاختيار.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أثر الإكراه في أهلية الإنسان وصلاحيته للتكليف.
المبحث الثاني: أثر الإكراه في الرضا والاختيار.
الفصل الثالث: أنواع الإكراه.
الفصل الرابع: الوعيد هل يعتبر إكراهًا أم لا؟ والوسائل التي يحصل بها الإكراه.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الوعيد هل يعتبر إكراهًا أم لا؟
المبحث الثاني: الوسائل التي يحصل بها الإكراه.
الفصل الخامس: أثر الإكراه في التصرفات.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أثر الإكراه في التصرفات القولية.
المبحث الثاني: أثر الإكراه في التصرفات الفعلية.
الفصل السادس: تكليف المكره.
الخاتمة: في أهم نتائج البحث.
التمهيد: الأهلية وعوارضها وموقع الإكراه منها
أولًا: تعريف الأهلية:
الأهلية لغة: الصلاحية للشيء، فأهلية الإنسان للشيء: صلاحيته لصدور ذلك الشيء عنه, وطلبه منه([4]).
واصطلاحًا: صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه([5])، وصلاحيته لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعًا([6]).
ثانيًا: أقسام الأهلية:
تنقسم الأهلية إلى قسمين:
1- أهلية وجوب.
2- أهلية أداء.
1- تعريف أهلية الوجوب:
هي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعية له أو عليه([7]).
مناط أهلية الوجوب:
هو الإنسانية، وعليه فقد قرر علماء الأصول أن هذه الأهلية تثبت للإنسان بوصف كونه إنسانًا، لا فرق بين المكلف وغيره، وسواء أكان ذكرًا أم أنثى، صغيرًا أم كبيرا، مميزًا أم غير مميز، رشيدًا أم سفيهًا، صحيحًا أم مريضًا، عاقلًا أم مجنونًا، فكل بني الإنسان لهم أهلية وجوب، فلا يوجد إنسان عديم أهلية الوجوب.
أقسام أهلية الوجوب:
تنقسم هذه الأهلية إلى قسمين:
(أ) أهلية وجوب ناقصة: وهي التي تثبت للجنين في بطن أمه قبل ولادته، وتثبت له بعض الحقوق التي لا تتوقف على القبول, مثل الإرث والنسب والوصية، ولا تجب عليه أية واجبات، كما لا تثبت له أهلية الأداء بنوعيها.
(ب) أهلية وجوب كاملة: وهي التي تثبت للإنسان منذ ولادته حيًّا من بطن أمه حتى سن التمييز –أي: سبع سنين- ولا تثبت له أهلية الأداء بنوعيها.
وعليه فيكون الصبي غير المميز صالحًا لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه.
2- تعريف أهلية الأداء:
هي صلاحية الإنسان لصدور الفعل عنه على وجه يعتد به شرعًا([8]).
مناط أهلية الأداء: التمييز والعقل.
أقسام أهلية الأداء: تنقسم أهلية الأداء إلى قسمين:
(أ) أهلية أداء ناقصة: وهي صلاحية الشخص لصدور بعض التصرفات منه دون البعض الآخر، أو لصدور أفعال وتصرفات يتوقف نفاذها على رأي غيره.
وتثبت هذه الأهلية للصبي المميز، وهو الذي بلغ سن السابعة حتى البلوغ، ومن في حكمه: كالمعتوه الذي لم يذهب العته بعقله، ولكنه أنقص التمييز والإدراك عنده فقط.
وهذه الأهلية لا تكون إلا في المعاملات المالية وسائر العقود والتصرفات، أما التكليفات الشرعية من صلاة وصوم وحج وغيرها، فالصبي المميز فيها كغير المميز.
(ب) أهلية الأداء الكاملة: وهي صلاحية الشخص لصدور التصرفات منه على وجه يعتد به شرعًا، وعدم توقفها على رأي غيره.
وتثبت هذه الأهلية للشخص البالغ العاقل, فكل من بلغ عاقلًا كان أهلًا لخطاب التكليف بجميع أنواعه, فتصح منه جميع العبادات والعقود والتصرفات الشرعية، وتترتب عليها آثارها، كما يؤاخذ بأعماله الصادرة منه مؤاخذة كاملة.
وعليه: فإن أهلية الأداء لا تثبت للإنسان إلا إذا كان صبيًّا مميزًا، أو بالغًا عاقلًا.
أما أهلية الوجوب فتثبت للإنسان في جميع أدواره وهي:
1- دور الجنين في بطن أمه.
2- دور الصبي غير المميز منذ ولادته حيًّا إلى سن التمييز وهو سبع سنين.
3- دور الصبي المميز من سن السابعة إلى البلوغ عاقلًا.
4- دور البلوغ عاقلًا، ويبدأ من البلوغ عاقلًا وينتهي بالموت([9]).
ثالثًا: عوارض الأهلية:
العوارض لغة: جمع عارض، أي: آفة تعرض في الشيء، أو جمع عارضة, وهي الحاجات.
والعرض: ما يعرض للإنسان من أحداث الدهر من الموت والمرض ونحو ذلك، وقيل العرض: الجنون.
والعارض: السحاب المعترض في الأفق، ومنه قوله تعالى: }هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا{([10]). أي: ممطر لنا، وعرض عارض: أي: منع مانع([11]).
وعند علماء الأصول: العوارض: جمع عارضة, أي: خصلة عارضة، أو آفة عارضة، من عرض له كذا: إذا ظهر له أمر يصده عن المعنى على ما كان فيه.
ولذا سمي السحاب عارضًا: لمنعه شعاع الشمس في طريقه، ومن ذلك قوله تعالى: }فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا{([12]). أي: لما رأوا السحاب معترضا في أفق السماء متجهًا نحوهم استبشروا به, وقالوا: هذا السحاب يأتينا بالمطر([13]).
ومنه سميت المعارضة معارضة؛ لأن كل واحد من الدليلين يقابل الآخر على وجه يمنعه من إثبات الحكم.
وسميت هذه الأمور التي لها تأثير في تغيير الأحكام عوارض؛ لمنعها الأحكام التي تتعلق بأهلية الوجوب, أو أهلية الأداء عن الثبوت.
لهذا عرف الأصوليون عوارض الأهلية: بأنها الأمور التي تعترض أو تطرأ على الأهلية، فتمنعها عن بقائها على حالها، بإزالة أهلية الوجوب كالموت، أو بإزالة أهلية الأداء كالنوم والإغماء، أو بتغيير بعض الأحكام مع بقاء أهلية الوجوب والأداء كالإكراه والسفه([14]).
(ب) أقسام العوارض:
تنقسم عوارض الأهلية إلى قسمين:
1- العوارض السماوية: وهي التي لا كسب للإنسان فيها, ولا قدرة ولا اختيار، وقد حصرها العلماء في أحد عشر نوعًا هي: الصغر، والجنون، والعته، النسيان، النوم، الإغماء، الرق، المرض، الحيض، النفاس، الموت.
2- العوارض المكتسبة: وهي التي يكون للإنسان فيها كسب واختيار وقدرة، وهي سبعة أنواع: الإكراه، الجهل، السكر، الهزل، السفه، السفر، الخطأ.
وهذه العوارض منها ما يكون من المكلف على نفسه كالسكر والجهل، والهزل، والخطأ، والسفه، والسفر.
ومنها ما يكون من غيره عليه كالإكراه.
رابعًا: موقع الإكراه من العوارض:
مما تقدم يتضح لنا أن الإكراه عارض من العوارض المكتسبة التي يكون للإنسان كسب فيها، وتدخل تحت قدرته وإرادته واختياره، ولكنه يقع من غيره عليه.
وهو من العوارض التي لا تنافي أهلية الوجوب وأهلية الأداء, بل يقتصر تأثيره على تغيير بعض الأحكام فقط، كما سيتضح ذلك في هذا البحث.
الفصل الأول: تعريف الإكراه وأركانه وشروطه
ويشتمل هذا الفصل على مبحثين:
المبحث الأول: تعريف الإكراه
أولًا: تعريف الإكراه لغة:
الإكراه لغة: عبارة عن حمل الإنسان على أمر يكرهه، وقيل: على أمر لا يريده طبعًا, أو شرعًا([15]).
وتقول: كره الشيء كرهًا وكرهًا وكراهة وكراهية: خلاف أحبه، فهو كاره, والشيء مكروه.
وكره الأمر والمنظر كراهية: قبح, فهو كريه.
وأكرهه على الأمر. قهره عليه.
وكره إليه الأمر: صيره كريهًا إليه، نقيض حببه إليه.
واستكره الشيء: كرهه، واستكره فلانة: أكرهها على الفجور.
والمكره: ما يكرهه الإنسان، ويشق عليه، وجمعه: مكاره.
قال ابن منظور: ذكر الله عز وجل الكَره والكُره في غير موضع من كتابه العزيز، واختلف القراء في فتح الكاف وضمها. قال أحمد بن يحيى: ولا أعلم بين الأحرف التي ضمها هؤلاء وبين التي فتحوها فرقًا في العربية, ولا في سنة تتبع.
ثم يقول: وقد أجمع كثير من أهل اللغة على أن الكَره والكُره: لغتان بمعنى واحد، فبأي لغة وقع فجائز، إلا الفراء، فإنه زعم أن الكُره -بالضم- ما أكرهت نفسك عليه، والكَره -بالفتح- ما أكرهك غيرك عليه، تقول: جئتك كرهًا، وأدخلتني كرهًا.
وقال الزجاج في قوله تعالى: }وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ{([16])، يقول: كرهت الشيء كرهًا وكرهًا وكراهة وكراهية. قال: وكل ما في كتاب الله عز وجل من الكره -بالضم- فالفتح فيه جائز، إلا في هذا الحرف الذي في هذه الآية، فإن أبا عبيد ذكر أن القراء مجمعون على ضمه.
وقال الفراء: الكره بالضم المشقة، وبالفتح: الإكراه, يقال: قمت على كره، أي: على مشقة، وأقامني فلان على كره، أي: أكرهني عليه.
قال ابن بري: يدل على صحة قول الفراء قوله سبحانه: }وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا{([17])، ولم يقرأ أحد بضم الكاف، وقال سبحانه وتعالى: }كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ{([18])، ولم يقل أحد بفتح الكاف، فيصير الكره -بالفتح- فعل المضطر، والكره -بالضم- فعل المختار([19]).
من كل ما سبق يتضح لنا أن لفظ الإكراه لغة يدور بين معني المشقة والإجبار والضغط والقبح والشدة والقهر، وبين معني الكره المنافي للمحبة والرضا.
ثانيًا: تعريف الإكراه اصطلاحًا:
هناك اتجاهان للعلماء في تعريف الإكراه اصطلاحًا, الأول يميل إلى المعنى اللغوي، والثاني يميل إلى المعنى العرفي والشرعي، وإليك بيان كل منهما:
الاتجاه الأول: يعرف أصحاب هذا الاتجاه الإكراه بالمعنى اللغوي، وقد ذهب إلى ذلك بعض العلماء، كالكمال بن الهمام، وابن حجر، والخطاب، وابن حزم.
فعرفه ابن الهمام بأنه: «حمل الغير على ما لا يرضاه»([20]).
وعرفه ابن حجر بأنه: «إلزام الغير بما لا يريده»([21]).
وعرفه الخطاب بأنه: «ما يفعل بالمرء مما يضره ويؤلمه»([22]).
وعرفه ابن حزم بأنه: «كل ما سمي في اللغة إكراه, وعرف بالحس أنه إكراه»([23]).
فكل هذه التعاريف تدور حول المعنى اللغوي فقط.
الاتجاه الثاني: يعرف أصحاب هذا الاتجاه الإكراه بالمعنى العرفي والشرعي، وقد ذهب إلى ذلك أكثر العلماء:
فعرفه إبراهيم النخعي بأنه: «حمل الإنسان على قول أو فعل قهرًا بغير حق، فإن كان حمله بحق فهو إجبار»([24]).
وعرفه السرخسي بأنه: «اسم لفعل يفعله المرء بغيره، فينتفي به رضاه, أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به الأهلية في حق المكره, أو يسقط عنه الخطاب»([25]).
وعرفه ابن عابدين بأنه: «فعل يوجد من المكره فيحدث في المحل معنى, فيصير مدفوعًا إلى الفعل الذي طلب منه»([26]).
وعرفه عبد العزيز البخاري بأنه: «حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه, ويصير الغير خائفًا به فائت الرضا بالمباشرة»([27]).
وعرفه التفتازاني بأنه: «حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختار مباشرته لو خلي ونفسه، فيكون معدمًا للرضا لا للاختيار»([28]).
وعرفه ابن أمير الحاج وأمير بادشاه بأنه: «حمل الغير على ما لا يرضاه من قول أو فعل ولا يختار مباشرته لو ترك ونفسه»([29]).
وعرفه ابن ملك بأنه: «حمل الإنسان على ما يكرهه ولا يريد مباشرته لولا الحمل عليه»([30]).
وعرفه محمد بن علي التهانوي صاحب كشاف اصطلاحًات الفنون بأنه: «فعل يوقعه الإنسان بغيره, فيفوت رضاه, أو يفسد اختياره مع بقاء أهليته»([31]).
وعرفه محمد عبد الحق صاحب شرح الحسامي المسمى بالنامي بأنه: «أن يجبر القادر غيره على أمر لا يريده, لولا الخوف منه بالوعيد على إيقاع ما يوعد به»([32]).
وعرفه الشهاب الرملي من الشافعية بأنه: «أن يهدد المكره قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقاب, يؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أكره عليه وغلب على ظنه أن يفعل به ما هدد به إذا امتنع مما أكره عليه»([33]).
وبالتأمل في كل هذه التعريفات نجد أنها لا تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا، فهي متفقة في المعنى والمضمون، وإن اختلفت في العبارة واللفظ، كما يلاحظ أنها ركزت على أمرين:
الأول: أركان وشروط الإكراه.
الثاني: ما يترتب على الإكراه من آثار.
التعريف المختار:
والتعريف الذي يمكن اختياره وترجيحه من بين تلك التعريفات السابقة هو تعريف الإمام عبد العزيز البخاري, وهو أن الإكراه: «حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه, ويصير الغير خائفًا به فائت الرضا بالمباشرة»([34]).
وسبب اختياري لهذا التعريف أنه يتوفر فيه أمران:
الأمر الأول: أركان الإكراه وشروطه.
الأمر الثاني: آثار الإكراه.
أما أركان الإكراه فتؤخذ من قوله: «حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف», وهي كالآتي:
1- الحامل أو المكره -بالكسر- وهو الذي يحمل المكره على الفعل أو القول, وهو مستفاد من قوله: «حمل» الذي يستلزم حاملًا.
2- الفاعل أو المكره –بالفتح- وهو المحمول على فعل ما أكره به الحامل, وهو مستفاد من قوله: «الغير».
3- المكره عليه، وهو الأمر الذي يجبر الحامل الفاعل على الإتيان به قهرًا، وهو مستفاد من قوله: «على أمر».
4- المكره به، وهو وسيلة الإكراه, وما يتوصل به الحامل إلى حمل الفاعل على فعل المكره عليه من تخويف يجعله مدفوعًا إلى تنفيذ أمره، وهو مستفاد من قوله: «يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه».
وأما شروطه فتؤخذ من قوله: «يقدر الحامل على إيقاعه, ويصير الغير خائفًا فائت الرضا بالمباشرة», وهي كالآتي:
1- أن يكون المكره قادرًا على إيقاع ما هدد به.
2- أن يكون المكره خائفًا على نفسه من إيقاع ما هدد به.
3- أن يكون المكره عليه ممتنعًا منه قبل الإكراه, إما لحقه, أو لحق إنسان آخر, أو لحق الشرع.
4- أن يكون المكره به متلفًا, أو مزمنًا, أو متلفًا عضوًا, أو موجبًا عملًا ينعدم الرضا باعتباره.
وأما ما يترتب عليه من آثار فهي انعدام الرضا, وفساد الاختيار، على ما سيأتي توضيحه بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني: أركان الإكراه وشروطه
لكي يتم الإكراه على الوجه الشرعي المعتبر، لا بد له من توفر جميع أركانه وتحققها، ولا بد من توفر بعض الشروط في كل ركن من هذه الأركان, وإليك بيان ذلك:
أولًا: أركان الإكراه:
للإكراه أربعة أركان هي:
1- المكره – بالكسر - وهو الذي يحمل غيره على فعل أو قول قهرًا.
2- المكره -بالفتح- وهو الذي يحمله المكره على فعل أو قول مهددًا إياه بحيث يضطره إلى أداء ما يطلبه منه من غير رضاه مع فساد اختياره.
3- المكره عليه: هو الأمر الذي يكره الحامل الفاعل على الإتيان به.
4- المكره به: وهو وسيلة الإكراه, وكل ما يتوصل به الحامل إلى حمل الفاعل المكره عليه من تخويف يجعله مدفوعًا إلى تنفيذ أمره.
ثانيًا: شروط الإكراه:
يشترط في كل ركن من أركان الإكراه توفر بعض الشروط حتى يتحقق الإكراه وينتج أثره.
وإليك بيان شروط كل ركن من أركان الإكراه:
أولًا: شروط المكره:
يشترط في المكره -بالكسرة- أن يكون قادرًا على تحقيق ما هدد به إما بولاية، أو تغلب، أو فرط هجوم على ما صرح به جمهور العلماء، فإن لم يكن قادرًا على ذلك فإكراهه لغو لا أثر له، ويكون المكره مسئولًا عن فعله.
وقال الإمام أبو حنيفة وبعض الحنابلة([35]): لا إكراه إلا من السلطان؛ لأن القدرة لا تكون إلا بمنعة، والمنعة للحاكم وحده، ولأن غير السلطان لا يقدر على تحقيق ما هدد به؛ لأن المستكره يستغيث بالسلطان فيغيثه، وعند إغاثته، لا يتمكن المكره من إيقاع ما هدد به، أما إذا كان المكره هو السلطان، فلا يجد المستكره من يغيثه، فيكون المكره متمكنًا من إيقاع ما هدد به.
بينما ذهب جمهور العلماء - من الشافعية، والمالكية وأكثر الحنابلة والصاحبان من الحنفية: إلى أن الإكراه كما يتحقق من السلطان يتحقق من غيره؛ لأن الإكراه ليس إلا إيعاد بإلحاق الضرر بالغير، وهذا يمكن أن يتحقق من كل متسلط كما يتحقق من السلطان.
والواضح أن الاختلاف بين الإمام وصاحبيه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان، ففي زمن أبي حنيفة -رضي الله عنه- لم يكن لغير السلطان قدرة على الإكراه, فأفتى بحسب زمانه، ثم تغير الحال في زمن الصاحبين، فتغيرت الفتوى على حسب الحال، كما صرح به السرخسي في المبسوط([36]). قال البغدادي: الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به، سلطانًا كان أو غيره([37]).
ويتفرع عن هذا الشرط: أن أمر السلطان هل يعتبر إكراهًا - وإن لم يتوعد- أم لا؟
ذهب الحنفية إلى أن أمر السلطان : إكراه -وإن لم يتوعد- وأمر غيره ليس بإكراه إلا أن يعلم المأمور بدلالة الحال أنه لو لم يمتثل أمره يقتله, أو يقطع يده, أو يضربه ضربًا يخاف على نفسه, أو تلف عضوه([38]).
أما الشافعية: فقد اختلفوا في أمر السلطان، هل ينـزل منـزلة الإكراه؟ على وجهين، أو قولين:
أحدهما: لا, وإنما الإكراه بالتهديد صريحًا، كغير السلطان.
والثاني: نعم لعلتين:
إحداهما: أن الغالب من حاله السطوة عند المخالفة.
والثاني: أن طاعته واجبة في الجملة، فينتهض ذلك شبهة.
قال الرافعي: ومقتضى ما ذكره الجمهور صريحًا ودلالة: أنه لا ينـزل منـزلة الإكراه.
قال: ومثل السلطان في إجراء الخلاف الزعيم والمتغلب؛ لأن المدار على خوف المحذور من مخالفته([39]).
أما المالكية والحنابلة فإنهم يسوون بين ذوي البطش والسطوة أيًّا كانوا.
يقول السرخسي من الحنفية: إن من عادة المتجبرين الترفع عن التهديد بالقتل, ولكنهم لا يعاقبون مخالفيهم إلا به([40]).
ثانيًا: شروط المكره-بالفتح-
يشترط في المكره توفر الشروط الآتية حتى يتحقق الإكراه:
أولًا: أن يغلب على ظنه وقوع ما هدد به إذا امتنع عن الإتيان بالمكره عليه، وذلك لأن معيار الإكراه وثبوته شرعًا هو حدوث الخوف في نفس المكره من وقوع المهدد به، وغلبة الظن بوقوعه، وإنما يغلب على ظنه ذلك بما يحف الواقعة من قرائن تجعله متأكدًا من أن المكره لا بد فاعل ما توعده به إذا امتنع عن طاعته، والعمل بالظن الراجح تشهد له الشريعة، وغالب الرأي حجة عند تعذر اليقين.
فإن لم يغلب على ظنه ذلك، بل كان مجرد تهديد ووعيد لا ينتظر أن يحققه المكره، فلا يتحقق الإكراه حينئذ, وبالتالي لا يثبت حكمه شرعًا.
ثانيًا: أن يكون عاجزًا عن دفع المكره عن نفسه بالهرب أو الاستغاثة أو المقاومة، فلو كان قادرًا على النجاة من المكره لما استطاع أن يدفعه إلى فعل ما يأمر به تحت تأثير وسائل الإكراه, فلا يتحقق الإكراه حينئذ.
ونتيجة لهذين الشرطين يتحقق انعدام رضا المكره وفساد اختياره نتيجة لاضطراره وخوفه من وقوع ما أكره به من أنواع الإيذاء الذي قد يصل إلى حد فقد النفس أو المال.
ولهذا عرف بعض العلماء المكره بأنه: «من لا مندوحة له عما أكره عليه إلا بالصبر على ما أكره به»([41]).
ثالثًا: ألا يخالف المكره المكره بأن يأتي بفعل غير الذي أكره عليه, أو يزيد على الفعل المطلوب، أو ينقص منه، فإذا أتى المكره بشيء من ذلك كان طائعًا مختارًا فيما أتى به, فلا يتحقق الإكراه، إذ لا إكراه إلا حيث يأتي المكره بما قهر عليه امتثالًا لأمر المكره، وخوفا مما هدد به.
فلو أكره إنسان آخر على طلاق امرأته فباع داره، أو على طلاق امرأته طلقة واحدة فطلقها ثلاثًا، أو على طلاقها ثلاثًا فطلقها واحدة، فهذه الصور الثلاث التي تدل على مخالفة المكره بالتغاير في الفعل، أو بالزيادة عليه، أو بالنقصان عنه لا تعتبر إكراهًا عند الشافعية.
أما الحنفية والحنابلة: فتتحقق المخالفة عندهم بالمغايرة في الفعل, وبالزيادة عليه فقط، ولا تتحقق عندهم بالنقصان عنه، فلو أكره رجل آخر على أن يطلق جميع زوجاته فطلق واحدة منهن، لا يكون مخالفًا؛ لأن المكره إنما أقدم على ذلك رجاء التخلص من المكره بأقل ضرر، فهو مسلوب الاختيار، والإكراه قائم.
وأما المالكية: فقالوا: لا اعتبار لمخالفة المكره، فهم لا يشترطون عدم المخالفة، ومن ثم فقد نقل عنهم أن من أكره على طلاق امرأته واحدة فطلقها ثلاثًا، أو أكره على عتق عبده فطلق زوجته، لا يقع طلاقه في الظاهر؛ لأنه كالمجنون.
فالإكراه مع وجود المخالفة قائم، وترتبت عليه آثاره، فلو كان عدم المخالفة شرط في تحقق الإكراه لقالوا بوقوع الطلاق، لانتفاء هذا الشرط، إذ الشرط يترتب عليه انتفاء المشروط([42]).
ثالثًا: شروط المكره عليه:
يشترط في المكره عليه توفر الشروط الآتية:
أولًا: أن يفعل المكره الفعل لداعي الإكراه فقط، ويكون ممتنعًا عما أكره عليه قبل الإكراه، إما لحقه كبيع ماله، أو لحق إنسان آخر كإتلاف مال الغير، أو لحق الشرع كشرب الخمر أو الزنا ونحو ذلك، فإذا ألزمناه بتصرفاته في هذه الحالة لألحقنا به الضرر، إذ أكره على التزام ما لا يريده، والشريعة الإسلامية مبنية على رفع الضرر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»([43])، ولأنه في هذه الحالة لا مخلص له عن تنفيذ الفعل المكره عليه، ولا يمكن أن يفعل إلا لداعي الإكراه، فلا يتأتى أن يفعل لداعي الشرع, أو لأي داع آخر.
فإذا أكره على القتل مثلًا، فإنه يقدم عليه وقد عظم الخوف في نفسه من أن يوقع المكره ما هدده به، فلا يقتل إلا استجابة لأمر المكره، لا للتشفي مثلًا أو الانتقام. وكذلك لو أكره على دفع الزكاة، فإنه لا يمكنه استحضار نية الدفع قربة أو عبادة، بل لم يدفع إلا استجابة لأمر المكره.
فهو حين يفعل الفعل يكون غير راض وفاسد الاختيار كذلك، إذ لو كان راضيًا لوقع الفعل منه على الوجه الذي يريد، كأن يكون قربة في العبادات، أو كأن يمتنع عن الإقدام على القتل؛ لأنه قتل ما حرم الله بغير حق.
أما لو كان الإكراه حقًّا، بأن كان المكره ممتنعًا عما وجب عليه، فأجبره إنسان عليه حسبة, فلا ضرر عليه في ذلك، كإجبار القاضي المدين على بيع بعض أملاكه لإيفاء ما عليه من ديون([44]).
ثانيًا: أن يكون المكره عليه معينًا، بأن يكون شيئًا واحدًا كأن يكره على طلاق زوجته فاطمة أو على قتل عمرو، أما إذا كان المكره عليه شيئين أو أشياء، كما لو أكره على طلاق إحدى زوجتيه أو أكره على قتل زيدًا أو عمرًا أو خالدًا، فهذا ليس بإكراه عند الشافعية؛ لأنهم يشترطون في الإكراه أن يكون المكره عليه معينًا([45])، فلا إكراه مع التخيير فيما يكره المرء عليه، ومن شرط الإكراه: ألا يخالف المكره المكره، وانتقاء الشرط يترتب عليه انتقاء المشروط.
ويرى الحنفية والمالكية: أن التخيير في المكره عليه لا ينافي الإكراه, فلا يشترط عندهم أن يكون المكره عليه معينًا.
أما الحنابلة: فإنهم يوافقون الحنفية والمالكية في عدم اشتراط التعيين إذا كان المكره عليه طلاقًا، فلو أكره رجل على أن يطلق إحدى امرأتيه فطلق واحدة منهما كان مكرهًا.
ويوافقون الشافعية في اشتراط التعيين إذا كان المكره عليه قتلًا، فلو أكره رجل على قتل زيد أو عمرو، فقتل أحدهما لا يعد مكروهًا.
وأرى أنه لا وجه للتفرقة التي ذكرها الحنابلة؛ لأن الكلام في أن التخيير هل ينافي الإكراه أم لا؟ ولا فرق في هذا بين الطلاق الذي يحل الإقدام عليه، وبين القتل الذي لا يحل الإقدام عليه.
وبهذا يكون الرأي الراجح لدي هو ما ذهب إليه الحنفية والمالكية، لتحقيق الإكراه مع التخيير في المكره عليه؛ لأن المستكره لا مندوحة له عن فعل واحد من الأمرين أو الأمور المكره عليها، فهو إما فاعل ما أكره عليه، وإما نازل به ما هدده به المكره إذا امتنع عن الإتيان بما أكره عليه، فيكون منعدم الرضا, وفاسد الاختيار.
ثالثًا: أن يترتب على فعل المكره عليه التخلص من المتوعد به، فلو قال لإنسان: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فهذا لا يعد إكراهًا، لاتحاد المأمور به والمخوف به، فصار كأنه مختار له؛ لأنه لا يترتب على قتل نفسه الخلاص من القتل، فهو مقتول سواء بفعله أو بفعل المكره، وفي هذه الحالة لا يحكم عاقل أن المكره يقدم على ما أكره عليه حينئذ لاستواء المهدد به والمكره عليه، وإذا استويا فقد انعدام شرط الإكراه الخاص، وهو أن يكون المهدد به أشد خطرًا من المكره عليه، وانعدام الشرط يترتب عليه انعدام المشروط، وهذا ما ذهب إليه الجمهور.
بينما ذهب بعض الحنابلة: إلى عدم اعتبار هذا الشرط، واعتبر قول الإنسان لآخر: اقتل نفسك وإلا قتلتك إكراهًا، لكن الراجح من مذهب الحنابلة اعتبار هذا الشرط وموافقة الجمهور([46]).
رابعًا: شروط المكره به:
يشترط في المكره به توافر الشروط الآتية:
الشرط الأول: أن يكون التهديد بإلحاق الضرر بالمكره عاجلًا، فلو هدد به آجلًا، كأن قال رجل لآخر: طلق زوجتك وإلا قتلتك غدًا، فلا يعد ذلك إكراهًا، وبالتالي لا يثبت حكمه في الشرع، وذلك لأن التأجيل مظنة التخلص من المهدد به، إما بالاستغاثة، أو الالتجاء إلى السلطان, أو الحاكم ونحو ذلك، وهذا ما ذهب إليه الحنفية والشافعية ومقتضى مذهب الحنابلة.
أما المالكية: فلا يشترط في الإكراه عندهم كون المخوف به يقع ناجزًا، بل الشرط عندهم في تحقق الإكراه هو حدوث الخوف المؤلم في نفس المكره حالًا، سواء أكان المتوعد به حالًا أو مستقبلًا، فلو قال له: إن لم تطلق زوجتك فعلت كذا بك بعد شهر، وحصل الخوف بذلك كان إكراهًا([47]).
وأرى أن ما ذهب إليه الحنفية والشافعية ومقتضى مذهب الحنابلة -وهو اشتراط كون التهديد بإلحاق الضرر بالمكره عاجلًا- هو الراجح؛ لأنه أبلغ وأقوى في إحداث الخوف في نفس المكره.
على أن الخوف من الأمور النفسية التي لا اطلاع لنا عليها، فلا بد من علامة ظاهرة على ثبوته، ولا أدل على هذا من كون الوعيد بأمر حال وشيك الوقوع.
هذا فضلًا عن أن حكم الإكراه لا يثبت إلا إذا كان المكره عاجزًا عجزًا تامًّا عن الخلاص من المهدد به، ولا يتحقق هذا إذا كان مؤجلًا؛ لإمكانه التخلص منه حينئذ بالاستغاثة, أو اللجوء إلى السلطات الحاكمة، فلا يكون عاجزًا عن التخلص منه.
وبهذا لا يثبت حكم الإكراه شرعًا لعدم تحققه مع تأجيل المهدد به، لعدم الضرورة التي تحمله على المسارعة بفعل المكره عليه.
الشرط الثاني: أن يكون الأمر الذي هدد به المكره مما يستضر به ضررًا كبيرًا غير محتمل يلحقه بسببه مشقة عظيمة، كالقتل وقطع عضو والضرب الشديد والقيد والحبس الطويلين، أو متضمنًا أذى من يهمه أمره من الناس، كالتهديد بحبس الوالدين والزوجة.
أما التهديد بإتلاف المال, فإن كان متضمنًا إتلاف المال كله، فإنه يكون إكراهًا باتفاق.
وإن كان التهديد بإتلاف بعض المال، فقد اختلف العلماء في ذلك كما يلي:
(أ) ذهب الحنفية: إلى أن الإكراه لا يتحقق إلا بإتلاف المال كله، أما إتلاف بعضه فلا يتحقق به الإكراه، ولو كان كثيرًا.
(ب) وذهب الشافعية والحنابلة: إلى أن الإكراه كما يتحقق بإتلاف المال كله، يتحقق كذلك بإتلاف بعضه إذا كان كثيرًا، وحد الكثرة يختلف باختلاف طبقات الناس وأحوالهم، أما إتلاف المال اليسير فلا يكون إكراهًا.
(جـ) وأما المالكية: فقال المتقدمون منهم: إن في التخويف بأخذ المال ثلاثة أقوال:
الأول: لمالك: وهو أنه إكراه.
الثاني: لأصبغ: وهو أنه ليس بإكراه.
الثالث: لابن الماجشون: وهو إن كثر فإكراه, وإلا فلا.
وأما المتأخرون منهم: فقد اختلفوا في ذلك على رأيين:
الأول: جعل القول الثالث تفسيرًا للقولين الأولين، وذلك كابن بشير ومن تبعه، وعلى هذا فالمذهب على قول واحد.
الثاني: جعل الأقوال الثلاثة متقابلة إبقاء لها على ظاهرها، كابن الحاجب([48]).
الشرط الثالث: أن يكون المهدد به أشد خطرًا على المكره مما حمله عليه، فلو كان الضرر مساويًا أو أقل، فلا يتحقق الإكراه، فلو هدد إنسان آخر بصفعه على وجهه إن لم يتلف ماله، ولم يكن من ذوي المروءات, ولا من سادة الناس ووجهائهم, فلا يعد هذا إكراهًا؛ لأن الصفع على الوجه أقل خطرًا من إتلاف المال.
ومراعاة النسبة بين المكره عليه والمهدد به قدر متفق عليه بين الفقهاء؛ لأن ضابط تحقق الإكراه: فعل يؤثر العاقل الإقدام عليه خوفًا من المهدد به، ورفع الضرر الكبير في مقابلة الضرر اليسير. عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»([49])، الذي يدل على نفي الضرر، وأنه لا يرفع الضرر بما يساويه.
ومن هنا فقد وضع لنا الفقهاء قاعدتين يمكن اتخاذهما أساسًا وضابطًا لأحكام الإكراه, وهما:
1- الضرر لا يزال بالضرر.
2- ارتكاب أخف الضررين لدفع أشدهما([50]).
يتبع