موقف أهل الأهواء من المحكمات
عابد بن محمد السفياني
خلاف الكفار لأهل السنة في الأصول ومن ذلك خلافهم في التوحيد، وخلاف المنافقين في الأصول أيضاً، ومن ذلك تشكيكهم في الوحي، وتركهم التحاكم إليه،
التصنيفات: التصنيف العام -
هذا المقال كالذي سبقه[1]، نعرضه على طريقة الحوار، بسؤال وجواب:
قال لي صاحبي وهو يحاورني: هل ورد مصطلح الأهواء في القرآن، واذكر الآية التي ورد فيها؟
قلت: في قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، كما ورد في آياتٍ كثيرة من سورة المائدة.
قال: من هم المخالفون الذين يدخلون في هذا المصطلح القرآني «أهل الأهواء»؟
قلت: جاء لفظ أهل الأهواء شاملاً للمخالفين من الكفار والمنافقين، في قول الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، فهؤلاء المذكورون في الآية من أهل الأهواء هم الذين خالفوا شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون الحق وإن زعموا أنهم من أهله، وألحَقَ بهم أهلُ السنة والجماعة الفرقَ الضالة، من الخوارج والمعتزلة والباطنية، وهؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118 إلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْـجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118، 119]، وقد فصَّل الإمام الشاطبي في تفسير هذه الآية وأدخل فيها الكفار والمنافقين وأهل الأهواء؛ والجامع بينهم أن خلافهم لأهل السنة والحق والهدى موصوف بوصفين هما:
أنه خلاف في الأصول. وأنه خلاف مستمر.
قال: لو بينت بالمثال: لكان أوضح!
قلت: نعم، خلاف الكفار لأهل السنة في الأصول ومن ذلك خلافهم في التوحيد، وخلاف المنافقين في الأصول أيضاً، ومن ذلك تشكيكهم في الوحي، وتركهم التحاكم إليه، واتهامهم أصحاب رسول الله بأنهم سفهاء، كما في قوله تعالى لما أمرهم أن يؤمنوا كما آمن الناس الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]، وهذا طعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما خلاف أهل الأهواء لأهل السنة من بقية الفرق الضالة، فهو على درجات، أعلاها مخالفة الفرق الباطنية لأهل السنة في التوحيد، وفي التشريع إذ يزعمون لأئمتهم العصمة، وأن الوحي لهم لم ينقطع، وكذلك شابهوا المنافقين في الطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتقادهم في الصحابة فاسد، وهو تكذيب للقرآن في تزكية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خلاف بيننا وبينهم في الأصول.
وكذلك خلاف بقية الفرق ومنهم من خالف في مفهوم الإيمان والكفر كما هو خلاف الخوارج في هذين الأصلين، وكذلك خلاف المعتزلة في الصفات، حيث نفوها وأبطلوا صحة رجوعها إلى الشرع باعتبار أن دلالة نصوصه ظنية ولا تصلح مرجعية لذلك، واتخذوا المناهج المخالفة مرجعية لهم، وكذلك خلافهم في القدر، كما شابهوا الخوارج في عقيدتهم في الإيمان والكفر؛ وهذا خلاف في الأصول. كما نلاحظ هنا أنه خلاف مستمر، فيصدق عليه قول الله {ولا يزالون مختلفين}، حيث عبر بالفعل المضارع الدال على الاستمرار، وهذه الأمثلة التطبيقية هي بيان وشرح لما ذكره الشاطبي عند تفسير هذه الآية، ومن شاء فليراجع كلامه في كتابه الاعتصام[2].
قال لي صاحبي: ولكن كثيراً من المتفقهة والدعاة في هذا العصر لا يفهمون هذا الفهم ويقولون الخلاف سنة طبيعية ويستدلون على ذلك بهذه الآية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِي}.
قلت: إن أرادوا بيان استمرار الخلاف بين أهل الحق والباطل، فهذا معنى صحيح، وإن أرادوا التبرير للخلاف، بين أهل السنة وأهل الباطل فمردود عليهم، وعلى أية حال فهم قطعاً لم يرجعوا إلى التأصيل العلمي الموجود في كتب المفسرين وإنما يفسرون الآية بمفاهيمهم العامة، واستدلالهم بهذه الآية ليس في موضعه.
قال: وهل هناك من يهون من الخلاف بين أهل السنة وأهل الأهواء؟
قلت: نعم.
قال: اذكر لي أمثلة تطبيقية تسهل عليَّ فهم هذا الموضوع!
قلت: هناك من يزعم في هذا العصر أن أهل الكتاب يلحقون بأهل الإيمان، لأنهم يؤمنون بوجود الله، والحق أنهم مع إيمانهم بوجود الله إلا إنهم يشركون به ويخالفوننا في التوحيد، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
قال: ما مرجعيتك في تفسير هذه الآية؟
قلت: فسرها ابن عباس رضي الله عنهما لما سأله سائل كيف يؤمنون وهم مشركون؟ قال: يؤمنون بأن الله خالق رازق ويشركون في عبادته.
قال: وما هي الأمثلة بالنسبة للمنافقين؟
قلت: يزعمون الإيمان ويخالفوننا في الأصول.
قال: ما الدليل على ذلك؟
قلت: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا 60 وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْـمُنَافِقِين َ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 60، 61].
فخلافهم لنا أننا نتحاكم إلى الشرع ولا نتحاكم إلى غيره وهم تارة يتحاكمون إلى الشرع وتارة يتحاكمون إلى غيره وهذا خلاف في أصل، فنحن نرى أن الحاكمية لكتاب الله وسنة رسوله والتحاكم إلى غيرهما ينافي الإيمان لقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، ولما سبق من تسمية إيمانهم زعماً أي: لا حقيقة له.
قال: بــيّن لي أمثلة تطبيقية عن أهل الأهواء.
قلت: يزعم دعاة الباطنية وكثير من أتباعهم أن الحج إلى غير بيت الله طاعة وقربة لله، وهذا خلاف لأهل السنة في الأصول لم يقع من كفار قريش فإن كفار قريش لا يرون الحج إلى غير بيت الله، وإن كانوا يحجون إلى بيت الله وهم مشركون.
وكذلك يخالفوننا في انقطاع التشريع وختم النبوة، فنحن لا نرى العصمة لغير الشرع (الكتاب والسنة)، وهم يرون العصمة لأئمتهم؛ لأنهم معصومون باستمرار تلقيهم للعلم اللدني والوحي الذي لا ينقطع عنهم، وكذلك خلاف بقية الفرق فإن خلافها في الأصول، ولا يزال مستمراً.
قال: لماذا تحصر الانحراف في الفرق وتجمعاتها والمخالفين من الكفار والمنافقين مع أن الشرك والخلاف في الأصول يقع من غيرهم؟
قلت: هذا سؤال جيد وجوابه: أن هناك من انحرف عن عقيدة أهل السنة في الأصول ولم ينحز إلى هؤلاء.
قال: حسناً مثل لي؟
قلت: كثير من عباد القبور يخالفوننا في الأصول، ويصرفون العبادة لغير الله بجهلهم زاعمين أن الأولياء يقربونهم إلى الله زلفى، وهذا الخلاف لا يزال مستمراً، ويصدق عليه الوصفان، أنه خلاف في أصل وأنه مستمر، ومع ذلك فكثير منهم لم يتّبع طائفة بعينها وإن كان بعضهم بالجملة يتبع طرائق التصوف الغالي والبدع الأخرى.
قال: فهمت الآن.
قلت: وما الذي فهمته بالتحديد؟
قال: فهمت أن المخالفين السابقين ينضمون إلى كيانات منظمة وفرق مشهورة، وأما هؤلاء فمنهم ومنهم، وبعضهم انحرافه خاص به؛ لجهله، ولكنه لا ينتظم مع تلك الفرق الباطنية المعلنة.
قلت: حسناً، وإذا عرفنا أن خلافهم في الأصول عرفنا خطر مخالفتهم لأهل السنة، وظهر لنا سبب عداوتهم.
قال: ومن المسؤول عن هذا الخلاف؟
قلت: الذي خلافه طارئ ومناقض للأصل الذي كان عليه اجتماع أهل الإسلام من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن عهد النبي وخلفاؤه كان على إقامة أمر الإسلام بعيداً عن جميع عقائد المخالفين التي ذكرناها سابقاً، ولهذا سماهم الله أهل النجاة وهم أهل الهدى والرحمة.
قال: ما الدليل على هذين الوصفين، النجاة والرحمة؟
قلت: الدليل هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الفرقة الناجية قال: ما أنا عليه وأصحابي[3].
وأما الدليل على وصفهم بالرحمة فهو في قول الله تعالى كما في الآية السابقة التي وردت في سياق الكلام على الكفار قال سبحانه: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118 إلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118، 119]، والذي يقابل هؤلاء المختلفين هم أهل الرحمة الذين استثناهم الله في هذه الآية وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم من أهل السنة والجماعة، ووصف الرحمة مدح لهم أخرجهم من الوصفين السابقين في الآية وهو الاختلاف في الأصول، وكذا ديمومته واستمراره.
قال: هل يعني ذلك أنه لم يقع بينهم خلاف؟
قلت: الخلاف الذي وقع بينهم ليس من جنس خلاف هذه الفرق والملل، وإنما هو خلاف ينتهي مع ظهور الدليل، فهو خلاف لم يضر، وذلك لانقطاعه وعدم استمراره ولأنه ليس في الأصول.
قال: وما معنى لم يضر؟
قلت: لم يُدخِل على مجتمعاتهم عقائد أهل الأهواء والملل وقد عملوا بقول الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، فعملوا بالشريعة وتبرؤوا من أهواء المخالفين قولاً وعملاً وحموا مجتمعاتهم من آثارها، ويبقى بينهم الخلاف السائغ ويرجحون فيه بناءً على الدليل.
قال: وهل استمر هذا المنهج بعد ذلك؟
قلت: نعم، وقام بحمايته وتجديده المجددون في الإسلام، يدعون الناس إلى الاجتماع على أصول السنة ويجمعونهم على ذلك، ويحمونهم قولاً وعملاً من المناهج المخالفة.
قال: وهل قام أهل السنة ببيان خطر المذاهب الفكرية المعاصرة وانحرافاتها؟ وهل مخالفتها في الأصول؟
قلت: نعم، خلافهم مذموم وهو في الأصول ومستمر، وقد بين ذلك علماء السنة في هذا العصر.
قال: اذكر لي مثالاً أو مثالين.
قلت: المثال الأول العلمانية بشقيها المتدينة والملحدة.
قال: الملحدة أمرها واضح، فما شأن العلمانية المتدينة؟
قلت: تخالفنا في الأصول، فنحن نوجب ونلتزم التحاكم إلى الشريعة قولاً وعملاً، وهم لا يرون ذلك.
قال: إذن هم من جنس المخالفين من أهل النفاق الذين يزعمون الإيمان ويتحاكمون إلى غير القرآن.
قلت: نعم، ولا تصح دعوى الإيمان إلا بالصدق والتحاكم إلى الشرع بدون قيد ولا شرط.
وأما المثال الثاني فهو ما سموه الاشتراكية الإسلامية، وهي قائمة على مذهب الشيوعية، فهؤلاء مخالفتهم في الأصول أيضاً، ومن ذلك مخالفتهم في الملكية الفردية، وتحاكمهم إلى غير الشرع.
قال: إذن ينطبق عليهم الوصف «ولا يزالون مختلفين»، فخلافهم مستمرٌ وفي الأصول، والعهدة والمسؤولية عليهم لأنهم خالفوا أصول الإسلام واستمروا في ذلك ولم يستجيبوا لتحذير علماء الإسلام لهم، وخالفوا الأصل الذي كان عليه أهل الإسلام من قبلهم، ولا يزالون يزعمون النقص في الإسلام وينقضون محكماته ويصدون الناس عن الحق الذي أنزله الله على عباده ويعملون على نشر وتطبيع التغريب بين المسلمين.
قلت: وترتب على ذلك إصرار أهل الأهواء على الانتساب للشرعية ونزعها عن أهل السنة، وهذا يكشف حقيقة الخلاف بيننا وبينهم، فمن لم يمض في ركابهم ويوافق على مسالكهم وعلى الأقل يصمت عن منكراتهم وتبديلهم للدين ومخالفتهم في الأصول فإنه منحرف خارج عن الشرعية المزعومة التي ادعوها لأنفسهم بالقوة والاستبداد.
قال: اتضح بجلاء أن ذم أهل الأهواء لأهل السنة والجماعة ومخالفتهم في الأصول ما زال مستمراً، ومن ذلك أنهم يرموننا بالتطرف والتشدد، ويزعمون أن الحق معهم وأن شرعية الوجود لهم، وجميع من ذُكِر من المخالفين يتعاونون على ذلك ويتناصرون ضد أهل الحق.
قلت: أحسنت الفهم، وهذا هو المُشترك بينهم وإن اختلفت درجاتهم في الانحراف.
قال: وما الحجة في تحديد الشرعية؟
قلت: الكتاب والسنة.
قال: كلٌّ يدعي السير على الكتاب والسنة!
يتبع