الشمعة المحترقة

ميساء الهواري

إنه شمعة تحترق لتنير لغيرها السبيل، شمس تسطع بنورها على مر العصور، سلاح يزهق روح الباطل، ومنجنيق يدك حصون الظلام، هو الدواء المبرئ من سقم الرجعية والتقهقر، والجندي المجهول في ساحات الوغى، به ترتقي الأمم سلم المجد، وتبلغ ذرى السحاب، إنه نجم يضيء ليل الألباب والنهى، وعماد يشيد بنيان النفوس القويمة لتحلق في سماء النجاح عالياً، وترفل في أثواب السعادة والرفعة، ذلكم هو المعلم.. نهر يتدفق عطاء، وسحاب أُثقل معرفة يخرج الودق من خلاله نوراً يبدد عتمة الأفهام، ويروي النفوس الجرز بعلمه، فيخرج به تطوراً وتقدماً ينير بثقافته بصائر كانت بالأمس عمياً، إنه غيض من فيض العلم.
لكن من ذا المعلم الذي يعنيه الخطاب؟
إن الإجابة بازغة بادية للعيان، إنه المعلم الحق، إنه الإنسان المسلم أولاً وقبل كل شيء، فيه تضافرت شيمتا الإنسانية والإسلام، هو من يرقب في أبناء المسلمين الإل والذمة، وينصاع لسلطان الحق ولا يخش في الله لومة لائم، وتأخذه الرأفة بأبنائه في دين الله، هيّن ليّن، شدته في غير عنف، ولينه في غير ضعف، إذا أعطى منح، وإذا أفلح فرح، وإذا أخفق ترح، ولام النفس على التهاون والتخاذل، دءوب نشط وهب حياته لعلمه ومتعلميه، ووقف عمره لمريديه والمتتلمذين عليه، على يديه يولد العباقرة والعلماء وأئمة الفكر، وبأكفه تزرع المبادئ وتغرس القيم، هو من يعلي الهمم، وينهض بالعزائم للقمم، وعلى عاتقيه تقوم نهضة الأمم، به أنيطت أمانة الغراس الغضة، هو قائد الأجيال نحو حاضرها المجيد، ومستقبلها العتيد، إنه القلب النابض في جسد الحياة، والدماغ الموجه لهذا الجسد وكيف تطيب للمرء حياة بدون عقل؟! إنه وريث سيد الأنام المبعوث رحمة للعالمين محمد صلى الله عليه وسلم المعلم الأول للبشرية، مؤدي الأمانة، ومبلغ الرسالة، والمرسل شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أجل {وسراجاً منيراً} فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً بإذنه تعالى شيّد الأساس، ورفع قواعد خير أمة أخرجت للناس، وأقام حضارة شامخة البنيان مع تعاقب الزمان وفق تعاليم الدين الخالدة، فسطعت شمسها وغطت الأفق بنورها، وحجبت شمس الأكوان بضيائها، حتى غدت شمسها الحقيقية، وذلت لها الأعناق وخرَّت لها الهامات وأتتها طوعاً وكرهاً تقدم فروض الطاعة والولاء، فتولت مقاليد الحكم وأمسكت بزمام الدنيا من أقصاها إلى أدناها، لقد كان لنا في رسول الله مدرسة لا تدانيها مدرسة ولا تماثلها خرَّجت أجيالاً حررت العالم من نير العبودية لغير الله إلى عبادة الواحد الدَّيان، وارتقت بهم حتى ناطحوا السحاب، ثم خَلَفَ من بعدهم خَلْفٌ جعلوا المعلم مليكاً متوجاً في مملكة العلم والمعرفة، الكل فيها طوع بنانه، ورهن إشارته ويمينه التي لا تخالفه، كيف لا والله تعالى يقول:{وسراجاً منيراً}؟!
ومن لغير المعلم أن يكون هذا السراج، فالمعلم سراج منير غير وهَّاج فلو كان وهَّاجاً لأحرق من حوله وتعذر عليهم الاقتراب منه والإفادة مما لديه، ولكنه المنير بالرحمة واللَّين ليتمكن النَّاس من الدنو إليه والاقتباس من نوره الوضاء فسبحان الله العظيم ولله درُّ القرآن المجيد، إن كتاباً كانت أولى آياته {اقرأ} لحري به أن يعلّم عِظَمَ قدر المعلم ويبوئه المكانة الجديرة به، ويهبه حقوقه وافية دون غبن أو انتقاص منها، وهو دين العدل والرحمة والمساواة، لذا فقد أقر للمعلم حقوقاً على أبنائه مثلاً بمثل حقوقهم عليه تتمثل فيما يأتي:
1. طاعته واحترامه: انطلاقاً من قول الحق تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا" فالمعلم ولي أمر للطالب إليه أوكل أمر تعليمه وتأديبه وتنشئته وتوجيهه الوجهة السليمة، وعليه ينبغي إطاعته، واقتضت إجابته، ونظراً لسني عمره التي تفوق سني عمر الطالب وجب عليه احترامه وتوقيره.
2. النصح والإرشاد له: فكل بني آدم خطَّاء وخير الخطّائين التوابون، وهذا ما وجه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الآنف منبهاً إلى ضرورة تنبيه الغافل، وإرشاد الضال، والأخذ بيد المخطئ إلى الصراط المستقيم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : "الدين النصيحة، الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" والمعلم إمام من أئمة المسلمين كونه من أولي الأمر، ومن عامتهم أيضاً كإنسان مسلم لذا كان الحق له مضاعفاً.
3. الهدوء في حضرته وحسن الاستماع له والتلقي منه: وكذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حين كان ينزل إليه الروح الأمين على قلبه من عند الله، ثم يتحلقون حوله بعدما يُسرى عنه ليأخذوا منه ويبلغوا عنه، وعلى المسلمين الإقتداء بهم والعمل بعملهم.
4. اتخاذه قدوة حسنة والاعتراف بفضله: حقَّ للمعلم، وهو المعلم التعلم منه بكل سبيل ممكن مباشراً كان أم غير مباشر، والإقتداء به في صفاته، وأخلاقه الحسنة، وأفعاله الصالحة، وكلماته الناصحة، وجعله مثلاً يُحتذى، كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم امتثالاً لقول الله تعالى:{قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} بوصفه نبياً وقائداً ومعلماً للأمة المحمدية، فحق للمعلم أيضاً أن يكون قدوة حسنة.
إن المعلم مشعل يستضاء به فلا تطفئوه ببخسه حقه والجهل بعظم رسالته، ولا يبخس هو قدر نفسه بتضييع الأمانة التي أؤتمن عليها فبدونه لا يمكن للحياة العلمية والتربوية أن تستقيم ولا أن تتم وتكتمل فهو أساسها المتين.