الضرر يزال دراسة تأصيلية مقارنة بين السيوطي وابن نجيم
د/ فريدة صادق زوزو
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علن سيدنا محمد وعلى واله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
يهدف هذا البحث إلى تناول القاعدة الفقهية «الضرر يزال» بالشرح والتأصيل» ثم موازنة ما جاء عن القاعدة عند كل من الإمام السيوطي والإمام ابن نجيم في كتابيهما الموسومين بعنوان: (الأشباه والنظائر).
ومن أجار تناول مفيد للموضوع سأقوم أولا بتأصيل القاعدة، ثم بشرحها، وذكر ما يُبنى عليها من أبواب الفقه، وما يتعلق بها ويتفرع عنها من قواعد، ثم إجراء موازنة بين السيوطي وابن نجيم – في موضوع القاعدة، وتشمل الموازنة ستة جوانب أرا ها مهمة: أولاً: تسمية القاعدة
ثانياً: ترتيبها
ثالثاً: تأصيلها
رابعاً: شرحها
خامساً: منهج التدوين و الكتابة فيها
سادساً: القواعد المتفرعة عنها والمتعلقة بها، وتطبيتاتها، والاستثناءات عليها.
كما أني ختمتها بالإشارة إلى ما يمكن أن يُبنى عليها من نظريات فقهية تفيد في تسهيل إعمال الفقه الإسلامي.
وأسال الله الكريم: رب العرش العظيم، أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علما. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء، السبيل.
هذه القاعدة تعدّ من القواعد الكبرى التي يعتمد عليها الفقهاء في تقرير الأحكام الشرعية للحوادث والمسائل المستجدة، وأغلب كتب القواعد الفقهية عبرت عنها بقول: "الضرر يزال"[1] وعبر عنها الأستاذ الزرقا[2] بـ "لا ضرر ولا ضرار" وهو ما جعله الآخرون أصلاً لها. وهذه القاعدة كما يقول الأستاذ الززقا: "من أركان الشريعة، وتشهد لها نصوص كثيرة في الكتاب والسنة. كما أنها سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المصالح ودرء المفاسد، وهي عدة الفقهاء وعمد تهم وميزانهم في طريق تقرير الأحكام للحوادث[3].
أصل القاعدة:
أصل القاعدة قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" وهو حديث أخرجه الإمام مالك مرسلاً في الموطأ[4]، والحاكم النيسابوري في المستدرك[5] والإمام البيهقي في سننه[6]، والدار قطني[7]، من حديث أبي سعيد الخد ري، وأخرجه ابن ماجه[8]، موصولأ من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت - رضي الله عنهما -[9]، وأحمد في مسنده[10].
وهذا الحديث، وإن كان في رتبة الحسن. كما ذكر الزرقا[11]، له طرق يقوي بعضها بعضاً[12]؛ إذ قد تم وصلة من قبل المحدثين. كما أن الحديث وإن كان خبر آحاد، يعد حسب رأي الشاطبي من المقاصد الظنية القريبة من القطعي، كما ذكر في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة: "كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيا أو ظنيا، فإن كان قطعيا فلا إشكال في اعتباره... وان كان ظنيا، فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أولا، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضا، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه، ولم يصح إطلاق القول بقبوله، ولكنه قسمان: قسم يضاد أصلاً، وقسم لا يضاده ولا يوافقه، فالجميع أربعة أقسام، فأما الأول: فلا يفتقر إلى بيان، وأما الثاني: وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضا ظاهر، وعلية عامة أخبار الآحاد، فإنها بيان للكتاب، لقوله تعالى: {...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...} (النحل: 44)،ومثل ذلك ما جاء في الأحاديث في صفة الطهارة الصغرى والكبرى، والصلاة والحج، وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب.
وكذلك ما جاء في الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا وغيره، من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى: {...وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...} (البقرة: 275)، وقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ...} (النساء: 29)، الآية، إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد، أو التواتر، إلا أن دلالتها ظنية. .منه أيضا قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا ضرر ولا ضرار"، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى[13]، ويذكر الشاطبي تحصيلا مهماً يشرح به لماذا يدخل هذا الحديث تحت صنف الظني الراجع إلى قطعي فيقول: "فان الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع جزئيات، وقواعد كليات، كقوله تعالى: {...وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ.. .} (البقرة: 231)، و{...وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ...} (الطلاق: 6)، و{...لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا...} (البقرة: 233)، الآية ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغصب والظلم. وكل ما هو في المعنى إضرار أو ضرار. ويد خل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال، فهو معنى في غاية العموم في الشريعة، لا مراء فيه ولا شك. وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك[14].
شرح القاعدة:
كما سبق القول إن هذه القاعدة من أركان الشريعة، وتشهد لها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وهي أساس لمنع الفعل الضار وترتيب نتائجه في التعويض المالي والعقوبة، وهي أيضا سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المصالح ودرء المفاسد: وقد اعتمد عليها الفقهاء في تقرير الأحكام الشرعية للحوادث والنوازل.
والضرر اسم الضر، قد أطلق على كل نقص يدخل الأعيان، والضَّر - بفتح الضاد - لغة: ضد النفع، وهو النقصان، يقال ضَرَّه إذ ا فعل به مكروها وأضر به، يتعدى بنفسه ثلاثيَّا والباء رباعيا. قال الأزهري: كل ما كان سوء حال وفقر وشدة في بدن فهو ضَرٌّ بالضم، وما كان ضد النفع فهو فتحها، ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ الضرر عن المعنى اللغوي[15].
والضرر: إلحاق مفسدة بالغير مطلقا. والضرار: مقابلة الضرر بالضرر[16]. والحديث يفيد تحريم الضرر بشتى أنواعه؛ لأنه نوع من أنواع الظلم[17] تجب إزالته، ويشمل ذلك دفعة قبل وقوعه بالطرق الممكنة، ورفعه بعد وقوعه بالتدابير والإجراءات اللازمة.
ولا يجوز مقابلة الضرر بالضرر أيضا؛ لأنه توسيع لدائرة الضرر، فالإضرار لا يلجأ إليه إلا لضرورة، ويستثنى من ذلك ما خُصَّ بدليل، وكان عقوبة شرعيَّة مثل الحدود والعقوبات الأخرى كالقصاص.
و الضِّرار (بكسر الضاد) من ضر وضاره بمعنى، وهو خلاف لنفع. فيكون الثاني على هذا تأكيدا للأول، لكن المشهور أن بينهما فرقا، فحمل اللفظ على التأسيس أولى من التأكيد[18].
وذكر ابن حجر عدة أقوال في الفرق بين الضرر والضرار، ومن بين هذه الأقوال: أن معنى الضرر إلحاق مفسدة بالغير مطلقا، ومعنى الضرار إلحاق مفسدة بالغير على وجه المقابلة له، لكن من غير تقييد بقيد الاعتداء بالمكر بالمثل والانتصار للحق. وظاهر الحديث تحريم سائر أنواع الضرر إلا لدليل[19].
ويرى الزرقا أن هذا المعنى الذي ذكره ابن حجر أليق بلفظ الضرار، إذ الفعال مصدر قياسي لفاعل الذي يدل على المشاركة[20].
ومن هنا نقول إن المقصود بالضرار نفي فكرة الثأر المحض للانتقام من أجل الانتقام، الذي يزيد الضرر ويوسع دائرته، فالإضرار، ولو كان سبيل القابلة، لا يجوز أن يكون هدفا مقصودا؛ وإنما يلجأ إليه اضطراراً عندما لا يكون غيره من طرق التلافي، القمع أنفع وأفضل منه. فمن أتلف مال غيره مثلاً لا يجوز أن يقابل بإتلاف ماله؛ لأن ذلك توسيع للضرر بلا منفعة، وأفضل من تضمين المتلف قيمة ما أتلف، فإن فيه نفعا بتعويض الضرر، وتحويل الضرر نفسه إلى حساب المتعدي، وذلك بخلاف الجناية على النفس أو البدن ما شرع فيه القصاص، فمن قتل يقتل. ومن قطع يقطع؛ لأن هذه الجنايات لا يقطعها إلا عقوبة من جنسها[21].
ونص هذه القاعدة ينفي الضرر، فيوجب منعه مطلقا، ويشمل أيضاً دفع الضرر قبل وقوعه، بطرق الوقاية الممكنة، كما يشمل أيضا رفعه بعد وقوعه بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره وتمنع تكراره، ومن ثم إنزال العقوبات المشروعة بالمجرمين لا ينافي هذه القاعدة، وإن ترتب عليها ضرر بهم؛ لأن فيهم عدلاً ودفعاً لضرر أعمَّ وأعظم.
ولكن هناك من يرى أن المراد هو الضرر الفاحش مطلقا، والضرر الذي ينشأ من فعل المرء أمر غير مشروع، أما الضرر غير الفاحش الذي ينشأ من فعل شيء مشروع فليس بممنوع، كما لو بنى أحد في ملكه بناء سدَّ به نافذة من نوافذ جاره[22].
وفي الحقيقة أن تقدير الضرر إن كان فاحشا أم لا، هو محل الخلاف، أما الضرر في ذاته فالقاعدة فيه أن يُنفي ويرفع، ولا يوجد أحد من الفقهاء من يرى منع رفع الضرر بعد وقوعه أو دفعه قبل وقوعه، وهذا الذي يدفع إلى البحث في حد الضرر الموجب للدفع أو التعويض أو العقوبة، وهو ما يرجع إلى نظر القاضي.
وكذلك الممنوع في مقابلة الضرر بالضرر هو المقابلة بغير حق، أما إذ ا كانت المقابلة حقا معترفا به في الشرع فليست ممنوعة، كما في العقوبات الشرعية التي تنزل بالمجرمين، فإن إنزال العقوبة بهم مقابلة مشروعة لضررهم، ردعا لهم وزجرا لغيرهم، وهذه المقابلة حق لولي الأمر، ولا يقوم بها المعتدى عليه[23]، لكي لا يؤول الأمر إلى الفوضى وانعدام النظام، والتعدي على الناس بحجة مقابلة الضرر بالضرر.
كما أن الموسوعة الفقهية ذكرت الألفاظ التي لها صلة بالضرر، ومنها الإتلاف، والاعتداء. فالإتلاف كما في اصطلاح الفقهاء: إخراج الشيء من أن يكون منتفعاً به منفعة مطلوبة عادة، فإذا تعطل الشيء، ولم يمكن الانتفاع به عادة، كان تالفاً عند الفقهاء دون اللغويين، وعلى هذا الإتلاف نوع من الضرر، وبينهما عموم وخصوص، وكذلك الاعتداء فإنه في اللغة والاصطلاح، الظلم وتجاوز الحد، يقال: اعتدى عليه إذ ا ظلمه، واعتدى على حقه، أي: جاوز إليه بغير حق، وعلى هذا فالاعتداء نوع من أنواع الضرر وفرع منه[24].
ما بني عليها من أبواب الفقه:
يبني الفقهاء على هذه القاعدة كثيرا من أبواب الفقه، منها:
الرد بالعيب، وجميع أنواع الخيار، من خلاف الوصف المشروط، والتعزير، وإفلاس المشتري، وغير ذلك، والحجر بأنواعه، والشفعة؛ لأنها شرعت لدفع ضرر ا لقسمة، والقصاص، والحدود، والكفارات، وضمان المتلف، والقسمة، ونصب الأئمة والقضاة، ودفع الصائل، وقتال المشركين، وقتال البغاة، وفسخ النكاح بالعيوب أو الإعسار، وغير ذلك[25].
لو انتهت مدة إجارة الأرض الزراعية قبل أن يستحصد الزرع تبقى الأرض في يد المستأجر بأجر المثل حتى يستحصد منها لضرر المستأجر بقلع الزرع قبل أوانه.
لو باع شيئا مما يسرع إليه الفساد كالفواكه مثلاً، وغاب المشتري قبل نقد الثمن وقبض المبيع وخيف فساده، فللبائع أن يفسخ البيع ويبيع غيره دفعا للضرر.
يجوز حبس المشهورين بالدعارة والفساد حتى تظهر توبتهم، ولو لم يثبت عليهم جرم معين بطريق قضائي دفعا لشرهم؛ لأنهم قد يحتاطون ويتحفظون، فقد يملأون الدنيا فسادا وإضرارا ولا يمكن إثبات شيء عليهم بطريق قضائي[26].
قواعد تتعلق بهذه القاعدة:
هناك قواعد فقهية تتفرع من هذه القاعدة، وهي في قواعد فقهية ضابطة لأحكام الضرر، ولقد عني الفقهاء كثيرا بدراسة موضوع الضرر. ومعالجة آثاره، وقعدوا لذلك مجموعة من القواعد الفقهية تضبطه، وتوضح معالمه العامة، وتنظم آثاره[27]. ومما يتفرع عن هذه القاعدة ويتعلق بها[28] ويندرج تحتها قواعد عدة منها:
يتبع