المفقود في كارثة جدة فقهاً وقضاء
د.يوسف بن أحمد القاسم
قبل أسابيع كتبت حول كارثة جدة من زاوية جنائية. واليوم أكتب عنها من زاوية فقهية قضائية ذات صلة مباشرة بالمفقودين.
فإن مما يناسب إبداء الرأي فيه في ظل ما استجد في بلادنا من كوارث مسألة حكم المفقود, فقد ذكر الفقهاء تفصيلات دقيقة في أحكام هذه المسألة, وبعض أحكامها له منحى خاص ينسجم مع أساليب الاتصالات القديمة في ذلك العصر, ووسائل نقله البدائية, ولهذا ينبغي أن تلاحظ الخصوصية في تلك المرحلة التاريخية, ولذا حدد بعض الفقهاء مدداً طويلة لانتظار المفقود, تصل أحياناً لمدد قياسية, ولكنها لا تفتقر في بعضها إلى دليل مرفوع, بل ولا موقوف, وإنما هي اجتهادات فقهية مقبولة في ذلك العصر الذي لم ينعم بوسائل نقل واتصال متطور كما هو واقع اليوم, ولهذا كان اجتهادهم في الحكم على المفقود مقبولاً في ظل الوسائل المتاحة في عصرهم, وإن كان تحديد بعض المدد قد اشتط بعيداً, وراعى جانب المفقود على حساب ورثته.
وقبل أن ندلف لأحكام المفقود, فإنه لابد من تعريف الشخص المفقود, وبالنظر إلى كلام أهل العلم, نجد أنهم عرفوا المفقود بأنه من انقطع خبره, فلم تعلم له حياة ولا موت. وبالتالي ينطبق هذا التعريف على المفقودين في كارثة جدة, حيث انقطعت أخبار هؤلاء المفقودين, فلم تعلم حياتهم ولا موتهم, بسبب هذه السيول الجارفة, والتي أثارت الكثير من الشكوك حول مصيرهم, وقد صرح عدد من الجرائد المحلية بوجود أعداد بالعشرات من المفقودين, ومنها جريدة "الاقتصادية" في عددها رقم (5903), وهذا يؤكد أهمية دراسة هذه الحالة فقهاً وقضاء.
ولا ريب أن مدة الانتظار للمفقودين في أعقاب فيضانات السيول, أو ثورات الزلازل والبراكين, أو الغارات الجوية في الحروب, ونحوها مما غالبه الهلاك, أنه ليس كمدة الانتظار للمفقودين فيما غالبه السلامة, في أعقاب سفر تجارة أو سياحة.. إلخ, ولهذا فرَّق بعض الفقهاء بين الحالة الأولى والثانية, وهو تفريق منطقي, يستند إلى الواقعية, ولكن التحديد بسنوات محددة قد روعي فيه طبيعة وسائل الاتصال والنقل المتاحة سابقا, ولهذا حدد بعضهم سنة واحدة وبعضهم أربع سنين في حالات الفقد المهلكة - مع مراعاة مدة الحمل للزوجة - وحددوا ستين أو سبعين أو تسعين سنة في حالات الفقد غير المهلكة, والمدد الطويلة هذه لا دليل عليها, وهي من الآراء الشاذة من حيث النظر, ولا ينبغي الأخذ بها قضاء؛ لما في تقريرها من الإضرار بالورثة, خصوصاً الزوجة, ولا تخلو بعض كتب الفقه من آراء شاذة لا تستند إلى دليل, بل تخالف أحياناً مقاصد شرعية, وهذه لا يجوز اقتناصها وتتبعها مع العلم بشذوذها.
وفي عصرنا الحاضر كثرت حوادث المفقودين, سواء عبر الحوادث الطبيعية كالمفقودين في كوارث الزلازل, أو عبر الحوادث المفتعلة كالمفقودين في حال الحروب أو الاحتلال, من أمثال الفلسطينيين الذين فقدوا على يد الاحتلال الإسرائيلي, ولا يعرف مصيرهم, أو الكويتيين الذين فقدوا إبان الغزو العراقي, أو العراقيين الذين اختطفوا منذ سنين على يد عصابات مجهولة خلال الأوضاع الملتهبة الآن في العراق, ولا يعرف حال أولئك المختطفين.. إلخ, ومع كثرة هذه الحوادث التي تؤدي إلى فقد زوج أو قريب, إلا أن توافر أساليب التقنية, ووفرة وسائل الاتصال والنقل الحديث, وانتشار سفارات الدول وقنصلياتها, كلها أسهمت في التعرف على حال الكثير من المفقودين في زمن قصير, لأن العالم الواسع أصبح كالقرية الواحدة.
علماً بأن الفقهاء فرقوا في الحكم الشرعي بين الأسير والغائب غيبة عادية ممن يعرف حاله ومكانه, وبين الغائب غيبة منقطعة ممن يجهل حاله ومكانه, فالأول له أحكام الغائب فلا يحكم بموته مطلقا, والثاني له أحكام المفقود الذي نحن بصدده, ولهذا؛ فإن كل مفقود غائب, وليس كل غائب مفقودا.
هذا, وقد نظر أهل العلم إلى المفقود بأن الأصل فيه الحياة, وليس العكس, ولهذا, يستصحب حكم الحياة باعتبار أنه اليقين, ولا يحكم بموته إلا بيقين أو بغلبة ظن, بناء على قرائن قوية, يمكن البناء عليها, والحكم على أساسها, ومن ذلك حين يفقد الشخص في حالة سيول جارفة, فإن أغلب الظن أنه إذا مرت عليه مدة لا يحيا فيها غالباً, فإنه يحكم بوفاته, فتفسخ منه امرأته؛ لئلا تتضرر مدة طويلة بانتظاره, ولكن هل تحدَّد المدة بسنوات معينة كسنة, أو أربع سنوات كما نقل عن عمر ـ رضي الله عنه ـ (علماً بأن تحديده لم يكن لمفقود بكارثة) أم يرجع في هذا إلى اجتهاد القاضي, فيحدد المدة التي يراها مناسبة بحسب الحالة الراهنة, والقرائن المتوافرة؟
الواقع, أن في المحاكم تفاوتاً في الحكم القضائي, حسب التفاوت في كلام الفقهاء, ولا شك أن لكل مجتهد أجراً, فمن القضاة من يحكم بموت المفقود وحصر ورثته، بحسب ما قرره الفقهاءِ في مدة التربص التي ذكروها, حسبما يغلب على حاله من السلامة أَو الهلاك، ويتقيد بتلك المدد، فإِن لم تمض المدة حكم القاضي بصرف النظر عن الإِنهاءِ، وأَفهم المنهي بالتقدم بعد مضي المدة المحددة، وبعضهم يقدرها حسب اجتهاده، فإِذا مضت مدة يغلب على الظن موته فيها، قرر موته قضاءً, وحصر ورثته، وهذا الاجتهاد الثاني, هو الذي عليه المحققون من أهل العلم, وهو أَنَّ المرجع في مدة التربص اجتهاد القاضي، ومدى توافر القرائن من عدمها في إثبات حياته أو موته, ومراعاة اختلاف الزمان والمكان, وما استجد في كل عصر من تقنيات تساعد في التعرف على حال المفقود.
إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن القاضي لا ينبغي له أن يحكم بمدة التربص إلا بعد أن يقوم بالتحري عن المفقودين, وذلك بمخاطبة الجهات المختصة, للقيام بالتحري اللازم عنهم حتى يستقر لديه الحكم بوفاتهم قضاءً؛ لما يترتب على هذا الحكم من قضايا مصيرية, وأظن أن هذا الإجراء يحظى بأهميته لدى القضاة, سائلاً الله تعالى أن يسددهم, وأن يجري الحق على لسانهم, والله تعالى أحكم وأعلم.