الأحكام الفقهية المتعلقة بإحرام المغمى عليه 1-2
الدكتور عبد الرحمن بن رباح الردادي
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه ُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا،مَ نْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ،وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ،وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}1
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.2
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}[1]-[2]
أما بعد :
فلما كانت فريضة الحج ركناً من أركان الإسلام- لمن كان مستطيعاً-والعمرة واجبة على الصحيح من قولي العلماء[3]،وجب على العلماء وطلبة العلم والباحثين بيان أحكام المسائل الفقهية المتعلقة بالحج والعمرة،إذ إن الخطأ في هذه العبادة ليس كالخطأ في غيرها، فهي لا تؤدى إلا في مكان معين، بخلاف غيرها من العبادات، بالإضافة إلى أن الحج لا يؤدى إلا في وقت مخصوص، وفي زمن محدود .
ومن توفيق الله لي، وفضله علي،أن يسرلي المشاركة في التوعية في الحج لعدة أعوام، ورأيت حاجة الحجاج والمعتمرين لمعرفة كثير من الأحكام، ومنها أحكام إحرام المغمى عليه .
فمع تزايد عدد الحجاج والمعتمرين الذين يأتون من أقطار بعيدة ومتعددة، تلبية لدعوة أبينا إبراهيم علية الصلاة والسلام-في قوله تعالى:{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[4]والرحلة إلى الحج والعمرة قد يكتنفها كثير من المتاعب والأمراض التي تؤدي بعضها إلى الإغماء، إما قبل الشروع في الإحرام، أو بعد الشروع فيه .
ومعرفة أحكام إحرام المغمى عليه من المسائل المهمة، فهي تتعلق بأحد أركان الحج والعمرة، وتهم شريحة من المسلمين ألا و هم حجاج بيت الله الحرام والمعتمرين، فكانت الحاجة داعية إلى بحثها وبيان حكمها.
وأحكام إحرام المغمى عليه ليست من المسائل المستجدة,فقد تكلم فيها الفقهاء الأقدمون،وبينوا أحكامها، إلا أنها متناثرة في بطون الكتب، فقمت بجمع شتات الموضوع, وبيان أحكامه من خلال كتب الفقه الإسلامي،وغيرها من المصادر المختلفة، فكان هذا البحث الذي أرجو من الله أن يكون خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به يوم الدين، فإن وفقت فيه للصواب فهو مرادي،وإن كانت الأخرى فحسبي أني قد استفرغت وسعي، وبذلت جهدي، فأرجو من الله ألا يحرمني أجر اجتهادي.
خطة البحث :
يتكون البحث من:مقدمة،وتمهيد وثلاثة مباحث،وخاتمة .
المقدمة: وتحتوي على الافتتاحية،وأهم ية الموضوع ، وخطة البحث ، ومنهجي في كتابته.
التمهيد: في الإحرام والإغماء ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول:في تعريف الإحرام وحكمه .
المطلب الثاني: في تعريف الإغماء وأنواعه .
المبحث الأول:في الإغماء قبل الإحرام ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول:في الإحرام عن المغمى عليه .
المطلب الثاني:إذا أفاق بعد تجاوز الميقات .
المبحث الثاني:في الإغماء بعد الإحرام ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول:في تأثير الإغماء على الإحرام .
المطلب الثاني:في ارتكاب محظورات الإحرام .
المبحث الثالث:في التحلل من الإحرام بسبب الإغماء ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول: في التحلل بدون اشتراط .
المطلب الثاني: في التحلل مع الاشتراط .
الخاتمة : وتحتوي على أهم نتائج البحث .
التمهيد
في الإحرام والإغماء
وفيه مطلبان
المطلب الأول:في تعريف الإحرام وحكمه
تعريف الإحرام في اللغة :
قال ابن فارس[5]‑رحمه الله ‑:الحاء والراء والميم أصلٌ واحد، وهو المنْع والتشديد. فالحرام: ضِدُّ الحلال. وأحْرَم الرّجُل بالحجّ، لأنه يحرُم عليه ما كان حلالاً له من الصَّيد والنساءِ وغير ذلك.[6]
وقال ابن منظور[7]‑ رحمه الله‑:الإِحْرام ُ مصدر أَحْرَمَ الرجلُ يُحْرِمُ إحْراماً،إذا أَهَلَّ بالحج أَو العمرة، وباشَرَ أَسبابهما وشروطهما من خَلْع المَخِيط،وأَن يجتنب الأشياء التي منعه الشرع منها؛ كالطيب، والنكاح،والصيد، وغير ذلك، والأَصل فيه المَنْع، فكأنَّ المُحْرِم ممتنع من هذه الأَشياء.[8]
تعريف الإحرام في الاصطلاح :
هو نية الدخول في حرمات الحج والعمرة[9].
حكم الإحرام
الإحرام فرض على من مر بالمواقيت يريد الحج، أو العمرة بالإجماع[10]،وهو ركن للنسك عند المالكية، والشافعية،والحن ابلة[11].
وذهب الحنفية إلى أن الإحرام شرط من شروط صحة الحج[12] .
وقيل:هو شرط ابتداء،وله حكم الركن انتهاء[13].
وقيل:إن الإحرام شرط وإن كان له شبه الركن[14].
ويتفرع على كون الإحرام شرطاً عند الحنفية وكونه يشبه الركن فروع،منها:
1- أجاز الحنفية الإحرام بالحج قبل أشهر الحج, مع الكراهة,لكون الإحرام شرطاً عندهم, فجاز تقديمه على الوقت[15].
2- لو أحرم المتمتع بعمرة قبل أشهر الحج، فطاف لها أقل من أربعة أشواط،ثم دخلت أشهر الحج، فتممها وأحرم بالحج كان متمتعاً عند الحنفية[16].
3- تفرع على شبه الإحرام بالركن عند الحنفية أنه لو أحرم الصبي,ثم بلغ بعدما أحرم, فإنه إذا مضى في إحرامه لم يجزه عن حجة الإسلام.
لكن لو جدد الإحرام قبل الوقوف ونوى حجة الإسلام,أجزأ عن حجة الإسلام عند الحنفية اعتباراً لشبه الركن في هذه الصورة احتياطاً في العبادة[17].
المطلب الثاني:تعريف الإغماء وأنواعه
تعريف الإغماء في اللغة :
قال ابن فارس ‑ رحمه الله ‑:الغين والميم والحرف المعتل يدل على تغطية وتغشية.من ذلك: غَمَيْتُ البيت، إذا سقَّفْتَه،والسق ف غماء.ومنه أغمي على المريض فهو مغمى عليه إذا غشي عليه.[18]
وقال ابن منظور‑رحمه الله ‑:وأصل التَّغْمية:الست والتغطية، ومنه أُغمي على المريض إذا أُغشي عليه، كأن المرض ستر عقله وغطاه.[19]
فالإغماء:فقد الحس والحركة لعارض .[20]
تعريف الإغماء في الاصطلاح :
اختلفت تعريفات الفقهاء والأصوليين‑ رحمهم الله ‑ للإغماء تبعاً لاختلافهم في أسبابه وآثاره، وإليك هذه التعاريف على وجه الإجمال .
تعريف الحنفية:ضرب مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجا [21]،وسببه امتلاء بطون الدماغ من بلغم غليظ بارد [22].
وقيل:هو فتور يزيل القوى، ويعجز به ذو العقل عند استعماله مع قيامه حقيقة .[23]
وقيل:هو آفة في القلب أو الدماغ، تعطل القوى المدركة والمحركة [24]عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوباً.[25]
تعريف المالكية:مرض في الرأس يعتري الشخص بسبب شدة هم أو فرح [26].
تعريف الشافعية:الإغما مرض يزيل الشعور مع فتور الأعضاء[27].
تعريف الحنابلة:الإغما مرض يغطي العقل[28].
قال الجرجاني[29]‑ رحمه الله ‑:الإغماء:هو فتور غير أصلي لا بمخدر يزيل عمل القوى .
ثم شرحه بقوله:"غير أصلي"يخرج النوم.وقوله:"لا بمخدر"يخرج الفتور بالمخدرات. وقوله:"يزيل عمل القوى" يخرج العته [30].[31]
ويتضح لنا من خلال ما سبق من تعاريف الفقهاء والأصوليين‑ رحمهم الله - للإغماء:بأنها تكاد تكون متقاربة في معناها ومضمونها،وإن اختلفت في ألفاظها وظاهرها، ومما يجمع بينها من معان أنها دلت على أن:
1- الإغماء مرض في الرأس .
2- الإغماء فتور عير أصلي بمعنى أنه عارض .
3- المغمى عليه يعجز عن استعمال عقله .
ولكنهم اختلفوا في أثر الإغماء فمنهم من قال:لا يزيل العقل، ومنهم من قال: يزيل الشعور، ومنهم من قال: يغطي العقل .
والذي يظهر والله أعلم: أن الإغماء يستر العقل أو يغلبه .
قال الدسوقي[32]‑ رحمه الله ‑:إن التعبير بالاستتار أولى من التعبير بالزوال؛لأنه لو زال حقيقة لم يعد حتى يقال له:قد انتقض وضوؤك.[33]
التعريف الطبي للإغماء :
تعريف الأطباء القدماء:الإغماء حالة يتعطل معها الحس والحركة؛ لضعف القلب.[34]
تعريف الأطباء المعاصرين:الإغم ء فقد وعي قصير ناجم عن نقص شامل في جريان الدم الدماغي، وينجم الإغماء دوماً عن توقف كامل أو نصف كامل في النتاج القلبي،تال على الأغلب لنقص حاد في وارد الدم إلى القلب الأيمن مع بقاء نظام القلب سوياً أو لنقص شديد في وارد الدم إلى القلب الأيسر.[35]
التعريف المختار:
إذا نظرنا إلى التعريفات الاصطلاحية للإغماء نجد أوضحها وأجمعها تعريف الكمال ابن الهمام[36]‑رحمه الله‑ حيث قال:إن الإغماء آفة في القلب أو الدماغ، تعطل القوى المدركة والمحركة عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوباً.
وذلك لأنه بين أن الإغماء مرض،وأن العقل في حالة الإغماء يبقى مغلوباً فيخرج بذلك الجنون الذي يكون فيه العقل مسلوباً،والنوم الذي يكون فيه العقل محجوباً .
فأبلغ شيء الجنون، ثم يليه الإغماء، ثم النوم، فالمجنون مسلوب العقل، والمغميعليه مغلوب، والنائم محجوب، والإغماء نوع مرض، ولهذا يجوز على الأنبياء فعَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ - رضى الله عنه- قَالَ:أُغْمِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَضِهِ ثُمَّ أَفَاقَ. فَقَالَ:"أَحَضَرَتْ الصَّلاةُ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: مُرُوا بِلالا فَلْيُؤَذِّنْ، وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ. فَقَالَ:أَحَضَر تْ الصَّلاةُ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: مُرُوا بِلالا فَلْيُؤَذِّنْ، وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ. فَقَالَ: أَحَضَرَتْ الصَّلاةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: مُرُوا بِلالا فَلْيُؤَذِّنْ، وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ ..."[37]
يتبع